“القوى الديمقراطية” ومعضلة “الدعم السريع”
تاريخ النشر: 1st, November 2023 GMT
رشا عوض
هذه المقالة هي الثانية في سلسلة مقالات تحاول المساهمة في صياغة خطاب سياسي يرجح كفة السلام المستدام في السودان، المقالة الاولى كانت بعنوان “العلاقة بين الديمقراطيين والاسلاميين.. حرب وجودية ام تفاوض على شروط التعايش السلمي”، وستكون المقالة الثالثة عن “القوى الديمقراطية ومعضلة الجيش”، والهدف الرئيس هو استكشاف “معادلة كسبية” تقنع أطراف الحرب الحالية (الحركة الاسلامية والجيش والدعم السريع) بخيار إيقاف الحرب وبناء السلام ومن ثم تأسيس فترة انتقالية ناجحة للحكم المدني الديمقراطي، وتصميم مثل هذه المعادلة يستوجب توليد إرادة ذاتية منحازة للسلام داخل هذه المؤسسات وحواضنها الاجتماعية عبر خطاب “الاستيعاب المشروط في الحياة السياسية ” بدلا من خطاب “الحرب الوجودية التي لا افق لها سوى الاستئصال النهائي لأحد الأطراف”، ولكي يحقق مثل هذا التوجه هدف “شراء المستقبل”، بمعنى ان يؤدي بالفعل الى نقل البلاد الى مربع سياسي جديد مختلف عن مربع “الاستبداد والفساد”، وبوصلته السياسية مضبوطة نحو الديمقراطية والتنمية والعدالة واستدامة السلام، كي يحقق ذلك يجب وضع الحد الفاصل بين “النهج الاستيعابي لصالح معادلة كسبية على موجة رؤية جديدة للحكم عربون مصداقيتها العدالة الانتقالية ” و”النهج الاحتيالي لصالح تسلل اجندة إعادة انتاج الاستبداد والفساد على موجة المؤامرات الإقليمية والتهرب تماما من تصفية حساب الماضي بصورة محترمة كعربون لشراء المستقبل”، فالحد الفاصل بين هذين الخيارين هو الحد الفاصل بين الجدية والعبث! بين الرغبة في التقدم الى الأمام او الاستدارة الى الخلف.
إذا كان الخطاب السياسي الموجه الى الدعم السريع هو خطاب الكراهية العنصرية الذي يجرد “قوات الدعم السريع” من سودانيتها ويصف الحرب بأنها بين الشعب السوداني وغزو أجنبي من “عرب الشتات” ويجب ان تنتهي الحرب بطرد هذه القوات من الوطن، فهذا سيجعل الحاضنة الاجتماعية لقوات “الدعم السريع” -وهي حاضنة حقيقية قوامها القبائل العربية في دارفور- سيجعلها تتعامل مع هذه الحرب كحرب وجودية لكيانها الاجتماعي، وستشعر ان هزيمة الدعم السريع تعني سقوط جنسيتها السودانية! او اضطهادها سياسيا، وهذا معناه صب البنزين على النيران المشتعلة! اما على مستوى “قوات الدعم السريع” نفسها فإن خطاب التجريد من الانتماء للسودان سوف يخرس أي اصوات عاقلة داخلها تتحدث عن المصلحة الوطنية وتبحث عن حل سلمي بجدية على اساس إنهاء وضعية تعدد الجيوش، وسوف يعلي من صوت العدوانية والانتقام وعدم الالتفات لوطن لا يعترف بهم اصلا! وبالتالي فان من شروط البحث الجاد عن السلام هزيمة أي خطاب عنصري ضد قوات الدعم السريع وعدم المساس بحقيقة انها جزء من الشعب السوداني، ومن ثم مطالبتها بدفع استحقاقات الانتماء للوطن، وفي هذا السياق يجب الجهر في وجه قيادة الدعم السريع بما هو مطلوب منها في الساحة الوطنية.
لا للمشروع المليشياوييجب التمييز بين رفض “المشروع المليشياوي” الذي يطمح للسيطرة على السلطة بالقوة لحماية امبراطورية اقتصادية أسرية خارج ولاية وزارة المالية”، والاحتفاظ الابدي بجيش تحت قيادة ذات الاسرة لحماية هذه الامبراطورية، جيش له مرجعية مستقلة تماما عن الدولة التي لا يرتبط بها الا شكليا، وبين الإقصاء العنصري الأرعن لمكونات اجتماعية كبيرة هي جزء لا يتجزأ من الشعب السوداني بسبب ان غالبية قوات الدعم السريع تنحدر منها! هذا سلوك اعمى يخدم اجندة تأجيج واطالة امد الحرب وتقسيم الوطن، هذا التمييز واجب لأن القاعدة الاجتماعية للدعم السريع نفسها يمكن اقناعها بان “المشروع المليشياوي” ضد مصالحها الاستراتيجية في فرص التنمية، ولكن لا يمكن اقناعها بالتبرؤ من ابنائها ووصفهم بالأجانب! هذا سيجعلها تستبسل في القتال خلفهم دفاعا عنهم وعن نفسها !
الحاضنة الاجتماعية لقوات الدعم السريع ممثلة في القبائل الرعوية في غرب السودان تعاني من مشاكل تنموية كبيرة شأنها شأن معظم سكان السودان، ولا مصلحة لها مطلقا في احتكار شركات مملوكة لأفراد اسرة واحدة لمناجم الذهب وشركات تسويقه بدلا من توظيف هذا المورد القومي لصالح التنمية والخدمات ولفائدة جميع المواطنين أصحاب الحق في الثروة القومية، لا مصلحة لتلك القبائل في ارياف دارفور في ان تظل المهنة الوحيدة المتاحة لأبنائها هي القتال بالوكالة في الداخل والخارج لان مناطقهم مجدبة من المشاريع التنموية والخدمية رغم انها غنية بالثروات، فلا يجدون ما يسدون به رمقهم سوى بيع دماء وارواح شبابهم في الحروب الاهلية الخائبة داخليا او في حروب ليبيا واليمن! لا مصلحة لهم في ان تكون الفرصة الوحيدة المتاحة لهم في تغيير اوضاعهم الاقتصادية للأفضل هي “رشاوى الولاء السياسي” للدعم السريع بدلا من ان ينالوا حقوقهم في التنمية باستحقاق المواطنة السودانية.
هاوية الانتصار!أكبر خطأ يمكن ان يقع فيه الدعم السريع هو اعتماده على ما حققه حتى الآن من انتصارات عسكرية في فرض وضعية شاذة على الدولة السودانية كأمر واقع، فالدولة الوطنية الحديثة لها منطقها ولها أركانها الاساسية ومنها احتكار العنف بواسطة جيش واحد، وفي هذا الإطار لكي يتحقق استقرار السودان يجب ان يقبل “الدعم السريع” بفكرة بناء الجيش الوطني المهني الواحد قبولا استراتيجيا لا قبولا تكتيكيا للمناورة السياسية، فلو افترض “الدعم السريع” انه هو الذي يجب ان يحل محل الجيش ويصبح هو جيش المستقبل فإنه ببساطة يعيد انتاج أزمة عدم التوازن المتوارثة في الجيش السوداني، وسوف يمهد لحروب قادمة، لذلك لا سبيل لطي صفحة الحروب الا بالانخراط في عملية تكوين جيش وطني مهني برؤية وطنية ومعايير فنية يحددها الخبراء، سيدخل في تكوين هذا الجيش جزء من الدعم السريع وجزء من الجيش الموجود حاليا وجزء من جيوش الحركات المسلحة بمعايير قومية، في عملية اعادة بناء للجيش يجب ان تتوافق عليها قوى السلام والتحول الديمقراطي وكل المؤسسات العسكرية الموجودة، والجيش الجديد يجب ان لا يكون نسخة معدلة من الجيش السوداني المسيطر عليه من الاسلامويين، ولا نسخة معدلة من “الدعم السريع” المسيطر عليه باسرة ال دقلو، ولا نسخة من جيوش الحركات المسلحة ، بل هو جيش سوداني بمواصفات مهنية وعقيدة وطنية ، جيش يجسد ارادة السودانيين في طي صفحة الحروب الاهلية التي يقتلون فيها بعضهم البعض ويدمرون وطنهم، وطي صفحة الاستبداد العسكري، والذي يجعل هذه المهمة ممكنة هو التواطؤ أولا على مبدأ خروج الجيش من العمل السياسي، وكل من اراد السلطة السياسية عليه ان يكون حزبا سياسيا لا ان يتوسل لها بقوة السلاح.
أقوال في انتظار الأفعال!فهل “الدعم السريع” مستعد لذلك؟ لقد أعلن الدعم السريع في السابع والعشرين من أغسطس وفي حساب قائده محمد حمدان دقلو (حميدتي) على منصة اكس(تويتر سابقا) ما أسماه “رؤية حل الأزمة السودانية بشكل شامل وتأسيس الدولة الجديدة”، وجاءت هذه الرؤية في عشرة مبادئ طالبت بنظام حكم ديمقراطي مدني، وإنشاء نظام فيدرالي، وإنهاء العنف، و”تأسيس جيش مهني جديد ينأى عن السياسة ويخضع لسيطرة المدنيين”.
وقد ورد ضمن مباديء الرؤية بالحرف الواحد “تصفية النزعات الاحتكارية للسلطة والنفوذ، سواء أكانت أيديولوجية راديكالية، أو حزبية، أو أسرية أو عشائرية” وأن السودان “يجب أن يتأسس كجمهورية حقيقية في ظل نظام ديمقراطي فيدرالي حقيقي، قائمٌ على تقاسم السلطات وتشاركها”.
لقد قرأت الرؤية المطروحة حرفا حرفا، وعلى المستوى النظري لم اختلف مع محتواها الا في نقطة واحدة هي المبدأ الذي ينص على ان “النظام الفيدرالي غير التماثلي (أو غير المتجانس)، الذي تتفاوت فيه طبيعة ونوع السلطات التي تتمتع بها الوحدات المكونة للاتحاد الفيدرالي، هو الأنسب لحكم السودان”.، هذا النص تكمن فيه مخاطر انقسام جديد عبر تمييز اقاليم بعينها بسلطات غير متاحة للاقاليم الاخرى، فقد جرب السودان هذا النوع من الفيدرالية في اتفاقية نيفاشا التي مهدت لانفصال جنوب السودان، وهذا يجب ان يكون مدخلا لحوار ونقاش جاد لان وحدة السودان اليوم على المحك أكثر من أي وقت مضى.
كيف استقبل السودانيون رؤية الدعم السريع؟استقبل الوسط السياسي والاعلامي رؤية الدعم السريع بمواقف متفاوتة تشمل التجاهل، أو التشكك، أو السخرية بل والاستنكار لان يطرح الدعم السريع رؤية اساسا نظرا لان سجله السيء في انتهاكات الحرب يجعله غير مؤهل لذلك، وكل هذه مواقف غير مفيدة وغير منتجة، فعندما تطرح قيادة قوة مسلحة تسيطر على اقاليم باكملها في البلاد رؤية سياسية للحل السلمي يتطابق محتواها الى حد كبير مع الاهداف المتوافق عليها في الوسط المدني، فيجب اخذ هذه الرؤية مأخذ الجد، وهذا لا يعني الرهان الكسول على “الدعم السريع” في تحقيق التحول المدني الديمقراطي لمجرد انه طرح ذلك نظريا، وانما يعني محاصرة الدعم السريع برؤيته وجعلها اساسا لمطالبته بالوفاء بالالتزامات اللازمة لتحقيقها ابتداء من معالجة كل ما يتناقض بنيويا مع هذه الرؤية في تركيبة مؤسسة “الدعم السريع نفسها” كما هو مفصل اعلاه، وهنا يحق للشعب السوداني ان يطالب “الدعم السريع” بخارطة طريق لتصفية النزعات الاحتكارية على اسس اسرية وعشائرية في داخله الامر الذي يقتضي ايلولة شركاته العاملة في انتاج وتسويق الذهب لوزارة المالية، ويقتضي كذلك الالتزام بأهم ضوابط الدولة الوطنية الحديثة بخصوص العلاقة بين افراد القبائل العابرة للحدود، فهذه العلاقة يجب ان تقتصر على التواصل الاجتماعي فقط ولا تتعداه الى علاقات سياسية وعسكرية عابرة للحدود!
وعندما تنص رؤية الدعم السريع بخصوص التمثيل السياسي على ان “المشاركة يجب أن لا تشمل حزب المؤتمر الوطني وعناصر النظام القديم والشخصيات التي ظلّت تعمل من أجل إعاقة التحول الديمقراطي” هنا تبرز أسئلة في غاية الأهمية عن عناصر النظام القديم داخل الدعم السريع نفسه! أليس من يقودون معارك الدعم السريع الان في مقدمتهم ضباط سابقون في الجيش السوداني وفي هيئة العمليات بجهاز الامن ومن خلفيات كيزانية كاملة الدسم وقد تم انتدابهم للدعم السريع؟ ألم ينشأ الدعم السريع أساسا في عهد الانقاذ وفي حكم المؤكد انه مخترق بعناصر النظام البائد من القمة الى القاع شأنه شأن كل مؤسسات الدولة المخترقة، وبالتالي فإن هناك خلايا كيزانية نائمة واخرى مستيقظة في الدعم السريع نفسه؟ اليس جهاز استخبارات الدعم السريع هو مجموعة منشقة من جهاز الامن الانقاذي ولها ذات الخبرة والثقافة السياسية؟ ما الذي يضمن ان لا يلعب كيزان الدعم السريع ذوي القدرات العسكرية والامنية النوعية دورا في خدمة الاجندة الكيزانية واهمها استبعاد القوى المدنية تماما من معادلة الحكم وتهميش التحول الديمقراطي؟
هذه الاسئلة تثبت ان تحقيق مدنية وديمقراطية الدولة رهين تماما للقوى السياسية صاحبة المصلحة في ذلك، وهي التي يجب عليها تنظيم الضغوط من اجل تحقيقه عبر تنظيم وتقوية صفوفها وتعظيم فاعليتها والتحامها بالجماهير واستقلالها عن القوى العسكرية جميعها، فالحرص على التفاهمات الإيجابية مع هذه القوى من اجل تحقيق السلام يجب ان يترافق مع إدراك عميق للمخاطر التي تمثلها تلك القوى بحكم طبيعتها البنيوية ونوعية مصالحها على التحول الديمقراطي الذي لن تقبل به الا تحت ضغوط حقيقية.
المدنيون وخطورة الرهان على اي قوة عسكرية لا يملكونها
العلاقة بين “الديمقراطيين” و”الإسلاميين “: حرب وجودية أم تفاوض على شروط التعايش السلمي؟
الوسومالجيش السوداني حرب السودان رشا عوض قوات الدعم السريع مفاوضات جدةالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: الجيش السوداني حرب السودان رشا عوض قوات الدعم السريع مفاوضات جدة التحول الدیمقراطی قوات الدعم السریع الجیش السودانی یجب ان
إقرأ أيضاً:
ما وراء ادعاء أميركا استخدام الجيش في السودان أسلحة كيميائية
أثار الإعلان الأميركي عن استخدام الجيش السوداني أسلحة كيميائية في العام 2024 موجة من الغضب الرسمي والشعبي في السودان، ليس بسبب نيّة واشنطن فرض عقوبات على السودان -فقد تعوّدنا على عقوباتهم ودعايتهم السوداء- ولكن لعدم وجود أدلة أو منطق يدعم تلك المزاعم، واستسهال إطلاق الاتهامات والأكاذيب، وبناء إستراتيجية حولها تقوم على قهر الشعوب، وسلبها الحقّ في الحياة والاستقرار.
سلق الاتهامات وتسويقهاالجيش السوداني ليس بحاجة لاستخدام أسلحة كيميائية في حربه ضد مليشيا الدعم السريع، التي انهارت مؤخرًا، وفقدت الحماس والقدرة على القتال، ولم يعد بمقدورها تعويض خساراتها أو استعادة المناطق التي فقدتها.
أما واشنطن فهي لا تمتلك دليلًا واحدًا على استخدام الجيش السوداني تلك الأسلحة المحرمة، ولا نعرف عنها سوى رواية غير مسنودة نشرتها صحيفة نيويورك تايمز منتصف يناير/ كانون الثاني 2025، عن مسؤولين أميركيين، لم تسمِّهم الصحيفة، زعموا أن الجيش السوداني استخدم الأسلحة الكيميائية في مناسبتين على الأقل، ضد قوات الدعم السريع.
وفيما تم سلق تلك الاتهامات بمنطق الفتوة والخباثة، لا توجد روايات متطابقة تعزز ذلك، ما دفع المسؤولين الأميركيين للتهرب بالقول إن استخدام الأسلحة الكيميائية كان محدود النطاق، ووقع في مناطق نائية، ولم يُحقق أي فاعلية تُذكر، لتجنّب الأسئلة المحرجة، على شاكلة أين وكيف حدث ذلك، وما هي البيّنة المادية على ذلك الادّعاء الأجوف؟
إعلانفلا يعقل أن يستخدم الجيش السوداني موادّ سامة بلا فاعلية، ثم لماذا لم تظهر آثار تلك الأسلحة على أجساد قوّات التمرّد، إذ إنّه يصعب بالمَرّة التخلّص من تبعات تلك الأسلحة على الطبيعة.
والمثير للدهشة أن الرواية اليتيمة مصدرها صحيفة غربية ليس لها مراسل على الأرض، ولم تسعَ للقيام بعمل استقصائي يسند ظهر اتهامات على ذلك النحو الخطير، والتي للغرابة أيضًا لم تتفوّه بها منصات مليشيا الدعم السريع، وهي تنفث كل ماهو مدسوس ومُختلق في حق الجيش السوداني!
موت منبر جدةبهذا الموقف العدائي الأميركي تجاه السودان، تكون واشنطن قد تخلّت عن حياديتها المفترضة كوسيط، حين لوّحت بسيف العقوبات، ووضعت نفسها عمليًا في موضع الخصم. وقد كشف هذا الانحياز الواضح للمليشيا عن فقدانها للمصداقية، وجعلها طرفًا غير مؤهّل لدعم أي مسار تفاوضي، وغير جدير بالثقة من جانب الأطراف السودانية.
فقد تعثّرت تلك المفاوضات أكثر من مرّة، وعجزت الوساطة عن حمل قوات الدعم السريع على الالتزام بإعلان جدة في مايو/ أيار 2023 والذي قضى بخروج الدعم السريع من بيوت المواطنين والمرافق الحكومية، والدخول في هدنة مؤقتة، لكن شيئًا من ذلك لم يحدث، ما دفع الجيش السوداني إلى مواصلة القتال، وإخراج قوات التمرد من القرى والمدن بالقوة.
وعلى ما يبدو، ثمة قرائن كثيرة تشير إلى أن مليشيا الدعم السريع مجرد بندقية مؤجرة، وأن أميركا ليست بعيدة عن توجيه نيران الحرب، واستئناف حلقات المشروع الاستعماري القديم بتدمير السودان، وخنقه بالعقوبات، حتى يخضع لها، ودعم حركات التمرّد وحفز الهويات القاتلة، واستباحة كل ما هو موروث ووطني، عبر شعارات خادعة تتغنى بالديمقراطية وحقوق الإنسان، لكن النزعة الكولونيالية هي الغالبة على سياساتهم تجاه كل بلد حباه الله بالموارد، أو كما عبّر عن ذلك ليوناردو دي كابريو في فيلم الألماس الدموي: "نحنُ لا نتبنى الحروب، ولكن نخلق الظروف التي تجعلها تستمرّ".
إعلانوهنا قد تعهّدوا بذلك لوكيلهم في الشرق الأوسط، إسرائيل، ومن يقوم بخدمة مصالحهم، ومن بين ذلك دولة معروفة تناصب السودان العداء، هي التي تقف حاليًا وراء استعداء حكومة دونالد ترامب ضد السودان، وتريد أن تستنصر بها لإنقاذ فصيلها العسكري -الدعم السريع-المهزوم على الأرض.
خيبة أمل هائلةبالعودة للعقوبات الأميركية- التي سوف تدخل حيز التنفيذ بعد فترة إخطار مدتها 15 يومًا للكونغرس، على أن تشمل قيودًا على الصادرات الأميركية إلى السودان، وحرمان المصارف الحكومية السودانية من الوصول إلى خطوط الائتمان الحكومية الأميركية- هي بالمناسبة ليست جديدة.
فقد ظلت العقوبات الأميركية على السودان باقية بالرغم من قيام السودان بتسديد مبلغ 335 مليون دولار؛ تعويضًا لعائلات أميركية من ضحايا هجمات شنها تنظيم "القاعدة" على سفارتَي واشنطن في كينيا وتنزانيا عام 1998، مقابل رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، ودمج مصارف السودان في النظام المالي العالمي، وهو ما لم يحدث عمليًا.
وقد حصدت الخرطوم خيبة أمل هائلة، وظلت إلى اليوم تحت رحمة العقوبات الأميركية، وهي في الحقيقة إستراتيجية كولونيالية ثابتة تقوم على سياسة الجزرة والعصا، بينما في الحقيقة لا توجد جزرة، والبيت الأبيض -أيًا كان قاطنه- ظلّ يتعامل بنفس الأسلوب مع السودان، ما يعزز فرضية أن الحملة ضد السودان تنشط فيها مراكز نفوذ أميركية لا تتأثر بطبيعة النظام الحاكم.
الخارجية السودانية في تفنيدها تلك المزاعم أبدت استغرابها كيف أن الإدارة الأميركية تجنّبت تمامًا طرح اتهاماتها عبر الآلية الدولية المختصة والمفوضة بهذا الأمر؛ المنظمة الدولية لحظر الأسلحة الكيميائية بلاهاي، والتي تضم كلا البلدين في عضويتها، لا سيما أن السودان يتمتع بعضوية مجلسها التنفيذي، ورفضت تلك الإجراءات الأحادية، التي تخالف اتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية، خاصة من طرف "لديه تاريخ في توظيف المزاعم الباطلة لتهديد سيادة الدول وأمنها وسلامة أراضيها"، على حد تعبير بيان الخارجية السودانية التي تجاهلت كذلك حقيقة خطيرة وهي وجود أسلحة أميركية عثر عليها الجيش السوداني بطرف قوات الدعم السريع، دون أن تعرضها على أروقة الأمم المتحدة، أو تتقدم بشكوى بها في مجلس الأمن والمنظمات الدولية.
إعلان من قام بتزويد الجنجويد بأسلحة أميركية؟القوات المسلحة السودانية ضبطت مؤخرًا صواريخ جافلين في مخازن الدعم السريع بمنطقة صالحة غرب أم درمان، يبلغ سعر الصاروخ ومنصة الإطلاق، اللذين تصنعهما مجموعتا "رايثيون" و"لوكهيد مارتن" الأميركيتان، 178 ألف دولار بحسب ميزانية البنتاغون لعام 2021، علاوة على تسليح جنود المليشيا ببنادق آلية أميركية الصنع من طراز (إيه آر- 15) استخدمتها في استهداف مواقع مدنية بالعاصمة الخرطوم ومدينة الفاشر المحاصرة.
فمن هي الجهة التي زودت الدعم السريع بتلك الأسلحة الأميركية، دون أن تأبه بقرار مجلس الأمن بحظر الأسلحة في دارفور، ولماذا صمتت الولايات المتحدة عن انتهاكات قوات الجنجويد وجرائمها الموثقة في السودان؟
على شاكلة تغطية فضيحة كلينتونسيناريو وجود أسلحة كيميائية في السودان ليس جديدًا، وقد انطلت الكذبة على الرأي العام الأميركي إبان فترة حكم الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون، في أعقاب فضيحة المتدربة مونيكا لوينسكي، ساعتها قام كلينتون بقصف مصنع الشفاء شمال الخرطوم في 20 أغسطس/ آب 1998؛ بسبب مزاعم ارتباطه بإنتاج أسلحة كيميائية، ليتضح لاحقًا أن المصنع يعمل في إنتاج الأدوية والعقاقير الطبية.
لكن الولايات المتحدة لم تُقدِم على الاعتراف بخطأها أو تقديم اعتذار رسمي للسودان بشأن قصف مصنع الشفاء، رغم أن التحقيقات اللاحقة أثبتت أن المنشأة كانت مخصصة للأدوية وليس لها صلة بإنتاج الأسلحة الكيميائية. كما لم تُظهر إدارة الرئيس بيل كلينتون في حينها اهتمامًا يُذكر بالآثار الإنسانية والصحية المترتبة على هذا القصف، والذي اعتبره كثيرون محاولة لصرف الأنظار عن أزمات داخلية، في سياق سياسي دقيق وملتبس.
لا شك أن اتهام الجيش السوداني باستخدام أسلحة كيميائية يمهّد لسيناريو التدخل العسكري الدولي في السودان، ومن غير المستبعد أن تغزو أميركا الأراضي السودانية بهذه الفرية المضحكة، كما فعلت مع العراق من قبل، والهدف من وراء ذلك إيقاف انتصارات الجيش السوداني، والسيطرة على الموارد الطبيعية والمعدنية وساحل البحر الأحمر، فأميركا لديها مطامع قديمة في هذه المنطقة، أو بالأحرى لدى إسرائيل أحلام توسعية في النيل والبحر الأحمر.
إعلانوهو عين ما أشار إليه السفير التركي لدى السودان فاتح يلدز في تدوينة على منصة "إكس" عندما سخر من الادعاءات الأميركية باستخدام الجيش السوداني أسلحة كيميائية، وقال: "إنهم فقدوا مصداقيتهم منذ سنوات عندما شنوا حربًا بناءً على ادعاءات كاذبة بوجود أسلحة دمار شامل في العراق".
وهذا بالضرورة يتطلب الحذر واليقظة، وتكوين فريق سوداني مُتمرّس من الشخصيات الدبلوماسية والعسكرية للتعامل مع هذه المزاعم الأميركية الخطيرة، وما يمكن أن تفضي إليه.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outline