المجتمع الذي تتنحى فيه الرحمة بين أبنائه عن أخلاق الناس مجتمع شقي

الرحمة والتراحم قضية الإسلام الأولى وشغله الشاغل لتأسيس الحياة الكريمة

انفردت صفة الرحمة في القرآن بالصدارة وبفارق كبير عن أي صفة أخلاقية أخرى برصيد 315 مرة

ألقى خطبة الجمعة اليوم من الجامع الأزهر الشريف ، الدكتور محمود الهواري، الأمين العام المساعد للدعوة والإعلام الديني، لمجمع البحوث الإسلامية، ودار موضوعها حول "صفة الرحمة في القرآن الكريم والسنة".

وقال الدكتور محمود الهواري، إن الله عز وجل اختصر رسالة النبي ﷺ في قوله تعالى: «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين»، فالمتأمل لقيمة الرحمة يجد أنها مركزية بين الأخلاق، بل هي جامعة الأخلاق، فالإنسان يرحم فيُكرم، ويرحم فيعفو، ويرحم فيعين غيره، وهكذا، حتى ذكر أبو البقاء الكفوي في كتابه الكليات أربعة عشر معنى للرحمة، وعند تأمل هذه القيمة الكريمة وكيف ترجم لها القرآن الكرم، سنجد أنَّ أول ما يلفت الأنظار في كتاب رب العالمين أنه مفتتح بالبسملة، وأن كل سوره باستثناء سورة التوبة قد صُدِّرت بالبسملة، وأن في البسملة صفتين من صفات الله تعالى هما: الرحمن الرحيم، على ما بينهما من تقارب في المعنى.

وتابع خطيب الجامع الأزهر أنه كان من الممكن أن يجمع الله مع صفة الرحمة صفة أخرى من صفاته كالعظيم أو الحكيم أو السميع أو البصير - ولله الأسماء الحسنى- ، أو أن يجمع مع الرحمة صفة أخرى تحمل معنى آخر يحقق التوازن حتى لا تطغى صفة الرحمة، وذلك مثل الجبار أو المنتقم أو القهار، ولكن كأن الجمع بين هاتين الصفتين المتقاربتين في بداية كل سورة يشير إلى أن الرحمة مُقدَّمَة على كل الصفات الأخرى، وأن التخلق بالرحمة هو الأصل الذي لا ينبغي أن يغيب عن أهل الإيمان.

وأضاف د. الهواري: لقد انفردت صفة الرحمة في القرآن بالصدارة، وبفارق كبير عن أي صفة أخلاقية أخرى، فبينما تكررت صفة الرحمة بمشتقاتها ثلاثَمائة وخمسَ عشرةَ مرةً، جاءت الصفات الأخرى دون هذا العدد، وهذا كتاب الله الذي: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}، وجاءت السنة لتحول الرحمة من معنى مطلق إلى تراحم عملي، ولم تقصره على فئة من الناس بل أمرت السنة أن يكون تراحما عاما، حتى إنه ﷺ قال محفِّزًا ومرغِّبًا على التَّخَلُّقِ بهذا الخُلُقِ وتلك القيمة النبيلة: «لاَ يَرْحَمُ اللهُ مَنْ لاَ يَرْحَمُ النَّاسَ»، موضحا أن كلمة الناس لفظة عامَّة تشمل كُلَّ أَحَدٍ، دون اعتبارٍ لجنس أو دين، وقد أقسم الرسول ﷺ في حديث آخر قائلاً: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لا يَضَعُ اللهُ رَحْمَتَهُ إِلاَّ عَلَى رَحِيمٍ». قالوا: يا رسول الله، كلنا يرحم، قال: «لَيْسَ بِرَحْمَة أَحَدِكُمْ صَاحِبَهُ؛ يَرْحَمُ النَّاسَ كَافَّةً»، فكانت الرحمة التي يخاطب بها الإسلام أهله أن يرحم الإنسان عامة الناس، فلا تقف عند دين ولا جنس، بل هي رحمة تتجاوز الإنسان بمختلف أجناسه وأديانه إلى الحيوان الأعجم، إلى الدواب والأنعام، وإلى الطير والحشرات! فقد أعلن النبي ﷺ أن امرأة دخلت النار لأنها قَسَتْ على هِرَّةٍ ولم ترحمها، فقال صلى الله عليه وسلم: "دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا؛ فَلَمْ تُطْعِمْهَا، وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ ‏ ‏خَشَاشِ ‏‏الأَرْضِ».

وأضاف خطيب الجامع الأزهر: أعلن صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى غفر لبغي تحرَّكَتِ الرحمة في قلبها نحو كلب! فقال صلى الله عليه وسلم: «بَيْنَمَا كَلْبٌ‏ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ، إِذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا‏ ‏بَنِي إِسْرَائِيلَ‏ ‏فَنَزَعَتْ مُوقَهَا، فَسَقَتْهُ، فَغُفِرَ لَهَا بِهِ»، وإننا لنتساءل وما يضر لو ماتت هرة من الجوع أو مات كلب من العطش، ثم ما قيمة كلب ارتوى إلى جانب جريمة زنا؟! .

ولفت إلى أن القضية ليست في هرة أطلقت من قيدها وأطعمت، أو في كلب سقته بغي من البغايا أو حتى صالحة من الصالحات، إنما القضية فيما وراء هذا الفعل، في القلب الذي يحيا به الإنسان هل امتلأ رحمة أو قسوة، والتي على ضوئها تأتي أفعاله وأعماله، ومدى أثرِ وقيمةِ ذلك في المجتمع الإنساني بصفة عامَّة، وهكذا تكون الرحمة في المجتمع الإسلامي.

وبيّن خطيب الجامع الأزهر، أنَّ التراحم ضرورة للمجتمعات وخاصة في زمن المادية، الذي غدت فيه المدن بلا قلوب، وغدا فيه الناس أجسادا بلا أرواح، فالرحمة والتراحم قضية الإسلام الأولى، ولذلك وصف بها أصحاب النبي ﷺ على كثرة ما لهم من صفات الخير، قال الله تعالى: «مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا"، فلم تقف الرحمة عند الأوامر النظرية بل كانت تطبيقا عمليا، وإن أفلاطون في جمهوريته والفارابي في مدينته الفاضلة وتوماس مور في مدينته الفاضلة الثانية اليوتوبيا، لم يصلوا إلى عشر معشار ما كان عليه المجتمع المسلم من تحقيق الأخلاق.

وشدد على أن التراحم ضرورة للمجتمعات وخاصة في زمن المادية واللذة والفردانية والأنانية، حتى أصبحت الرحمة التي تبُذل طوعا مجالا للتعجب، بل عرضة للسخرية، وحتى صارت مواقف الحياة التي توجب الأسى أو الشفقة أو الفرح والغبطة صارت مواطن توثيق لجلب مزيد من مكاسب الفيديوهات، وأما المشاعر فكبر عليها أربعا.

واختتم د. الهواري، حديثه بقوله: إن المجتمع الذي تتنحى فيه الرحمة عن أخلاق الناس مجتمع شقي، وأهله أشقياء، ولو أن التاريخ لم يحفظ لنا من الروايات ما يثبت أن الرحمة ممكنة وأن الرحمة تنقذ المجتمع لظلتوتنظيرا لا واقع له، فقد أورد البخاري أنَّ الأشْعَرِيِّينَ إذا أرْمَلُوا في الغَزْوِ، أوْ قَلَّ طَعامُ عِيالِهِمْ بالمَدِينَةِ جَمَعُوا ما كانَ عِنْدَهُمْ في ثَوْبٍ واحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بيْنَهُمْ في إناءٍ واحِدٍ بالسَّوِيَّةِ، فَهُمْ مِنِّي وأنا منهمْ.

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: خطيب الجامع الأزهر شيخ الأزهر الشريف خطیب الجامع الأزهر الرحمة فی

إقرأ أيضاً:

علي جمعة: المسلم يتعامل مع الكون كله برِقة ولِينٍ وانسجام

قال الدكتور علي جمعة مفتي الجمهورية السابق وعضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف عبر صفحته الرسمية على فيس بوك إن المسلم رحيم بالكون كلِّه، يتعامل معه برِقَّةٍ ولِينٍ وانسجام، لأنه يراه قائمًا بالوظيفة التي أمره الله بها، وهي "العبادة"؛ فيشعر أنه يشترك مع الكون في أخوَّة العبودية لله وحده. 

علي جمعة: "الحوقلة" أساس العلاقة بيننا وبين اللههل بر الوالدين وصلة الأرحام تزيد في الرزق والعمر؟.. علي جمعة يجيبماذا يفعل من شك في وضوئه؟.. علي جمعة يحسم الأمر بقاعدة فقهيةمفتاح كل خير ومغلاق الشرور.. علي جمعة يوصي بهذا العمل

التعامل مع مخلوقات الله

فنهى النبي ﷺ عن سبِّ الريح، فقال: «لا تسبُّوا الريح، فإذا رأيتم ما تكرهون فقولوا: اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح وخير ما فيها وخير ما أُمِرَتْ به، ونعوذ بك من شرِّ هذه الريح وشرِّ ما فيها وشرِّ ما أُمِرَتْ به» [رواه الترمذي].

والمسلم يخاطب مخلوقات الله بهذا المشترك، وهو يتأسَّى في ذلك بنبيه ﷺ؛ إذ يخاطب الهلال فيقول: «اللهم أهِلَّه علينا باليُمن والسلامة والإسلام، ربي وربك الله» [رواه الترمذي].

وتجلَّت تلك الرحمة في التعامل مع الحيوان؛ فنهى ﷺ عن قتل العصفور، فقال: «ما من إنسان يقتل عصفورًا فما فوقها بغير حق إلا سأله الله عز وجل عنها» [رواه النسائي].

 وبيَّن أن الإساءة للحيوان وتعذيبه والقسوة معه تُدخِل الإنسانَ في عذاب الله ونار جهنم والعياذ بالله؛ فيقول النبي ﷺ: «دخلت امرأةٌ النارَ في هرَّةٍ حبستها، لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض» [رواه البخاري ومسلم].

وبيَّن رسول الله ﷺ – في المقابل – أن الله قد يتجاوز عن السيئات، وإن كانت من الكبائر، بسبب رحمة الإنسان بحيوان لا حول له ولا قوة؛ فقال: «دخلت امرأةٌ بَغيٌّ من بني إسرائيل الجنةَ في كلبٍ وجدته عطشان فسقته»، قالوا: ألَنا في البهائم أجر يا رسول الله؟ قال: «في كلِّ كبدٍ رطبة أجر» [رواه البخاري ومسلم].

وعن عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه قال: «كنا مع رسول الله ﷺ في سفر، فانطلق لحاجته، فرأينا حُمَّرةً - طائر صغير كالعصفور- معها فرخان، فأخذنا فرخَيْها، فجاءت الحُمَّرة فجعلت تفرش - تفرش جناحها وترفرف في الأرض-، فجاء النبي ﷺ فقال: من فجع هذه بولدها؟ رُدُّوا ولدها إليها» [رواه أبو داود].

وقد طبَّق المسلمون الرحمة في حضارتهم بصورة عملية في كثير من مؤسساتهِم الخيرية؛ ليس فقط في المستشفيات ودور الإيواء للإنسان، بل امتدَّت رحمتهم إلى الحيوان كما أمرهم بذلك شرعهم الحنيف؛ فأنشؤوا مساقي الكلاب رأفةً بها، لقول النبي ﷺ: «في كلِّ ذاتِ كبدٍ رطبة أجر»، ولما علموا أنه قد دخلت امرأةٌ النارَ في هرَّةٍ حبستها، ودخلت أخرى الجنةَ في كلبٍ سَقَتْه.

وفي العصر المملوكي، وبالتحديد في تكية محمد بك أبو الذهب، بُنِيَت صوامعُ للغلال لتأكل منها الطير. وهكذا كان المسلمون يحوِّلون إرشادات رسول الله ﷺ إلى واقعٍ عمليٍّ يعيشون فيه؛ فحازوا الشرفَ والعِزَّ وخيرَ الدنيا والآخرة. رزقنا الله الأخلاقَ الفاضلة، وجعلنا من الرحماء.

طباعة شارك التعامل مع مخلوقات الله المسلم الرحمة الكون اللين

مقالات مشابهة

  • صلاح الدين الأيوبي .. القائد الذي صنع المجد وكتب التاريخ
  • ملتقى السيرة النبوية بالجامع الأزهر يناقش: "من مواقف أبي بكر الصديق بعد وفاة النبيﷺ " غداً
  • مفتي الجمهورية: التعاون العلمي بين المؤسسات الدينية أصبح ضرورة ملحة لإنتاج خطاب ديني رشيد
  • معنى سمة "ذبح العلماء" الذي عرف على مر العصور.. علي جمعة يوضح
  • الملتقى الفقهي بالجامع الأزهر: الرضاع واجب شرعي وفطري وفوائده تتجاوز الطفل إلى الأم
  • الأزهري.. والعسكري!
  • الأزهر للفتوى يوضح آداب وأحكام سورة الحُجُرات
  • الملتقى الفقهي بالجامع الأزهر يناقش غدًا: الرضاع "رؤية فقهية"
  • الجامع الأزهر يعقد ملتقى القراءات للختمة المرتلة برواية الإمام قالون عن الإمام نافع.. اليوم
  • علي جمعة: المسلم يتعامل مع الكون كله برِقة ولِينٍ وانسجام