سودانايل:
2025-05-27@23:04:08 GMT

تقدم بقيادة حمدوك هل ستوسّع أفق الرجاء؟

تاريخ النشر: 1st, December 2023 GMT

توسيع أفق الرجاء من العبارات الخالدة التي قالها توكفيل في إعجابه بكيفية ترسيخ الولايات المتحدة الأمريكية لقيم الجمهورية عندما فصلت الدين عن الدولة و هي من ثمارات فلسفة جون لوك الأب الشرعي للفكر الليبرالي بشقيه السياسي و الاقتصادي. كان جون لوك يؤكد دوما بأنك لا تستطيع أن تتحدث عن التسامح و أنت تنطلق من منطلق خطاب ديني و كان يمقت الإلحاد كما يمقت عدم فصل دين عن الدولة.


عندما زار توكفيل الولايات المتحدة في عام 1831 ذهل بالديمقراطية الامريكية و كيف أنها كانت متقدمة على القارة الأوروبية العجوز و خاصة في فرنسا حيث ما زالت الكاثوليكية و الكاثوليك يظنون بأنهم يستطيعون تحقيق التحول الديمقراطي بفكرهم الديني مثلما يعتقد الصادق المهدي و أتباعه اليوم في السودان بأنهم و فكر المهدية يمكنهم تحقيق تحول ديمقراطي و هيهات.
و هنا لا يفوتني أن ننبه الذين يتحدثون عن تسامح الامام الصادق المهدي كرجل دين أي أقرب لرجل الدين من السياسي و نقول لهم أن الامام الصادق المهدي لم يكن متسامح على الإطلاق إلا إذا حكمتم عليه بقيم عقل الحيرة و الإستحالة الذي يجعل المثقف السوداني غارق في المحلي و مبجّل و مقدّس للعابر و المؤقت من الفكر الذي طرحه الامام الصادق المهدي.
الصادق المهدي رجل دين بايمان تقليدي بلا غش و الدليل أنه فشل فشلا زريع في نقل المجتمع السوداني الى حيز التقدم و الإزدهار و هو على الساحة السودانية خلال ستة عقود لم يستطع أن يطوّر فكره ليجسر ما بيننا و المجتمعات الحية بل كان يظن بأن الأغلبية المسلمة في السودان تستطيع أن تعطي الأقليات المتساكنة معها حقها و هذا كلام بعده لا يحتاج الصادق المهدي لمحاكمة توضح لنا أنه رجل دين بايمان تقليدي حتى وفاته و لا يمكنك أن ترجى منه راجية إلا كنت أحمق.
هذا الحكم على الصادق المهدي بالطبع يكون صحيح إذا قارنا حديث الصادق المهدي بفلسفة جون لوك و كذلك بأفكار حقول رؤية توكفيل و هما يتحدثان عن الديمقراطية بأنها تعنى المساواة و العدالة و ليست أقلية مساكنة و علينا أن نعطيها حقوق كعطية مزين.
توكفيل في إعجابه بمعادلة الحرية و العدالة يقول لا يمكنك أن تتحدث عن الحرية في ظل غياب العدالة و النظم الليبرالية تسير بمعادلة الحرية و العدالة و تسهر على المحافظة على ميزانها حتى لا يميل لأنه متى ما غابت العدالة تضعضعت الحرية و عندما نقول الحرية في النظم الديمقراطية نعني إبعاد الدين كمنظم للشأن العام بل حصره فقط فيما يتعلق بالفرد و شأنه في علاقته مع ربه بلا وسيط أو تاجر دين و هذا لا يرضي الصادق المهدي على الإطلاق و هو حبيس ايمانه التقليدي.
نجد في فكر توكفيل و فصل الدين عن الدولة و كذلك تجريد الدين و الفكر الديني من أي قوة سياسية أو اقتصادية هو توسيع أفق الرجاء و كل خطوات الصادق المهدي و مناشطه الفكرية كانت تضييق لأفق الرجاء برفضه دوما فكرة فصل الدين عن الدولة.
قلنا أن الامام الصادق المهدي كان رجل دين بايمان تقليدي و المضحك لأنه محاط بنخب سودانية تقليدية سواء كانت من أتباعه أو من بقية النخب السودانية المخدوعة بالفكر الديني لتوضيح الفكرة أقراء مقالات المتحدثين عنه من غير أتباعه إلا أنهم في مواكب ليلة المولد يا سر الليالي أنظر لمقال عبد الله علي ابراهيم بعنوان إلا كلام الصادق المهدي الما عرفتوهو في سودانايل أو مقال زهير عثمان حمد بعنوان الامام الصادق المهدي الراحل الحاضر في المخيّلة و زهير و عبد الله جيلين مختلفيين إلا أنهما تتلبسهما روح النخب السودانية العاجزة عن التفكير خارج حقول وحل الفكر الديني و المتوهمة بأن التحول الديمقراطي يمكن أن يتحقق عبر أتباع المرشد و الامام و الختم.
و أظنهما ممن ترهبهما كلمات الصادق المهدي عن من يقدمون التفكير النقدي و يصفون ايمان الصادق المهدي بالايمان التقليدي كايمان الترابي الذي وصفه محمد أركون بأن كتبه و ايمانه أي كتب الترابي كتب تقليدية و ايمانه تقليدي و لكن الصادق المهدي ما أعجل لسانه بالرد على من ينتقد ايمانه التقليدي فهو عند الصادق المهدي دهري. و هذا ما يرعب و يرهب النخب السودانية حتى لمن هو خارج دائرة الامام و الختم و المرشد.
لهذا لا تستغرب أن تجد طرح الشفيع خضر في المساومة التاريخية بين يسار سوداني رث و يمين سوداني غارق في وحل الفكر الديني أو علمانية محمد ابراهيم نقد المحابية للأديان أو مؤالفة النور حمد بين العلمانية و الدين أو مهادنة الحاج وراق للنسخة الشيوعية و الطائفية و في نفس الوقت تجد الحاج وراق و كمال الجزولي و جامعة الأحفاد في محفل تخليد فكر الصادق المهدي الأقرب لرجل الدين من السياسي و بعد هذا كله يتحدثون عن التحول الديمقراطي و يخرجون ألسنتهم لكي يغيظوا جون لوك و توكفيل لأن فكرهما يفصل الدين عن الدولة بل يحدد بأن الديمقراطي قد أصبحت بديلا للفكر الديني.
و لا يمكن أن تكون هناك ديمقراطي في ظل فكر ديني متسلح بقوة سياسية و اقتصادية و قد رأينا فشل الكيزان طيلة ثلاثة عقود و حزبهم متسلح بالقوة السياسية و الاقتصادية و النتيجة فشل على كل الأصعدة و فشلوا لأنهم لم يوسعوا أفق الرجاء بفصل الدين عن الدولة و تجريد الفكر الديني من أي قوة سياسية أو قوة اقتصادية.
و فشل الكيزان هو فشل الصادق المهدي نفسه لو كان هو صاحب إنقلابهم على الديمقراطية لأن الصادق لا يختلف عن الترابي في ايمانه التقليدي و لأن الصادق المهدي حزبه الديني أيضا متسلح بقوة سياسية و قوة اقتصادية و لا يمكن أن يجلب ديمقراطية على الإطلاق.
و من هنا ننبه حمدوك بأن يركّز على طرح فكر من وحي الشعب السوداني مصدر السلطة و صانع ثورة ديسمبر و شعارها حرية سلام و عدالة و هذا الشعار لا يمكن إنزاله ما دام هناك أحزاب للمرشد و الامام و الختم و هنا يكون حمدوك أمام تحدي كبير اما أن يكون وضينة ساكت و يأتي بأتباع المرشد و الامام و الختم في حكومة فاشلة أو أن يكون مؤسس و هذا يتطلب منه تقديم فكر غير موجود في ساحتنا السودانية و أقصد فكر يفصل الدين عن الدولة و هذا يضعك في صراع مع المفكريين التقليديين في السودان.
نقول لحمدوك مهمتك صعبة جدا اما أن تكون رجل مرحلة و تلحق الشعب السودانية بمسيرة الانسانية التاريخية أو تكون مثل نخب السودان الفاشلة التي ما زالت تظن أن تحقيق التحول الديمقراطي يمكن أن يكون عبر الفكر الديني التقليدي و وحله. صعوبة مهمة حمدوك يجسدها جهل النخب السودانية التقليدية و ظنها في وحل الفكر الديني الذي يمكنه أن يحقق سلام في مجتمع و هذا جهل بلا حدود في زمن مجتمعات ما بعد الثورة الصناعية.
يجهل المفكر السوداني التقليدي أن هناك فكر في عالم مستقر و مزدهر ماديا خارج وحل الفكر الديني و الدليل أنظر الى الكيزان حتى اللحظة يظنون أنهم سيعودون للحكم بفكرهم الديني و بنفس جهل الكيزان ينشط أتباع الطائفية في حمى محاكات الغريم و أنهم هم بديل الكيزان أشخاص و خطاب ديني تقليدي و ايمان تقليدي في زمن زوال سحر العالم كما يقول ماكس فيبر.
هذا ما نريد أن ننبه له حمدوك أي أن النخب السودانية التقليدية لم يدركوا بعد أن مفهوم الدولة الحديثة لا يمكن إنزاله على أرض الواقع بغير توسيع أفق الرجاء. و أفق الرجاء هو تجريد الفكر الديني من أي قوة سياسية و بالتالي نعلن نهاية فكر مفكري لاهوت مسيحية ما قبل الإصلاح في السودان و فكرهم الذي لا يقبل أي فكر ما لم يجاور و يساكن و يصادق و لا يتجاوز فكر الإحياء الديني الذي كان تاج الامام الصادق المهدي كمفكر تقليدي بايمان تقليدي.
نقول لحمدوك إنتبه يا حمدوك أنت الآن تتقدم لمرحلة جديدة في السودان لا تقل حساسيتها عن حساسية أيام مؤتمر الخريجيين 1938 حيث كان في زمنهم المتمثل في مفصل زماني و هو نهاية فلسفة التاريخ التقليدية و بداية فلسفة التاريخ الحديثة و لكن بسبب ضعف تعليمهم لم ينتبهوا لذلك و عندما إنهار مؤتمر الخريجيين تسابقوا لأحضان الطائفية نطلب منك ألا تكرر صنيعهم و تأتينا بحكومة من أتباع الطائفية.
فشلوا أيضا بعد الإستقلال و أضاعوا ما تركه الإنجليز لفكرة الدولة كمفهموم حديث كغنيمة حرب أي فكرة الدولة كغنيمة رغم أن تاركها المستعمر فشلوا في المحافظة عليها فلا تكرر يا حمدوك فشل جيل ما بعد الإستقلال. فشلوا في ثورة إكتوبر 1964 و فشلوا في ثورة أبريل 1985 تعرف لماذا يا حمدوك؟ لأنهم يريدون تحقيق الديمقراطية بفكر ديني. فاذا كنت مثلهم يا حمدوك تظن أن أحزاب وحل الفكر الديني تأتي بتحول ديمقراطي فعلى الدنيا السلام.

taheromer86@yahoo.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الامام الصادق المهدی التحول الدیمقراطی النخب السودانیة فی السودان قوة سیاسیة یمکن أن جون لوک لا یمکن رجل دین

إقرأ أيضاً:

الطاهر بن عاشور.. تأصيل مقاصدي لقيمة الحرية والمساواة في الفكر الإسلامي (4)

في سياق سلسلة المقالات التي يكتبها الباحث المغربي في شؤون الفكر الإسلامي، محمد يتيم، خصيصاً لـ"عربي21"، والتي تسلط الضوء على مساهمات رموز وقادة الفكر الإسلامي المغاربة في تطوير وتجديد تجربة العمل الإسلامي الحركي في العالم العربي، يأتي هذا الجزء الرابع ليكمل ما بدأه في الحلقات السابقة.

فبعد أن تناول في الجزء الثالث معالم التجديد السياسي والفكري لدى الشيخ راشد الغنوشي، يتوقف يتيم في هذه الحلقة عند أحد كبار أعلام الفكر الإصلاحي المغاربي، العالم التونسي الشيخ محمد الطاهر بن عاشور (1879–1973)، صاحب مشروع فكري عميق ومؤسس لرؤية مقاصدية تحررية في تفسير الشريعة.

ويكشف محمد يتيم في هذا المقال عن جملة من المبادئ والنظريات التي أصّل لها الشيخ ابن عاشور، وخصوصاً في باب الحرية والمساواة، حيث يعتبر أن الإسلام في جوهره "ينزع نحو الحرية"، وأن الحرية مقصدٌ أصيل من مقاصد الشريعة، لا يمكن فصله عن أصل المساواة وفطرة الإنسان.

كما يستعرض المقال كيف وظّف ابن عاشور أدواته الفقهية والأصولية والتفسيرية لبناء تصور متماسك يؤسس للعدالة، والمواطنة، وحقوق الإنسان، في إطار المرجعية الإسلامية، مبيناً أن التشريع الإسلامي لا يُفرّق في أصل الخلق والفطرة بين البشر، وأن القيود على الحرية ليست أصيلة بل طارئة ومشروطة بمقاصد معتبرة شرعاً.

يقدم هذا النص إسهاماً نوعياً في فهم البعد التحرري في فكر الطاهر بن عاشور، من خلال قراءة مغربية حركية ترى في هذا التراث الفقهي المقاصدي أرضية للتجديد الإسلامي المعاصر، وتثبيتاً لجسور التلاقي بين مدارس الإصلاح في المغرب الكبير.

الإسلام ينزع نحو الحرية

من العلماء المغارب الذين أصلوا لفكرة الحرية نجد العلامة التونسي الشيخ الطاهربن عاشور رحمه الله (1).. وكان مما قرره عدد من المبادئ التي تؤكد ما سماه بـ "نزوع الإسلام نحو الحرية"، حيث يقرر عددا من المعطيات منها:

ـ أن الحرية من الفطرة، وإن دليل ذلك تمكين رب العالمين للخلق من مخالفة أوامره. إنه إذا كانت أوامر الله تبارك وتعالى، وهي واجبة الطاعة قطعاً، تجد من لا يطيعها معانداً غير مخطئ، فلا شك في حرية الإنسان، وحرية الإرادة الإنسانية .

ـ حرية تترتب عنها عدالة المسؤولية وعدالة الجزاء؛ لأنه كما يقول رجال القانون ورجال السياسة: لا حرية بغير مسؤولية، ومقتضى المسئولية إثابة المصيب ومعاقبة المخطئ؛ وهي فكرة معروفة في القانون باسم فكرة الجزاء، فبمقتضى العدالة الربانية التي أنشأت خلقاً قادراً على السمع والطاعة، أو السمع والمعصية، كانت المسئولية، وكان تحمل التبعة أو كان الجزاء.

الحرية وصف فطري نشأ عليه البشر، وبه تصرفوا في أول وجودهم على الأرض حتى حدثت بينهم المزاحمة فحدث التحجير، أي كثر الناس فقلت عليهم الموارد، أو كثر الجشع والطمع، فأراد أصحاب النفوس الضعيفة أن يستحوذوا على الثروة ويحرموا منها الآخرين، فحدثت المزاحمة فحدث التحجير.ـ أن الحق سبحانه حين أمر آدم وزوجه أن يهبطا إلى الأرض بعد أن حدث منهما في الجنة ما حدث، قال ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى.. وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى" وذلك جزاء على عمل مسئول قام به هذا الإنسان مخالفاً إرادة رب العالمين أو قانون رب العالمين، أمراً كان أو نهياً.

ـ أن الحرية وصف فطري نشأ عليه البشر، وبه تصرفوا في أول وجودهم على الأرض حتى حدثت بينهم المزاحمة فحدث التحجير، أي كثر الناس فقلت عليهم الموارد، أو كثر الجشع والطمع، فأراد أصحاب النفوس الضعيفة أن يستحوذوا على الثروة ويحرموا منها الآخرين، فحدثت المزاحمة فحدث التحجير.

ـ الأصل في الحرية أنها فطرية مطلقة، والاستثناء -الذي أحدثناه نحن بأنواع الفساد التي ابتكرناها عندما تكاثرنا في الأرض - هو أن تقيد هذه الحرية وتوضع عليها الصعاب والعقبات التي تمنع من الاستئثار بالثروات والاستئثار بالخيرات.

ـ يعتبر الشيخ محمد الطاهر بن عاشور  الحرية ، خاطر غريزي في النفوس البشرية، فيها نماء القوى الإنسانية من تفكير وقول وعمل، وبها تنطلق المواهب العقلية متسابقة في ميادين الابتكار والتدقيق حيث لا يستطيع الإنسان أن يكفر إلا وهو حر.

ـ لا يحق تقييد الحرية  إلا بقيد  يُدفع به عن صاحبها ضرر ثابت محقق أو يجلب به نفع ، حيث لا يقبل  رضى المضرور أو المنتفع بإلغاء فائدة دفع الضرر وجلب النفع.

ـ إذا وجدنا رجلاً يريد أن يُلقي بنفسه في النهر، بقول الشيخ الطاهر بن عاشور ،وهو عالي المياه، مضطرب الأمواج، فإن حريته في قتل نفسه ليست مكفولة له بل هي ممنوعة مقيدة، وإذا رأينا رجلاً ينتحر بقطع شرايين يده، حريته في قطع هذه الشرايين ليست ممنوحة له بل هي حرية مقيدة.

ـ إذا رأينا رجلاً يريد أن يستولي على المال العام في غفلة أو تحت سمع الناس وبصرهم، حريته في الاستيلاء على المال ليست مكفولة له.

ـ يجوز أن تقيد الحرية بقيد يجلب نفعاً، فقد رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما دخل على سعد بن أبي وقاص فسأله سعد – وهو مريض يعوده في مرضه – قال: يا رسول الله، إن لي مالاً، ولا ترثني إلا ابنة لي، أفأتصدق6 بكل مالي؟ قال: لا. قال: فبنصف مالي؟ قال: لا. قال: فبثلث مالي؟ قال: الثلث والثلث كثير، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس.

فهذه يقول الشيخ هي حرية التصرف في المال، فهو حر يفعل في ماله ما يشاء، لكن هناك حقوق ستأتي لم تستحق بعد، فليس للورثة حق في مال المورث وهو على قيد الحياة، وليس لهم فيه حق يفعل به ما يشاء،.

 وعقب ابن عاشور على ذلك بقوله: لا يُقبل في الشرع رضاء المضرور أو رضاء المنتفع بإلغاء الضرر أو إلغاء النفع.

ـ تلازم قيمة الحرية مع قيمة المساواة : فالحرية حسب الشيخ الطاهر بن عاشور  فرع مترتب على مبدأ المساواة، حيث يترتب على تقرير المساواة أن يكون هؤلاء المتساوون أحراراً، ولا يجوز أن يكون بعضهم أكثر حرية من بعض ولا أن يكون بعضهم أقل حرية من بعض(2).

ـ إن عموم الشريعة يقتضى المساواة، والمساواة تقتضي الحرية. فكل المقيمين في أرض الإسلام، أو في ظل الحكومة الإسلامية، يُحكمون بقانون واحد، هو عموم الشريعة، وإذا كانوا يُحكمون بقانون واحد، فهم متساوون في أداء الواجبات والحصول على الحقوق، وإذا تساووا وجب أن تُكفل لهم الحرية حتى يستطيعوا أن يحصلوا المنافع ويدفعوا المضار. وينطبق هذا على  غير المؤمنين بحكم المشاركة في الدار، فما دمنا متشاركين في الدار فنحن متساوون في الحقوق والواجبات، وهذا يجعل الجميع سواء في الحقوق ويؤكد وبناءً على هذا الأصل الأصيل، وهو أن الإسلام دين الفطرة،   فالتشريع يفرض  التساوي بينهم ، والفطرة هي فطرة الله التي فطر الناس عليها ، الفطرة هي أصل خلق الله الذي خلق عليه الكون والمخلوقات كلهم، إنسان وغير إنسان، فهذه الفطرة اقتضت المساواة في أشياء، واقتضت عدم المساواة في أشياء. كل ما ساوت فيه الفطرة بين الناس فهم فيه سواء، وكل ما فرقت فيه الفطرة بين الناس فهم ليسوا فيه سواء، ولا يُخل هذا بأصل المبدأ؛ لأن المساواة بين من  تتساوى أحوالهم (هذا عند الشرعيين. (3)

أما عند القانونيين فإن المساواة حالة يجب توفيرها لمن تساوت مراكزهم القانونية، فمن كان في مركز قانوني واحد؛ مثل طلاب الجامعة فكلهم متساوون، ولكن طلاب السنة الرابعة لا يتساوون مع طلاب السنة الأولى؛ لأنهم يدرسون  مواد مختلفة، وطلاب كلية الحقوق لا يتساوون مع طلاب كلية الهندسة؛ لأن كلية الهندسة خمس سنوات وكلية الحقوق أربع سنوات، إنما يتساوى طلاب الهندسة فيما بينهم، وطلاب الطب فيما بينهم، وطلاب الحقوق فيما بينهم لتساوي مراكزهم القانونية، وتختلف كل مجموعة من هؤلاء مع المجموعات الأخرى لاختلاف المراكز القانونية.

فهذا هو الذي يقرره الطاهر بن عاشور بقوله: إن كل ما شهدت الفطرة يتفاوت البشرية فيه فالتشريع بمعزل عن فرض أحكام متساوية فيه؛ لأن المساواة في الشريعة ناظرة إلى أصل خلقة الله سبحانه وتعالى للإنسان.

لا يحق تقييد الحرية إلا بقيد يُدفع به عن صاحبها ضرر ثابت محقق أو يجلب به نفع ، حيث لا يقبل رضى المضرور أو المنتفع بإلغاء فائدة دفع الضرر وجلب النفع.ويقرر تأكيد ذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور كلكم لآدم وآد من تراب، وقد قال هنا: كلكم ولم يقل: المسلمين، لم يقل: المؤمنين، لم يقل: أهل الجزيرة، لم يقل: أهل المدينة، بل قال: كلكم، كل البشر؛ لأن أول الحديث: لا فضل لعربي على أعجمي، ولا أعجمي على عربي، ولا أبيض على أسود حتى قال: كلكم لآدم وآدم من تراب.

وقد قال: إن هناك أحكاماً مع ذلك لا يتساوى فيها المسلم مع غير المسلم، كالميراث بين المسلم وغير المسلم من أقرباء وهنا  تحضر قاعدة تساوي المراكز القانونية، فالمركز القانوني لغير المسلمينه واحد،.  والمركز القانوني للمسلمين واحد، لا نستطيع أن نحمل صاحب المركز القانوني غير الإسلامي على منافع ومصالح صاحب المركز القانوني الإسلامي، والعكس بالعكس؛ لأن المراكز القانونية مختلفة  والمثال:  الميراث والقصاص وقبول الشهادة على اختلاف بين العلماء.

وترجع هذه الأمور كلها ـ التي بها خلاف في المساواة ـ حسب الشيخ بن عاشور كلها إلى نظر الفقيه في التقنين.   وهذه الفكرة مرجعها إلى فكرة الحرية نفسها، فالفقيه حر بحسب عقله الذي تكون على مر السنين أن ينظر في مصادر التشريع وموارده ويقرر أن الحكم الذي اقتنع به هو (أ)، وفقيه ثان يقول (ب)، وفقيه ثالث يقول (ج)، هذا كله على قدر المساواة بين الفقهاء. ويضيف الشيخ بن عاشور: جميع هذه الفروع الذي تتقرر فيها أحكام تنافي مبدأ المساواة لأسباب يقررها الفقهاء ترجع إلى نظر الفقيه في الفروع. أي لا يرجعها إلى أصل من أصول الإسلامي يقرر عدم المساواة، إنما هو أصل من أصولالفطرة التي تقرر المساواة بين المتماثلين، والتفرقة بين غير المتماثلين، وهذا ما توصلنا إليه في العلوم القانونية والسياسية في القرن العشرين ونسير عليه حتى الآن.

ويقرر أيضا: "أما معرفة عدم مساواة غير المسلم للمسلم في بعض الأحكام في المعاملات كلها فقول النبي صلى الله عليه وسلم: لهم ما لنا وعليهم ما علينا. (..)، ولكن له أصل ثابت: سُنوا بالمجوس سنة أهل الكتاب (4) ومنه استنبط العلماء هذه القاعدة لهم ما لنا وعليهم ما علينا، ولسيدنا علي رضي الله عنه له قول في هذا المعنى حيث يقول: "من كانت له ذمتنا، فدمه كدمنا، وديته كديتنا" ومن هذا الكلام الذي قاله سيدنا علي رضي الله عنه ومن حديث: سُنوا بالمجوس سنة أهل الكتاب أخذ العلماء قاعدة "لهم ما لنا وعليهم ما علينا."

المساواة بين المسلم وغير المسلم

يذهب ابن عاشور للقول بأن هذه المساواة بين المسلم وغير المسلم حاصلة من العلم بأصل المساواة بين الخاضعين لحكومة واحدة "وهنا بدأ الحديث عن السياسة بعد أن كنا نتحدث عن الفقه والأصول وأصل الخلقة وأصل الفطرة.

ويضيف قائلا: "إن المساواة لا تلاحظ، ولا يمكن إدراكها، ولا يتوقف العمل بها إلا على وجود حكومة واحدة في المجتمع، لأنه إذا تعددت الحكومات فسوف تتصارع وتحدث فتنة، أو تكون هناك فئة باغية وفئة مبغيِّ عليها، لكن إذا وجدت حكومة يصلح بها المجتمع، هي التي تستطيع أن تقرر قاعدة يحكم بمقتضى المساواة، حينما تأتي قضية أمام العميد يحكم بمقتضى المساواة، حينما تأتي قضية في اتحاد الطلبة يحكم المشرف على اتحاد الطلبة بمقتضى المساواة، فالإسلام قرر القاعدة ونفذها، نفذها عن طريق الحكام أو القضاة على مر التاريخ الإسلامي.

يقرر ابن عاشورأيضا ما يلي: "إذا ثبت أن الأصل في الخلقة هو المساواة، فإنه يترتب عن ذلك أن تكون المساواة مقصداً من مقاصد الشريعة الكلية الثابتة، وإذا كان المتساوون أحراراً، فالحرية مقصد كالمساواة". (5)

لقد رتب  الشبخ الطاهر بن عاشور على أصل المساواة أصل الحرية،  إن الحرية عنده  مبدأ متفرع عن مبدأ المساواة، فتقرير الشريعة المساواة يترتب عليه تقرير المساواة أن يكون الناس المتساوون أحراراً، ولا يجوز أن يكون في الخلقة، أو أصل وجودنا من فطرة واحدة فطر الله الناس عليها، يترتب  عليه أصل الحرية الذي هو مقصد من مقاصد الشريعة الكبرى الكلية، بعضهم أكثر حرية من بعض ولا أن يكون بعضهم أقل حرية من بعض7. حيث إن كل واحد يستطيع أن يتصرف في نفسه مثلما يريد، لكن لا يقتلها، يتصرف في نفسه كما يريد، لكن لا يفضل الجهل على العلم، إذا كان بيده أن يتعلم، ويتصرف في نفسه كما يريد، ولكن لا يجلس عاطلاً لا يستطيع أن يقوت نفسه وعياله ومن يجب أن يقوتهم، هذا كله لا يجوز، وهذا كله ليس من طبيعة المساواة، من طبيعة المساواة ومن طبيعة الحرية.

الحرية مقصد كالمساواة، مستشهدا بما قرره الإمام أبو حنيفة من أن لا حجر على أحد، باستثناء ثلاثة أشخاص لأسباب متعلقة بغيرهم لا بهم، وسفيه المال الذي قرر كل الناس أن تحجر عليه وكل القوانين أن تحجر عليه، يقول أبو حنيفة: لا نحجر عليه.ويرى ابن عاشور أن الحرية في اللسان العربي جاءت بمعنيين، أولهما ضد العبودية أي ضد الرق. وأقول: إن هذا المعنى أصبح والحمد لله تاريخياً، لم يعد في أي بلد من بلاد المسلمين إلا بلد واحدة مسكينة، بقية البلاد كلها خلت من الرق  والاسترقاق ومن أسواق الرقيق وكل ذلك.
الشارع متشوف للحرية

من القواعد الإسلامية التي قررها ابن عاشور في التعامل مع الرقيق، وهي قواعد كثيرة هناك "قاعدة: الشارع متشوف إلى الحرية"، فإذا ثبت أن الأصل في الخلقة هو المساواة، فإنه يترتب على ذلك حسي الطاهر بن عاشور "أن تكون المساواة مقصداً من مقاصد الشريعة الكلية الثابتة، وإذا كان المتساوون أحراراً، فالحرية مقصد كالمساواة، مستشهدا بما قرره الإمام أبو حنيفة من أن لا حجر على أحد، باستثناء ثلاثة أشخاص لأسباب متعلقة بغيرهم لا بهم، وسفيه المال الذي قرر كل الناس أن تحجر عليه وكل القوانين أن تحجر عليه، يقول أبو حنيفة: لا نحجر عليه.

يقول: لأن حريته في التصرف في ماله أعلى من حق غيره المحتمل، لأنه من  الممكن عندما يأتيه الموت ألا يكون عنده ورثة ويكونوا قد ماتوا قبله، فحريته وهو حي في التصرف في ماله أعلى من حق الغير المحتمل في المال الذي يُمنع من التصرف فيه. وأيضاً السفر، الإقامة، البقاء، الخروج، كل ذلك عند أبي حنيفة لا يجوز منع الناس منه، لكن عند الفقهاء الآخرين يوجد استثناءات.

المراجع

1 ـ محمد الطاهر بن عاشور هو أب محمد الفاضل بن عاشورهو أحد أبرز علماء الدين التونسيين في القرن 20)، ولقد ترك مكتبة غنية بالكتب والمراجع لا زالت موجودة إلى الآن ومتاحة لجميع الباحثين، وحفيده محمد العزيز بن عاشور  من أهم ما كتب : تفسير التحريروالتنوير.

2 ـ محمد الطاهر بن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية، ، ص 391. لناشر: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، قطر 2004 
3 ـ المرجع السابق، ص 163

4 ـ مقاصد الشريعة الإسلامية، ، ص 390

5 ـ محمد الطاهر بن عاشور، أصول النظام الاجتماعي في الإسلام، الدار التونسية للتوزيع، تونس، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، ط2، (د.ت) ص 162. وا

6 ـ محمد الطاهر بن عاشور، أصول النظام الاجتماعي في الإسلام، الدار التونسية للتوزيع، تونس.في سياق سلسلة المقالات التي يكتبها الباحث المغربي في شؤون الفكر الإسلامي، محمد يتيم، خصيصاً لـ"عربي21"، والتي تسلط الضوء على مساهمات رموز وقادة الفكر الإسلامي المغاربة في تطوير وتجديد تجربة العمل الإسلامي الحركي في العالم العربي، يأتي هذا الجزء الرابع ليكمل ما بدأه في الحلقات السابقة.

فبعد أن تناول في الجزء الثالث معالم التجديد السياسي والفكري لدى الشيخ راشد الغنوشي، يتوقف يتيم في هذه الحلقة عند أحد كبار أعلام الفكر الإصلاحي المغاربي، العالم التونسي الشيخ محمد الطاهر بن عاشور (1879–1973)، صاحب مشروع فكري عميق ومؤسس لرؤية مقاصدية تحررية في تفسير الشريعة.

ويكشف محمد يتيم في هذا المقال عن جملة من المبادئ والنظريات التي أصّل لها الشيخ ابن عاشور، وخصوصاً في باب الحرية والمساواة، حيث يعتبر أن الإسلام في جوهره "ينزع نحو الحرية"، وأن الحرية مقصدٌ أصيل من مقاصد الشريعة، لا يمكن فصله عن أصل المساواة وفطرة الإنسان.

كما يستعرض المقال كيف وظّف ابن عاشور أدواته الفقهية والأصولية والتفسيرية لبناء تصور متماسك يؤسس للعدالة، والمواطنة، وحقوق الإنسان، في إطار المرجعية الإسلامية، مبيناً أن التشريع الإسلامي لا يُفرّق في أصل الخلق والفطرة بين البشر، وأن القيود على الحرية ليست أصيلة بل طارئة ومشروطة بمقاصد معتبرة شرعاً.

يقدم هذا النص إسهاماً نوعياً في فهم البعد التحرري في فكر الطاهر بن عاشور، من خلال قراءة مغربية حركية ترى في هذا التراث الفقهي المقاصدي أرضية للتجديد الإسلامي المعاصر، وتثبيتاً لجسور التلاقي بين مدارس الإصلاح في المغرب الكبير.

الإسلام ينزع نحو الحرية

من العلماء المغارب الذي أصلوا لفكرة الحرية نجد العلامة التونسي الشيخ الطاهربن عاشور رحمه الله (1).. وكان مما قرره عدد من المبادئ التي تؤكد ما سماه بـ "نزوع الإسلام نحو الحرية"، حيث يقرر عددا من المعطيات منها:

ـ أن الحرية من الفطرة، وإن دليل ذلك تمكين رب العالمين للخلق من مخالفة أوامره. ,انه إذا كانت أوامر الله تبارك وتعالى، وهي واجبة الطاعة قطعاً، تجد من لا يطيعها معانداً غير مخطئ، فلا شك في حرية الإنسان، وحرية الإرادة الإنسانية.

ـ حرية تترتب عنها عدالة المسؤولية وعدالة الجزاء؛ لأنه كما يقول رجال القانون ورجال السياسة: لا حرية بغير مسؤولية، ومقتضى المسئولية إثابة المصيب ومعاقبة المخطئ؛ وهي فكرة معروفة في القانون باسم فكرة الجزاء، فبمقتضى العدالة الربانية التي أنشأت خلقاً قادراً على السمع والطاعة، أو السمع والمعصية، كانت المسئولية، وكان تحمل التبعة أو كان الجزاء.

ـ أن الحق سبحانه حين أمر آدم وزوجه أن يهبطا إلى الأرض بعد أن حدث منهما في الجنة ما حدث ، قال ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى.. وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى" وذلك جزاء على عمل مسئول قام به هذا الإنسان مخالفاً إرادة رب العالمين أو قانون رب العالمين، أمراً كان أو نهياً.

ـ أن الحرية وصف فطري نشأ عليه البشر، وبه تصرفوا في أول وجودهم على الأرض حتى حدثت بينهم المزاحمة فحدث التحجير، أي كثر الناس فقلت عليهم الموارد، أو كثر الجشع والطمع، فأراد أصحاب النفوس الضعيفة أن يستحوذوا على الثروة ويحرموا منها الآخرين، فحدثت المزاحمة فحدث التحجير.
ـ الأصل في الحرية أنها فطرية مطلقة، والاستثناء -الذي أحدثناه نحن بأنواع الفساد التي ابتكرناها عندما تكاثرنا في الأرض - هو أن تقيد هذه الحرية وتوضع عليها الصعاب والعقبات التي تمنع من الاستئثار بالثروات والاستئثار بالخيرات.

ـ يعتبر الشيخ محمد الطاهر بن عاشور  الحرية ، خاطر غريزي في النفوس البشرية، فيها نماء القوى الإنسانية من تفكير وقول وعمل، وبها تنطلق المواهب العقلية متسابقة في ميادين الابتكار والتدقيق حيث لا يستطيع الإنسان أن يكفر إلا وهو حر.

ـ لا يحق تقييد الحرية  إلا بقيد  يُدفع به عن صاحبها ضر ثابت محقق أو يجلب به نفع  ، حيث لا يقبل  رضى المضرور أو المنتفع بإلغاء فائدة دفع الضرر وجلب النفع.

- إذا وجدنا رجلاً يريد أن يُلقي بنفسه في النهر، بقول الشيخ الطاهر بن عاشور ،وهو عالي المياه، مضطرب الأمواج، فإن حريته في قتل نفسه ليست مكفولة له بل هي ممنوعة مقيدة، وإذا رأينا رجلاً ينتحر بقطع شرايين يده، حريته في قطع هذه الشرايين ليست ممنوحة له بل هي حرية مقيدة.

ـ إذا رأينا رجلاً يريد أن يستولي على المال العام في غفلة أو تحت سمع الناس وبصرهم، حريته في الاستيلاء على المال ليست مكفولة له،.

ـ يجوز أن تقيد الحرية بقيد يجلب نفعاً، فقد رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما دخل على سعد بن أبي وقاص فسأله سعد ـ وهو مريض يعوده في مرضه – قال: يا رسول الله، إن لي مالاً، ولا ترثني إلا ابنة لي، أفأتصدق6 بكل مالي؟ قال: لا. قال: فبنصف مالي؟ قال: لا. قال: فبثلث مالي؟ قال: الثلث والثلث كثير، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس.

فهذه يقول الشيخ هي حرية التصرف في المال، فهو حر يفعل في ماله ما يشاء، لكن هناك حقوق ستأتي لم تستحق بعد، فليس للورثة حق في مال المورث وهو على قيد الحياة، وليس لهم فيه حق يفعل به ما يشاء.

 وعقب ابن عاشور على ذلك بقوله: لا يُقبل في الشرع رضاء المضرور أو رضاء المنتفع بإلغاء الضرر أو إلغاء النفع.

ـ تلازم قيمة الحرية مع قيمة المساواة : فالحرية حسب الشيخ الطاهر بن عاشور  فرع مترتب على مبدأ المساواة، حيث يترتب على تقرير المساواة أن يكون هؤلاء المتساوون أحراراً، ولا يجوز أن يكون بعضهم أكثر حرية من بعض ولا أن يكون بعضهم أقل حرية من بعض(2)

ـ إن عموم الشريعة يقتضى المساواة، والمساواة تقتضي الحرية. فكل المقيمين في أرض الإسلام، أو في ظل الحكومة الإسلامية، يُحكمون بقانون واحد، هو عموم الشريعة، وإذا كانوا يُحكمون بقانون واحد، فهم متساوون في أداء الواجبات والحصول على الحقوق، وإذا تساووا وجب أن تُكفل لهم الحرية حتى يستطيعوا أن يحصلوا المنافع ويدفعوا المضار. وينطبق هذا على  غير المؤمنين بحكم المشاركة في الدار، فما دمنا متشاركين في الدار فنحن متساوون في الحقوق والواجبات، وهذا يجعل الجميع سواء في الحقوق ويؤكد وبناءً على هذا الأصل الأصيل، وهو أن الإسلام دين الفطرة،   فالتشريع يفرض  التساوي بينهم، والفطرة هي فطرة الله التي فطر الناس عليها ، الفطرة هي أصل خلق الله الذي خلق عليه الكون والمخلوقات كلهم، إنسان وغير إنسان، فهذه الفطرة اقتضت المساواة في أشياء، واقتضت عدم المساواة في أشياء. كل ما ساوت فيه الفطرة بين الناس فهم فيه سواء، وكل ما فرقت فيه الفطرة بين الناس فهم ليسوا فيه سواء، ولا يُخل هذا بأصل المبدأ؛ لأن المساواة بين من  تتساوى أحوالهم (هذا عند الشرعيين(.3)

 أما عند القانونيين فإن المساواة حالة يجب توفيرها لمن تساوت مراكزهم القانونية، فمن كان في مركز قانوني واحد؛ مثل طلاب الجامعة فكلهم متساوون، ولكن طلاب السنة الرابعة لا يتساوون مع طلاب السنة الأولى؛ لأنهم يدرسون مواد مختلفة، وطلاب كلية الحقوق لا يتساوون مع طلاب كلية الهندسة؛ لأن كلية الهندسة خمس سنوات وكلية الحقوق أربع سنوات، إنما يتساوى طلاب الهندسة
فيما بينهم، وطلاب الطب فيما بينهم، وطلاب الحقوق فيما بينهم لتساوي مراكزهم القانونية، وتختلف كل مجموعة من هؤلاء مع المجموعات الأخرى لاختلاف المراكز القانونية.

فهذا هو الذي يقرره الطاهر بن عاشور بقوله: إن كل ما شهدت الفطرة يتفاوت البشرية فيه فالتشريع بمعزل عن فرض أحكام متساوية فيه؛ لأن المساواة في الشريعة ناظرة إلى أصل خلقة الله سبحانه وتعالى للإنسان.

ويقرر تأكيد ذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور كلكم لآدم وآد من تراب، وقد قال هنا: كلكم ولم يقل: المسلمين، لم يقل: المؤمنين، لم يقل: أهل الجزيرة، لم يقل: أهل المدينة، بل قال: كلكم، كل البشر؛ لأن أول الحديث: لا فضل لعربي على أعجمي، ولا أعجمي على عربي، ولا أبيض على أسود حتى قال: كلكم لآدم وآدم من تراب.

وقد قال: إن هناك أحكاماً مع ذلك لا يتساوى فيها المسلم مع غير المسلم، كالميراث بين المسلم وغير المسلم من أقرباء وهنا  تحضر قاعدة تساوي المراكز القانونية، فالمركز القانوني لغير المسلمينه واحد،.  والمركز القانوني للمسلمين واحد، لا نستطيع أن نحمل صاحب المركز القانوني غير الإسلامي على منافع ومصالح صاحب المركز القانوني الإسلامي، والعكس بالعكس؛ لأن المراكز القانونية مختلفة  والمثال:  الميراث والقصاص وقبول الشهادة على اختلاف بين العلماء
وترجع هذه الأمور كلها ـ التي بها خلاف في المساواة ـ حسب الشيخ بن عاشور كلها إلى نظر الفقيه في التقنين.   وهذه الفكرة مرجعها إلى فكرة الحرية نفسها، فالفقيه حر بحسب عقله الذي تكون على مر السنين أن ينظر في مصادر التشريع وموارده ويقرر أن الحكم الذي اقتنع به هو (أ)، وفقيه ثان يقول (ب)، وفقيه ثالث يقول (ج)، هذا كله على قدر المساواة بين الفقهاء. ويضيف الشيخ بن عاشور: جميع هذه الفروع الذي تتقرر فيها أحكام تنافي مبدأ المساواة لأسباب يقررها الفقهاء ترجع إلى نظر الفقيه في الفروع. أي لا يرجعها إلى أصل من أصول الإسلامي يقرر عدم المساواة، إنما هو أصل من أصولالفطرة التي تقرر المساواة بين المتماثلين، والتفرقة بين غير المتماثلين، وهذا ما توصلنا إليه في العلوم القانونية والسياسية في القرن العشرين ونسير عليه حتى الآن.

ويقرر أيضا: "أما معرفة عدم مساواة غير المسلم للمسلم في بعض الأحكام في المعاملات كلها فقول النبي صلى الله عليه وسلم: لهم ما لنا وعليهم ما علينا. (..)، ولكن له أصل ثابت: سُنوا بالمجوس سنة أهل الكتاب (4) ومنه استنبط العلماء هذه القاعدة لهم ما لنا وعليهم ما علينا، ولسيدنا علي رضي الله عنه له قول في هذا المعنى حيث يقول: "من كانت له ذمتنا، فدمه كدمنا، وديته كديتنا" ومن هذا الكلام الذي قاله سيدنا علي رضي الله عنه ومن حديث: سُنوا بالمجوس سنة أهل الكتاب أخذ العلماء قاعدة "لهم ما لنا وعليهم ما علينا."

المساواة بين المسلم وغير المسلم

يذهب ابن عاشور للقول بأن هذه المساواة بين المسلم وغير المسلم حاصلة من العلم بأصل المساواة بين الخاضعين لحكومة واحدة "وهنا بدأ الحديث عن السياسة بعد أن كنا نتحدث عن الفقه والأصول وأصل الخلقة وأصل الفطرة.

ويضيف قائلا: "إن المساواة لا تلاحظ، ولا يمكن إدراكها، ولا يتوقف العمل بها إلا على وجود حكومة واحدة في المجتمع، لأنه إذا تعددت الحكومات فسوف تتصارع وتحدث فتنة، أو تكون هناك فئة باغية وفئة مبغيِّ عليها، لكن إذا وجدت حكومة يصلح بها المجتمع، هي التي تستطيع أن تقرر قاعدة يحكم بمقتضى المساواة، حينما تأتي قضية أمام العميد يحكم بمقتضى المساواة، حينما تأتي قضية في اتحاد الطلبة يحكم المشرف على اتحاد الطلبة بمقتضى المساواة، فالإسلام قرر القاعدة ونفذها، نفذها عن طريق الحكام أو القضاة على مر التاريخ الإسلامي.

يقرر  ابن عاشورأيضا ما يلي: "إذا ثبت أن الأصل في الخلقة هو المساواة، فإنهيترتب عن ذلك أن تكون المساواة مقصداً من مقاصد الشريعة الكلية الثابتة، وإذا كان المتساوون أحراراً، فالحرية مقصد كالمساواة".  (5)

لقد رتب الشبخ الطاهر بن عاشور على أصل المساواة أصل الحرية، إن الحرية عنده مبدأ متفرع عن مبدأ المساواة، فتقرير الشريعة المساواة يترتب عليه تقرير المساواة أن يكون الناس المتساوون أحراراً، ولا يجوز أن يكون في الخلقة، أو أصل وجودنا من فطرة واحدة فطر الله الناس عليها، يترتب عليه أصل الحرية الذي هو مقصد من مقاصد الشريعة الكبرى الكلية، بعضهم أكثر حرية من بعض ولا أن يكون بعضهم أقل حرية من بعض، حيث أن كل واحد يستطيع أن يتصرف في نفسه مثلما يريد، لكن لا يقتلها، يتصرف في نفسه كما يريد، لكن لا يفضل الجهل على العلم، إذا كان بيده أن يتعلم، ويتصرف في نفسه كما يريد، ولكن لا يجلس عاطلاً لا يستطيع أن يقوت نفسه وعياله ومن يجب أن يقوتهم، هذا كله لا يجوز، وهذا كله ليس من طبيعة المساواة، من طبيعة المساواة ومن طبيعة الحرية
ويرى ابن عاشور أن الحرية في اللسان العربي جاءت بمعنيين، أولهما ضد العبودية أي ضد الرق. وأقول: إن هذا المعنى أصبح والحمد لله تاريخياً، لم يعد في أي بلد من بلاد المسلمين إلا بلد واحدة مسكينة، بقية البلاد كلها خلت من الرق  والاسترقاق ومن أسواق الرقيق وكل ذلك                                                                             
الشارع متشوف للحرية

من القواعد الإسلامية التي قررها ابن عاشور في التعامل مع الرقيق، وهي قواعد كثيرة هناك " قاعدة: الشارع متشوف إلى الحرية"، فإذا ثبت أن الأصل في الخلقة هو المساواة، فإنه يترتب على ذلك حسي الطاهر بن عاشور "أن تكون المساواة مقصداً من مقاصد الشريعة الكلية الثابتة، وإذا كان المتساوون أحراراً، فالحرية مقصد كالمساواة، مستشهدا بما قرره الإمام أبو حنيفة من أن لا حجر على أحد، باستثناء ثلاثة أشخاص لأسباب متعلقة بغيرهم لا بهم، وسفيه المال الذي قرر كل الناس أن تحجر عليه وكل القوانين أن تحجر عليه، يقول أبو حنيفة: لا نحجر عليه.

يقول: لأن حريته في التصرف في ماله أعلى من حق غيره المحتمل، لأنه من  الممكن عندما يأتيه الموت ألا يكون عنده ورثة ويكونوا قد ماتوا قبله، فحريته وهو حي في التصرف في ماله أعلى من حق الغير المحتمل في المال الذي يُمنع من التصرف فيه.وأيضاً السفر، الإقامة، البقاء، الخروج، كل ذلك عند أبي حنيفة لا يجوز منع الناس منه، لكن عند الفقهاء الآخرين يوجد استثناءات.

المراجع

1 ـ محمد الطاهر بن عاشور هو أب محمد الفاضل بن عاشورهو أحد أبرز علماء الدين التونسيين في القرن 20)، ولقد ترك مكتبة غنية بالكتب والمراجع لا زالت موجودة إلى الآن ومتاحة لجميع الباحثين، وحفيده محمد العزيز بن عاشور  من أهم ما كتب : تفسير التحريروالتنوير.

2 ـ محمد الطاهر بن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية، ، ص 391. لناشر: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، قطر 2004  
3 ـ المرجع السابق، ص 163

4 ـ مقاصد الشريعة الإسلامية، ، ص 390

5 ـ محمد الطاهر بن عاشور، أصول النظام الاجتماعي في الإسلام، الدار التونسية للتوزيع، تونس، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، ط2، (د.ت) ص 162. وا

6 ـ محمد الطاهر بن عاشور، أصول النظام الاجتماعي في الإسلام، الدار التونسية للتوزيع، تونس.

مقالات مشابهة

  • فرقة أحمد بهاء الدين تقدم "تاتانيا" على مسرح قصر ثقافة أسيوط
  • الجبهة تنجز خطتها الإستراتيجية لتعزيز الخطاب الديني المعتدل ومواجهة التطرف
  • مودرن سبورت ينفي التفاوض أو ضم المهدي سليمان
  • الطاهر بن عاشور.. تأصيل مقاصدي لقيمة الحرية والمساواة في الفكر الإسلامي (4)
  • مذيع بالتناصح: «سماحة المفتي» لم يكن داعيا يوما للفوضى بل ناصحاً ببناء الدولة
  • ماذا بينك وبين الله؟.. قصة "الحاج" عامر المهدي تتصدر "الترند"
  • نساء سودانيات يناقشن معاناة اللاجئين في لقاء حمدوك بكمبالا
  • الصادق: بناء دولة حقيقية تمتلك حصرية السلاح بات قريبًا
  • يا أمريكا نحن شغلتنا جاطت من ناس حمدوك جاءو وقالوا دايرين يصلحوا علاقتنا معاكم
  • تقرير حقوقي: قطر تمارس التمييز الديني الممنهج ضد طائفة البهائيين