كاتبة أمريكية: الغرب يحاول إسكات الأصوات الفلسطينية
تاريخ النشر: 21st, October 2023 GMT
قالت الكاتبة أورسولا ليندسي إن وجهات النظر الفلسطينية تم التعامل معها منذ فترة طويلة بالاستعلاء والشك في الغرب، وما حدث في معرض فرانكفورت للكتاب دليل على ذلك.
تضيف ليندس في مقال بصحيفة "واشنطن بوست" إن معرض فرانكفورت للكتاب في ألمانيا أعلن في 13 تشرين الأول/ أكتوبر أنه لن يستضيف بعد الآن حفل توزيع جوائز للكاتبة الفلسطينية عدنية شبلي وكتابها "تفصيل صغير".
وقال مدير معرض فرانكفورت للكتاب، يورغن بوس، إن "الحرب الإرهابية ضد إسرائيل تتناقض مع كل القيم التي يدافع عنها فرانكفورتر بوخميسي. لقد كان معرض فرانكفورتر بوخميسي دائما يدور حول الإنسانية، وكان تركيزه دائما على الخطاب السلمي والديمقراطي". وأضاف: "نريد أن نجعل الأصوات اليهودية والإسرائيلية مرئية بشكل خاص في معرض الكتاب".
من المفهوم أن يشعر الناس، وخاصة في ألمانيا، بالحاجة إلى الوقوف بشكل لا لبس فيه ضد القتل الوحشي لليهود. ولكن لم يتم توضيح السبب الذي جعل المشاركة في الحداد الإسرائيلي يتطلب إسكات كاتب فلسطيني لا علاقة له بحماس، ولماذا لا يستطيع الفلسطينيون أن يكونوا جزءا من الخطاب السلمي والديمقراطي في معرض الكتاب. من الواضح أن مجرد فكرة الاعتراف بالفلسطيني والتحدث علنا كانت فكرة غير مقبولة.
عندما أعلنت لأول مرة عن جائزة شبلي، وصفت ليتبروم روايتها بأنها "عمل فني مؤلف بدقة يحكي عن قوة الحدود وما تفعله الصراعات العنيفة للناس وبهم". يقول موقع ليبتروم الإلكتروني إن هدفه هو الترويج للأدب غير الممثل من الجنوب العالمي ومساعدة القراء على "معرفة أن هناك وجهات نظر مختلفة، ولكنها ذات صلة بالعالم الواحد الذي نعيش فيه". لكن الحقيقة هي أن وجهات النظر الفلسطينية تم التعامل معها منذ فترة طويلة بالاستعلاء والشك في الغرب. وليس أكثر وضوحا منه الآن، حيث يتعرض الفلسطينيون للعقاب الجماعي بسبب هجوم حماس، ويُحرمون من الفرصة للتعبير عن قلقهم بشأن الكارثة الإنسانية التي تتكشف في غزة أو مشاركة تاريخهم المكبوت وآلامهم.
تنقسم رواية شبلي الصغيرة والحادة (التي ترجمتها إليزابيث جاكيت إلى الإنجليزية عام 2020، ويمكن تنزيلها مجانا من ناشرها البريطاني ( Fitzcarraldo Editions) إلى جزأين. الأول هو إعادة بناء حدث حقيقي، استنادا إلى سجلات الجيش الإسرائيلي ونشرته صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية. بعد وقت قصير من الحرب العربية الإسرائيلية عام 1948، في صيف عام 1949، ألقت وحدة من الجيش الإسرائيلي التي كانت تقوم بدورية على خط الهدنة مع مصر في جنوب إسرائيل القبض على فتاة بدوية وأعادتها إلى معسكرهم. جردوها من ملابسها، وغسلوها بالخرطوم، وقصوا شعرها ونظفوه بالكيروسين، ثم اغتصبوها وقتلوها.
في النصف الثاني من الكتاب، تصبح امرأة فلسطينية تعيش في رام الله عام 2004 مهووسة بالقصة وتسافر إلى جنوب إسرائيل، وتشق طريقها بقلق عبر نقاط التفتيش، إلى مسرح الجريمة. تروي شبلي القصة بأسلوب خافت يكاد يكون مخدرا. إنه يتكشف بمنطق كابوس متوتر وغريب ولا مفر منه ومليء بالرهبة. وصفه الباحث الأدبي والناقد روبين كريسويل بأنه "تأمل في تكرار التاريخ، والماضي كصدمة متكررة".
على الرغم من أن كتاب شبلي واجه اتهامات بمعاداة السامية من قبل حفنة من النقاد الألمان، إلا أنني لم أر أي دليل يدعم هذه الاتهامات، ولم أر أي حجج بأن الجريمة التي ترويها في كتابها غير صحيحة، ولا إشارات إلى أي تعليقات ربما أدلت بها في الوقت الحالي حول الأحداث. إن مجرد كونك كاتبا فلسطينيا يروي قصة فلسطينية - حقيقة الوجود الفلسطيني والتعبير عن الذات - هو ما اعتبر تحريضيا.
ووفقا لرسالة دعم لشبلي، موقعة من قبل كتاب من جميع أنحاء العالم، كانت ترحب بظهورها في معرض الكتاب باعتباره "فرصة للتأمل في دور الأدب في هذه الأوقات القاسية والمؤلمة". ويتخيل المرء المحادثة المعقدة، والتي يكاد يكون من المؤكد أنها غير مريحة، ولكنها مفيدة أيضا.
إن حالة شبلي فظيعة ولكنها ليست فريدة من نوعها. كما ألغيت جولة كتابية لمذكرات الناشط المصري والسجين السياسي السابق باتريك زكي بعد أن وصف بنيامين نتنياهو بأنه "قاتل متسلسل" (على الرغم من أن الإسرائيليين أنفسهم قالوا أسوأ بكثير عن رئيس الوزراء في الأسبوع الماضي). كما تم إلغاء فعالية "How to Academy" التي تعرض كتاب "يوم في حياة عبد سلامة" بعد أن قالت الشرطة البريطانية إن هناك "مخاوف أمنية" غير محددة. هذا الكتاب الواقعي الذي ألفه ناثان ثرال، وهو صحفي يهودي أمريكي يعيش في القدس، هو وصف للحياة تحت الاحتلال الإسرائيلي من خلال عيون صديقه الفلسطيني، الذي فقد ابنه في حادث حافلة.
والقائمة تطول. في 12 تشرين الأول/ أكتوبر، ألغى عمدة المدينة الفرنسية شوازي لو روا عرض مسرحية لمسرح الحرية، وهو مجموعة فلسطينية مقرها في مخيم جنين للاجئين. في الولايات المتحدة، حتى قبل الصراع الحالي، كانت الأحداث الثقافية الفلسطينية تخضع للتدقيق. واجه مهرجان فلسطين للكتابة، الذي استضافته جامعة بنسلفانيا الشهر الماضي، ما أصبح حملة متوقعة من التشهير والمضايقات.
هناك من يتماشى مع إسكات الفلسطينيين من منطلق التعاطف الصادق الذي يتدفق في اتجاه واحد فقط. والبعض الآخر يفعل ذلك بسبب الجهل أو الجبن أو سوء النية. وبينما يتضور السكان المدنيون في غزة جوعا ويتعرضون للقصف، فمن المذهل أن نرى كلمات وإيماءات الفلسطينيين وغيرهم الذين يطالبون بحماية الأبرياء تعامل على أنها تهديدات. وحظرت فرنسا المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين. أصدرت مدارس برلين تعليمات للطلاب بعدم ارتداء الكوفية. وأشارت وزيرة الداخلية البريطاني إلى أن تلويح العلم الفلسطيني قد يكون غير قانوني. يُطلب من الفلسطينيين باستمرار إدانة العنف، لكن كل ما يفعلونه – بدءا من المسيرات السلمية إلى حدود غزة في عام 2018، إلى تنظيم حملات المقاطعة، إلى تقديم مسرحية أو كتابة رواية – يتم تأطيره على أنه عمل من أعمال العنف.
إن الاستفادة الساخرة من فظاعة عنف حماس لإبطال جميع الأصوات الفلسطينية هي جزء من حملة لتضييق مساحة التعاطف والفكر والنقاش والحقيقة. إن قبول ذلك يعني قبول تقليص حريتنا الجماعية في التعبير والفكر. في الفضاءات الثقافية والأدبية، حيث هذه الحرية هي عمادنا ومسؤوليتنا، علينا أن نقاوم الرقابة والترهيب والإصرار الشديد على أن هناك جانبا واحدا فقط يستحق الاستماع إليه.
وهذا يسير في كلا الاتجاهين. وفي نهاية هذا الأسبوع، أخطط للقاء صديقة فلسطينية تنحدر عائلتها من غزة، وقد تواصلت معي للتحدث، جزئيا لفهم وجهة النظر الغربية. بعض ما سأشاركه معها هو كلمات اليساريين الأمريكيين اليهود وأقارب الضحايا الإسرائيليين - الكلمات التي منحتني العزاء في الأسبوع الماضي، والتي تعبر عن الخوف والحزن على عمليات القتل التي ترتكبها حماس وضرورة تقدير حياة الفلسطينيين على قدم المساواة.
والأهم من ذلك أن كتاب شبلي لا يحتفل بالعنف. إنه سرد للعنف الذي تعرضت له امرأتان عزلاءتان. أحد الأشياء القيمة العديدة التي يمكن أن نتعلمها من الكتاب الفلسطينيين هو الطريقة التي تضيق بها حياتهم وآفاقهم بسبب انعدام الأمن المستمر.
عند إعادة قراءة كتاب شبلي في الـ 24 ساعة الماضية، أذهلتني الجغرافيا: الجزء من صحراء النقب الذي يزوره الراوي يمتد بمحاذاة الحدود المغلقة لغزة، بالقرب من معبر رفح إلى مصر. الراوي، الذي يقضي الليلة في غرفة مستأجرة في مستوطنة إسرائيلية، يسمع صوت انفجار من بعيد ويخمن على الفور ما هو؛ لأنه لا يوجد شيء غير عادي أو مفاجئ في الصوت.
"إنه بعيد، خلف الجدار. يجب أن تكون غزة أو رفح. يبدو القصف مختلفا تماما اعتمادا على مدى قرب الشخص من المكان الذي يتم قصفه أو بعده. قرقرة القصف ليست قوية على الإطلاق، والضوضاء ليست مزعجة، بل هي صوت عميق وثقيل، مثل القرع البطيء على طبلة ضخمة".
في رحلتها جنوبا، تزور راوية شبلي مستوطنة نيريم الإسرائيلية، حيث صمد مقاتلون في ميليشيا الهاغاناه الإسرائيلية عام 1948 أمام هجوم شنه الجيش المصري. ورسم المقاتلون الإسرائيليون شعارا على الحائط: "الرجل، وليس الدبابة، هو الذي سينتصر". إنها جملة يعود إليها الراوي أكثر من مرة، جملة يمكن قراءتها اليوم بطرق عديدة بمرارة، وبأمل، وبغير تصديق. هذا شيء واحد يمكن للأدب أن يفعله: دعونا نرى العالم على نطاق أوسع وأكثر وضوحا، خارج حدود تجربتنا الخاصة، وافتراضاتنا وأحكامنا المسبقة الموروثة. يمكن للكتاب الفلسطينيين مساعدتنا في القيام بذلك، إن لم نستبعدهم.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي صحافة الغرب معرض فرانكفورت الغرب طوفان الاقصي معرض فرانكفورت صحافة صحافة صحافة سياسة سياسة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة فی معرض
إقرأ أيضاً:
من يحاول خطف نصر الجيش في السودان؟
في لحظة فارقة من عمر الحرب السودانية، وبينما يقترب الجيش من حسم المعركة ميدانيًا، تلوح في الأفق تسوية دولية تُهدّد بأن تُفرغ هذا النصر من محتواه السياسي.
فبين سطور اللقاء الأخير لوزير الخارجية الأميركي مع أطراف الرباعية، ظهرت إشارات مقلقة توحي بأن الغرب لا يسعى إلى سلام يُنهي الحرب فحسب، بل إلى اتفاق يُبقي على توازن هشّ بين الدولة والتمرد؛ خوفًا من أن يتحوّل نصر الجيش إلى عقبة كأداء أمام بسط النفوذ الدولي مقابل الإرادة الوطنية، وتبرير ذلك من خلال مزاعم منع تحول النصر إلى حكم عسكري عضوض.
فهذا "السلام" المشروط لا يبدو بريئًا. فهو لا يستند إلى الوقائع الميدانية بقدر ما يستجيب لحسابات النفوذ، ويعيد إنتاج التوازنات التي سبقت الانفجار. وهنا يُطرح السؤال بصراحة مؤلمة: هل يُمكن بناء سلام عادل دون الاعتراف بمن انتصر ومن انهزم؟ وهل يُطلب من الجيش أن ينتصر في الميدان، ثم يُساوي نفسه سياسيًا مع من تمرّد ضد الدولة وارتكب الجرائم الفظيعة ضد المواطنين العزل؟
في هذا التحليل نحاول الغوص في خلفيات التحرك الدولي، ونفكك منطق "السلام الناقص"، ونبحث في مآلاته على مستقبل السيادة، والانتقال السياسي المدني في السودان.
في هذا الإطار، تتقدّم مجموعة الرباعية الدولية بمبادرات متسارعة؛ لإنهاء الحرب في السودان، غير أن هذه المبادرات، رغم شعاراتها الإنسانية، لا تبدو بعيدة عن حسابات المصالح السياسية والأمنية.
والرباعية هي دول تتولى التنسيق حول المسار السياسي والدبلوماسي منذ ما قبل اندلاع الحرب، وتلعب الآن دورًا تريده مركزيًا في صياغة ملامح تسوية ليس بالضرورة تستجيب للمصلحة الوطنية، أو الإرادة الشعبية السودانية.
لكن اللافت أن هذه الأطراف، وخصوصًا الغربية منها، باتت تتحدث بلهجة زاعمة بأن يؤدي الحسم العسكري الكامل لصالح الجيش إلى "إعادة إنتاج الحكم العسكري"، كما وصفته بعض مراكز التفكير الأميركية، بينما تتجاهل خطوة تعيين رئيس وزراء مدني بصلاحيات واسعة، وهو الأمر الذي رحب به الاتحاد الأفريقي، فضلًا عن القوى السياسية السودانية الفاعلة، عدا تلك القليلة المرتبطة بالأجندة الخارجية.
إعلانكل ذلك يجري وكأنما يُراد للجيش أن يُقاتل وحده، ويُحاسَب وحده، ثم يُمنع من ترجمة نصره إلى شرعية سياسية. هذا الموقف يُعيد إلى الأذهان النموذج الذي فُرض على أكثر من دولة في الإقليم: انتصارات ميدانية تُعطلها صفقات ناعمة تحفظ للمتمردين موقعًا شكليًا في "السلام"، وتفتح أبواب السلطة باسم "الشمولية السياسية".
لكن السؤال الذي يتجنبه صناع هذه الصفقة هو: هل يُمكن بناء سلام حقيقي بالتماهي مع الانتهاك؟ وهل المطلوب إطفاء الحرب أم ترسيخ ازدواجية الدولة؟
توازن وهمي وحسابات أجنبيةحين تتكثف الدعوات الدولية للسلام في لحظة يتقدم فيها الجيش ميدانيًا، لا يبدو الأمر بريئًا من الناحية السياسية.
فالرباعية- وعلى رأسها واشنطن- ظلت لعدة أشهر تتعامل مع مليشيا الدعم السريع كطرف سياسي لا كمجموعة متمردة، رغم ما ارتكبته من فظائع موثّقة، وحين بدأت موازين القوة تميل بوضوح لصالح الجيش السوداني، بدا أن السقف الدولي قد انخفض فجأة من دعم "الانتقال المدني" إلى فرض "وقف إطلاق نار عاجل".
كما فرضت واشنطن عقوبات على السودان بزعم استخدام الجيش أسلحة كيميائية استنادًا إلى تقرير صحفي. هذا التغير في اللغة والتكتيك يكشف ضمنيًا عن اعترافٍ دولي غير معلن بأن التمرد قد خسر المعركة ميدانيًا. فمليشيا الدعم السريع- التي كانت تسيطر على مناطق واسعة في بدايات الحرب- صارت اليوم تترنّح في جيوب معزولة، وتعتمد في بقائها على حرب مدن وقصف عشوائي لا يغيّر الواقع العسكري.
ومع ذلك، لا تُترجم هذه الهزيمة في الخطاب السياسي الغربي، بل يُعاد تأهيل المليشيا سياسيًا عبر المطالبة بإشراكها في التسوية، بحجة أنها "طرف فاعل" لا يمكن تجاوزه.
لكن ما يُقلق أكثر من إعادة تأهيل التمرد، هو أن هذا الإقرار المبطّن بالهزيمة لا يُبنى عليه موقف واضح لصالح الدولة، بل يُستغل للضغط على الجيش لتقديم تنازلات سياسية تُفرغ انتصاراته من مضمونها السيادي.
فهل يُراد للجيش أن ينتصر فقط ليُمنع من حماية الدولة؟ أم أن الغرب يخشى من نهاية الحرب أكثر مما يخشى استمرارها، لأن النهاية تعني أن أحد الطرفين سيفرض واقعًا جديدًا لا يخضع للإملاء الخارجي؟
في كثير من النزاعات، يكون السلام تتويجًا للنصر. لكن في الحالة السودانية، يبدو أن هناك من يسعى إلى فصل المسارين قسرًا: أن يتوقّف القتال دون أن يُعترف بانتصار طرف على آخر، وأن يُفرض على الدولة أن تُصافح من حمل السلاح ضدها دون شروط.
هذا هو جوهر "السلام الناقص" الذي تدفع به بعض العواصم الغربية عبر الرباعية. سلام يُطلَب فيه من الجيش أن يوقف المعركة وهو في موقع القوة، ويقبل بتسوية تُعيد دمج عناصر التمرد في المشهدين: السياسي والعسكري، بحجة "الاستقرار".
إن أخطر ما في هذه المعادلة هو محاولة فرض توازن سياسي وهمي على حساب الحقائق الميدانية. فالدعوات لإشراك الدعم السريع في مستقبل الحكم لا تأتي احترامًا لمطالب شعبية، بل تلبيةً لاعتبارات خارجية تخشى أن تتحوّل سيطرة الجيش إلى مشروع حكم وطني يصعب التحكم فيه من الخارج. هكذا يتحوّل النصر إلى عبء، والانتصار إلى خطر ينبغي احتواؤه، لا ترجمته.
إعلانلكن هذا المنطق يُهدد بتكرار الكارثة: كيف يمكن بناء سلام حقيقي مع مليشيا ارتكبت تطهيرًا عرقيًا؟ كيف يُطلب من الضحايا أن يتعايشوا مع الجناة باسم "الحل السياسي الشامل"؟ وهل تُبنى دولة القانون على قاعدة اللاعقاب والمساواة الزائفة بين الدولة والتمرد؟
هذا النوع من السلام لا ينهي الحرب، بل يُجمّدها في صيغة "لا غالب ولا مغلوب"، تمهيدًا لجولة قادمة من الصراع.
إن النصر العسكري، حين لا يجد ترجمته السياسية، يصبح فخًا. فالجيش السوداني، الذي قاتل وحده في مواجهة تمرد مسلح متوحش ومدعوم خارجيًا، لم يكن يدافع عن نفسه فقط، بل عن كيان الدولة ومؤسساتها وسيادتها.
وبالتالي، فإن حرمان الجيش من ثمرة هذا النصر- بحجة التوازن أو "اللامركزية السياسية"- لا يعني سوى تقويض سلطة الدولة الوطنية لحساب مراكز نفوذ مليشياوية أو محمية خارجيًا.
إن فرض "نصر غير مكتمل" على الجيش يحمل ثلاث نتائج كارثية:
إضعاف المؤسسة العسكرية معنويًا وسياسيًا: كيف يُطلب من جيش قدّم آلاف الشهداء أن يقبل تسوية تساوي بينه وبين من حاربه؟ كيف يُطالَب بالصبر على حماية شعبه، ثم يُمنع من حصد شرعية حماية الشعب؟ تفريغ التحول المدني من مضمونه: إذ لا يُمكن الحديث عن تحول ديمقراطي حقيقي في ظل وجود مليشيات خارج المؤسسة العسكرية الرسمية، ولا بوجود "شركاء سلام" لا يؤمنون بالدولة إلا إذا كانت ضعيفة. إضعاف ثقة الشارع في العملية السياسية: فالجمهور السوداني الذي دعم الجيش واستنفر أبناءه لجانبه؛ رفضًا للفوضى والقتل والاغتصاب، سيشعر بأن تضحياته ذهبت سدى إذا أُعيد دمج الجناة في السلطة.إن أخطر ما في هذا النصر غير المكتمل، أنه لا يؤسس لسلام، بل لتعايش هش بين قوة تقاتل من أجل الدولة، وأخرى تستفيد من بقاء الدولة على شفا الهاوية.
الرباعية.. دور مشبوه وتجربة فاشلةفي الوقت الذي تتسارع فيه المبادرات الغربية لفرض تسوية تُبقي على جزء من التمرد ضمن بنية الحكم، تتصاعد في الداخل السوداني أصوات تحذّر من مصادرة القرار الوطني باسم "الحل الدولي".
فالتوازن الحقيقي ليس بين الجيش ومليشيا الدعم السريع، بل بين رغبة الداخل في سلام يعيد للدولة هيبتها، وبين رغبة الخارج في تسوية تحفظ النفوذ وتُبقي البلاد تحت الوصاية الناعمة أو الفجّة. هذه الفجوة بين الداخل والخارج تتجلى بوضوح في الخطاب السياسي:
القوى الوطنية المستقلة ترفض أي مشروع يعيد دمج مليشيا الدعم السريع، وتطالب بسلام قائم على المحاسبة ونزع السلاح وتفكيك المليشيات. الشارع السوداني الذي دفع ثمن الحرب من روحه وجسده، يُدرك أن أي تسوية لا تعترف بمن انتصر ومن خان، ستكون مجرّد هدنة قبل انفجار جديد. بينما تواصل الرباعية الدولية الترويج لفكرة السلام "الشامل" الذي لا يُقصي أحدًا، حتى وإن كان هذا "الأحد" هو الجلاد.وهنا يطرح الواقع سؤالًا لا يمكن تجاهله: هل أصبح القرار السياسي السوداني رهينة لموازين القوى الدولية؟ أم أن اللحظة الراهنة تستدعي جبهة وطنية عريضة تُعيد التفاوض من موقع القوة، لا من تحت سقف الابتزاز الدبلوماسي؟ إن من يُريدُ السلام حقًا، يجب أن يسأل أولًا: سلام مع من؟ وعلى أي أساس؟ لأن السلام ليس نزع سلاح فقط، بل استعادة معنى الدولة.
احذروا عودة الرباعية للواجهةإن الرباعية، التي نشأت عمليًا عقب سقوط نظام البشير في 2019، دون تفويض شعبي أو دولي واضح، رفعت شعار: "دعم الانتقال الديمقراطي"، لكن تجربتها عكست مقاربة فوقية، سعت إلى فرض ترتيبات سياسية لا تنبع من الداخل السوداني، بل من حسابات إقليمية ودولية.
تاريخ الرباعية يشي بميلها إلى استثمار الهشاشة السياسية في السودان، خاصة خلال فترة حكومة عبدالله حمدوك، التي لم تحظَ بتفويض انتخابي، مما فتح الباب أمام تدخلات مباشرة في الشأن السوداني، أبرزها دعم مشروع "دستور المحامين" الذي وُجهت له انتقادات؛ لكونه يكرّس هيمنة نخبوية مدنية غير توافقية، ويمهد الطريق لتدخلات أجنبية تحت غطاء قانوني سياسي.
إعلانكما كان للدعم الذي حظي به الاتفاق الإطاري من قبلها – والذي ساوى بين المؤسسة العسكرية ومليشيا الدعم السريع – دورٌ كبير في خلق حالة من الانقسام الحاد داخل الساحة السياسية السودانية. وهو ما رأته تقارير حقوقية مثل "هيومن رايتس ووتش" تهديدًا لاستقرار الدولة ووحدتها.
السلام الحقيقي من الداخل لا من العواصمإن الحل الحقيقي لا يمكن أن يُفرض من الخارج، ولا يولد من رحم تسويات جزئية مفروضة، بل من حوار وطني شامل، ينطلق من الداخل، ويشارك فيه كل مكونات المجتمع. سلامٌ يُعيد هيكلة العلاقة بين المدنيين والعسكريين على أسس وطنية، لا على إملاءات دولية.
ويجب أن يكون هذا السلام قائمًا على:
نزع السلاح من المليشيات. دمج من تنطبق عليه الشروط في القوات المسلحة وفق قانونها. محاسبة من تورط في جرائم أو انقلابات. استعادة ثقة الشارع في مسار وطني حقيقي، لا شراكة وهمية مع من قادوا البلاد إلى الهاوية.الخلاصة أن السيادة لا تُهدى، بل تُنتزع. فلم يعد السودان تلك الحديقة الخلفية التي تعبث بها الأيدي الأجنبية. لقد تغيّر الزمن، وتغيّر الوعي. وإذا كانت الرباعية تريد أن تكون فاعلًا إيجابيًا، فعليها أن تدعم خيارات الشعب لا أن تصادرها، وأن تُعلي من شأن الدولة لا أن تُساويها بالتمرد.
السلام لا يُبنى على التغاضي، ولا على التجميل السياسي للجراح. السلام الحق، هو الذي يستند إلى العدالة، ويُعيد الاعتبار للدولة، ويمنح الأمل للمواطن بأن دماء أبنائه لم تذهب سدى. فإما سلام يُعيد للسودان سيادته، أو تسوية تُعيد إنتاج أزمته.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outline