سنة أولى فى مدرسة العميان!
تاريخ النشر: 29th, September 2023 GMT
كانت لحظات وداع شاقة وصعبة على النفس لشهور الصيف مهما بلغت درجة حرارتها، فأنت تودع أيام المرح واللعب والاستيقاظ متأخرًا لتستقبل عامًا دراسيًا جديدًا بكل ما فيه من مشقة؛ مغادرة مبكرة للفراش الدافئ، دروس صعبة، ومدرسون ليسوا جميعًا ممن تشعر معهم بالارتياح.
ومع ذلك مازلت تحتفظ بالحنين إلى رائحة كتب المدرسة وطرقاتها وبعض الشقاوات السرية بعيدًا عن أعين الناظر أثناء طابور الصباح.
بعض تلك الذكريات يرتبط بمدرسة طه حسين للمكفوفين بشارع ترعة الجبل بمنطقة الزيتون؛ كانت أول أيام سنة أولى ثانوى مختلفة تمامًا عن تسع سنوات سبقتها فى المرحلتين الابتدائية والإعدادية.
نعم، هناك مشاعر الوداع الطفولية لعطلة الصيف، لكننى أيضًا كنت مقبلًا على مدرسة جديدة.. كل طلابها من المكفوفين وكذلك قسم كبير من مدرسيها.
صحيح أمضيت شهور الصيف فى تعلم طريقة البرايل قراءة وكتابة باللغة العربية والانجليزية والفرنسية على يد معلمى وأستاذى الكفيف النابه محمد درويش؛ لكنه يبقى بالنسبة لى عالمًا جديدًا مثيرًا للفضول ومعتمًا فى ذات الوقت.
أمضيت أغلب سنوات الطفولة أعانى ضعف البصر الشديد وعند نهاية المرحلة الإعدادية آن الأوان لما تبقى من ضوء ليغادر عيناى وأصبحت مدرسة المكفوفين المكان الوحيد الأنسب للدراسة. حينها تبقى بصيص نور يمكّننى بالكاد من ملاحظة المجسمات الكبيرة استخدمته أحيانًا ببراءة الأطفال لخداع الأستاذ درويش الأعمى تمامًا؛ وكان دائمًا يفاجئنى باكتشاف ألاعيبى الصغيرة ويقول: (ستذهب إلى المدرسة بعد أيام قليلة ولو فعلت هذا مع زملائك أو مدرسيك سيكتشفون ذلك سريعًا ولن يغفروا لك ألاعيبك واستغلالك ما تبقى لك من ضوء خافت تعتقد أنه يميزك).
جاء أول يوم دراسة وعلى غير العادة كنت متحمسًا بسبب شغفى لاكتشاف هذا العالم المظلم المعتم، عالم كله من العميان.
من باب الدعابة وأثناء التعارف فى أول يوم أطلق علّى أستاذ اللغة العربية وعازف العود الماهر الأستاذ محمد زكى رحمه الله لقب (صقر الفصل) فقط لأننى احتفظ ببقايا ضوء فى عيني.
لم يكن الأسبوع الأول لطيفًا فكل من حولى يريد اكتشافى ومدى قدرتى على الإبصار ورؤية الأشياء، ومدى قوتى البدنية؛ وانتهى الأسبوع بمعركة حامية الوطيس بينى وبين أغلب طلاب الفصل.
فى هذا الوقت كنت بدينًا وأتمتع برشاقة وسرعة فى الحركة.. وهذا النوع من المعارك تعودت عليه فى مدرسة النقراشى الإعدادية ولما كان ضعف بصرى نقطة ضعفى مع طلاب المدرسة الإعدادية الأشقياء كنت استخدم ألواح المقاعد الخشبية وأضرب بعنف مفرط غير مبالٍ بحجم الإصابات فلا بديل للنصر وإلا المهانة واستغلال نقطة ضعفى طوال العام.
اعتمدت نفس الأسلوب مع زملائى العميان فى بداية المعركة لكنهم تكاثروا وللحظة أدركت أن هزيمة نكراء فى انتظارى بعد لحظات، ولم يكن أمامى سوى الالتحام إلا أننى فوجئت بأن ميزان المعركة يميل لصالحى فقد أصبح الجميع يضرب فى الجميع وما كان منى إلا أن تسللت حتى خرجت من ساحة الوغىَ ثم صرخت ضاحكًا وساخرًا: أنتم تضربون بعضكم البعض، فضحك أحدهم لتتوالى بعد ذلك الضحكات وسرعان ما تصافت النفوس بعد أن سخر العميان من أنفسهم ثم صرنا أصدقاءًا وأصحابًا نتشارك شقاوات التزويغ والهروب من المدرسة والتجول فى الشوارع المحيطة وبعضهم كان يعتمد على بقية الضوء الذى فى عينى لكنه كان سرعان ما يلاحقنى باللعنات مع أول اصطدام بشجرة أو سقوط حر فجائى من أعلى رصيف حجرى شبه مدمر.
اعتقدت أن مسألة إدارة فصل من العميان أمر شبه مستحيل على مدرس كفيف لكن الأمر لم يكن كذلك على الإطلاق.
كان لكل منهم طريقته الخاصة فى عملية إدارة فصل من الشياطين، بعضهم عمل على اكتساب محبتنا واحترامنا بأحاديثه المتنوعة والشيقة التى يدمجها فى عملية شرح الدرس، وبعضهم كان حاسمًا صارمًا حازمًا حتى أننا كنا نخشى اللهو بصمت مع بعضنا البعض رغم يقيننا أنه لن يرانا.
اللافت أن التسيب والإنفلات فى الفصل كان يحدث فى حضور بعض المدرسين المبصرين ربما لشفقة فى نفوسهم أو إدراكهم أنهم يستطيعون التحكم فى الأمر إذا خرج عن الحد المسموح.
لا أدرى لماذا تتدافع هذه الذكريات فى عقلى، ليس من سبب محدد، وربما هى نسائم سبتمبر التى تذكرنا ببداية العام الدراسى الجديد لكن ثمة حكمة أو مجموعة من العِبَر تعلمتها فى مدرسة العميان من المدرسين والمدير وزملائى الذين أصبحوا أصدقاء العمر.
التمسك بموقف أو فكرة أو أسلوب ثبت فشله للجميع ويعد من أخطر أنواع العَمىَ، فأنت وحدك من تعتقد فى سلامة موقفك أو فكرتك لذلك أنت أعمى.
النظر لأى مسألة أو موضوع من زاوية واحدة وإهمال بقية الزوايا وعدم الإكتراث بالنظرة الشمولية لإعادة ترتيب وتركيب أبعاد القضية يعميك عن الدرب الصحيح والطريق السليم.
الأنانية والرغبة فى الاستحواذ على كل شىء والإمساك بجميع المفاصل يسمى عمىَ حيثى، أما الشخص الذى يوصف بالأعمىَ القٌح فذلك الذى يستكبر على مشورة من حوله وسؤال السائرين معه على نفس الدرب.
تلك العبر وغيرها تعلمتها فى طابور الصباح وداخل الفصل وأثناء تجوالى مع زملائى فى الشوارع والميادين المحيطة، عندما كنت أرفض السؤال عن اتجاهات الشوارع أو المشى بحذر فوق أرصفة غير معبدة فتكون النتيجة الاصطدام بحدة فى حائط أو شجرة أو السقوط فى بالوعة تركها أحد العمال المهملين مفتوحة بعد إصلاحها.
بعض هذه الحكم والعبر رسختها سنوات عملى فى بلاط صاحبة الجلالة، واليوم وبعد أن رحل عن عيناى آخر شعاع نور أدين بالفضل لمدرسة العميان فبفضلها تعلمت المشى منفردًا وأصبح الاصطدام بالجدران نادرًا وأقل حدة وبات السقوط احتمالًا قائمًا لكن مستبعد.
بعد كل هذه السطور ورغم كل ما ذكرته بقى شىء فى نفسى عبرة لم أقلها، ربما لأنها مازالت فى طور التبلور وربما لأنه لم يحن أوانها بعد.
*كاتب صحفى
المصدر: البوابة نيوز
إقرأ أيضاً:
الفصل الثاني.. المتنبي: حين قتل بيتٌ صاحبه
لم يكن شاعرًا…
بل نذير مملكةٍ تمشي على قدمين.
كلّما كتب بيتًا، سقطت هيبةُ أحد،
وكلّما قال هجاءً، ارتجف سلطانٌ في مجلسه.
لكنّه – رغم العبقرية – نسي شيئًا واحدًا:
أن السيوف لا تُطربها القوافي… بل تستفزّها.
كان المتنبي يبحث عن ملكٍ يليق به،
أو ملكٍ يليق ببيتٍ كتبه،
فدخل مصر، وأقام عند كافور الإخشيدي…
وحين لم يُعطَ ما أراد، كتب ما لا يُغفر.
⸻
???? البيت الذي أشعل الدم:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكتهُ
وإن أنت أكرمت اللئيم تمرّدا
لم يكن بيتًا فقط،
بل مرآة سوداء وُضعت أمام كافور،
رأى فيها لونه، عبوديته، أصوله، سلطته… كلها تُهشّم.
⸻
???? وتوالى الهجاء كالسيوف:
ووضعُ الندى في موضعِ السيف بالعُلى
مُضرٌ، كوضعِ السيف في موضعِ الندى
ومن نكدِ الدنيا على الحرّ أن يرى
عدوًا لهُ ما من صداقتِه بُدُّ
هجاء لا يُبقي ولا يذر…
لا يستر، ولا يداور…
هجاء يُخرج السلطان من جلده، ويُحرّض خاصته، ويكشف عجزه.
⸻
⚔️ النهاية…
غادر المتنبي مصر، فتبعه الموت في الطريق.
قيل إن كافور دسّ عليه القتلة،
فلقي مصرعه على يد فاتك بن أبي جهل الأسدي،
ورُوي أنه حاول الهرب، فقيل له:
“أتهرب وأنت القائل: الخيلُ والليلُ والبيداءُ تعرفني؟!”
فثبت وقاتل… وقُتل.
⸻
???? تأمل ختامي:
لم يَقُد دولة…
بل قادَ كلماتٍ أوقعت دولًا.
قال الشعر فملَك الملوك،
لكنه لم يملك خاتمًا يحميه من سيف رجلٍ قرأ هجاءه.
فمات كما عاش…
كبيرًا يُطارده بيت، ويودّعه بيت.