أثير- الروائي الأردني جلال برجس
عرفت خالد خليفة حين قرأتُ عام ١٩٩٤ روايته ” حارس الخديعة” والتقيت به فيما بعد، ولأول مرة في شهر تشرين الثاني عام ٢٠٢١ في معرض الشارقة الدولي للكتاب، كنا مدعوين-إلى جانب عدد كبير من الكتاب العرب-لندوات موضوعتها الرواية، ومسارات أدبية أخرى. كان يجلس إلى طاولة قرب نافذة مطعم الفندق بعد أن تناول إفطاره، يشرب قهوة، ويحدّق بالبحر في ذلك الصباح الهادئ.

وجدته في غاية اللطف بعد أن صافحته، وجلست قبالته أتناول إفطاري. سلك الحديثُ منذ بدايته دربًا هي في الأصل لشخصين يعرفان بعضهما منذ سنين، وليس لكاتبين التقيا للتو؛ فأنا أعرف خالد عبر رواياته التي حرصت على قراءتها، ومن خلال ما يكتبه من تلويحات في صفحته في فيس بوك، وبعض أخباره في الصحافة العربية، والعالمية؛ فالكلمة مرآة لها أن ترينا ما وراءها.
لم يقل: هل قرأت لي؟ لم يتحدث عن نجاحاته في الكتابة، ولا عن انتشار ترجمات روايته إلى مختلف اللغات العالمية، ولا عن جولاته في أوروبا، وأميركا. لم يفتح باب النميمة؛ فيحط من شأن كاتب ما، أو يقلل من قيمة رواية وجدت رواجًا لدى القراء. لم يتذمر من شيء شخصي أو ثقافي، بل بدا لي إنسانًا متفائلًا، ومقبلًا على الحياة. لم نتحدث في الأدب، بل راح يتطرق لهوايته في الطبخ، بعد أن سألني عن دوافع عادتي بإعداد وليمة لعائلتي بعد الانتهاء من كتابة أي رواية. كان يتحدث عن تلك الوجبات التي يعدّها بولع من يعيد بناء مدينة عمَّها الخراب. يحكي عن مكونات تلك الأطباق، وتوافق عناصرها بروح مكلومة بذل جهدًا في مداراتها وراء ابتسامته الساخرة. كان نصف حديثنا ضحكًا، ونصفه الآخر تسطيح للمواجع، مرده فقدانه ثقته بكل ما هو سائد كان له أن يحمي روحه، ومنزله، وبلاده من نيران الكارثة؛ فراح عبر الكتابة، والأمل، وعبر هوايته بالطهو يحاول المشي على حبل مربوط بين بنايتين آيلتين للسقوط.
في ذلك اليوم شارفت الساعة على انتصاف الظهيرة ونحن نتسلى بالحديث عن مواضيع حياتية متفرقة، تخللتها نكات، واستعادة لطرائف حياتية. وكلما دعوته للخروج نحو غرفة مخصصة للتدخين يهمس لي ضاحكًا: أجلها أيها النحيل. إلى أن جاء وقت الغداء؛ فتناولنا طعامنا على الطاولة نفسها. لم يأكل كثيرًا، قال إنه يستمتع بإعداد الطعام لأصدقائه أكثر مما يستمتع بما يعده لنفسه. بعد الغداء اقترحت عليه الذهاب إلى المعرض لأقتني بعض الكتب، لكنه فضل أن يقرأ ثم ينام لساعات. لم يخرج حتى في باقي الأيام إلا للندوة التي تحدّث فيها عن تجربته في الكتابة.
في اليوم التالي التقيت به على الطاولة نفسها عند وقت الإفطار رفقة الروائي العراقي محسن الرملي، وبعض المدعوين إلى المعرض، وحين غادروا بقيت بصحبته حتى الظهيرة. في ذلك اليوم كان مزاجه مختلفًا، يعتريه الحزن، وسوداوية مردها ما يحدث في سوريا التي كلما قرر أن يغادرها إلى إحدى البلدان الأوروبية، تراجع عن قراره. رأيته مثل شجرة تقف في وسط حقل يحترق، ووجدتُ كيف للخراب الخارجي أن ينسحب على معمار الإنسان الداخلي، وبالتالي تصبح الكتابة وسيلة للخلاص من الانهيار من جهة، وتسليط الضوء على كل ما هو معتم من جهة أخرى. هنا ينتفي عن الكاتب سعيه إلى النجومية مهما كانت مشروعة ومغرية، وتجد كتاباته طرقها إلى قرَّائه بسهولة كبيرة، لأن ما بين أيديهم روايات كُتبت بصدق كبير، كتبت من عمق الشارع، بخلاف الذين كتبوا وهم ينظرون إلى الشارع من النافذة.
طوال إقامتي في ذلك الفندق التي امتدت لأربعة أيام، كنت ألتقي خالد خليفة كل صباح، وأحرص على أن أكون مستمعًا جيدًا له أكثر مما أكون متحدثًا، رغم أنه دفعني لمرات إلى جهة المتحدث ليتعرف بي أكثر. كان مزاجه في حالة من التذبذب الذي أتفهمه جدًا. تمامًا مثل طباعة اللافتة؛ فهو اجتماعي، وفي الآن نفسه ينحاز إلى عزلته رغم كل ما يحدث حوله.
أربعة أيام كانت كفيلة بأن تقربني من روائي معجون بالجرأة، والتمرد، والطيبة، والشغف الكبير بالأدب، وبالحياة، بل إني وجدته من القلة القليلة من الكتاب الذين لا فرق بينهم ونصوصهم الأدبية.
منذ تشرين الثاني عام 2021 لم نتواصل، حتى عبر رسالة في فيس بوك؛ فلم تنشأ بيننا صداقة بالمعنى المتعارف عليه من التواصل حتى لو كان متقطعًا، لكن خالد خليفة استقر في الجانب المشرق من الذاكرة بكل ما أحببته فيه، فهو ليس ممن يمرون، بل من أولئك الذين يستقرون في الوجدان بجدارة عالية.
وها هي ريح الأبدية تحمل ورقته عن شجرة الحياة إلى الأعالي برفقة أيلول وقمر الحصادين يتوسط السماء؛ فقد اكتمل البدر بسطوعه العالي. رحل خالد خليفة تاركًا وراءه إرثًا أدبيًّا مهمًا، وأماكن شاسعة في قلوب محبيه، وحزنًا كبيرًا حتى في قلوب الذين كانوا يغارون منه، ويحسدونه على ما وصل إليه من مكانة في الأدب الذي ما فشل خالد خليفة في أن يكون فيه صادقًا، وجريئًا، ويعرف ما معنى أن يصير الإنسان روائيًا يقف بوجه الخراب.

المصدر: صحيفة أثير

كلمات دلالية: خالد خلیفة فی ذلک

إقرأ أيضاً:

بكلمات مؤثرة.. رامز جلال ينعى الفنان سيد صادق

نعى لفنان رامز جلال، الفنان الراحل سيد صادق، معبرًا عن حزنه الشديد لرحيله.

آخر لقاءاته.. سيد صادق لـ صدى البلد: لن أعيش في جلباب أبي والحقيقة والسراب وش السعد عليا..فيديوسيد صادق امتلك محلا لبيع قطع غيار السيارات في وسط البلدآخر حواراته قبل وفاته.. سيد صادق: أحفادي سر سعادتينقابة المهن الموسيقية تنعي الفنان سيد صادق

وكتب رامز جلال، عبر حسابه الشخصي بموقع التواصل الاجتماعي “إنستجرام”: "البقاء والدوام للّه في وفاة المغفور له الأب والفنان والأستاذ سيد صادق، و«إنا للّه وإنا إليه راجعون».

جنازة الفنان سيد صادق

وشيعت جنازة الفنان سيد صادق، عقب صلاة الجمعة اليوم، من مسجد الشرطة بالشيخ زايد.

وتقدم المشيعين، الدكتور أشرف زكي، نقيب المهن التمثيلية، بجانب الأهل والأصدقاء ونجوم الفن.

وفاة سيد صادق

أعلن لؤي سيد صادق، نجل الفنان سيد صادق، وفاة والده عن عمر ناهز 80 عامًا.

وكتب لؤي، عبر حسابه على “فيس بوك”: “إنّا لله وإنّا إليهِ رَاجعُون.. توفي إلى رحمة الله الراجل العظيم والدي (سيد صادق)".

طباعة شارك رامز جلال سيد صادق جنازة الفنانة سيد صادق اخبار الفن تشيع الجنازة

مقالات مشابهة

  • “بوفايد”: الاستفتاء والانتخابات هي التي تعكس الإرادة الشعبية وليس الاستطلاعات
  • بكلمات مؤثرة.. رامز جلال ينعى الفنان سيد صادق
  • قيادي في “حماس” يؤكد تعطيل “نتنياهو” و”ويتكوف” المفاوضات التي كادت أن تصل إلى اتفاق نهائي
  • “شكشك” يصدر قراراً لوضع حسابات جمعية الدعوة الإسلامية تحت الرقابة
  • ندوة ثقافية حول الروائي السوداني الطيب صالح في القاهرة
  • مصدر مسؤول في وزارة العدل لـ سانا: تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي خبر تشكيل لجان محلية في محافظة السويداء، على رأسها ما سُمّي بـ “اللجنة القانونية العليا” التي ضمت عدداً من القضاة وأصدرت عدداً من القرارات
  • هل تم القبض على “أم خالد” من قبل السلطات المصرية؟
  • ترامب يعلن عن خليفة له لأول مرة
  • هذه الأرباح التي حققتها الشركة الجزائرية للتأمينات “كات” خلال سنة 2024
  • 15 ألف طرد إغاثي من الشارقة الخيرية ضمن سفينة «خليفة 8» لدعم أهالي غزة