جريدة الرؤية العمانية:
2025-05-16@16:41:20 GMT

صناعة الأثر

تاريخ النشر: 26th, November 2023 GMT

صناعة الأثر

 

د. صالح الفهدي

قال أحدهم: "قد لا يكون لدينا تصورًا واضحًا للمستقبل، لكننا نحرصُ على اتخاذ القرارات الصحيحة بقدر ما نستطيع في حاضرنا"، وهذه في نظري هي الخطوة الأهم في صناعة الأثر؛ أي أن يتخذ القرارات الصحيحة بقدر ما يتصوّرُ أنها صحيحة، وعلى إِثر ذلك يتحدّد المستقبل، وترتسم صورته، فالذي يتجّهُ إلى مكانٍ وهو لا يعرفُ الطريق إليه، فإِن أوّل ما يفعلهُ هو أن ينظر موقعه في الخارطة ثم يبحثُ عن أمثلِ وأفضل الطرق المؤدِّية إليه، بعد ذلك ينطلقُ متوجِّهًا نحوه، ولا يحيدُ عنهُ، ولهذا يُقالُ: "من جدّ وجد، ومن سار على الدربِ وصل" أي وصل إلى مبتغاهُ طالما حدّد لنفسه الطريق الصحيح.

تتساوقُ إلى ذهني وجوهُ بعض الناس الذين عرفتُ فيهم الرشد لكنّهم صنعوا لأنفسهم أثرًا غير حميد، لأنّهم قرروا في لحظةٍ من اللحظات أن يتّجهوا نحو غايةٍ طرح لأجلها الطمع أنفسهم فأرداها، وأعمى قلوبها، وأصمّ آذانها، ورسم لهم أنفسهم وهم في غنىً فاحش، ورفاهيةٍ طافحةٍ، ووجاهةٍ نافذةٍ، لكنّهم- وهم في الطريقِ لتلك الغاية- وقعوا في حفرةٍ كلّفتهم أثمانًا باهظةً، فألقوا وراء القضبانِ، وصار الأثرُ الذي كانوا يحلمون بصنعهِ لأجل مجدهم وبالًا على سمعتهم، وخيبةً على آمالهم، وخزيًا على أُسرهم، ونكالًا على أنفسهم، ولو أنهم "اتخذوا القرارات الصحيحة" قبل أن يخطو خطاهم الأُولى، لتمثّلت لهم كل هذه الصور القاتمة المُرعبة، ورأوا الأثر الوخيم الذي سلكوه وراءهم، والحفر التي يمكنُ أن يقعوا فيها، لكنّ غيّهم غلب رشدهم، وهواهم غشى على نظرهم، وطمعهم تحكّم في عقلهم.

والنّاسُ بين ثلاثة: صانعُ أثرٍ إيجابي من أجل الخير، وصانعُ أثرٍ سلبيِّ من أجل الشهرة الزائفة، وثالث حيادي لا أثر له، وكأن وجوده عدم، أمّا الأوّل فهو الذي ترى أثره في المجتمعِ بيِّنًا، جليًّا، في أعمالِ البرِّ التي يفعلها، أو يدعو لها، أو تراهُ نشطًا في مجالِ التّطوِّعِ يسخِّرُ جهودهُ، وطاقته من أجل مساعدةِ النّاس، والأخذِ بأياديهم، أو تجدهُ مجتهدًا في الإِصلاحِ بما يملكُ من موهبةٍ وقدرةٍ على إيصال الكلمة الطيبة، والنصيحة السديدة، أو تنظرُ إليه وقد أفاد الناس من علمه الذي رزقهُ الله إياه، أو من مهنته التي تميّز فيها، أو ساعد النّاس من مالٍ استخلفهُ اللهُ عليه.

هذا النموذج المشرِّف لصانع الأثر الإيجابي الحميد يُبرزُ نفسه، ويسعى إلى غايته بذاته، ولديّ في ذلك أمثلةٌ أذكرُ منها أنّ طبيب أسنانٍ تواصل معي ليطلب مني أن أوصلهُ بجمعية خيرية تهتم بالمسنِّين لأنه يريدُ أن يساعد في علاجهم دون مقابل هو وفريقه من الأطباء والممرضين، وهكذا تم له الأمر، وآخر يطلبُ مني أن أُوصل إليه كل من كان في حاجةٍ مالية ليساعده ولو بالنزر القليل، وآخر أفادني بأنه يسعى إلى كلِّ من حاد عن منهجِ اللهِ فألحد ليعيد إليه رشده، ويبشرني بالأعداد التي منّ الله هديهم على يديه، يقول الشاعر عروة بن الورد:

أحاديث تبقى والفتى غيرُ خالِدٍ

إِذا هُو أمسى هامةً فوق صُيّرِ

أما النوع الثاني من الناس وهو صانع الأثر السلبي الذي يسعى وراء شهرةٍ زائفة، فهذا ينتمي إلى "المروِّجين"، و"المسوِّقين" لفسادِ الأخلاق بتخليهم عن الحشمةِ، والعفّةِ، وحفظ العِرضِ بغية فقاعات الشهرة المغشوشة التي ظنوا أنّ انسلاخهم الأخلاقي يجعلهم من صنّاع الأثر، دون أن يعنيهم نوع الأثر، حتى ارتدُّت عليهم أفعالهم خزيًا وضياعًا وفسادًا.

أما الثالث الذي لا أثر له في حياته فهو ذلك السّبهلل الذي لا ظلّ لهُ إن مشى، ولا أثر له إن خطا، ولا صوت له إن تكلّم، وهو الذي يقول فيه المثل الشعبي:"إن جئت غير منقود، وإن غبت غير مفقود"، يمضي كما الغبارُ الذي لا يتركُ أثرًا بعده، ويرحل كما ترحل آثار الخطى التي يكنسها موج البحر على الساحل.

صناعة الأثر لا يجدر بها إلا "المؤثرين" الذين يتميّزون في أفكارهم، وأخلاقهم، وأعمالهم، فيفيدون أنفسهم ومجتمعهم ووطنهم، ويصبحون قدواتٍ لها أثرها الإيجابي عند الناس. هؤلاءِ هم العظماء الذين تقدّمت بهم أوطانهم، وارتقت بهم مجتمعاتهم، وسادت بهم أُممهم، تمثّل صنّاع الأثرِ بقول أحمد شوقي:

خُذ لك زادينِ مِن سيرةٍ

 ومِن عملٍ صالِحٍ يُدّخر

وكُن في الطريقِ عفيف الخُطا

شريف السماعِ كريم النظر

وكُن رجُلًا إِن أتوا بعدهُ

 يقولون مرّ وهذا الأثر

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

أهم حدث في الساحة حاليا هو العدوان الذي يتعرض له السودان من تحالف دولي يدمر في بنيته التحتية

يوجينكس الهوس العرقي من صحابي بملامح زنجية يقتلني بالملل:
أخبرنا الشيخ نعوم تشومسكي مرارا وتكرارا إن استراتيجية الإلهاء هاي أحد أهم أدوات السيطرة . تعمل الإستراتيجية عبر تحويل انتباه الجمهور عن القضايا المهمة وافعال النخب السياسية والاقتصادية عن طريق تشتيت الكورة بإغراق الساحة المستمر بالتفاهة والمعلومات غير المهمة.

في هذا الصدد نذكر أن أهم حدث في الساحة حاليا هو العدوان الذي يتعرض له السودان من تحالف دولي يدمر في بنيته التحتية ويقوض من أسس دولته. وتتحالف شرائح من الطبقة السياسية مع هذا العدوان وتوفر له المبررات والغطاء السياسي والإعلامي في الداخل والخارج.

ويتم إلهاء الشعب السوداني وصرف أنظاره عن قضيته المركزية إلي أشياء في قمة التفاهة مثل النقاء الجيني لشاب لا في عير ولا في نفير. ماذا يهم الشعب السوداني لو كان الفتي عباسيا أو هوسا أو شايقي أو أم بررو؟ لا شيء، هذه قضية تخص صاحبها ولا تهمنا في شيء. ومن أعتقد عن حق أو عن باطل أنه من عترة النبي الكريم، فله ذلك، ألف مبروك عليه، بخيت وسعيد، وإنشاء الله يخش الجنة لوج ويقفل الباب وراهو. جيناتك قضية تقتلني بالملل أيها الصحابي بملامح زنجية.

وتكنيك الإغراق لا ينحصر علي يوجينيكس نازية الهوس العرقي إذ أن الفضاء الإعلامي يمتلئ بكل أنواع الهراء الذي ما أنزل الله به من سلطان كما تشهد بذلك أزقة الكلبهاوس وتسجيلات وتسب وحتي قنوات الإعلام الأكثر رصانة.
بحث: ما هي أهم عمليات وتقنيات الإلهاء حاليا في الساحة السودانية؟
معتصم اقرع معتصم اقرع

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • حول البلطجة التي تعرض لها ابراهيم نقد الله في القاهرة! 
  • خطبتا الجمعة بالحرمين: الدعاء من أهم أسباب التوفيق والنجاح.. وأعظم ما يُدني العبد من ربه ويُقرِّبه إليه أداؤه فرائضه
  • أهم حدث في الساحة حاليا هو العدوان الذي يتعرض له السودان من تحالف دولي يدمر في بنيته التحتية
  • أذكار الصباح اليوم الخميس 15 مايو 2025.. «بسم الله الذي لا يضرُّ مع اسمه شيء»
  • صناعة النواب: افتتاح مصنع صينى بالمنطقة الاقتصادية خطوة لتعميق المنتج المحلي
  • ما الذي قد تفعله إيران بـسلاح حزب الله؟ تقريرٌ يكشف
  • البيت الأبيض : ولادة الشرق الأوسط الحديث جاءت على يد شعوب المنطقة أنفسهم.. فيديو
  • «من الرؤية إلى الأثر».. أفكار مُلهمة تشكل مستقبل القطاع الثقافي
  • الأوقاف: الزلازل من جنود الله وآياته التي تقرع بها القلوب
  • وزير الخارجية أسعد الشيباني: نشارك هذا الإنجاز شعبنا السوري الذي ضحّى لأجل إعادة سوريا إلى مكانتها التي تستحق، والآن بدأ العمل نحو سوريا العظيمة، والحمد لله رب العالمين. (تغريدة عبر X)