“موجة حزن وسط مأساة الحرب”.. رحيل الموسيقار السوداني محمد الأمين
تاريخ النشر: 14th, November 2023 GMT
متابعة بتجــرد: في خضم حرب مدمرة يعيشها السودانيون منذ حوالي سبعة أشهر، تضاعفت مأساتهم بعدما استفاقوا صباح أمس الإثنين على نبأ وفاة أحد أهم رموزهم الوطنية والإبداعية البارزة، الفنان والموسيقار محمد الأمين، بعد مسيرة فنية تجاوزت الستة عقود بقليل.
وتوفي محمد الأمين، في الولايات المتحدة الأمريكية، وقالت أسرته في بيان مقتضب إنه رحل إثر علة لم تمهله طويلاً.
محمد الأمين الملقب بالباشكاتب ولد بولاية الجزيرة القريبة من العاصمة السودانية الخرطوم في عام 1943.
والأمين، يعتبر أحد أيقونات الغناء والموسيقى السودانية المعاصرة، ومن أكثرهم شهرة، ولعب دورا كبيرا فى تطوير الموسيقى السودانية ونشرها خارج البلاد على مدى عقود من الزمن.
وجذبه إلى عالم الموسيقى والغناء من نعومة أظافره خاله الأستاذ بله يوسف الازيرق، فأجاد آلة المزمار ثم آلة العود التي تمكن منها وهو لم يتعد 12 عاما.
تلقى محمد الأمين تعليمه الأولى في مدينة ود مدني، والتقى بالصدفة في مدرسة الشرقية الأولية أستاذ محب للموسيقى ويجيد العزف على العود، وهو السر محمد فضل الذي تعهده وعلمه كيفية العزف على العود، غير أن ظروفه الصحية ومعاناته مع ضعف حاسة البصر تسببت في عدم إكماله مسيرته حينها.
وفي عام 1960 التحق محمد الأمين بموسيقى شرطة النيل الأزرق والتي كان على رأسها الموسيقار محمد آدم المنصوري، كما أسعفته اللحظة بوجود عدد مقدر من أميز العازفين حينها في ود مدني مثل الموسيقار حسين بطري.
برع محمد الأمين وقتها في أداء أغنيات لفنانين سبقوه مثل عبد الكريم الكابلي ومحمد وردي، ما أسفر عن قدراته الصوتية الكبيرة وأكسبه شعبية وجماهيرية في ود مدني، حيث أحب الجمهور أدائه لأغنية بدور القلعة من أغاني الحقيبة الأم درمانية في العاصمة الخرطوم.
وفور الإعلان عن وفاته تبارى ملايين السودانيين في تعداد مآثره، سرعان ما لحقت بهم الحكومة والسياسيين.
وأعلن مجلس السيادة أن رئيسه، عبد الفتاح البرهان، أجرى اتصالاً هاتفياً مع أسرة الراحل الموسيقار الفنان محمد الأمين، معبراً فيه عن الفقد الجلل والعظيم. كما نعته سفارة السودان بواشنطن.
فيما قال رئيس حزب المؤتمر السوداني، عمر الدقير، أنه منذ بواكير ظهوره في ساحة الإبداع في بلادنا – قبل حوالي سبعة عقود – ظل الأستاذ محمد الأمين كما نخلةٍ سامقة في تلك الساحة ينثر فيها ثمار منجزه الإبداعي المُعَبِّر عن آلام شعبه وآماله والمُساهِم في الوصل الوجداني بين مكوناته وتعزيز الشعور الوطني، والمنحاز لحقه في حياةٍ حرةٍ وعيشٍ كريم والمحتفي بنضاله وزحفه نحو “الشمس النايرة”.
وأضاف: برحيل الباشكاتب “ينفصل الجمر عن صندل الغناء”، ويحزن الثوار والعشاق والصاعدون لقيم النبل والجمال، وتبكي الكمنجات وينتحب العود.. فقد كان صوتاً للحرية في مناخات الاستبداد والقهر وكان مغنياً للحب دافعاً به إلى معناهُ الأسمى ومحتفياً بقيم النبل والجمال، مثلما كان موسيقياً عبقرياً ومبهراً وعَوّاداً ماهراً وساحراً يُذَكِّر بقصة أبي نصر الفارابي – في مجلس سيف الدولة الحمداني – حين عزف على أوتار العود فأخرج منها لحناً أضحك الحاضرين، ثم نَوّع العزف على الأوتار فأبكاهم بلحنٍ حزين، أما اللحن الثالث فقد دفع به الحاضرين للنوم وغادر المجلس وتركهم نائمين.
“وداعاً طائر الأحلام”، هكذا نعاه تجمع المهنيين السودانيين، وهي واحدة من أغنياته الشهيرة.
وقال رحل أحد عظماء الكلمة واللحن والموسيقى الموسيقار، محمد الأمين حمد النيل الإزيرق بعد علةٍ مرضية لم تمهله كثيراً، مشيراً إلى أنه رحل بعدما رسم لوحةً زاهية في الكلمة والتلحين والأداء وقد ترك إرثاً أدبياً رفيعاً ومدرسة فنية نادرة رسخت في وجدان السودانيين وذاكرتهم، رحلةُ حياةٍ عامرة بدأت بمولده في فبراير 1943 وتعلمه العزف منذ أن كان تلميذاً في المراحل الأولية والابتدائية، واكتسابهِ المهارات وتعلم الموسيقى عزفاً وغناءً حتى إجازة صوته مطلع الستينات.
وأضاف البيان لم يسجن الموسيقار الراحل نفسه في لونيةٍ محددة بل ساهم بصورة كبيرة في رفع الحس الوطني بغنائه لأوبريت الملحمة (قصة ثورة أكتوبر) والمتاريس وغيرها من الأكتوبريات.
وتابع كان الفقيد وطنياً مخلصاً لكملته وقدم نموذجاً فريداً في أغانيه الوطنية، ورغم المرض نذكر دائماً كلماته المبكية بعد صعوده في مسرح اعتصام القيادة العامة مُغنياً لانتصار ثورة ديسمبر المجيدة.
وأكمل: يُمثل محمد الأمين بإسهاماتهِ الموسيقية والوطنية ذاكرةً للسودان والسودانيين، تُعبر عن الإنسان والمكان وهو فخرٌ وطني أسهم في سعيهم للحرية والسلام والعدالة.
حزب الأمة القومي بدوره نعى الهرم الفني الكبير محمد الأمين، بعد رحلة زاخرة بالعطاء الفني والإنساني.
وقال إن الراحل يعد أحد أعمدة الفن السوداني الذي أثرى الوجدان السوداني بأغنيات خالدات وبصم على الثورات السودانية المتعاقبة بملاحم وطنية ساهمت في تعبئة السودانيين نحو الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية، وأسس مدرسة فنية متفردة وكان مخلصاً لوطنه ومحباً للناس، وبرحيله فقدت الساحة الفنية والأدبية واحداً من عظمائها.
main 2023-11-13 Bitajarodالمصدر: بتجرد
كلمات دلالية: محمد الأمین
إقرأ أيضاً:
الجيش السوداني: المصنع الأم للإجرام ومأزق النخبة النيلية:
الجيش السوداني: المصنع الأم للإجرام ومأزق النخبة النيلية:
خالد كودي، بوسطن
حين يُشيطن “الابن” ويُطهّر “الأب”- رد علي الأستاذ (س ا، واخرين)
اندلعت الحرب الحالية في السودان بتاريخ 15 أبريل 2023 بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، في العاصمة الخرطوم، قبل أن تمتد سريعًا إلى مدن رئيسية أخرى مثل أم درمان، بحري، الأبيض، مدني، سنار، وغيرها… وقد شكّلت هذه الحرب، بعنفها المركّز وبلوغها مناطق لم تعرف الحرب في تاريخها الحديث، منعطفًا وجوديًا كشف عن البُنى العميقة للوعي الجمعي السوداني، وأخرج إلى السطح مكبوتات جهوية وعرقية، وانحيازات كانت حتى وقت قريب مغطّاة بطلاء رقيق من خطاب الدولة القومية “المتخيّلة.”
ولأن هذه الحرب، مثل سابقاتها في الجنوب (1955–1972، 1983–2005)، وفي دارفور (2003–الآن)، وجبال النوبة والنيل الأزرق (2011–الآن)، قد وضعت الهامش والمركز وجهاً لوجه، فقد ظهر مجددًا أسوأ ما في البنية السودانية: الاصطفاف الإثني، الجهوي والنخبوي باسم الدولة، والانحياز الانتقائي باسم الوطنية.
إنّ ما نشهده اليوم من إدانة مطلقة لقوات الدعم السريع، وإعفاء تام للجيش السوداني، من قبل الكثير من النخب وأصحاب الامتيازات التاريخية لا يستند إلى معيار أخلاقي أو قانوني، بل إلى موقف ذاتي متحيّز، تحكمه الانتماءات الجهوية والطبقية لهذه النخب، لا الحقائق الموضوعية ولا التاريخ الموثّق.
أولاً: من صنع الدعم السريع؟ الجيش لا غيره:
جميع الوثائق الرسمية، بما فيها المراسيم الرئاسية الصادرة عن عمر البشير، تشير بوضوح إلى أنّ الدعم السريع تأسّس كقوة نظامية تحت إشراف مباشر من جهاز الأمن والمخابرات، وبأمر رئاسي، وتمّ إلحاقه بالجيش لاحقًا بموجب تعديل دستوري (2017) جعل منه “قوة مستقلة تتبع للقائد الأعلى للقوات المسلحة”، أي رئيس الجمهورية، الذي هو القائد الأعلى للجيش. وبموجب هذا الترتيب، تم تسليح وتدريب ودمج قوات الدعم السريع ضمن المنظومة العسكرية السودانية، وليس خارجها
ولم يكن هذا مجرد “خطأ سياسي” أو “تحالف تكتيكي”، بل كان استثمارًا استراتيجيًا في العنف، ووسيلة لحماية النظام الإسلامي – العسكري من خطر السقوط، سواء في دارفور، او كردفان أو حتي أمام حراك سبتمبر 2013، أو في انتفاضة ديسمبر 2018. وبعبارة أدق: الدعم السريع حينها هو ملحق تكتيكي لجيش استراتيجي في القمع.
ثانيًا: كل ما ارتكبه الدعم السريع… سبقه الجيش إليه:
من دارفور إلى جبال النوبة، ومن النيل الأزرق إلى الجنوب، الجيش السوداني كان وما زال الفاعل الرئيسي في جرائم الإبادة، التطهير العرقي، القصف الجوي للقرى، استخدام سلاح الاغتصاب، الحصار الغذائي، التهجير القسري، وجرائم أخرى موثقة في تقارير هيومن رايتس ووتش، الأمم المتحدة، مجموعة الأزمات الدولية وغيرها…
بل إنّ ما تتهم به النخب المركزية اليوم الدعم السريع في مدني والجزيرة – من نهب وسرقة واغتصاب – مارسه الجيش حرفيًا في بابنوسة، هجليج، دلامي، تلودي، أبوكرشولا…الخ.. بل إنّ القصف الجوي على المدنيين في جبال النوبة (2011–2016)، الذي وثّقته مبادرة كفاية ومشروع القنابل، كان يتم عبر الطيران الحربي الذي يملكه الجيش، وليس الدعم السريع!
ثالثًا: النخبة النيلية وصمتها المُطبِق حين كانت الحرب “في مكان آخر:”
حين كانت الحرب محصورة في “الهامش”، تبنّت ذات النخب التي تصرخ الآن ضد تحالف تأسيس مستخدمة ذريعة الدعم السريع خطابًا مخزيًا: أن ما يجري هو “حرب ضد المتمردين”، و”كفار يحملون السلاح ضد الوطن”، و”متمردون تدعمهم إسرائيل”! كان الجنود يقتلون الأبرياء في جنوب السودان باسم “الجهاد”، ويُغتصب نساء جبال النوبة والنيل الازرق بدعوى “التطهير العرقي”، وتُحرق قرى دارفور على يد الجيش والمليشيات تحت شعار “هي لله”. وكل ذلك مرّ تحت سمع وبصر النخبة النيلية التي لم تحرّك ساكنًا، لا ماديًا ولا معنويًا.
لم تكن تلك النخبة تجهل الجرائم. كانت تبرّرها.
رابعًا: حين وصلت الحرب إلى الخرطوم… تغيّر الموقف فجأة:
اليوم فقط، عندما وصلت الحرب إلى أحياء بري، العمارات، كافوري، ود نوباوي، ظهرت فجأة خطابات “حل الدعم السريع”، و”استعادة الجيش القومي”، و”إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية”، دون أي ذكر لسجل الجيش الإجرامي، أو لدوره التاريخي في قمع الشعب، أو لتحالفه مع الإسلاميين حتي، وان تم الذكر يكون علي حياء!
هنا، يظهر التناقض الصارخ: يريدون حل المليشيا التي صنعتها أيديهم، دون أن يعترفوا بأنّ المجرم الأكبر ما زال هو الجيش السوداني، بكل مؤسساته، من القيادة العامة حتى المدرعات… ويريدون منه ان يعيد هيكلة نفسه …لا اكثر!
خامسًا: الجيش بوصفه أداة الإسلام السياسي وهيمنة النخبة:
الجيش ليس قوة “قومية محايدة”، بل هو أداة سلطوية بيد طبقة حاكمة مركزية، إسلامية، وعرقية. وهو ما تكشّف بوضوح بعد الانقلاب على الوثيقة الدستورية (2021)، وإعادة إنتاج السلطة العسكرية عبر تحالف البرهان–الكيزان، وتعديلاتهم على الوثيقة الدستورية لترسيخ سلطتهم المطلقة.
في المقابل، فإن الدعم السريع، ورغم سجله الدموي، قد:
– وقّع على ميثاق تأسيس السودان الجديد (فبراير 2025
– وقّع على دستور انتقالي جديد قائم على مبادئ العلمانية، الفيدرالية، العدالة التاريخية، حق تقرير المصير، والمساواة بين الشعوب.
– قبِل الخضوع لعملية دمج تحت إشراف مدني وليس عسكري
– اعترف بمسؤوليته عن بعض الجرائم في دارفور، وهو ما لم يقم به الجيش إطلاقًا
وهنا المفارقة التي تعري كل شيء: قوة مارست الإجرام، وتراجع موقفها باتجاه مشروع ديمقراطي، تُرفض رفضًا مطلقًا، بينما يُمنح الجيش، رغم تاريخه الأسود، حصانة مقدّسة باسم “القومية” و”الوطنية” و”المؤسسة العريقة” وتريدونه ان يعيد هيكلة نفسه!!
سادسًا: في الرد على مقولة “الجيش يحتاج لإعادة صياغة، أما الدعم السريع فهو مليشيا يجب حلها”
هذه المقولة مضللة:
١/ الجيش أيضًا مليشيا بمقاييس القانون الدولي: لأنه لم يخضع قط لسلطة مدنية، وشارك في كل انقلابات السودان، وقتل المتظاهرين السلميين، واستغل سلطته لتقويض الدولة.
٢/ الجيش درّب وصنع الدعم السريع، بل درّب أيضًا مليشيات القبائل، وكتائب الظل، ومليشيا الأمن الشعبي، وسهّل تكوين مليشيات الدفاع الشعبي…والان البنيان المرصوص والبراء بن مالك والقائمة تطول…
٣/ ما من مؤسسة يمكن إعادة هيكلتها دون اعتراف بجرائمها أولًا. أما أن يُعاد بناء الجيش دون مساءلة فهو تكريس للديكتاتورية العسكرية لا غير.
في الختام: المعيار ليس من أنت، بل ما الذي تمثّله:
إنّ الموقف الصحيح في هذا الوقت من أي قوة مسلّحة في السودان، سواء كانت الجيش أو الدعم السريع أو غيرهما، لا يجب أن يُبنى على الانتماءات الهوياتية أو الاصطفافات الجغرافية، بل على موقف هذه القوى من المشروع الوطني الجديد، كما ورد في ميثاق تحالف تأسيس، والذي ينادي بقيام دولة سودانية مدنية، ديمقراطية، لا مركزية، تقوم على العلمانية، العدالة التاريخية، المساواة بين الشعوب، وحق تقرير المصير، وبناء جيش وطني جديد.
وعليه، فإنّ تقييم الجيش أو الدعم السريع يجب أن ينبني على مدى التزام كل منهما بهذه المبادئ:
– إذا كان الجيش هو من رعى العنف الممنهج منذ الاستقلال، وكرّس هيمنة الدولة المركزية القامعة، ورفض علنًا أي إصلاح حقيقي يمسّ بنيته العقائدية والطبقية، فإنّه لا يمكن أن يكون شريكًا في بناء السودان الجديد.
– وإذا كانت قوات الدعم السريع، رغم سجلها المأساوي، قد أبدت استعدادًا مبدئيًا للدخول في مشروع تأسيسي جديد، عبر التوقيع على ميثاق ودستور يقر بالمواطنة المتساوية والعدالة التاريخية، فإنّ ذلك يستوجب النظر إليها لا بوصفها خصمًا مسبقًا، بل بوصفها طرفًا يجب اختباره بناءً على التزامه العملي بهذا التحوّل.
إنّ انحياز بعض النخب النيلية للجيش، رغم سجله الدموي الأوسع، لا يعكس موقفًا مبدئيًا من العنف، بل هو انعكاس لرغبة دفينة في إعادة إنتاج الدولة القديمة التي ظلّت لعقود تمثّل مصالحها. وفي المقابل، فإنّ المناداة بحل الدعم السريع دون الحديث عن إعادة بناء المؤسسة العسكرية بالكامل، بما في ذلك تفكيك بنيتها الأيديولوجية والعقائدية، هو موقف انتقائي، لا يخدم سوى استمرار الديكتاتورية بثوب قومي زائف.
إنّ بناء جيش جديد، متعدد، خاضع لسلطة مدنية، يندمج في رؤية السودان الجديد، هو المهمة التاريخية التي لا تقبل التأجيل. وكل ما دون ذلك، هو استمرار في إعادة تدوير المأساة.
النضال مستمر والنصر اكيد.
(أدوات البحث التقليدية والإليكترونية الحديثة استخدمت في هذه السلسلة من المقالات)
الوسومالإجرام الجيش السوداني الدعم السريع المصنع الأم النخب النيلية خالد كودي