ميزان الاقتصاد العُماني (1- 2)
تاريخ النشر: 25th, October 2023 GMT
◄ ميزان المدفوعات مرآة تعكس حجم التعاملات الاقتصادية والتجارية مع العالم
◄ 13.4 مليار ريال واردات سلعية العام الماضي بزيادة 24%
◄ العجز المزمن في قطاع الخدمات يمثل تحديًا اقتصاديًا بنيويًا
◄ 4.5 مليار ريال مدفوعات الخدمات من السلطنة إلى العالم بارتفاع 28% في 2022
◄ ضرورة الاهتمام بتنمية قطاع الخدمات القادر على توفير أكبر عدد من الوظائف
◄ 3.
5 مليار ريال تحويلات العمالة الأجنبية في 2022
◄ 3.5 مليار تدفقات رأسمالية خارجة بزيادة 21% العام الماضي
◄ ميزان المدفوعات يعاني من اختلالات هيكلية.. و"الإنتاجي" في المقدمة
◄ لا بديل عن ضرورة التمكين الحقيقي للقطاع الخاص في الدورة الاقتصادية
د. يوسف بن حمد البلوشي
yousufh@omaninvestgateway.com
نتعرَّضُ في هذا المقال (الذي يُنشر على حلقتين) إلى واحد من أهم الموازين الاقتصادية الكُلية، والذي يمثل مرآةً تعكس حجم التعاملات الاقتصادية والتجارية وما يتبعها من تدفقات نقدية بين الاقتصاد العُماني والاقتصاد العالمي، خلال فترة زمنية محددة (سنوية) مستندين في قراءتنا إلى التقرير السنوي للبنك المركزي العُماني لعام 2022، والذي يُعد التقرير الأفضل لرصد وتحليل التطورات الاقتصادية والنقدية والمالية في سلطنة عُمان.
ويستهدف هذا المقال تسليط الضوء على أهم المسائل المرتبطة باقتصادنا الوطني؛ سعيًا لتعزيز الجهود الكبيرة التي تبذلها مختلف مؤسسات الدولة والمجتمع بأسره، من أجل معالجة مَوَاطِن الضعف في ميزان الاقتصاد؛ بما يكفل الحفاظ على الاستقرار الاقتصادي على الأمد الطويل، وتوفير فرص العمل الملائمة للعُمانيين. وضمن هذا السياق، تتجلى الحاجة إلى شحذ الهمم وحشد الجهود؛ سواءً من صُنّاع القرار في القطاع العام، أو من الأطراف الفاعلة في القطاع الخاص، من أجل دراسة المحاور المطروحة دراسة مُعمَّقة، وتقديم التوصيات الكفيلة بإحداث التطور المنشود، في إطار المبادئ الاساسية التي يقوم عليها الاقتصاد العُماني، من حرية اقتصادية ومنافسة حرة، وكذلك التكامل مع الاقتصاد العالمي وحرية التجارة.
حديثنا اليوم عن ميزان المدفوعات، الذي يقيس تفاعل عُمان مع سلاسل التوريد العالمية، ودرجة الانفتاح، ومدى الاستفادة من الفرص، والفضاء العالمي للحصول على ما يحتاجه من سلع وخدمات واستثمارات، وكذلك المساهمة في تلبية الطلب العالمي على السلع والخدمات والاستثمارات التي تنتجها السلطنة. وهذا الميزان يُوضح هيكلية الإنتاج المحلي، ومدى التوازن أو الاختلال فيه.
وكغيره من الموازين، لميزان المدفوعات كفتان؛ الأولى: تدخل منها الأموال إلى الاقتصاد العُماني من خلال التصدير أو تقديم خدمات للعالم أو جذب استثمارات أو غير ذلك، وتُستخدم هذه الأموال من قبل الحكومة والشركات والأفراد. أما الكفة الثانية، فهي التي تخرج منها الأموال من السلطنة مقابل الحصول على الواردات من السلع والخدمات أو خروج أموال للاستثمار في الخارج.
وضمن الحيز المتاح، سنركز في حديثنا على إحدى كفتي الميزان؛ وهي الكفة الثانية المعنية بخروج الأموال من الاقتصاد العُماني، وذلك على نحو مُيسَّر، دون الدخول في دراسة أبعادها وتشابكاتها رقميًا وتحليليًا بنوع من التفصيل والعمق الذي تستحقه.
وهذا الميزان يمثل ترجمة لمعادلة التنمية الاقتصادية البسيطة، التي مفادها أنه يتعين على الدول الراغبة في تحقيق نهوض اقتصادي، تعزيز الكفة الأولى بزيادة الصادرات من السلع والخدمات، وجذب المزيد من الاستثمارات. وأيضًا التأثير على الكفة الثانية من خلال الحد من خروج الأموال أو ما يسمى بإحلال الواردات من السلع والخدمات وإيجاد البيئة التي تستقر فيها الاستثمارات وتُعيد استثمار الأرباح كبديل لتحويلها للخارج.
الكفة الثانية لميزان مدفوعات الاقتصاد العُماني معنية بقياس خروج الأموال من دورة الأنشطة الاقتصادية العُمانية إلى الخارج، لتلبية الطلب المحلي، والأثر السلبي لذلك على احتياطيات العملة الأجنبية، والضغط على سعر صرف الريال العُماني، واتساع الفجوة الاستثماريةـ وضعف مضاعف الإنفاق، ومحدودية توليد فرص العمل المحلية وتنويع قاعدة الإنتاج المحلي (حيث إن الأموال تخرج إلى الخارج دون أن تدور بشكل كافٍ في الاقتصاد المحلي لتوليد فرص العمل وتوفير دخول لشريحة أكبر من المتعاملين محليًا).
وبقراءة متأنية للإحصاءات المنشورة في التقرير المذكور، نجد أن الواردات من السلع المختلفة تحتل المرتبة الأولى؛ حيث تم استيراد سلع إلى السلطنة خلال السنوات الثلاثة الأخيرة (2020- 2021- 2022) بقيمة 9.8، و10.8، و13.4 مليار ريال عُماني؛ وهذه أرقام مليارية ضخمة ارتفعت بنسبة 24% خلال عام 2022، من بينها سلع يمكن إحلالها بإنتاج محلي متى ما وُجِدَت السياسات العامة والبرامج المناسبة لتبني ما يُسمى بـ"إستراتيجية إحلال الواردات". وعلى سبيل المثال، بلغت القيمة الكُليّة للواردات السلعية في قطاع المنتجات الحيوانية والنباتية والأغذية والمشروبات حوالي ملياري ريال في عام 2022؛ أي حوالي 13.5% من اجمالي الواردات.
وفي جانب الخدمات؛ فإنَّ السلطنة تُعاني من عجز مزمن؛ حيث إنَّ الخدمات التي تُقدِّمها السلطنة أقل بكثير من الخدمات التي تحصل عليها من العالم، وهذا تحدٍ اقتصادي بُنيَوِيّ، يجب التعامل معه من خلال تنشيط قطاع الخدمات.
وتشير الإحصاءات في ميزان المدفوعات إلى ان مدفوعات السلطنة خلال السنوات الثلاثة الأخيرة (2020- 2021- 2022) مقابل ما حصلت عليه من خدمات من العالم، قد بلغت 3.3، و3.5، و4.5 مليار ريال عُماني، وارتفعت بنسبة 28% خلال عام 2022؛ وذلك لتلبية الطلب المحلي على الخدمات المختلفة، ونذكر منها لعام 2022 خدمات النقل والتي بلغت ما يقارب المليار و854 مليون ريال عُماني، وخدمات السفر للأغراض المختلفة كالسياحة والتعليم والعلاج بنحو 854 مليون ريال عُماني، وخدمات التأمين بـ489 مليون ريال عُماني، والخدمات المالية بـ152 مليون ريال عُماني، وخدمات الاتصالات والخدمات المتصلة بها بـ229 مليون ريال عُماني، وخدمات أخرى بقيمة 680 مليون ريال عُماني.
وهذه أرقام ضخمة حريٌّ بنا دراستها بتأنٍ، والاهتمام بقطاع الأنشطة الخدمية وبناء قدرات وطنية في هذا الشأن. وتشير التجارب العالمية إلى الإمكانيات الكبيرة لقطاع الخدمات في حل مشكلة الباحثين عن عمل محليًا وعالميًا؛ فقطاع الخدمات يمثل أكبر جهة توظيف في جميع البلدان الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. وتوضح دراسات البنك الدولي أنه في ظل العولمة، فإن قطاع الخدمات يحتل أهمية خاصة في الدول النامية أكثر من قطاع السلع؛ حيث تنمو صادرات الخدمات بوتيرة أسرع بكثير من البلدان المتقدمة. وهناك حاجة ملحة لتشغيل قاطرات الخدمات في الاقتصاد العُماني، وعلى رأسها قطاع السياحة والنقل والشحن والتأمين، وتهيئة الموارد البشرية الوطنية، وكذلك وضع الأسس والأُطُر الضرورية ليستطيع الافراد والشركات المحلية تقديم الخدمات للعالم، والاستفادة مما تتيحه تيارات العولمة من فرص لمن يريد أن يكون جزءًا من سلاسل الخدمات العالمية وتقديم خدمات للعالم، بدلًا من الاعتماد على الأسواق المحلية المحدودة.
هناك قناة أخرى مهمة لخروج الأموال من السلطنة؛ وهي تحويلات العاملين الأجانب في السلطنة إلى بلدانهم؛ إذ تشير الإحصاءات في هذا الشأن إلى أن تحويلات العاملين في السلطنة خلال السنوات الثلاثة الأخيرة (2020- 2021- 2022) بلغت 3.4، و3.1، و3.5 مليار ريال عُماني، ارتفعت بنسبة 13% خلال عام 2022؛ الأمر الذي يستوجب إيجاد سياسات تُحفِّز بقاء هذه الأموال في السلطنة، من خلال تسهيل دخول عائلات العاملين، وإيجاد فرص يُمكن لهم الاستثمار فيها، وغير ذلك من مُقترحات.
ونؤكد هنا على أهمية مراجعة هيكلة وتركيبة العمالة الأجنبية التي تعاني من خلل بُنيَوِيّ يتمثل في تدني المؤهلات والمهارات؛ حيث إن أكثر من 85% من العاملين الأجانب في السلطنة يحملون مؤهل ثانوية عامة وما دون، كما يُلاحظ تركُّزهم بشكل كبير في ثلاث جنسيات ذات ميل حدّيِّ محدود للاستهلاك. ونؤكد هنا أنَّ التحول إلى الاقتصاد المعرفي (أي استخدام التراكم المعرفي وما يُعرف بالثورة الصناعية الرابعة وتسخيرها لإنتاج منتجات جديدة وتقنيات متطورة في مختلف الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية)، يتطلبُ العمل على تغيير تركيبة وهيكل العمالة لتحويلها إلى عمالة ماهرة، والإنفاق على التدريب والتأهيل، وأنشطة البحث والتطوير؛ وصولًا إلى منتجات ذات محتوى معرفي وتكنولوجي مرتفع. وهنا، يُمكِن للشباب العُماني المؤهل والطموح أن يحظى بفرصة للمنافسة في سوق العمل محليا وعالميا.
ننتقل الآن إلى مصدر آخر لخروج الأموال من الاقتصاد العُماني، ويتمثل في التدفقات الرأسمالية الخارجة، تحت حساب الدخل الأوَّليّ كمداخيل جرّاء استثمارات أجنبية في السلطنة؛ منها على سبيل المثال: أرباح الأسهم، والفوائد المدفوعة على القروض، وعوائد الاستثمار، وقد بلغت هذه التدفقات الخارجة- تحت هذا الحساب- خلال السنوات الثلاثة الأخيرة (2020- 2021- 2022) حوالي 2.4، و2.9، و3.5 مليار ريال عُماني، وارتفعت بنسبة 21% خلال عام 2022، وهذه الأخرى تعكسُ في معظمها تحويلات أرباح شركات النفط والغاز على استثماراتها الضخمة في السلطنة. هذا إضافة إلى مدفوعات الفائدة على الديون الخارجية للسلطنة التي تصاعدت خلال الأعوام الأخيرة. ولا بُدَّ من الإشارة هنا إلى أن هناك جزءًا من دخل الاستثمار المُحوَّل إلى الخارج يُمكن إعادة استثمار جزء منه في السلطنة متى ما وجدت البيئة والظروف المناسبة.
مصدر إضافي آخر لخروج الأموال من السلطنة، يتمثل في مدفوعات القروض إلى العالم؛ حيث لجأت السلطنة للاقتراض الخارجي كنتيجة للانخفاض الحاد في أسعار النفط وأزمة كوفيد-19؛ حيث تُشير الإحصاءات في هذا الصدد إلى أنه خلال السنتين الأخيرتين (2021- 2022) بلغت مدفوعات أقساط الدين الخارجي حوالي 418 مليون ريال عُماني في عام 2021، و2.1 مليار ريال عُماني في عام 2022.
وختامًا.. يمكننا القول إن ميزان الاقتصاد العُماني يعاني من اختلالات هيكلية في كافة قطاعاته باستثناء قطاع النفط والغاز (وإن كان هو الآخر يُصدَّر كخامٍ دون بناء منظومة صناعات في الشق السفلي تُولِّد قيمة مضافة وفرص عمل وتحقق التنويع)، وهو ما يستوجب التعامل بالسياسات والمبادرات المناسبة. ومن أبرز هذه الاختلالات: اختلال الهيكل الإنتاجي نتيجة الاعتماد المُفرِط على استيراد السلع والخدمات والعمالة. وهذا يُسمى بالاختلال الداخلي، ويعنى عدم التناسب بين الطلب المحلي الإجمالي على السلع والخدمات، في مقابل تيار العرض المحلي الإجمالي لهذه السلع والخدمات؛ أي أن هناك أوجه قصور في الإنتاج المحلي، ونقص في أوجه الاستثمار (قد يُعزى ذلك من بين أسباب عدة إلى عدم توفر التمويل أو ارتفاع تكلفته واشتراطاته)؛ لإنشاء وتشغيل محركات إنتاج محلية لتوفير احتياجات المجتمع من السلع والخدمات اللازمة لأغراض الاستهلاك والإنتاج؛ الأمر الذي يستدعي ضرورة قيام الحكومة بإجراء إصلاحات اقتصادية لكسب ثقة المستثمرين المحليين والدوليين، وكذلك أهمية اتخاذ تدابير وسياسات تصحيحية لمعالجة تحدي خروج الأموال إلى الخارج، من خلال تعزيز قدرات الإنتاج المحلي على جذب الاستثمار، لا سيما بعد التحسُّن الملحوظ في التصنيف الائتماني السيادي للسلطنة، وتفعيل مبادرات القيمة المضافة المحلية، والقائمة الإلزامية، وتوفير التمويل الضروري لإنشاء قواعد الإنتاج والخدمات باشتراطات وتكلفة مناسبة، وتبني أدوات جديدة؛ كالتجمعات الصناعية، وتوفير المنظومة والمُمَكِّنات الضرورية لإنجاحها، وغير ذلك من سياسات.
ونؤكد هنا على دور الشركات الحكومية وشركات القطاع الخاص في التعامل مع التحدي المشار إليه؛ كونها اللاعب الحقيقي في ميدان إنتاج السلع والخدمات.
واستنادًا على أبجديات ومبادئ الاقتصاد- والتي لا تخفى حتى على غير المتخصصين- فإنَّ الزيادة المضطردة لخروج الأموال خارج الدورة الاقتصادية المحلية (مقابل السلع والخدمات وتحويلات العاملين ومدفوعات الدخل والفوائد والدين من 20.7 مليار ريال عُماني في عام 2021 إلى 27 مليار ريال عُماني؛ أي ما يعادل 70.1 مليار دولار في عام 2022 بارتفاع نسبته 30%)، يضع البرامج والسياسات والأجهزة والمبادرات الوطنية (القيمة المضافة المحلية- القائمة الإلزامية) وغرفة تجارة وصناعة عُمان وشركات القطاع الخاص، والشركات الحكومية، أمام تحديات قاسية؛ حيث إن استمرار خروج الأموال (التسرُّبات من الاقتصاد) بهذا التسارع، يؤدي إلى المزيد من الهشاشة في منظومة الاقتصاد العُماني، وتراجع مستويات السيولة المحلية اللازمة لتمويل النشاط الاستثماري، وبالتالي تداعيات سلبية على مستويات التكوين الرأسمالي في الاقتصاد العُماني، وزيادة العجز في الفجوة الاستثمارية؛ الأمر الذي يتسبب في تراجع فرص تحقيق مستويات نمو مرتفعة، ويجعل اقتصادنا أكثر عرضة لأي هزة في أسعار النفط، كما يحد من القدرة على توليد فرص عمل مجزية.
لذلك.. سبق أن أشرنا إلى أن شركات القطاع الخاص هي اللاعب الحقيقي للتعامل مع هذا التحدي المُهم، ويجب على الحكومة إدراك أهمية تغيير الأدوار وتفعيل التمكين الحقيقي، وليس الصوري، لشركات القطاع الخاص؛ الأمر الذي يستوجب تحولًا عميقًا ونوعيًا في أدوار غرفة تجارة وصناعة عُمان (وهي أدوار متواضعة حاليًا)، وكذلك الأمر بالنسبة لمؤسسات المجتمع المدني.
ونختم بالقول إنه يتعين علينا فهم دورتنا الاقتصادية وميزان المدفوعات بشكل أعمق، كي نتمكن من معالجة جذور المشاكل، وإطلاق طاقات شبابنا ومزارعنا ومصائدنا ومصانعنا، بدلًا من الاعتماد المُفرِط على استيراد احتياجاتنا من السلع والخدمات والعمالة.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
كلمات دلالية: الاقتصاد الع مانی ملیار ریال ع مانی ملیون ریال ع مانی میزان المدفوعات الإنتاج المحلی قطاع الخدمات القطاع الخاص خلال عام 2022 الأمر الذی إلى الخارج فی السلطنة من السلطنة من خلال الذی ی فی عام التی ت حیث إن فی هذا إلى أن
إقرأ أيضاً:
ما بعد التبعية: تغير ميزان القوة بين واشنطن وأوروبا
لعقودٍ طويلة، ظلت الولايات المتحدة تحثّ حلفاءها في حلف الناتو على زيادة مساهماتهم الدفاعية. ومع انعقاد قمة الناتو لعام 2024 في واشنطن، بدا أن الرسالة وصلت أخيرًا: فقد خصّصت 23 دولة من أصل 32 عضوًا في الحلف 2٪ من ناتجها المحلي الإجمالي للإنفاق الدفاعي، وهو الهدف المحدد من قبل الناتو، مقارنةً بست دول فقط في عام 2021. أرجع العديد من المحللين هذا التحول إلى عامل رئيسي: دونالد ترامب، فرغم الانتقادات الواسعة التي واجهها أسلوبه الحاد تجاه الأوروبيين خلال فترتيه الرئاسيتين، فإن لهجة ترامب المتشددة حيال «تقاعس» أوروبا عن تحمل عبء الدفاع، لعبت دورًا في دفع دول الحلف إلى مراجعة سياساتها. ومع ذلك، فإن التحول في الإنفاق لم يبدأ مع ترامب، بل سبق ظهوره السياسي بسنوات.
فطوال أكثر من عقد، ظلّ حلفاء الناتو يتعاملون بجدية مع التهديد الروسي المتنامي للأمن الأوروبي. وشكّلت الحرب الروسية الأوكرانية نقطة تحوّل واضحة، ترافق ذلك مع تراجع ملحوظ في تركيز واشنطن على أوروبا وتحوّل اهتمامها نحو آسيا. دفعت هذه العوامل مجتمعة أوروبا إلى تعزيز إنفاقها الدفاعي، وزيادة المشتريات والإنتاج، في مسار تصاعدي ساعد القارة على بناء جيوش أكثر فاعلية قبل عودة ترامب إلى البيت الأبيض في 2025 - وهو اتجاه يُرجَّح أن يستمر حتى بعد مغادرته منصبه.
إعادة انتخاب ترامب لم تكن السبب بقدر ما كانت بمثابة تأكيد على تحوّل أعمق: الأوروبيون باتوا يدركون أن الولايات المتحدة تمرّ بتحوّل جذري، ولم يعودوا واثقين من أن الاعتماد على القيادة الأمريكية يخدم مصالحهم.
زيادة الإنفاق الأوروبي على الدفاع تُعدّ، من جوانب كثيرة، خبرًا سارًا للولايات المتحدة. فمع تصاعد قدرات القارة الدفاعية، تستطيع واشنطن الآن أن تُركّز أولًا على الصين، ثم روسيا. ولهذا السبب، كان رؤساء أمريكيون من كلا الحزبين يضغطون منذ سنوات على أوروبا للقيام بالمزيد.
لكن قبل أن يُسارع المسؤولون الأمريكيون إلى تهنئة أنفسهم، عليهم إدراك أن لهذا «النجاح» ثمنًا. فتعاظم القدرات الأوروبية يعني نهاية مرحلة القيادة الأمريكية المريحة. أوروبا باتت تعتمد على نفسها أكثر، وستشعر بضغط أقل لمجاراة مصالح واشنطن، وستكون أقل ميلاً لشراء الأسلحة الأمريكية، وربما تحدّ من استخدام القواعد العسكرية الأمريكية على أراضيها في عمليات خارجية تشمل إفريقيا وآسيا والشرق الأوسط. بل إن بعض المواقف الأوروبية، خصوصًا بشأن الحرب في أوكرانيا، بدأت تُقيّد حرية واشنطن في التحرك، على نحو لم يكن واردًا في السابق.
لا يعني تغيّر موازين القوى بين ضفّتي الأطلسي أن التحالف بين الولايات المتحدة وأوروبا محكوم عليه بالانهيار. فلا تزال هناك مصالح مشتركة قوية تدفع الطرفين للتعاون. غير أن هذه الشراكة لم تعد تُفترَض تلقائيًا؛ بل على واشنطن أن تسعى لكسبها من جديد، خاصة في ظل التحديات العالمية المتعددة التي تواجهها منذ نهاية الحرب الباردة. وللتعامل مع هذه التهديدات -من بكين إلى موسكو وطهران- ستحتاج الولايات المتحدة إلى أوروبا، لكن أوروبا مختلفة: أكثر قوة وثقة واستقلالية.
كان الأمن الأوروبي والأمريكي متداخلين إلى حدّ لا يسمح بفصلهما. ورغم أن اختلال عبء الإنفاق الدفاعي لطالما شكّل مصدر توتر داخل الناتو، فإن قيادة الولايات المتحدة كانت آنذاك منطقية وضرورية.
اليوم، ومع تغيّر الواقع الجيوسياسي وارتفاع كلفة القيادة الأحادية، على واشنطن أن تختار: إما شراكة عادلة تحترم مصالح أوروبا، أو مخاطر خسارة النظام العالمي لصالح قوى استبدادية صاعدة.
لم تحصل الولايات المتحدة مقابل حمايتها لأوروبا على نظام عالمي مستقر فحسب، بل حصدت أيضًا مجموعة كبيرة من المكاسب العسكرية والسياسية والاقتصادية. فمن خلال أكثر من 30 قاعدة عسكرية موزعة في أوروبا، ضمنت واشنطن قدرة شبه مطلقة على استخدام المجال الجوي والممرات المائية الأوروبية لدعم عملياتها حول العالم، وفق اتفاقيات «الوصول والتمركز والتحليق الجوي» (ABO) التي غالبًا ما تكون بشروط سخية.
استغلت واشنطن هذه القواعد مرارًا: في 1973 استخدمت قاعدة في جزر الأزور لدعم إسرائيل خلال حرب أكتوبر، رغم المخاطر الاقتصادية؛ وفي 2001 حصلت على إذن أوروبي لاستخدام القواعد والمجال الجوي في عمليات أفغانستان؛ وحتى في 2003، ورغم المعارضة لحرب العراق، سمحت دول أوروبية باستخدام قواعدها أو على الأقل بمرور الطائرات الأمريكية، باستثناء فرنسا التي تعرّضت لانتقادات داخل الحلف. هذه المرونة تكشف كيف خدمت القيادة الأمريكية مصالحها حتى عند الاختلاف.
وتُشكّل هذه القواعد أيضًا خط دفاع رئيسي ضد تهديدات كالغواصات الروسية في شمال الأطلسي، إذ تعتمد واشنطن على تعاون دول مثل النرويج والدنمارك والمملكة المتحدة لرصد أي تحركات عبر فجوة GIUK الحساسة. فضلًا عن ذلك، تؤمّن واشنطن تفوقها العسكري عبر مبيعات الأسلحة. فمعظم دول الناتو تشتري أنظمة أمريكية الصنع لتسهيل التشغيل المشترك والتدريبات الموحدة، كما هو الحال في استخدام طائرات P-8 بوسايدون. رغم بيروقراطية نظام المبيعات الأمريكي، تبقى المعدات الأمريكية مفضلة بسبب موثوقيتها ودعمها الفني المستمر، كما في عقود طائرات F-35 باهظة الثمن ولكن عالية الكفاءة.
باختصار، بنت الولايات المتحدة هيمنتها في الناتو على مدى 75 عامًا، لا فقط عبر الحماية، بل عبر شبكة مصالح متشابكة تضمن لها النفوذ والسيطرة والفاعلية العسكرية.
تُعزز مشتريات أوروبا من السلاح الأمريكي قدرة واشنطن على الحفاظ على قاعدة صناعية دفاعية قوية. ففي الفترة بين 2022 و2024، اشترت الدول الأوروبية أنظمة دفاع أمريكية بقيمة 61 مليار دولار، أي ما يعادل 34% من إجمالي عقودها الدفاعية، وفقًا للمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية. وحدها صفقات طائرات F-35 تمثل مليارات الدولارات لشركات السلاح الأمريكية. ومنذ عام 2020، تضاعف حجم واردات السلاح الأوروبي، وارتفعت نسبة المشتريات من الولايات المتحدة من 54% إلى 64%، مما منح الشركات الأمريكية حصة متزايدة من سوق الدفاع الأوروبي.
صحيح أن الولايات المتحدة لا تزال تنفق أكثر من أوروبا على الدفاع، لكن الهوة بدأت تضيق. ففي 2014، أنفقت الدول الأوروبية الأعضاء في الناتو في المتوسط 1.5% من ناتجها المحلي على الدفاع، مقابل 3.7% لأمريكا. أما في 2024، فبلغ الإنفاق الأوروبي 2.2%، في حين تراجع الأمريكي إلى أقل من 3.4%. وتفوقت دول مثل إستونيا وبولندا على واشنطن من حيث النسبة: 3.43% و4.12% على التوالي.
صحيح أن الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة لا يزال أعلى من معظم الدول الأوروبية، ما يعني أنها تظل تنفق أكثر بالنظر إلى الحجم، لكن المعادلة بدأت تميل. ففي عام 2025، شكلت الولايات المتحدة 14.8% من الناتج العالمي، مقابل 17.5% لدول الاتحاد الأوروبي إلى جانب المملكة المتحدة والنرويج. في حين تُنفق الولايات المتحدة على وجودها العسكري العالمي، يركّز الأوروبيون إنفاقهم داخل القارة.
بدأت ملامح هذا التحوّل تظهر بعد الحرب الروسية الأوكرانية الأولى في 2014. ومع تزايد الضغط الأمريكي، بدأت معظم دول الناتو برفع إنفاقها الدفاعي تدريجيًا، فيما اتجهت أوروبا لتحديث ترسانتها وتوسيع إنتاجها الصناعي العسكري. في عام 2024 وحده، ارتفع إنفاق الدول غير الأعضاء في الناتو على المعدات بنسبة 37%، مقابل 15% فقط للولايات المتحدة.
أما على مستوى الاتحاد الأوروبي، فقد جرت تعديلات تشريعية لزيادة مرونة الإنفاق الدفاعي، بما يسمح للأعضاء بتخصيص ما يصل إلى 1.5% من الناتج المحلي الإجمالي للدفاع، حتى ولو أدى ذلك إلى تجاوز قواعد العجز المالي. وإذا تم تفعيل هذا الخيار، فقد تصل الزيادة في الإنفاق الأوروبي إلى أكثر من 700 مليار دولار حتى عام 2030.
لم تقتصر جهود أوروبا على التمويل، بل شملت أيضًا تعزيز القيادة. فمنذ 2017، أنشأ الناتو تسع مجموعات قتالية على حدود الحلف، تتولى قيادتها دول أوروبية: تقود الولايات المتحدة فقط مجموعة بولندا، بينما تتولى السويد القيادة في فنلندا، والمملكة المتحدة في إستونيا، وألمانيا في ليتوانيا، وفرنسا في رومانيا... إلخ. هذا التوزيع يؤكد التحوّل التدريجي نحو تقاسم الأعباء داخل التحالف، دون الاستغناء عن الدور الأمريكي الحيوي. مع انضمام السويد وفنلندا للناتو، أصبح لدى أوروبا قوات أكثر قدرة على مواجهة التحديات في القطب الشمالي، كما تعمل على تطوير دفاعات ساحلية وتقنيات غير مأهولة لمواجهة روسيا في البحر الأسود، مما يُخفف العبء عن واشنطن.
لكن التقدم الأوروبي يطرح تحديات للولايات المتحدة. فمع تصاعد اهتمامها بمواجهة الصين، ترحب واشنطن بأن تتحمل أوروبا مزيدًا من مسؤولية الدفاع، لكن هذا الاستقلال قد يكون له ثمن. إذ يشترط صندوق الدفاع الأوروبي، البالغ 163.5 مليار دولار، أن تُنفق الأموال داخل القارة، مما يُقلل فرص شركات السلاح الأمريكية، إلا إذا كانت تنتج داخل أوروبا وتوظف عمالًا أوروبيين وتدفع ضرائب محلية. الاستقلال الأوروبي قد يُعقّد أيضًا المواقف السياسية. ففي حين ترغب واشنطن في إنهاء الحرب الأوكرانية تدريجيًا عبر تخفيف العقوبات على موسكو، ترفض أوروبا الضغط على كييف للقبول بتسوية لا ترضاها. لم تعد القارة تخشى فقدان الدعم الأمريكي كما في السابق، وأصبحت أكثر استعدادًا لتبنّي موقف مستقل.
قلّص الاعتماد المتزايد على أوروبا من قدرة واشنطن على استخدام أدواتها العقابية تجاه روسيا. فثلثا الأصول الروسية المجمّدة، والبالغة 330 مليار دولار، تحتفظ بها أوروبا منذ 2022، ولا يمكن للبيت الأبيض أن يعرض استخدامها كورقة ضغط دون موافقة أوروبية. كذلك، تُعدّ أوروبا موطنًا لنظام «سويفت»، الذي حرم البنوك الروسية من الوصول إلى النظام المالي العالمي. وحتى في مجال الطاقة، لا يكفي تخفيف العقوبات الأمريكية وحده، إذ إن أوروبا هي المستورد الرئيسي للغاز الروسي عبر أنابيب «نورد ستريم» المعطّلة حاليًا، مما يجعل تأثير واشنطن محدودًا.
كما تفرض أوروبا عقوبات على الشحن الروسي وعلى تصدير التكنولوجيا ذات الاستخدام المزدوج، وهو أمر لا يمكن للولايات المتحدة القيام به بمفردها. وتُعوّل واشنطن أيضًا على التزام أوروبي بإرسال قوات برية إلى أوكرانيا في حال تم التوصل إلى تسوية، لكن الأوروبيين مترددون ما دامت واشنطن تُظهر مرونة تجاه شروط موسكو، مثل رفض انضمام كييف للناتو.
وقد تمتد آثار هذا التباعد إلى مناطق أخرى. ففي حال قررت الولايات المتحدة شنّ عملية عسكرية ضد منشآت إيران النووية، فستحتاج إلى قواعدها الأوروبية. لكن موافقة الحكومات الأوروبية على ذلك قد تواجه رفضًا شعبيًا واسعًا، وربما ترفض بعض الدول الطلب الأمريكي، كما حدث في 2003 قبيل غزو العراق. حينها، ستُجبر واشنطن على استخدام قواعد بعيدة أو تلك المعرضة لخطر الرد الإيراني في الشرق الأوسط.
ويبقى دونالد ترامب عامل انقسام رئيسيا. ففي ولايته الأولى، كان الأوروبيون يأملون أن يكون فوزه عرضيًا. أما اليوم، وبعد انتخابه مجددًا في 2024 رغم سياساته التي أضعفت الناتو وقرّبت موسكو، يرونه تعبيرًا عن تحوّل عميق في المزاج الأمريكي. قال دبلوماسي أوروبي: «ربما تكون رئاسة بايدن، لا ترامب، هي الاستثناء». ومع ولايته الثانية، أصبح فريق ترامب أكثر انسجامًا مع رؤاه، وأقل ميلًا لكبح اندفاعاته. ففي فبراير، قال وزير دفاعه بيت هيجسيث: «لن نتسامح بعد اليوم مع علاقة غير متوازنة تُغذي التبعية»، ووصف نائبه جيه دي فانس أوروبا بأنها «نسيت من انتصر في الحرب الباردة»، في حين اعتبر وزير الخارجية ماركو روبيو أن هناك «فرصًا هائلة للشراكة مع روسيا».
في استطلاع رأي شمل 18 ألف أوروبي بعد فوز ترامب في نوفمبر، أشار أكثر من نصف المشاركين إلى أن الولايات المتحدة لم تعد «حليفًا» بل مجرد «شريك ضروري»، فيما لم يستخدم وصف «الحليف» سوى 22% منهم. وكان هذا التحول سريعًا: قبل 18 شهرًا فقط، اعتبر أكثر من نصف الأوروبيين الولايات المتحدة حليفًا. اليوم، يستخدم المسؤولون الأوروبيون مصطلح «تخفيف المخاطر» في الحديث عن علاقتهم بواشنطن -وهو توصيف كانوا يحتفظون به للصين فقط. لكي تُرمّم واشنطن علاقتها مع أوروبا، عليها أولًا أن تتقبل حقيقة أن العالم أصبح متعدد الأقطاب، وأن أوروبا هي أحد هذه الأقطاب. هذا يتطلب العودة إلى دبلوماسية واقعية، تعترف بتوازن القوى وتقوم على التفاوض والمصالح المتبادلة، لا الافتراضات القديمة عن التبعية. سيتعين على الولايات المتحدة، التي اعتادت على تنازلات أوروبية، أن تُجيد فن التسوية. كما تحتاج واشنطن إلى أن تكون أكثر تنافسية في سوق الدفاع الأوروبي، وتُظهر مرونة في قضايا مثل العلاقة مع الصين، تمامًا كما تُراعي حاجات شركائها في الشرق الأوسط. كذلك، لا يمكنها تجاهل مواقف الدول الأوروبية المستضيفة لقواعدها العسكرية، لا سيما فيما يتعلق بملفات حساسة مثل البرنامج النووي الإيراني.
الاتحاد الأوروبي، بقوته الاقتصادية، بات شريكًا لا غنى عنه لنجاح الناتو. وإذا استطاعت الولايات المتحدة الحفاظ على هذه الشراكة، فستمتلك أفضلية استراتيجية على الصين وروسيا، اللتين تفتقران إلى حلفاء بهذا الوزن والتأثير.
سيليست أ. والاندر مستشارة أمريكية للعلاقات الدولية شغلت منصب مساعد وزير الدفاع للشؤون الأمنية الدولية في وزارة الدفاع الأمريكية.
نشر المقال في Foreign Affairs