كُنتُ دوما وأنا أحاضرُ في طلبتي أدبا ومناهجَ نقدٍ أتساءل سرّا وعلانيّة عن جدوى النقد، ولمَ أبسط أمام طلبتي «علما لا ينفع» وأحاول جاهدا أن أقنع أجيالا مختلفة بضرورة إدراك المنهج لحُسْن فهم نصوص الأدب؟ ولا أخفيكم سرّا أنّي لم أكن دوما مقتنعا بأغلب مناهج النقد ولا بأدواتها، ولذلك فقد عملت عندما نضجت تجربتي النقديّة إلى مراجعة هذه المسالك النقديّة بمفاهيمها وأدواتها، وكنت على يقين أنّ خطابَ الأدب داخلٌ بشكل عميق في واقع لا ينبتُّ عنه ولا ينفصل، هذا الواقع الذي يُديره ويتحكّم في مسالكه الكاتب رأسا، فهو المسؤول الأوّل عن كامل فضاء خطابه الأدبيّ.
تذكّرت أيضا رواية «سيّدات القمر»، والشخصيّة العجيبة التي أحسنت الراوية صناعتها وشدّتها إلى البيئة الصحراويّة التي اكتسبت منها خلالا وصفات، «نجيّة القمر» التي تخلو إلى نفسها في صحراء ممارسة طُقوس العشق وهيام الوجْد، تُسخّرها الراوية عُنصرا مُقيما لأفق سرديّ صحراويّ حامل لتاريخ المرأة العربيّة الصحراويّة وقوّة عزمها وإرادتها وتملّكها أمرها بيدها، الصحراء في هذا المقام ليست حفنة تراب ولا مظهرا من الجمال والنوق والخيام المتحرّكة، الصحراء هنا تاريخٌ وحضارة، وقمرٌ مشعٌّ بممكنات في السرد، ورُكام من القصص ومن الوجوه، الصحراء فضاء مُولّد لقيم وإرادة وعزم وحزم، عالمٌ من النور، يحوي الوجد والحبّ والحكايات، «نجيّة القمر» هي الشخصيّة التي ابتكرتها الروائيّة لوصْل عالم الحضر بعالم البداوة، ولتكون العامل الفاعل في إثارة حياةٍ من البداوة لا يُدركها إلاّ الضالع في العيش معهم، ورد في الرواية: «في تلك الليلة حين كان عزان زوج سالمة راجعا من السهرة عند البدو تملّكه إحساس بالنشوة، كانت الرمال تحت قدميه ناعمة جدّا وقد خلع نعليه ليستمتع ببرودتها الهادئة، آنسه اكتمال القمر وهو يطبع ظلالا أليفة على الكثبان الرملية.
من بعيد لاحت له أنوار «العوافي» وكأنّها عالم لا يعرفه، لقد أمضى مع أصدقائه من البدو شطرا من الليل في الأحاديث والسمر، أنشد بعضهم وضحكوا، عزفوا على الناي والربابة. تذكّرتُ أيضا، وأنا أفكّر في النقد البيئي، صديقي زهران القاسمي، «القنّاص» وكيف تمكّن زهران بِقُدرة السارد المُحنّك من تحويل عناصر الطبيعة الخاصّة، المحليّة أحيانا، من حيوانٍ، وشجرٍ وحجرٍ إلى مسرودات ومؤثّثات للحكاية، وإلى بؤرٍ للسرد. الوعلُ يُرى من ثُقب مرأى بندقيّة القنّاص، ومُحيطه عالم من الطبيعة البكر، لا يُهمله الرائي، وإنّما هو مُظهر وصْفَه وفعله، تُشكّله اللغة في عالمها خلقا جديدا بعد أن تشكّل منذ زمن البدايات في تناغم تامّ وتناسق عجيب، يغوصُ «القنّاص» في عالم الطبيعة، يتناسق معه، تتحوّل الرواية إلى حكاية الحجر، وإلى حكاية الشجر، «النخيلات الضئيلات وبعد أن ودّع عذوقهنّ آخر الثمار صار اليباسُ يزحف إليهن لكنّهن ظللن بين جنبات الوادي متشبّثات ببعض التربة بعيدا عن مجرى السيل الجارف، وقد أحاطهنّ شجر الأثل والقطف متماسكا بأغصانه مشكّلا حاجزا قويّا للحفاظ على النخيلات حارسات هذا الوادي اللاتي عادةً ما يتمايلن بطرب مع الهواء العليل مثل حوريات جبليّة أصابهنّ الوجد»، لا سُكون ولا جماد في هذه البيئة، وإنّما هو تواصُلٌ عجيب من التواجد والتحابب، بين الإنسان والبيئة التي تضمّه، كما تواجد طرفة مع ناقته، وكما تواجد عنترة مع جواده، يتواجد زهران القاسمي مع أحجاره وأشجاره ونباته وحيوانه، وهو ابن الجبل يعيشه حياته ويجول أطرافه، يعرف مكنونه وصائته، معجمٌ بيئيّ يغلب على الرواية، منه الظاهر للقارئ ومنه العميّ الذي يحتاج إلى مفاتيح علم: طائر أبو صريد غصن الشوع - شجرة لقم - حجارة الشرجة - شجرة عسيق - شجرة الغاف - أسماك الصد - شجرة التين - أعشاب السخير والهندوب - حجارة بلون بني غامق - عشبة المحميرة، عالمٌ تتأثّث به الرواية، وتنهض، يكون هذا المعجم هو أود الرواية وهيكلها ولحمها وشحمها. لا مهرب من شمس عُمان في الرواية، ولا مهرب أيضا من صحرائها ومن جبالها الممتدّة ومن سيحها ومن بحرها، وشواطئها، عواملُ بيئيّة متنوّعة لا يُمكن لكاتب الرواية أن يكون في معزل عنها، فرجل الجبل الذي يُتقن زهران القاسمي وسْمه وتحريكه، يختلف عن امرأة الصحراء القادمة من عميق الذاكرة الشعبيّة ومن أساطير العرب الضاربة في القدم في رواية «سيّدات القمر» أو في رواية «بن سولع». أعود إلى أصل الحكاية، وأصل الحكاية هو نقدٌ يرى البيئة إن توفّرت ويهتمّ بها، وحيرتي تكمن في التالي: ألم تتوفرّ وتتراكم دراساتٌ مكدّسة في رفوف مكتباتنا وجامعاتنا عن الحيوان في الشعر الجاهليّ، وعن الطبيعة في الشعر الأندلسي، وعن الفضاء في روايات الكوني، وعن الطبيعة في الشعر الرومانسي؟ فلسائل أن يغتمّ بسؤال: ما الجديد في هذا النقد، ونحن من سالف الزمن نحتفي بالطبيعة والبيئة كتابة ونقدا، وجامعيّونّا أبقاهم الله وسدّد ما بقي من خطاهم يُشرفون على موضوعات تُزهر فيها الطبيعة وتُونِعُ؟
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی الشعر الذی ی ة التی
إقرأ أيضاً:
«أبوظبي للغة العربية» ضمن جولة الأدب العالمية لمنصة «OverDrive»
أبوظبي (وام)
حلّت أبوظبي ضيفة لمدة شهر كامل على جولة الأدب العالمية، التي تنظمها منصة «OverDrive»، لتسليط الضوء على الإنتاج الثقافي في مجموعة مدن مختارة حول العالم، إذ خصّصت المنصة شهر يونيو الماضي للاحتفاء بالإرث الأدبي والثقافي لإمارة أبوظبي، ضمن مبادرة التعاون الثقافية التي جمعتها بمركز أبوظبي للغة العربية.
وتُعرف «OverDrive» بأنها منصة متخصّصة في مجال الكتب الرقمية، وتوزيع المحتوى الرقمي، مثل الكتب الإلكترونية، والكتب الصوتية، والمجلات، وخدمات استعارة الكتب، وتخدم نحو 30 ألف مكتبة عامة، وأكاديمية، ومدرسة، حول العالم، وتقدم لمستخدميها خصائص متقدمة تشمل خيارات البحث الذكي، وتحديد تنسيقات الكتب، وإدارة الاستعارات، بالإضافة إلى حفظ الملاحظات، والإشارات المرجعية تلقائياً، وتتيح إمكانية إرجاع الكتب من دون رسوم تأخير. وجاء اختيار أبوظبي ضيفاً لهذه الجولة، تقديراً لدورها في إثراء المحتوى العربي عبر ما تديره من مبادرات ومشاريع رائدة.
ووفّرت الجولة لجمهور القرّاء، والباحثين، والمهتمين حول العالم، فرصة الوصول إلى مئات العناوين الإلكترونية من إصدارات مركز أبوظبي للغة العربية، تغطّي مجالات متنوعة تشمل الترجمة، والرواية، والشعر، والفكر، وكتب الأطفال، وغيرها من التصنيفات المعرفية، وأتاحت الوصول إليها باستخدام تطبيق «Libby» لاستعارة الكتب الإلكترونية، والصوتية، وتطبيق «Kanopy».
وقال سعيد حمدان الطنيجي، المدير التنفيذي لمركز أبوظبي للغة العربية، إن هذا التعاون يأتي في إطار الحملة المجتمعية لدعم القراءة المستدامة، التي أطلقها المركز بداية العام، وهو التعاون الثاني بعد تعاون الجانبين خلال شهر رمضان الماضي. وأضاف أن هذه الخطوة تنسجم مع الرؤية الإستراتيجية للمركز التي يسعى من خلالها إلى تعزيز حضور اللغة العربية، ونشر الثقافة، والمعرفة، وتمكين المحتوى العربي رقمياً، ودعم جهود التحوّل الرقمي المعرفي المستدام، وتفعيل الإفادة من ميزات الذكاء الاصطناعي ومعطيات العصر الرقمي في إثراء ثقافة المجتمع، والتعريف بما تتضمنه اللغة والثقافة والأدب العربي من ذخائر أدبية وفكرية، ومعرفية.