إذا مررت هذا الأسبوع بالقرب من أي متجر كتب أو مكتبة في أمريكا، فمن المرجح أن تجد لافتة تحثك أن «اقرأ كتابا محظورا».
ودائما ما أتساءل: أي هذه الكتب؟ كتاب قداس كاثوليكي روماني، كانت طباعته أو حيازته خروجا على القانون في إنجلترا الإليزابيثية؟ أم كتاب «بروتوكولات حكماء صهيون» الذي حوكم ناشره الإيطالي الأخير في عام 2010 وحكم عليه بالسجن لمدة ستة أشهر وتغريمه ألفي دولار؟ أم نقد ريان أندرسون لحركة المتحولين جنسيا في كتاب «عندما تحول هاري إلى سالي»، وهو من الكتب محظورة البيع على أمازون التي تنافس هيمنتها على تجارة الكتب سيطرة أشد أنظمة الحكم رقابة عبر التاريخ؟
لا.
لقد وجد الأمريكيون أنفسهم خاضعين لإغراء غامض إلى قراءة كتاب «محظور» منذ عام 1982، عندما بدأ اتحاد المكتبات الأمريكية ومجموعات أخرى في الترويج لـ(أسبوع الكتب المحظورة)، وهو مهرجان متخم لتعظيم الذات الليبرالية يقيمه الناشرون وبائعو الكتب سنويا على سبيل الاحتفاء (إذا كان الاحتفاء هو اللفظ الصحيح). ويقام هذا العام منذ الأول من أكتوبر وحتى السابع منه.
وأسبوع الكتب المحظورة مثير للسخرية، أو ينبغي أن يكون كذلك. يتاجر أنصاره بعملة التحدي الأخلاقية («انظروا إلى مدى شجاعتنا إذ ندعو الناس إلى قراءة هذه الكتب الجريئة!») ولكنهم عمليا يفعلون العكس ــ إذ يحاولون تجسيد إجماع.
فلنلق نظرة على الكتب «الأكثر حظرا وتحديا» منذ عام 2010 إلى عام 2019، وفقا لاتحاد المكتبات الأمريكية. كثير منها عبارة عن أعمال شهيرة في اللغة الإنجليزية، ومتوافرة في ملايين النسخ: «أن تقتل طائرا بريئا» رواية هاربر لي، و«عن الفئران والرجال»رواية جون شتاينبك، و«1984» رواية جورج أورويل. وهناك روايات فنتازيا أخرى رائجة من قبيل «حكاية خادمة» رواية مارجريت آتوود و«مباريات الجوع» رواية سوزان كولنز، التي تحولت إلى أفلام ومسلسلات تلفزيونية ذات شعبية كبيرة. وتهيمن على قائمة عام 2022 قصص ذات حمولات سياسية، جريئة جنسيا، وغالبا ما تكون في شكل الروايات المصورة وموجهة للشباب، وأغلبها وصل إلى قائمة نيويورك تايمز لأكثر الكتب مبيعا.
يصعب القول إن هذه نصوص منبوذة. فلم نشهد حالة منذ بداية (أسبوع الكتب المحظورة) بإصدار قانون محلي أو خاص بولاية في هذا البلد يحظر بيع أي من الكتب المعنية أو حيازتها بشكل عام. ولم تتعرض للحظر الذي تعرض له في الصين مثلا العديد من أعمال المؤرخ فرانك ديكوتير، مؤلف كتاب «مجاعة ماو الكبرى». إن ما يعنيه اتحاد المكتبات الأمريكية عندما يشير ضمنا إلى أن كتابا ما قد تعرض للحظر هو أن مكتبة أو مدرسة قد اشترته بأموال عامة، ثم تم «الاعتراض عليه» لاحقا - وهذا تعبير سخيف قد يعني أن عملا بريئا قد بات موضوعا لملاحظة نقدية واحدة من أحد الآباء أو الرعاة. وفي حال سحب كتاب من المكتبة، بعد هذا الاعتراض، أو تقييد الوصول إليه بطريقة أخرى، أو حتى إذا بقي ضمن مجموعة الكتب، فقد بات ينتمي إلى أسبوع الكتب المحظورة.
وهذا، بكل المقاييس، تعريف سخيف للحظر. وبغض النظر عن عزوف المسؤولين عن الاعتراف بهذا، فالحقيقة هي أن المكتبات مدينة بالفضل للمجتمعات التي تخدمها (وتعتمد عليها في التمويل) ومدينة بالمثل بالفضل لقيمها السائدة. وعندما تعترض مجموعات «حقوق الآباء» على إدراج كتب جنسية صريحة في المكتبات العامة أو المدرسية ـ مع الإشارة غالبا إلى أن تظل هذه الكتب متاحة في في متاجر الكتب وعلى الإنترنت ـ فإن هذه المجموعات تفعل بالضبط مثل ما تفعله مجموعات مماثلة حينما تطالب بإدراج كلاسيكيات حديثة من قبيل «دودة تحب دودة» من تأليف جيه جيه أوستريان.
في نهاية المطاف، إفساح مكان على الرف يعني التضحية بكتاب يعد أقل قيمة. والمكتبات مقيدة باعتبارات المساحة المادية (ومما يذكرنا كثيرا بذلك أنهم يتخلصون من الكتب القديمة بغض النظر عن جدارتها الأدبية). فمن المستحيل أن تمتلك أي مكتبة عامة جميع الكتب، أو حتى أغلبية الكتب القيِّمة. ولكن أن محض عدم توافر كتاب ما في مكتبة معينة يعني حظره، فمئات الآلاف من الكتب التي تنشر في أمريكا كل عام تقريبا قد وقعت تحت وطأة نظام الرقابة.
وتأملوا في ما تم استبعاده من القصة الناجحة المعيارية في مكافحة الرقابة. قبل بضع سنوات، في روستون بولاية لويزيانا، منعت مكتبة لينكون باريش من التداول العام العديد من كتب الأطفال، ومنها ما يتعلق موضوعه بقضايا مثلية. (فلم تعد هذه الكتب تتاح للأطفال إلا بإذن من أولياء أمورهم). فأدت حملة منتصرة في عام 2020 قام بها الائتلاف الوطني لمناهضة الرقابة إلى عودة الكتب إلى التداول العام.
وفي بيان أيدته مجموعات متنوعة تنوع اتحاد المكتبات الأمريكية والكنيسة العالمية الموحدة، زعم التحالف أن عمليات الإبعاد من المكتبات «لا تنتهك فقط حقوق حرية التعبير والمعلومات لجميع أفراد المجتمع، التي يحميها التعديل الأول [في الدستور] وإنما تعرض للخطر رفاهية أغلى مورد في البلاد: أي شبابها.
كلام مثير ولا شك. ولكن المرء ليتساءل أين هي الرسائل التي تتساءل عن غياب نسخ «القوة والمجد» لجراهام جرين في قائمة المكتبة الإلكترونية، أو «دون كيخوتة»، أو أي من روايات أنتوني ترولوب؟ ولماذا تغيب أعمال مارتن هايدجر ولودفيج فيتجنشتاين، وهما الفيلسوفان الأكثر تأثيرا في القرن العشرين؟ وحتى لو اقتصرنا على كتب الأطفال، أين نجد رواية «الأطفال الخمسة والشيء» الكلاسيكية لـ إ. نيسبت أو كتاب «حكايات من شكسبير» الخالد لتشارلز وماري لامب؟ وماذا عن «عوليس»، التي تعرضت لأهم محاكمة في القرن الماضي بتهمة الفحش؟ هل يعني غيابها أن الرواية، في الواقع، قد «حُظرت» من جديد؟
من المؤكد أنه من الممكن التشكيك في حكمة القرارات التنظيمية التي اتخذتها مكتبة لينكون باريش، ولكن من التدليس أن نفعل ذلك باسم «حرية التعبير والمعلومات».
من المؤكد أنه من الممكن التشكيك في حكمة القرارات التنظيمية التي اتخذتها مكتبة لينكون باريش، ولكن من التدليس أن نفعل ذلك باسم «حرية التعبير والمعلومات». فعندما يصبح الاعتراض على كتاب ما - أي وزنه مع احتمال القول بدنو قيمته - مرادفا لتعريض الأطفال للخطر، فإن ما يتضح عندئذ هو المزاج الأثير للتعامل مع النصوص في ظل الشمولية. فالكتب الوحيدة التي لم يقصد مؤلفوها أن تلقى اعتراضا ما هي الأعمال الدعائية، وهذه جوهريا هي نظرة أنصار كثير من الكتب المعاصرة المزعوم حظرها إلى هذه الكتب ولو عن غير قصد.
هذا الموقف من القراءة ـ الذي يجعل التفاعل الوحيد المقبول مع نص هو استحسانه دونما قيد أو شرط ويجعل كل ما دون ذلك معادلا للرقابة ـ ليس تدليسا وحسب لكنه في ظني ـ في نهاية المطاف ـ معاد للأدب نفسه. فلو أنه ما من كتب تثير استنكارنا، فما قيمة التقييم؟ ولو أننا نبذنا قدرتنا على إصدار أحكام أخلاقية، قد نجد أنفسنا عاجزين عن الوصول إلى أحكام جمالية أيضا، وعاجزين عن ممارسة الملكات النقدية لكلا نوعي الأحكام.
في قصيدة غنائية غير ذات محتوى أيديولوجي واضح المعالم، من قبيل قصيدة «الأحدعشرية» لألجرنون تشارلز سوينبورن، ثمة أبيات أشعر أنني على استعداد للموت من أجلها، برغم أنني لا أستطيع أن أتخيل لنفسي أي حق سياسي فيها (ناهيكم عن الدفاع النفعي عن قيمتها)، بما يتجاوز رجائي في رضا عضو بسيط في مجلس إدارة مدرسة اعترض على بيتها الأول: «في شهر ذبول الورد الطويل».
ولذلك، خير للأمريكيين، بدلا من الحملات الأدبية الشبيهة بـ (يوم الدونَت الوطني) أن يجدوا أنفسهم مرغمين على التساؤل عن الداعي إلى إكراه فعل القراءة على هذا السياق العام. فهل الاستمتاع بقراءة رواية أو سيرة عمل استعراضي شأن رفع علم أوكرانيا أو ارتداء قبعة عليها شعار ترامب (لنرجع عظمة أمريكا من جديد)؟ لو أن الأمر كذلك، فأعداء الأدب قد انتصروا بالفعل.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: هذه الکتب من الکتب
إقرأ أيضاً:
«الملتقى الأدبي» يناقش رواية «ملمس الضوء»
فاطمة عطفة (أبوظبي)
أخبار ذات صلةنظم صالون «الملتقى الأدبي»، أول أمس، مناقشة رواية «ملمس الضوء» الفائزة ضمن القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية، بحضور المؤلفة نادية النجار. أدارت جلسة الحوار أسماء صديق المطوع، مؤسسة «الملتقى»، مشيرة إلى أن الرواية تنطوي على الكثير من الإثارة والترقب، حيث إن الشخصية الرئيسة فيها «نورة» فاقدة للبصر، لكنها تواصل حياتها من خلال صور فوتوغرافية تتعرف عليها بتطبيق إلكتروني يشرح محتواها. وقالت المطوع موضحة: إن نورة تروي تاريخ الصورة، وتاريخ الأشخاص الظاهرين فيها، وعبر ذلك التاريخ الشخصي لأفراد عائلة نورة، تبين الرواية تاريخ الخليج العربي عامة، وتاريخ دبي قبل اكتشاف النفط، والبحرين خلال المرحلة الأولى لاكتشافه، مؤكدة أن الرواية مكتوبة بأسلوب منظم ومبوب ودقيق، وسرد لغوي هادئ وانسيابي سلس.
وتحدثت المهندسة هنادي الصلح، قائلة: في ملمس الضوء أعجبت بالسرد الروائي العميق والحضور الإنساني الذي تم من خلاله بناء النص، وجدتني أقف أمام ضوء متفلت وظلام دامس مع انعدام رؤية البطلة، حيث الكفيفة لا ترى الضوء، وهو رمز يتحول من خلال السرد إلى مرشد صامت وبصيرة للكفيفة نورة، بطلة الرواية، مبينة أن الصور التي رسمتها الروائية نادية النجار بالكلمات تنقل إلينا حقبة زمنية من عين روائية باحثة، حيث رأت أن السرد تماهى بين الأحداث واختلط بكل الحواس المتقدة كالصوت والرائحة والمذاق واللمس، مما أعطى معنى آخر للحضور في حواس وظفت كأدوات مجازية للاستعاضة أو للتعويض عن فقدان حاسة البصر.
وتابعت الصلح مبينة أن نص الرواية أسس أيضاً للكثير من الصور والعناوين، التي وجهت من خلالها المضامين السردية لتكشف للقارئ عن أحداث منطقة الخليج عبر الجد علي ورحلته بين البحرين ودبي.
وفي مداخلتها قالت سلمى المصعبي إنها فخورة بالكاتبة نادية النجار ووصول روايتها للقائمة القصيرة في جائزة البوكر، مبينة أن الرواية تمتاز بأسلوب بسيط، لكنه عميق، كما أن أحداث الرواية مليئة بالحياة. وأضافت: «عندما انغمست بقراءة «ملمس الضوء» شعرت أن الرواية ليست فقط عن نورة الفاقدة بصرها، لكنها كانت عنا جميعاً: كيف نعيش الذكريات؟ وكيف نحتفظ بالنور حتى لو لم نره بعيوننا؟ نورة كانت ترى أشياء كثيرة وتحس بأشياء كثيرة، ليس بعينيها وحسب، لكن بقلبها وإحساسها».