لجريدة عمان:
2025-05-09@21:25:58 GMT

منظور جديد للقرن الآسيوي

تاريخ النشر: 6th, December 2023 GMT

قبل قرابة مائة سنة، في عام 1924، استحدث الدبلوماسي الألماني كارل هاوشوفر مصطلح «عصر المحيط الهادي»، مستشرفا ظهور اليابان والصين والهند بوصفها من القوى العالمية القادمة. فكتب يقول:

«إن فضاء عملاقة تمتد أمام أنظارنا وتنصب فيه قوى... تنتظر بزوغ فجر عصر المحيط الهادي، خلفا لعصر المحيط الأطلسي، والعصر المتوسطي الأوروبي الشائخ».

يرجع مصطلح (القرن الآسيوي) إلى ثمانينيات القرن العشرين. فبعد اجتماع بين الزعيم الصيني دنج شياو بينج وراجيف غاندي، رئيس وزراء الهند، نقل عن دنج قوله «إن الناس في السنوات الأخيرة باتوا يقولون إن القرن القادم سيكون قرن آسيا والمحيط الهادي».

ولقد ظهرت كتابات كثيرة عن القرن الآسيوي منذ الثمانينيات، بدءا بصعود اليابان السريع، وما يُسمى بالنمور الأربعة (كوريا الجنوبية وتايوان وهونج كونج وسنغافورة)، وعقد النمو الصيني المجاوز لعشرة في المائة، وها هي الهند الآن تنمو بسرعة فائقة مؤكدة نبوءة كلاوس هاوشوفر قبل قرن من الزمان.

درجت مناقشات القرن الآسيوي عادة على التركيز على براعة آسيا الاقتصادية والصناعية. ولا ينصب إلا قليل من الاهتمام على العوامل الثقافية، وكيف يمكن أن تصوغ مستقبل آسيا والعصر ما بعد الصناعي. والاستثناء الملحوظ هنا هو (آسيا 2038: عشرة اضطرابات تغير كل شيء)، من تأليف سهيل عناية الله ولُو نا.

صدر تقرير (آسيا 2038) للمرة الأولى في عام 2018، لكن الأزمة العالمية الحالية أكسبته أهمية كبيرة. فالكاتبان لا يهملان الاقتصاد، ولكنها يركزان على البعد الإنساني في التحول الذي تشهده آسيا، من قبيل دور المرأة، وإعادة تصوّر الأسرة التقليدية الممتدة، والحاجة إلى النزعة الإقليمية الحيوية، والتعايش المتنامي بين البشر والتكنولوجيا.

يذهب المؤلف المشارك سهيل عناية الله، وهو رئيس الدراسات المستقبلية في اليونسكو، إلى أن تحول آسيا يمكن أن تكون له آثار عالمية فيقول: «إنني أرى أن الإمكانات في آسيا تنتقل من قوة إلى قوة، وليس هذا فقط في ما يتعلق بفرص الأعمال والتنمية الاقتصادية ولكن في تصوّر مستقبل كوكبي جديد أيضا».

يذكرنا تقرير (آسيا 2038) بأن العولمة، مثلها مثل التحديث، لا تعني بالضرورة التغريب. فقد استوعبت آسيا العلوم والتكنولوجيا الغربية وأَسْيَنَت نسخا من الأنظمة السياسية، ولكن الغرب باستقطابه الاجتماعي والسياسي وفرديته المفرطة لا يمثل نموذجا للمجتمع ما بعد الصناعي.

تشير الدول الأكثر تقدما في آسيا، من قبيل اليابان وكوريا الجنوبية وسنغافورة، إلى حداثات متعددة، أو، على حد تعبير المؤلفين، حداثات بديلة. فآسيا تشرع في نهضة ثقافية ومحاولة لتغيير المجتمع من خلال إعادة تفسير تراثاتها الغنية من الكونفوشيوسية، والطاوية، والبوذية، والهندوسية، والصوفية.

ومن الناحية الاقتصادية يمثل صعود آسيا رجوعا إلى القاعدة التاريخية. فعلى مدار قسم كبير من التاريخ المسجل، كانت الصين والهند أكبر اقتصادين في العالم، ولم تتفوق عليهما الولايات المتحدة إلا في منتصف القرن التاسع عشر. وعند القياس باستخدام (تعادل القوة الشرائية)، نجد أن الصين تجاوزت الولايات المتحدة في عام 2014. وقبل منتصف هذا القرن، من المتوقع أن تستعيد الصين والهند مكانتهما باعتبارهما الاقتصادين الرائدين في العالم.

والتحدي الذي يواجه آسيا اليوم هو تقليل أسوأ جوانب المرحلة الرأسمالية من التنمية التي ابتليت بها المجتمعات الغربية، ومن ذلك تفكك الأسر، والعزلة الاجتماعية، وعدم المساواة، وسلطة الشركات على الحكومات التي تسببت في مستويات تاريخية من عدم المساواة.

ولعل إعادة تصوّر الأسرة الممتدة التقليدية والأسرة الممتدة الشاملة في العصر ما بعد الصناعي يشكل تحديا ولكنه أمر حاسم للمستقبل. وكما يرد في (آسيا 2038):

«إن الأسرة [الآسيوية]، ممتدة ولكن غير مكسورة، تصبح مصدرا لمزيد من الرفاهية، بل والنمو الاقتصادي في واقع الأمر».

«والبديل، إذا ما تبين أن التغييرات الجارية عنيفة للغاية فلا تستطيع التقاليد تدبرها، بما يعني صعود الرَوْبَتة، والتحول إلى العالم الافتراضي، وحقوق المثليين، والإناث العازبات، فإن لنا أن نتوقع مستقبلا أكثر تشرذما بكثير، تطالب فيه مجموعات حقوقية معينة بزيادة مساحة الاختيار، في حين يقوم حملة التقاليد -أي تقاليد زمن الأسرة الممتدة الجميل- بالتشريع من أجل حماية الأسرة التقليدية، معلنين أن أشكال القران الأخرى منافية للطبيعة».

«وهذا يمهد لمستقبل يصبح فيه الصراع الاجتماعي -كما حدث في الستينيات على سبيل المثال، وكما يجري حاليا في الولايات المتحدة الأمريكية- هو القاعدة».

يضيف المؤلفان أن «ردة محافظة قد تكون أحد الاحتمالات، ولكن من المحتمل بالقدر نفسه أن تكون هناك أسرة آسيوية ممتدة، ويظل التركيز منصبا على الرخاء للجميع ولا ينصب إلا قليل منه على هويات بعينها».

«سيكون من الصعب بشكل متزايد، ومن أوجه كثيرة، الحفاظ على الأسرة الممتدة البيولوجية والتقليدية. فبدلا من إعطاء الأفضلية للأسر النووية أو الأسر ذات العائل الواحد، شأن الحال في الغرب، ربما تستطيع آسيا أن تعيد اكتشاف أو تصميم بنيتها الأسرية الممتدة».

«يكاد يكون مؤكدا أنه ما من طريق للرجوع إلى الأسر التقليدية، وإنما هو فقط طريق إلى الأمام يتماشى مع التغيرات التكنولوجية والثقافية المعاصرة. فكيف سيكون الوضع بالنسبة لآسيا؟ إضفاء الطابع النووي على الأسرة وتفككها واختفاؤها؟ أم إعادة اكتشافها وكأننا حيال الموسم الثاني من الأسرة الممتدة».

محور هذه العملية هو دور المرأة، وثمة من الأسباب ما يدعو للتفاؤل. فآسيا غير معروفة بوصفها معقلا للنسوية، لكن التقسيم الجندري في آسيا تاريخيا أقل صرامة مما هو عليه في الغرب. وتولي النساء السلطة ليس بالأمر الشاذ في آسيا. فقد كان لأربعة من دول شبه القارة قيادات نسائية، وكذلك إندونيسيا وتايلاند وكوريا الجنوبية والفلبين وتايوان. فضلا عن أن خمس دول في جنوب شرق آسيا تعد من الدول الرائدة عالميا في وجود أكبر عدد من النساء في المناصب التنفيذية. تتقدم إندونيسيا (الثانية عالميا بنسبة 41%) والفلبين (الرابعة بنسبة 40%) بفارق ضئيل على تايلاند (السادسة في العالم بنسبة 38%).

وقد أصبحت المساواة الجندرية جزءا من الثقافة الشعبية. إذ حقق فيلم بوليوودي مستوحى من قصة حقيقية عن مصارع سابق يدرب بناته على اقتفاء خطاه وتحدي الأدوار الجندرية التقليدية، نجاحا كبيرا في كل من الهند والصين.

لا تزال المرحلة الحالية من التنمية الاقتصادية في معظم أنحاء آسيا مهتمة بتزويد الناس بالاحتياجات الإنسانية الأساسية من قبيل السكن والطرق والإلكترونيات (أجهزة الكمبيوتر والهواتف المحمولة) التي أصبحت ضرورية للمشاركة في النشاط الاقتصادي.

ولقد كانت الرأسمالية فعالة للغاية في إنتاج هذه المنتجات، لكن صنَّاع السياسات الآسيويين يتطلعون إلى ما هو أبعد من المرحلة الرأسمالية في التنمية ويستكشفون بدائل واعية تتفق مع تقاليدهم الخاصة.

فقد تخلت مملكة بوتان، التي تقع في جبال الهيمالايا بين الصين والهند، عن مقياس الناتج المحلي الإجمالي (GDP) مستبدلة به مقياس إجمالي السعادة الوطنية (GNH) ومحوره هو الإنسان.

تستخدم الحكومة هناك دراسات مسحية لقياس إجمالي السعادة الوطنية. فتُطرح على الناس أسئلة مختلفة حول رفاهيتهم الاجتماعية وظروفهم المعيشية واهتماماتهم الرئيسية وممارساتهم الدينية. وتستخدم نتائج هذه الدراسات الاستقصائية في تحديد أهداف السياسة.

لقد تم إنشاء مؤشر إجمالي السعادة الوطنية، الذي اقترحته العائلة المالكة في بوتان، بالتعاون مع باحثين في أكسفورد. وهو شبيه بـ(مؤشر الحياة الأفضل) لدى منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) ومؤشر التقدم الاجتماعي (SPI). ولكن مؤشر إجمالي السعادة الوطنية يتميز باحتوائه على عنصر ديني.

لقد أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارا في عام 2013 يدعو إلى اتباع نهج شامل للتنمية وحثت الدول الأعضاء على أن تحذو حذو بوتان.

من أشد الحجج إقناعا بالدور القيادي الذي تؤديه آسيا في المجتمع ما بعد الصناعي تلك الرؤية السائدة على نطاق واسع ومفادها أن الروح والمادة لا ينفصلان. فالنظرة «المادية» للعالم التي أدت إلى الثورة العلمية قد حققت غرضها ووصلت الآن إلى نهاية الطريق. وكما نقرأ في آسيا 2038:

«إن عالمنا، بكل المقاييس، في حاجة ماسّة إلى التحوّل، وإلى إعادة موازنة تجاوزاته العديدة، والانتقال إلى مستقبل أكثر استدامة وقابلية للعيش. ولا بد أن تتم التغييرات في كل من المجالات المادية والعاطفية والمعرفية، فالتحوّلات المنهجية وكذلك السردية ضرورية في الوقت نفسه».

فضلا عن أن «البوذية تعتبر الحياة وحدة بين الجسدي والروحي. وهي تنظر إلى كل الأشياء، سواء المادية أم الروحية، المرئية أم غير المرئية، بوصفها مظاهر للقانون الروحي العالمي النهائي أو مصدر الحياة.... فالجوانب الجسدية والروحية لحياتنا لا تنفصل تماما عن بعضها بعضا ولها الأهمية نفسها».

إن آسيا في وضع جيد يسمح لها بتوحيد العالم الروحي والمادي (أو بإعادة توحيده) في المجتمع ما بعد الصناعي. وتشير أدلة لافتة إلى أن هذه العملية قد بدأت بالفعل في السياقين العلماني والديني.

فقبل نحو خمسة وعشرين عاما، قدمت شركة سوني اليابانية آيبو، وهو روبوت يستجيب لأوامر مالكه، ويتعرّف على أفراد الأسرة المختلفين، ويتفاعل مع التفاعل الجسدي، وعندما «يتعب» يعود إلى محطة الشحن من تلقاء نفسه.

ارتبط العديد من مالكي آيبو بهذه الحيوانات الأليفة الآلية، وباتوا ينظرون إليها وكأنها جزء من العائلة. وعندما توقفت شركة سوني عن الإنتاج ولم تعد تتوفر الصيانة لآيبو، اصطحب الملاك روبوتات آيبو إلى المعابد البوذية لإجراء طقوس الجنازة لها.

وللمضي بالروبوتات خطوة أخرى إلى الأمام، تعاون فريق مكون من اثنتي عشرة شركة صينية في مجال التكنولوجيا والثقافة والاستثمار مع معبد بوذي خارج بكين لإنشاء راهب آلي يمزج بين الروحانية والذكاء الاصطناعي. وتم تصميم الروبوت الذي يعمل بالذكاء الاصطناعي لمساعدة الرهبان البوذيين في نشر التعاليم البوذية.

يعرف الراهب الآلي، الذي يبلغ ارتفاعه ستين سنتيمترا، باسم شيانر (وتعني حرفيا «الراهب الآلي الغبي الجدير بالاهتمام»). يستطيع شيانر تلاوة نصوص السوترات البوذية ولديه لوحة لمس على صدره تسمح له بالرد على الأسئلة المتعلقة بأي شيء بدءا بمعنى الحياة وحتى قضايا الأسرة أو مكان العمل.

يزعم المشككون أن الروبوتات التي تعمل بالذكاء الاصطناعي لن تقدر أبدا على فهم المشاعر البشرية. لكن مطوري الذكاء الاصطناعي يحتجون بأنهم سوف يتمكنون في نهاية المطاف من تحفيز محاكاة لفهم العواطف، وبالتالي يحققون هذا الغرض. وذلك لأن أغلب الآسيويين يعرفون جيدا كيفية التعامل مع الغموض.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الصین والهند فی آسیا فی عام

إقرأ أيضاً:

“سرقة القرن” ربع مليار دولار من العملات المشفّرة.. تفاصيل مثيرة

 

 

الجديد برس|

 

في مساء يوم 25 أغسطس/آب 2024، وبين أجواء صيفية دافئة في مدينة دانبري بولاية كونيتيكت الأميركية، كان الزوجان سوشيل وراديكا شيتال يقودان سيارتهما اللامبورغيني أوروس الفاخرة في أحد الأحياء الراقية، حيث كانا يبحثان عن منزل جديد. لم يكن في حسبانهما أن هذه الجولة الهادئة ستتحول إلى كابوس حقيقي، حيث تعرضا لمحاولة اختطاف مسلحة وغامضة، لم تكن سوى جزء من قصة أكبر وأغرب تتعلق بسرقة ضخمة للعملات المشفرة، ووصفتها صحيفة “نيويورك تايمز” بـ”سرقة القرن”.

 

فجأة، اصطدمت بهما سيارة هوندا سيفيك من الخلف، ثم حاصرت شاحنة بيضاء الطريق عليهما، نزل منها 6 رجال ملثمين، يرتدون ملابس داكنة، واندفعوا نحو السيارة الفارهة. قاموا بسحب الزوجين بالقوة، واعتدوا عليهما، وقيدوهما بشريط لاصق، مهددين سوشيل بمضرب بيسبول. توسلت راديكا إليهم، موضحة أنها تعاني من الربو، لكن المعتدين لم يبدوا أي رحمة، وأجبروهما على دخول الشاحنة البيضاء.

 

هذا المشهد العنيف لم يمر دون أن يلاحظه الجيران، فقد كان هناك من شاهد الحادث، ومن بينهم عميل فدرالي متقاعد لم يتردد في تتبع الشاحنة بسيارته، وأبلغ الشرطة بالحادث. بدأت مطاردة مثيرة بين الشرطة والشاحنة، انتهت بانحراف الشاحنة إلى الغابة، حيث فرّ 4 من المهاجمين.

 

لكن رجال الشرطة لم يستسلموا، فطاردوا الفارين، وتمكنوا من القبض على أحدهم تحت جسر قريب، بينما عُثر على الثلاثة الآخرين في غابة مجاورة بعد ساعات من البحث. أما الزوجان، فقد وجدتهما الشرطة في مؤخرة الشاحنة، مقيّدين ومذعورين، في مشهد درامي لم تعتده المدينة الهادئة.

 

كانت الشرطة في حيرة من أمرها، إذ لم يكن هناك أي دافع واضح لهذه الجريمة العنيفة في مدينة هادئة مثل دانبري. كما أن المعتدين -الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و26 عاما- جاؤوا من ميامي بولاية فلوريدا، مما أثار تساؤلات عن سبب اختيارهم لهذه المدينة بعينها. ولماذا تركوا سيارة لامبورغيني فارهة في الشارع دون أن يسرقوها؟ لم يكن هناك أي دليل على وجود صلة سابقة بين الجناة والضحايا، مما جعل القضية أكثر غموضا.

 

مرت أيام قليلة قبل أن تتلقى الشرطة معلومة من مكتب التحقيقات الفدرالي (FBI) تشير إلى وجود صلة بين محاولة الاختطاف هذه وسرقة ضخمة للعملات المشفرة وقعت قبل أسبوع. بدأت خيوط القضية تتكشف، لتكشف عن واحدة من أكبر عمليات الاحتيال الإلكتروني في تاريخ العملات الرقمية.

 

كان يُشتبه بأن مجموعة من الشباب -بعضهم تعرّف إلى الآخرين من خلال لعبة “ماينكرافت” (Minecraft)- قد سرقوا ما يقارب ربع مليار دولار من ضحية لم تكن تعلم ما يحدث، في سلسلة من الأحداث المذهلة التي شارك فيها مجرمون إلكترونيون مراهقون، ومحققون رقميون مستقلون يتتبعون أنشطة الهاكرز، وعدة وكالات إنفاذ قانون، وبدا الآن أن القضية بلغت ذروتها في اختطاف عائلة شيتال.

 

وقد بدأت سلسلة الأحداث قبل ذلك بأسابيع قليلة، عندما بدأ أحد سكان واشنطن -وهو مستثمر مبكر في العملات المشفرة- يتلقى إشعارات متكررة بمحاولات دخول مشبوهة إلى حسابه على “غوغل”.

 

لم يعر الأمر اهتماما كبيرا في البداية، لكنه فوجئ باتصال هاتفي من شخص ادعى أنه من فريق الأمن السيبراني في غوغل، أخبره بأن حساباته تعرضت لمحاولة اختراق. لم يقتصر الأمر على ذلك، بل تلقى اتصالا آخر من شخص ادعى أنه من منصة “جيميناي” (Gemini) لتداول العملات الرقمية، أبلغه بأن حسابه على المنصة -والذي يحتوي على ما يقارب 4.5 ملايين دولار من العملات الرقمية- قد تعرّض للاختراق، وأن عليه إعادة تعيين خاصية التحقق الثنائي ونقل البتكوين إلى محفظة جديدة لحمايته.

 

أقنعه المحتالون بتحميل برنامج لتعزيز الأمان على جهازه، كان في الحقيقة أداة للتحكم من بعد، مما منحهم وصولا كاملا إلى جهازه وحساباته الرقمية. في دقائق معدودة، اختفت أكثر من 4100 وحدة بتكوين من محفظته الرقمية، كانت قيمتها في ذلك اليوم تتجاوز 243 مليون دولار. أدرك الضحية متأخرا أنه وقع ضحية لعملية احتيال معقدة.

 

رغم أن مالكي العملات المشفرة مجهولو الهوية غالبا، فإن جميع المعاملات مسجلة على ما يُسمى بـ”سلسلة الكتل” (Blockchain)، وهو سجل رقمي غير قابل للتغيير يُستخدم لتخزين البيانات بطريقة آمنة وشفافة، ويُعد أساسا لمعظم العملات المشفرة مثل البتكوين والإيثيريوم، مما أتاح لمحققين رقميين مستقلين تتبع حركة الأموال فور وقوع السرقة.

 

من أبرز هؤلاء المحققين شخصية تُدعى “ZachXBT”، وسنكتفي بالإشارة إليها باسم “زد”، وهو محقق مستقل يتابعه مئات الآلاف على منصات التواصل، ويشتهر بكشفه عن قضايا الاحتيال الرقمي.

 

كان “زد” في المطار عندما تلقى تنبيهات عن معاملات ضخمة ومشبوهة، فبدأ على الفور تتبع حركة البتكوين المسروق عبر محافظ ومنصات مختلفة. لاحظ أن الأموال تُغسل عبر أكثر من 15 منصة وخدمة، في محاولات لإخفاء مصدرها.

 

وبدأ “زد” يتتبع المعاملات حتى وصل إلى محفظة تحتوي على ما يقرب من 240 مليون دولار من العملات المشفرة، تعود بعض وحدات البتكوين فيها إلى عام 2012. قال: “عند هذه النقطة، لم يكن الأمر منطقيا.. لماذا شخص احتفظ بعملاته كل هذه المدة يستخدم منصة مشبوهة معروفة بتدفق الأموال غير المشروعة من خلالها؟”.

 

تواصل مع منصات التبادل لتنبيهها وتجميد الأموال، كما نشر تحذيرا عاما على منصة “إكس” (تويتر سابقا) حول عملية السرقة الجارية.

 

يقول “زد”: “عندما رأيت حجم المبلغ الذي تمت سرقته، أدركت أن الأمر أكبر من مجرد عملية احتيال عادية. كان المجرمين يحاولون نقل الأموال بسرعة عبر منصات متعددة، لكننا تمكنا من تتبع معظم التحويلات وتنبيه المنصات لتجميدها قبل أن تختفي للأبد”.

 

لم تمض ساعات حتى تمكّن “زد” من التواصل مع الضحية، الذي كان في حالة صدمة شديدة. استعان الضحية بكل من “زد” وشركة تحقيقات متخصصة لمساعدته في تتبع أمواله، كما أبلغ مكتب التحقيقات الفدرالي بالواقعة.

 

تشير الإحصائيات إلى أن سرقات العملات المشفرة أصبحت ظاهرة متسارعة، إذ تلقى مركز شكاوى الجرائم الإلكترونية أكثر من 69 ألف بلاغ في عام 2023، بخسائر تجاوزت 5.6 مليارات دولار. كما أن طبيعة العملات الرقمية، التي تجعل المعاملات غير قابلة للاسترجاع وسهلة التحويل عبر العالم، تجعلها هدفا مثاليا للمجرمين، وتحديا كبيرا أمام المحققين.

 

تعتمد وكالات إنفاذ القانون الأميركية بشكل متزايد على خبراء ومحققين مستقلين مثل “زد”، الذين يملكون مهارات تقنية عالية وشبكات علاقات واسعة في عالم الجريمة الرقمية. هؤلاء المحققون يندمجون في منتديات مجرمي الإنترنت عبر حسابات وهمية، ويجمعون الأدلة من داخل مجموعات الدردشة السرية.

 

 

بعد نشر “زد” عن السرقة، تواصل معه مصدر مجهول، وقدم له تسجيلات شاشة وثقت عملية السرقة، بينها مكالمة المحتالين مع الضحية ورد فعلهم بعد نجاحهم في الاستيلاء على المبلغ الضخم.

 

في محادثاتهم الخاصة، استخدموا أسماء مستعارة، لكنهم ارتكبوا خطأ قاتلا. أحدهم عرض عن غير قصد شاشة الكمبيوتر الخاص به، مما كشف اسمه الحقيقي في نافذة البدء أسفل الشاشة: “فير تشيتال”، شاب في الـ18 من عمره من دانبري، وهو ابن الزوجين اللذين تعرضا للاختطاف.

 

كان فير تشيتال طالبا هادئا ومتفوقا في دراسته، لكنه بدأ فجأة في استعراض ثروة غير مبررة أمام أصدقائه، يقود سيارات فارهة ويرتدي ملابس باهظة الثمن، ويدعي أنه جنى أمواله من تداول العملات الرقمية. لاحظ أصدقاؤه هذا التحول، خاصة بعد أن أصبح يقود سيارات رياضية، وينفق ببذخ على الرحلات والحفلات، ويستأجر يخوتا ومنازل فاخرة.

 

تكشف التحقيقات أن فير كان عضوا في جماعة إلكترونية تُعرف باسم “ذا كوم” (The Com)، وهي شبكة من مجموعات الدردشة الإجرامية تعود جذورها إلى أوساط الهاكرز في الثمانينيات، وتضم شبابا من دول غربية يخططون لعمليات احتيال رقمية متنوعة، من بينها سرقة العملات الرقمية، وتبديل شرائح الهاتف (SIM)، وهجمات الفدية، واقتحام أنظمة الشركات.

 

تقول خبيرة الأمن السيبراني أليسون نيكسون إن معظم أعضاء هذه الجماعات شباب من الغرب، وغالبا ما يبدأ دخولهم لهذا العالم عبر ألعاب الفيديو مثل “ماينكرافت” (Minecraft) و”رون سكيب” (Rune Scape). مع تطور خوادم الألعاب، نشأت أسواق سوداء لبيع عناصر داخل اللعبة وأسماء مستخدمين نادرة، مما شكل بيئة خصبة للاحتيال الإلكتروني وتبادل الخبرات بين المراهقين الطامحين للثراء السريع.

 

في عالم “ماينكرافت”، ظهرت خوادم تنافسية تقدم ترقيات مدفوعة وأزياء افتراضية، وبدأت سوق سوداء لبيع عناصر اللعبة وأسماء المستخدمين النادرة، التي قد تصل قيمتها إلى آلاف الدولارات. انتشرت عمليات الاحتيال بين اللاعبين، وظهرت خدمات “الوسيط الموثوق” لتسهيل التبادل، لكن هذا العالم كان أيضا بوابة لارتكاب جرائم إلكترونية أكثر تعقيدا.

 

مع الوقت، انتقل بعض هؤلاء الشباب من الاحتيال البسيط إلى سرقات رقمية ضخمة، مستخدمين مهاراتهم التقنية وشبكات علاقاتهم في تنفيذ عمليات معقدة مثل سرقة ربع مليار دولار من العملات المشفرة.

 

 

تعكس هذه القضية أيضا جانبا مهما من تطور الجريمة في العصر الرقمي، إذ لم يعد المجرمون بحاجة إلى السلاح التقليدي أو العصابات المنظمة، بل يكفيهم جهاز كمبيوتر واتصال بالإنترنت وبعض المهارات التقنية ليحققوا أرباحا خيالية في وقت قصير. في المقابل، يتطلب التصدي لهذه الجرائم تطوير أدوات التحقيق الرقمي، والتعاون بين القطاعين العام والخاص، وتوعية المستخدمين بمخاطر الاحتيال الإلكتروني.

 

مقالات مشابهة

  • صراع على الوجود.. قراءة في تحولات البنية الثقافية للنكبة الفلسطينية الممتدة
  • خبير أمني: الشائعات أصبحت أخطر الأسلحة غير التقليدية المستخدمة في حروب الجيلين الرابع والخامس
  • السيد القائد: العدوان الإسرائيلي على غزة جريمة القرن وتفريط الأمة له عواقب
  • 11 قاربا في سباق القوارب التقليدية بصور.. غدًا
  • بـ 16 لغة.. 15 فريقًا من اللجنتين العلمية والتنظيمية يواصلون أعمالهم في أولمبياد الفيزياء الآسيوي
  • السعدي وحجيرة يوقعان اتفاقية لرقمنة إجراءات تصدير منتجات الصناعة التقليدية
  • الهند وباكستان.. من يتفوق بالقوة التقليدية والنووية؟
  • الدوري السعودي.. الأهلي يستقبل التعاون منتشيا بتتويجه الآسيوي
  • أمسية أطباق الكاري في مطعم “موسم” دعوة لعشاق النكهات التقليدية
  • “سرقة القرن” ربع مليار دولار من العملات المشفّرة.. تفاصيل مثيرة