ببغاء يعود إلى مالكته بعد احتجازه 3 أشهر
تاريخ النشر: 18th, November 2023 GMT
تم أخيرًا لم شمل الببغاء تشارلي، الذي أمضى ثلاثة أشهر محتجزًا في مطار هيثرو البريطاني، بسبب مشاكل في الأوراق. وكان من المفترض أن يتم لمّ شمل الببغاء تشارلي البالغ من العمر أربعة أعوام مع مالكته جيس أدلارد (33 عامًا)، بعد تسعة أشهر من انتقالها إلى إنجلترا من ولاية بنسلفانيا، لكن بعد الانتظار لأشهر عدة تم احتجاز الببغاء ذي الصدر الوردي في مطار هيثرو، بسبب نقص الأوراق، حسب ما ذكر موقع 24 الإلكتروني.
وبعد ثلاثة أشهر من الانتظار، توجهت جيس وزوجها جو (36 عامًا) بالسيارة من ليستر شاير إلى مطار هيثرو، لإحضار تشارلي الثرثار إلى المنزل. وبداية الحادثة مع جيس وجو عندما سافر جو إلى الولايات المتحدة، لإحضار تشارلي إلى المملكة المتحدة، ولكن بمجرد وصولهما، تم احتجاز الببغاء في المطار، بسبب وثيقة ناقصة.
المصدر: صحيفة الأيام البحرينية
كلمات دلالية: فيروس كورونا فيروس كورونا فيروس كورونا
إقرأ أيضاً:
في زمن الذكاءِ الاصطناعيِّ والجندرِ الحُرِّ: لماذا يعودُ العشقُ الإلهيُّ إلى الواجهة؟
سعيد ذياب سليم
مقدِّمة:
يَشهدُ العصرُ الحديثُ مظاهرَ جديدةً: صراعاتٌ عسكريَّةٌ خرجتْ عن ميادينِها المعتادةِ — إفريقيا، والشرقُ الأوسطُ، وأمريكا اللاتينيَّةُ — لتُصيبَ قلبَ أوروبا بالاضطرابِ، وتلسَعَ النارُ أصابعَها الممشوقةَ.
وانتشرتِ الثقافةُ والحريَّةُ الجندريَّةُ، التي تَضمنُ للأفرادِ الحقَّ في التعبيرِ عن هويَّتِهم الجندريَّةِ والجنسانيةِ كما يشعرونَ بها، بعيدًا عن المعاييرِ الاجتماعيَّةِ التقليديَّةِ.
كما يشهدُ تسارعًا تكنولوجيًّا في مجالاتِ الاتصالِ والإنترنتِ والذكاءِ الاصطناعيِّ، ساهمَ في انتشارِ الثقافةِ الجنسيَّةِ، والوصولِ السهلِ إلى المواقعِ الإباحيَّةِ، والتعرُّفِ على الممارساتِ الجنسيَّةِ الشاذَّةِ، ممَّا أعادَ تشكيلَ تصوُّرِ الأفرادِ للعلاقاتِ والحميميَّةِ.
أضِفْ إلى ذلك الضغوطَ الحياتيَّةَ وسرعةَ الإيقاعِ، التي دفعتْ الكثيرينَ إلى البحثِ عن معنىً أعمقَ يتجاوزُ المادِّيَّاتِ.
في هذا السياقِ، يَبرزُ التَّصوُّفُ، بتركيزِه على البُعدِ الرُّوحيِّ والفناءِ في المحبَّةِ الإلهيَّةِ، كملاذٍ ممكنٍ، وكإجابةٍ لأزمةِ المعنى في العصرِ الحديثِ.
فهل يُعَدُّ هذا التوجُّهُ نحوَ التَّصوُّفِ والعشقِ الإلهيِّ هروبًا من عالمٍ موحشٍ؟ أمْ شكلًا من أشكالِ المقاومةِ الناعمةِ؟ أمْ بحثًا صادقًا عن المعنى في زمنٍ يَتسارعُ نحوَ الفراغِ؟
١. الإنسانُ في زمنِ ما بعدَ الحداثةِ:
في زمنِ ما بعدَ الحداثةِ postmodernism يترافقُ تراجُعُ الأديانِ المؤسَّسيَّةِ وضعفُ الروابطِ الأسريَّةِ مع أزمةِ هويَّةٍ عميقةٍ يعيشُها الأفرادُ؛ أزمةٌ تتجلَّى في شعورٍ متكرِّرٍ بالتيه، وغيابِ المعاييرِ المشتركةِ. في ظلِّ هيمنةِ التكنولوجيا والتسطيحِ الرقميِّ، أصبحتِ التجاربُ الإنسانيَّةُ تُختزلُ في نقراتٍ سريعةٍ، كما في تصفُّحِ المقاطعِ القصيرةِ على “تيك توك” أو “ريلز”، حيث تُستهلكُ الصورُ والأفكارُ دونَ تأمُّلٍ أو عمقٍ. ومع حرِّيَّةٍ فرديَّةٍ تفتقرُ إلى مرجعيَّةٍ روحيَّةٍ أو أخلاقيَّةٍ، يجدُ الإنسانُ نفسَه في مواجهةِ قلقٍ وجوديٍّ، وعزلةٍ داخليَّةٍ، وشعورٍ مُتنامٍ بفقدانِ المعنى — كما يتجلَّى في عباراتٍ متكرِّرةٍ مثل: “أنا لا أعرفُ مَن أكون”، أو “كلٌّ يصنعُ حقيقتَه الخاصَّةَ”.
بل لعلَّ كلماتِ الشاعرِ إيليا أبو ماضي، التي غنَّاها عبدُ الحليمِ حافظ، تُعبِّرُ عن هذه الحيرةِ أصدقَ تعبيرٍ:
جئتُ لا أعلمُ مِن أينَ ولكنِّي أتيتُ
ولقد أبصرتُ قدّامي طريقًا فمَشيتُ
وسأبقى ماشيًا إنْ شئتُ هذا أمْ أبيتُ
كيفَ جئتُ؟ كيف أبصرتُ طريقي؟ لستُ أدري!
تَعكسُ هذه الديناميكيَّاتُ تحوُّلًا جذريًّا في فَهمِ الذاتِ والعالَمِ، حيث يعيشُ الإنسانُ اليومَ توتُّرًا دائمًا بينَ رغبتِه في التحرُّرِ، وحاجتِه إلى المعنى.
ويبدو أنَّ هذا التيهَ ليسَ حكرًا على الثقافةِ العربيَّةِ، بل نجدهُ حاضرًا أيضًا في الأغنيةِ الشهيرةِ Dust in the Wind لفرقة Kansas، حيث تتكرَّرُ العبارةُ:
“All we are is dust in the wind”
“لسنا سوى غبارٍ في مهبِّ الريحِ”
في تعبيرٍ شاعريٍّ عن هشاشةِ الوجودِ وفناءِ الإنسانِ، في موازاةِ الوعي العميقِ بأنَّنا لا نَملكُ سوى لحظاتٍ عابرةٍ.
٢. التَّصوُّفُ والعشقُ الإلهيُّ: لغةٌ قديمةٌ لاحتياجاتٍ جديدةٍ
ظلَّ التَّصوُّفُ موضعَ جدلٍ بين مَن يراه ظاهرةً إسلاميَّةً أصيلةً، متجذِّرةً في الكتابِ والسُّنَّةِ ومسلكِ الزُّهدِ، وبين مَن يَعتبرُه لغةً روحيَّةً عابرةً للأديانِ، عرفَها العالَمُ في المسيحيَّةِ والهندوسيَّةِ والزرادشتيَّةِ والفلسفةِ اليونانيَّةِ. ويرى بعضُهم أنَّه انقلابٌ على المفاهيمِ الإسلاميَّةِ كما حدَّدَها الفقهاءُ والمتكلِّمونَ، بينما يراهُ آخرونَ نقطةَ التقاءٍ بينَ الدِّياناتِ الكبرى، حينَ يعلو صوتُ القلبِ على صوتِ العقيدةِ.
وسطَ هذا الجدلِ، يَبرزُ صوتُ النبوَّةِ حاسمًا في ضبطِ العملِ الدينيِّ بميزانِ الوحيِ، كما في قولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «مَن عملَ عملًا ليسَ عليه أمرُنا فهو ردٌّ»، أيْ أنَّ ما لا أصلَ له في الشَّرعِ مردودٌ، مهما حسُنَ القصدُ. ولم يكنِ التَّصوُّفُ بمنأى عن هذا الانضباطِ، بل عبَّرَ كبارُ رموزِه عن ضرورةِ التقيُّدِ بالكتابِ والسُّنَّةِ؛ فقالَ الإمامُ الجُنيدُ، أحدُ أعلامِ التَّصوُّفِ الأوائلِ: «كلُّ طريقٍ لا يشهدُ له الكتابُ والسُّنَّةُ فهو باطلٌ»، ووافقَه حجَّةُ الإسلامِ الغزاليُّ، الذي مزجَ بين التَّصوُّفِ والفِقهِ، بقولِه: «مَن لم يكنْ له في الظاهرِ شريعةٌ، لم يكنْ له في الباطنِ حقيقةٌ.» وهي أقوالٌ ترسمُ حدودًا واضحةً للتجربةِ الصُّوفيَّةِ، وتمنعُ انفلاتَها منَ النصِّ.
وعلى الجانبِ الآخرِ، يُصوِّرُ شمسُ التَّبريزيُّ التَّصوُّفَ بوصفٍ وجوديٍّ عميقٍ، لا يَقِفُ عند الظاهرِ والطُّقوسِ، بل يَراهُ رحلةً داخليَّةً نحوَ الحبِّ الإلهيِّ والفناءِ في الله. ومن أشهرِ أقوالِه: «ليسَ التَّصوُّفُ أنْ تلبسَ خرقًا، بل أنْ تحترقَ.»
وفي السياقِ المعاصرِ، لا تأتي العودةُ إلى التَّصوُّفِ من حنينٍ إلى الماضي فحسب، بل من رغبةٍ في استعادةِ وجهٍ روحيٍّ للإسلامِ، يُواجهُ صُوَرَ التطرُّفِ والانغلاقِ بصورةٍ تنبضُ بالمحبَّةِ والاتِّساعِ، وتدعو إلى رحمةٍ شاملةٍ. وقد ظهرتْ هذه الرغبةُ في حلقاتِ الذِّكرِ، ورقصاتِ الدَّراويشِ، وفي لغةٍ تُعلي قيمةَ الذَّوقِ والاختبارِ فوقَ الجدلِ العقائديِّ.
التَّصوُّفُ اليومَ لا يقولُ لك: “آمنْ فقطْ”، بل يهمِسُ: “ذُقْ، وجرِّبْ، وأحِبَّ، وتحوَّلْ.” إنَّهُ مسارٌ يسلكُه القلبُ قبلَ العقلِ، حيث يُصبحُ الإيمانُ تجربةً وجدانيَّةً، لا مجرَّدَ التزامٍ ظاهريٍّ. وفي هذا السياقِ، يَفتحُ التَّصوُّفُ بابَ التأويلِ الباطنيِّ، كما في روايةِ قواعد العشق الأربعون لأليف شافاق، التي قدَّمتِ التَّصوُّفَ بوصفِه دعوةً إلى المحبَّةِ تتجاوزُ العُرفَ أحيانًا، وتُعلي من شأنِ التجربةِ الفرديَّةِ كمصدرٍ للمعرفةِ.
لكن من المهمِّ التنبيهُ إلى أنَّ الأقوالَ المنسوبةَ إلى شمسِ التبريزيِّ في الروايةِ تعبِّرُ عن رؤيةِ الكاتبةِ الأدبيَّةِ، لا عن مصادرَ تاريخيَّةٍ موثَّقةٍ، رغم أنَّها تستبطنُ جوهرًا صوفيًّا ألهمَ كثيرين. ومن أقوالِه في الروايةِ: “إنَّ الدِّينَ لا يتعلَّقُ بالذَّهابِ إلى المسجدِ أو الكنيسةِ أو الكنيسِ، بل بأنْ تكونَ إنسانًا بكلِّ ما تحملهُ الكلمةُ من معنى.”
هذا الطَّرحُ يمنحُ التَّصوُّفَ أفقًا رحبًا، لكنَّه يُثيرُ في المقابلِ تساؤلاتٍ مشروعةً حولَ حدودِ الانضباطِ الشَّرعيِّ ومدى توافقِه مع أصولِ الدِّينِ كما فهِمَها جمهورُ العلماءِ. وتُجسِّدُ علاقةُ شمسِ التَّبريزيِّ بجلالِ الدينِ الرُّوميِّ — كما صوَّرتْها الأدبيَّاتُ — حالةً منَ التَّلاقي الرُّوحيِّ العابِرِ للجندرِ والحدودِ، تنصهرُ فيه الأشكالُ في نورِ العشقِ الإلهيِّ، حيث تُغلقُ العيونُ وتبدأُ الرؤيةُ القلبيَّةُ.
وهكذا يبدو التَّصوُّفُ كأنشودةٍ قديمةٍ تُعادُ بلحنٍ جديدٍ، تهمسُ في أذنِ الإنسانِ المعاصرِ: “دَعْ قلبكَ يقودْكَ… فاللهُ لا يُرى إلَّا بعينٍ تُحبُّ.”
٣. التَّصوُّفُ كحَرَكَةٍ مُقَاوَمَةٍ نَاعِمَةٍ:
كانَ إذا مَسَّهُ الطَّرَبُ و”اصْطَهَجَ”، رَفَعَ يَدَيْهِ وَدَارَ نَشْوَانًا عَلَى المَسْرَحِ فِي رَقْصَةِ السُّنْبُلَةِ. يَقِفُ صَبَاحُ فَخْرِي قَلِيلًا، يُرَدِّدُ مَقْطَعًا مِنَ الإِنْشَادِ، ثُمَّ يَعُودُ إِلَى الدَّوَرَانِ، كَمَا يَرْقُصُ الدَّرَاوِيشُ، مُتَأَثِّرًا بِرَقَصَاتِ السَّمَاحِ الَّتِي اشْتُهِرَتْ فِي مَنْبِجَ وَقُرَى حَلَبَ.
وَفِي التُّرَاثِ التُّرْكِيِّ، تُعْرَفُ هذِهِ الرَّقْصَةُ بِاسْمِ “السَّمَا” أَوِ “المَوْلَوِيَّةِ”، وَتُسْتَمَدُّ صُورَتُهَا الرَّمْزِيَّةُ مِنْ جَلَالِ الدِّينِ الرُّومِيِّ، الَّذِي جَعَلَ مِنَ الدَّوَرَانِ وَسِيلَةً لِلاتِّصَالِ الرُّوحِيِّ وَالذَّوَبَانِ فِي الحَضْرَةِ الإِلٰهِيَّةِ.
عِنْدَمَا تَرَى الدَّرَاوِيشَ يَدُورُونَ، قَدْ تَبْدُو لَكَ رَقْصَةً فُلْكْلُورِيَّةً هَادِئَةً، لَكِنْ خَلْفَ هذَا الدَّوَرَانِ يَكْمُنُ طَقْسٌ مُهَابٌ، تَتَجَاوَبُ فِيهِ الأَجْسَادُ مَعَ الذِّكْرِ وَالمُوسِيقَى، فَتَدُورُ بِعَكْسِ عَقَارِبِ السَّاعَةِ كَمَا الأَجْرَامُ فِي السَّمَاءِ. تَرْتَفِعُ الذِّرَاعُ اليُمْنَى نَحْوَ السَّمَاءِ، بَيْنَمَا تُشِيرُ اليُسْرَى إِلَى الأَرْضِ، فِي رَمْزٍ لِلاتِّصَالِ بَيْنَ العَالَمَيْنِ. وَيَغْدُو النَّايُ نَفْخَةَ رُوحٍ، وَالطَّبْلُ خَفْقَةَ قَلْبٍ، وَالثَّوْبُ الأَبْيَضُ كَفَنًا لِلْجَسَدِ الفَانِي. يَدُورُ الدَّرْوِيشُ حَتَّى يَبْلُغَ الوَجْدَ، فَيَفْنَى عَنْ ذَاتِهِ، وَيَسْتَسْلِمَ لِلْفَنَاءِ فِي اللهِ، ثُمَّ يَؤُوبُ إِلَى خَلْوَتِهِ لِلتَّأَمُّلِ.
تُشْبِهُ الرَّقْصَةُ المَوْلَوِيَّةُ فَنًّا تَأَمُّلِيًّا مُنْضَبِطًا، بَيْنَمَا تَخْتَلِفُ الرَّقَصَاتُ الصُّوفِيَّةُ فِي بِلَادٍ مِثْلَ مِصْرَ وَالمَغْرِبِ وَشِمَالِ أَفْرِيقْيَا، إِذْ تَمِيلُ إِلَى التَّلْقَائِيَّةِ الجَمَاعِيَّةِ وَالتَّعْبِيرِ الجَسَدِيِّ الشَّعْبِيِّ، كَالتَّمَايُلِ وَالطَّوَافِ وَالقَفْزِ. وَقَدْ تَمْتَزِجُ أَحْيَانًا بِالفُلْكْلُورِ أَوِ الطُّقُوسِ العِلَاجِيَّةِ، لَكِنَّهَا تَظَلُّ تَحْمِلُ فِي جَوْهَرِهَا حَنِينًا إِلَى مَا هُوَ أَعْمَقُ مِنَ الجَسَدِ، وَرَغْبَةً فِي لَمْسَةٍ رُوحِيَّةٍ تَشْفِي وَتُطَهِّرُ. أَمَّا فِي العِرَاقِ، فَتَتَجَلَّى الرَّقْصَةُ الصُّوفِيَّةُ بِطَابِعٍ خَاصٍّ، حَيْثُ تَتَدَاخَلُ الحَرَكَةُ الإِيقَاعِيَّةُ مَعَ تِلَاوَةِ الأَذْكَارِ وَالمَدَائِحِ النَّبَوِيَّةِ، وَيَغْدُو التَّمَايُلُ الجَمَاعِيُّ بَطِيئًا وَمُمْتَدًّا، كَأَنَّمَا يُسْتَدْرَجُ الجَسَدُ نَحْوَ حَالَةِ وَجْدٍ صَامِتٍ، يُشَارِكُ فِيهَا الإِيقَاعُ مَعَ النَّفَسِ، وَالسَّكِينَةُ مَعَ النَّشْوَةِ، فَتَتَشَكَّلَ رَقْصَةٌ شَفِيفَةٌ، أَقْرَبُ إِلَى المُنَاجَاةِ مِنْهَا إِلَى الاسْتِعْرَاضِ.
وَهَكَذَا يَبْدُو التَّصَوُّفُ كَحَرَكَةِ مُقَاوَمَةٍ نَاعِمَةٍ فِي وَجْهِ عَالَمٍ يَغْلِبُ عَلَيْهِ الجَفَافُ المَادِّيُّ؛ فَفِي زَمَنٍ تَتَعَدَّدُ فِيهِ تَصَوُّرَاتُ الهُوِيَّةِ وَتَتَغَيَّرُ مَعَايِيرُ التَّعَاطِي مَعَ الجَسَدِ، يُقَدِّمُ العِشْقُ الصُّوفِيُّ بَدِيلًا يُسَامِي الجَسَدَ وَلَا يُهِينُهُ، وَيَحْتَفِي بِالرُّوحِ دُونَ أَنْ يُخْتَزَلَ الإِنْسَانُ فِي مَعَادَلَاتٍ بَيُولُوجِيَّةٍ أَوْ رَقْمِيَّةٍ. إِنَّهُ بَحْثٌ دَائِمٌ عَنِ المَعْنَى، عَنِ اللهِ فِي دَاخِلِ الإِنْسَانِ لَا فِي فَلَكٍ بَعِيدٍ، وَعَنْ تَجْرِبَةٍ تَتَجَاوَزُ الفِكْرَةَ، وَشَوْقٍ يَتَعَدَّى حُدُودَ العَقِيدَةِ.
“العَاشِقُ الحَقِيقِيُّ للهِ لَا يَرْضَى بَدِيلًا، لَا بِجَنَّةٍ وَلَا بِحُورٍ عِينٍ، هُوَ يُرِيدُ وَجْهَ الحَبِيبِ فَقَطْ.”
— جَلَالُ الدِّينِ الرُّومِيُّ
٤. إساءةُ الفَهمِ المُعاصِرِ:
“الطريقُ إلى الحقيقةِ هو طريقُ القلبِ لا طريقُ العقلِ” — هكذا تقولُ إحدى قواعدِ العشقِ الأربعين المنسوبةِ إلى شمسِ التبريزي في روايةِ إليف شافاق. وهي مقولةٌ تُذكِّرُنا بما قاله الحلاجُ قديمًا: “عجبتُ من قلبٍ يُدركُ الحقيقةَ دونَ عقلٍ.”
وربما يبكي أرسطو وأفلاطون الآن، وقد رأيا جُهدَهما العقليَّ الطويلَ يتلاشى أمامَ دمعةٍ صوفيةٍ، تُدرِكُ بالمحبّةِ ما عجزَ عنهُ المنطقُ. فالعشقُ الصوفيُّ لا يعترفُ بالبرهانِ، ولا يحتاجُ إلى مقدّماتٍ، بل يُومِضُ في القلبِ، ويكشفُ الحقيقةَ كذَوقٍ لا كتعريفٍ.
حتى علماءُ الكلامِ، الذين اجتهدوا في التوفيقِ بين النصِّ والعقلِ، لم يَبلغوا مقامَ العارفين، أولئك الذين سلكوا طريقَ الحبِّ، فاكتشفوا بنورِ القلبِ ما لم يبلغهُ العقلُ المُجتهِدُ.
روايةُ قواعد العشق الأربعون تروي قصّتَين متوازيتَين، تُوظّف فيهما إليف شافاق التصوّفَ كأداةٍ لتحريرِ الفردِ من القيودِ الدينيةِ والاجتماعيةِ.
شخصية “إيلا” – التي يحملُ اسمُها صوتيًّا صدى “إيل” (اسم الله في العبريةِ) – تُمثّل الإنسانَ الحديثَ في رحلتِه نحو “معنى” خارجَ الأطرِ التقليديةِ، وتنتهي بالقطيعةِ مع حياتِها الزوجيةِ المستقرةِ.
أمّا روايةُ “الكفرِ الحُلوِ” التي تقرؤُها، فتُعيدُ تأويلَ مفاهيمَ مثل “الكفرِ” و”العشقِ” لتُصبحَ رموزًا للتحرّرِ الداخليِّ، لا من الجهلِ، بل من الالتزامِ الدينيِّ ذاته.
وتُقدَّمُ علاقةُ الرومي بشمسِ التبريزي كنموذجٍ للتجاوزِ: تجاوزِ الأسرةِ، والدينِ، وحتى مؤسسةِ الزواجِ.
فالروميُّ يَهجرُ أسرتهُ وينخرطُ في علاقةٍ روحيةٍ مزدوجةِ الأبعادِ مع شمسٍ، الذي لا يتورّعُ عن شربِ الخمرِ ومصاحبةِ البغايا، في سرديّةٍ تُعيدُ تعريفَ القداسةِ خارجَ الدينِ، وتحوّلُ إمامَ المسجدِ إلى صورةٍ باهتةٍ لا روحَ فيها.
بهذا، لا تكتفي الروايةُ بإعادةِ تقديمِ التصوّفِ، بل تُعيدُ تأطيرَه كخطابٍ حداثيٍّ يُناهضُ الدينَ من داخلِه، في ما يُعرَفُ بـ”العلمانيةِ الروحيةِ”.
ويَتجلّى هذا الاتجاهُ أيضًا في الثقافةِ الغربيةِ المعاصرةِ، حيث تُترجمُ نصوصُ الرومي وتُجتزأُ من سياقِها الإسلاميِّ، ويُقدَّم كشاعرِ حُبٍّ كونيٍّ لا كمتصوّفٍ مسلمٍ، فتُمحى البنيةُ العقديّةُ التي وُلد فيها النصُّ، ويُعاد تشكيلُه بمنطقٍ فرديٍّ حداثيٍّ.
لذا، يُصبحُ من المُهمِّ التمييزُ بين التجربةِ الصوفيةِ كمَسارٍ إيمانيٍّ داخليٍّ، وبين إعادةِ توظيفِها كأداةٍ للخلاصِ من الدينِ نفسِه، لا كتجديدٍ روحيٍّ داخلَ حدودِه.
خاتمة: بين العشقِ والفراغِ
في عالمٍ تتسارعُ فيه التقنيةُ وتُعادُ فيه صياغةُ الهوياتِ، يعودُ التصوّفُ لا كحنينٍ إلى الماضي، بل كحاجةٍ روحيةٍ معاصرةٍ. فالعشقُ الإلهيُّ ليس هروبًا من الواقعِ، بل مقاومةً ناعمةً لسطحيّتِه، وتذكيرًا بأنّ الإنسانَ ليس فقط ما يملكُ أو يفعلُ، بل ما يهفو إليه قلبُه.
وفي زمنِ الذكاءِ الصناعيِّ، قد يكونُ العشقُ أعمقَ أشكالِ الذكاءِ.
والتصوّفُ الحقيقيُّ، رغمَ تنوّعِ تفسيراتهِ، يظلُّ دعوةً للعودةِ إلى صفاءِ العقيدةِ وحُسنِ الخلقِ، ومُجاهدةِ النفسِ لاجتلاءِ القربِ من الله، بتوازنٍ يجمعُ بين الروحِ والجسدِ، والعبادةِ والمعنى.