ما دمنا نعيش في ظلال التقنيات الإلكترونية المتنوعة في القرن الـ21، وتحفنا من كل الأطراف أجهزة ذكية تتناولنا ونتناولها على حد سواء! وبعد أن صار كل حجر في زوايا حياتنا معرضا للانزياح التلقائي ليحل محله البديل الأسرع أداء والأسهل استعمالا؛ من البدهي أن نتساءل عما إذا كان في هذا الكم الهائل من العسل سم مدسوس أم لا؟ وهل هو مشفوع بنيات طيبة أم لا؟

تعالوا لنلق نظرة على رياض الجامعات وحلقات البحث والمقالات والأبحاث الأكاديمية في حضرة الذكاء الاصطناعي؛ إذ يستطيع المرء اليوم أن يطلب من برامج الذكاء الاصطناعي أن تعد له بحثا علميا في أي مجال يرغب في البحث فيه والكتابة عنه، ولديه كثير من الخيارات؛ كأن يختار عدد الكلمات ويحدد العصر الزمني الذي يريد إجراء البحث فيه، ولديه القدرة على إعداد البحث نفسه بسياقات وترتيبات وتنسيقات عدة… وما عليه إلا أن يختار منها ما يناسب أفكاره ويعبر عن توجهاته ويخدم أهدافه ويروق له.

لحظة!… لعلك تخشى عليه أن يكشف أمره ويهتك ستره! لا داعي للقلق أبدا، ولا مبرر للتخوف، فعجلة الذكاء الاصطناعي لا تتوقف عند هذا الحد من تقديم الخدمات، بل أعدت بواسطتها مواقع وبرامج متنوعة تستطيع تعديل لغة البحث وتقريبها وإضفاء الصفة الإنسانية عليها بالقدر الذي تريده.

فإذا ما حاول أحد البحث عما قدمه من أوراق وأفكار في شبكة الإنترنت ومواقعها المختلفة، فإنه لن يعثر على آثار دقيقة وواضحة تظهر السرقة أو الانتحال ما لم يتعمق بالقراءة والبحث ما بين الأفكار وما وراءها.

في الحقيقة… لم أجرب!

يذكرني هذا الأمر بفكرة السارق الأكاديمي المحترف الذي يشتت انتباه المتلقين؛ فلا يسرق من مصدر واحد، بل يسرق من مصادر متعددة، ويحاول تجميع سرقاته ليكسوها ثوب الإبداع والتجديد.

والسؤال الذي يراود المرء في هذه النقطة: هل يستطيع الذكاء الاصطناعي توليد شيء جديد بالمطلق؟ أغلب الظن أنه قادر بالفعل على ذلك، لأنه لا يخضع لمنطق إنساني في عمليات البحث والتجميع والترتيب.

إذن ما الذي ينتظرنا في الأيام القادمة، في المستقبل الذي صار يدافع أيامنا الحاضرة مدافعة؟ وهل للذكاء الاصطناعي تأثيرات سلبية في مجال التعليم والتحصيل الأكاديمي على الأجيال الناشئة؟

صرح أحد الأساتذة الجامعيين المختصين في أحد مجالات الهندسة أنه يشعر بالقلق الحقيقي من انفتاح هذا الجيل على تقنيات الذكاء الاصطناعي، وقدرته على الاستفادة منها، وخداع الآخرين، فحين أجريت الامتحانات عن بعد حاز كثير من الطلاب على درجات تامة، واستطاع قسم منهم الانتهاء من حل أسئلة الامتحان بسرعة فائقة، رغم صعوبة بعضها، وإعدادها وفقا للوقت المتاح وخضوعها لمنطق التراتبية في تقييم مستويات الطلاب الذين تقدموا للامتحان وذكائهم.

وحين أدرك الأستاذ أن كثيرا من الأسئلة حلت باستخدام الذكاء الاصطناعي بسبب اختلاف الأدوات المطبقة في الحل عما تعلمه الطلاب في دروسهم من جهة، وبسبب تطابق الأجوبة بدقة متناهية من جهة ثانية… فكر بإلغاء الامتحان! لكن ما الحل البديل في سياق الامتحانات التي تجرى عن بعد بواسطة الإنترنت؟ هل من بديل؟ هل من حلول معقولة؟

ما الذي يمكننا فعله؟

لا بد بداية أن نحرر مشاعر الخوف من تهديد الذكاء الاصطناعي لمستقبلنا المهني، ولا بد من الانفتاح عليه والتعامل معه واحتضانه بوصفه أداة تكنولوجية جديدة مثل كل ما سبقه من تطور برمجي، والاطلاع على مستجداته وتطبيقاته باستمرار والإحاطة بها ومجاراتها، والتفوق عليها باكتساب مهارات جديدة وتطوير القدرات والكفاءات الحالية بخطوات استباقية نحو التعلم والنمو، وأسلوب يصعب على الذكاء الاصطناعي تقليده.

لذا ينبغي أن نسير في مجال تعليم اللغات، واللغة العربية خاصة نحو إبداعات مبتكرة، تؤكد أنه لا غنى عن الإنسان في مجال التعليم القائم على التفاعل الإنساني المحض، وأن الذكاء الاصطناعي ليس إلا أداة تكنولوجية للتسهيل والتيسير، قادرون على تطويعها واستثمارها والإفادة منها إلى أقصى حد، لا سيما أن تعليم اللغات يحتاج إلى ذكاء اجتماعي وعاطفي، ناهيك عن القدرة على التفكير التقابلي والمقارن بين اللغات لتحرير الفروق وتثبيتها في عقول المتعلمين.

يرى معظم المبرمجين العاملين في هذا المجال أن الذكاء الاصطناعي أشبه بثورة مخادعة، ويمكننا على المدى القريب الاطمئنان إلى أنه محض تقنية برمجية جديدة فحسب، فالبرنامج الأشهر "شات جي بي تي" معد ومبرمج لاستخراج كم هائل من المعلومات المتوفرة على شبكة الإنترنت أساسا، لكننا نكتفي ببعض المواقع للبحث عما نريده، وأكبر اعتماد لمعظم الناس هو البحث في غوغل، أضف إلى ذلك عامل السرعة والقدرة على الترتيب والتركيب المعرفي، فعقولنا تقوم زمنيا على اعتماد الثانية بوصفها أصغر مؤشر زمني للقيام بنشاط ما، لكن الحواسيب تعتمد أجزاء من أجزاء من الثانية… وهذا هو سر الإبهار.

قد يستمتع بعضنا بالتعلم عن طريق التكنولوجيا وما تقدمه من مواقع وتطبيقات، فالمعلم الإلكتروني لن يمل من كثرة السؤال وتكراره، ولن يضجر من إعادة المعلومة نفسها عشرات بل مئات المرات… وأكثر! ولا حضور لنفسية المعلم في هذا الإطار، سواء أكان فرحا أم حزينا، راضيا أم ساخطا، ودودا أم فظا؛ فلا أثر لذلك، ولا انعكاس له على عملية التعليم.

لكن ذلك لن يلغي وجود الإنسان إلغاء مطلقا، فطبيعة البشر تقوم على حب الاجتماع، ويميل الإنسان إلى الالتقاء ببني جنسه والتفاعل معهم، وأكبر مثال على ذلك هو رواج الألعاب الإلكترونية المسيّرة من قبل الإنسان بين صفوف الشباب والأطفال على حد سواء؛ تلك الألعاب القائمة على تفاعل الناس مع بعضها عن بعد بوساطة تطبيق برمجي معين.

لذا دعونا نطمئن إلى كينونة وجودنا في حياة الآخرين من حولنا بوصفنا أجزاء حقيقية من سيرورة الحياة وصيرورتها، فلا غنى لأحدنا عن التفاعل الإنساني مهما امتد حضور الآلة في تفاصيل حياتنا، ومهما تطورت وتفوقت بإمكاناتها وذكائها الاصطناعي.

في ختام الكلام لا ينبغي أن ننسى أننا نتعامل مع آليات وبرمجيات من صناعة البشر أنفسهم، فمهما تطورت سيبقى قيادها بيد العقل البشري، على أن ذلك لا ينفي أننا نواجه تحديا حقيقيا يحتاج إلى انفتاح نفسي ونظرة إيجابية وقدرة على التكيف ومرونة في التعامل مع كل وافد تقني جديد.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: الذکاء الاصطناعی

إقرأ أيضاً:

سام ألتمان: الذكاء الاصطناعي القادم لن يكرّر.. بل يبتكر

في عصرٍ تتسابق فيه الابتكارات وتتجاوز حدود الخيال يوماً بعد يوم، يطلّ سام ألتمان، الرئيس التنفيذي لشركة أوبن ايه آي، برؤية جديدة تقفز نحو مستقبل يعيد تعريف معنى التفكير والإبداع. في مقال حديث بعنوان "التفرّد اللطيف" يضع ألتمان تصورًا جريئًا: ليس فقط أن الذكاء الاصطناعي سيفهم العالم، بل سيبدأ قريبًا باكتشافه من جديد. أنظمة قادرة على طرح أفكار غير مسبوقة، صياغة فرضيات علمية، وتوليد رؤى لم تخطر حتى على عقول كبار الباحثين.
اقرأ أيضاً.. سام التمان: "أوبن إيه آي" ليست شركة عادية ولن تكون كذلك أبداً

مستقبل الذكاء الاصطناعي كما يتصوره ألتمان
عرض الرئيس التنفيذي لشركة أوبن ايه آي،، سام ألتمان، في مقاله الجديد بعنوان "التفرّد اللطيف"، رؤيته للمستقبل القريب الذي سيرتبط ارتباطًا وثيقًا بتطور الذكاء الاصطناعي. وكما هي عادته، قدّم ألتمان تصورًا مستقبليًا طموحًا حول الذكاء الاصطناعي العام (AGI)، مشيرًا إلى أنه بات قريبًا من التحقق، مع حرصه على التقليل من وطأة توقيت وصوله الفعلي.وفق موقع "تك كرانش" المتخصص في موضوعات التكنولوجيا.

يركز المقال على أن الأعوام الخمسة عشر المقبلة ستشهد تحوّلًا جذريًا في مفاهيم العمل والطاقة وغيرها من الشؤون التي تخص المجتمعات، بفضل أنظمة ذكاء اصطناعي قادرة على تقديم رؤى جديدة وغير مسبوقة. ويعتقد ألتمان أن العام 2026 قد يكون لحظة محورية، حيث من المرجّح أن تظهر أنظمة قادرة على توليد أفكار مبتكرة ومفاهيم لم يصل إليها البشر بعد.

الذكاء الاصطناعي كمولّد للرؤى الجديدة
يشير ألتمان إلى توجه واضح داخل أوبن ايه آي، لتطوير نماذج ذكاء اصطناعي لا تكتفي بفهم المعلومات أو تنظيمها، بل تتخطى ذلك إلى توليد أفكار جديدة أصيلة. وقد ألمح الشريك المؤسس ورئيس أوبن ايه آي،، غريغ بروكمان، في أبريل الماضي إلى أن نماذج o3 وo4-mini تم استخدامها بالفعل من قبل العلماء لتوليد أفكار مفيدة وجديدة.

هذا التحوّل نحو الذكاء الاصطناعي القادر على الإبداع النظري لا يقتصر على أوبن ايه آي، وحدها، بل أصبح هدفًا مشتركًا لدى العديد من الشركات المنافسة.

سباق الاكتشاف العلمي بين شركات الذكاء الاصطناعي
في مايو الماضي، نشرت شركة جوجل ورقة علمية حول "AlphaEvolve"، وهو وكيل برمجي يقدم حلولاً رياضية مبتكرة. وفي  الشهر نفسه، أعلنت شركة "FutureHouse"، المدعومة من الرئيس التنفيذي السابق لجوجل، إيريك شميدت، أن أداتها الذكية نجحت في تحقيق اكتشاف علمي حقيقي. أما شركة Anthropic فقد أطلقت مبادرة لدعم البحث العلمي باستخدام الذكاء الاصطناعي.

أخبار ذات صلة «عجمان للتميز الحكومي» يعزز ثقافة الابتكار في بيئة العمل الذكاء الاصطناعي يوجه المسيّرات رغم العوائق الطبيعية

تسعى هذه الشركات، إن نجحت، إلى أتمتة أحد أهم جوانب العملية العلمية: توليد الفرضيات، مما قد يمكنها من اختراق مجالات صناعية ضخمة مثل اكتشاف الأدوية، وعلوم المواد، وغيرها من التخصصات ذات الطابع البحثي العميق.

الصعوبات التي تواجه الذكاء الاصطناعي في مجال الإبداع
بالرغم من التقدّم، لا يزال المجتمع العلمي متحفظًا تجاه قدرة النماذج الحالية على توليد رؤى أصلية. كتب توماس وولف، كبير العلماء في Hugging Face، مقالًا  أوضح فيه أن أنظمة الذكاء الاصطناعي لا تزال عاجزة عن طرح الأسئلة العظيمة، والتي تُعد أساس أي اختراق علمي كبير.

كما صرّح كينيث ستانلي، وهو باحث سابق في أوبن ايه آي، ويقود الآن شركة "Lila Sciences"، أن المشكلة الأساسية تكمن في أن النماذج الحالية لا تمتلك حسًّا حقيقيًا بما هو إبداعي أو مثير للاهتمام، وهي خاصية ضرورية لتوليد فرضيات جديدة ذات قيمة.

ما يمكن أن يحمله المستقبل القريب
إذا تحققت توقعات ألتمان، فإن العام 2026 قد يمثل لحظة فاصلة تنتقل فيها أنظمة الذكاء الاصطناعي من أدوات تحليلية إلى شركاء فاعلين في إنتاج المعرفة العلمية. هذا التحوّل قد يغيّر شكل الأبحاث في مجالات مثل الفيزياء، والرياضيات، والكيمياء الحيوية، وحتى الفلسفة.

لكن التحدي الأكبر يكمن في الوصول إلى نماذج قادرة على طرح أفكار غير متوقعة أو بديهية أو ربما قابلة للاختبار والتجريب وقادرة على فتح آفاق جديدة للفهم البشري.

مقال سام ألتمان لا يُعد مجرد تأمل في المستقبل، بل يُحتمل أن يكون إشارة إلى خارطة طريق تسير عليها أوبن ايه آي، في المرحلة المقبلة.

والسؤال المفتوح الآن هو: هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يصبح يومًا ما شريكًا فكريًا حقيقيًا للإنسان في رحلته لفهم العالم؟.
لمياء الصديق (أبوظبي)

مقالات مشابهة

  • تحذير.. الذكاء الاصطناعي يهدد السلم المجتمعي في العراق
  • تعاون مصري أممي لدعم البحث العلمي في أعماق البحار ضمن مؤتمر المحيط في فرنسا
  • البحث العلمي والتكنولوجيا تطلق جسور التنمية للاستفادة من العلماء المصريين بالخارج
  • طلبات عروض بقيمة 100 مليار سنتيم لتمويل البحث العلمي بما يعادل ضعف ما أُنفق خلال 30 سنة (وزير)
  • وزير التعليم العالي: لا نتوفر على منظومة للابتكار والأساتذة يقومون بالبحث العلمي بمبادرات شخصية
  • سام ألتمان: الذكاء الاصطناعي القادم لن يكرّر.. بل يبتكر
  • السبع يوضح أهم مميزات ⁧‫الذكاء الاصطناعي‬⁩ في نظام ⁦‪ iOS 26
  • عبد الصادق يؤكد على ضرورة الالتزام البحث العلمي لقواعد حماية حقوق الملكية الفكرية
  • حصول “تمريض المنصورة” على اعتماد لجنة أخلاقيات البحث العلمي من الأعلى للبحوث
  • "تمريض المنصورة" تحصل على اعتماد لجنة أخلاقيات البحث العلمي من المجلس الأعلى للبحوث الإكلينيكية