إيمان البحر درويش.. أغنية الأمل الحزينة في سماء مصر
تاريخ النشر: 15th, July 2023 GMT
لم يحدث أن ظهر مطرب أو موسيقي في تاريخ الغناء العربي وتعرض لمثل ما تعرض له الشاب الإسكندري إيمان البحر درويش ابن حي كوم الدكة بالإسكندرية سوى جده الموسيقار الراحل سيد درويش.
لم يُقتل موسيقار الشعب بالسم فقط، لكن القتلة أبوا إلا أن يشوهوا صورته بعد رحيله، فزعموا أنه مات بجرعة زائدة من المخدرات، وبدلا من استعراض دوره العظيم في تحريض الشعب على ثورة 1919 ربطوا حياته وموته بحبيبته المزعومة "جليلة".
ورث إيمان البحر درويش روح الجد الثائرة، بالإضافة إلى الموهبة الغنائية التي لا تحتاج إلى اعتراف بعد أن أثبت نجاحه على مدى أكثر من 30 عاما، لكن صفتين من صفات إيمان البحر درويش هما اللتان أودتا به إلى أن يصبح صورة نشرتها ابنته ويتداولها رواد مواقع التواصل الاجتماعي مع الكثير من الحزن والغضب، وهاتان الصفتان هما الصدق والصراحة.
حذر الأب محمد سيد درويش ابنه "إيمان" من التفكير في احتراف الغناء أو دخول عالم الموسيقى فرفض النقاش، فدرس الابن الهندسة وفي جامعة الإسكندرية لمع نجمه لاعبا لكرة قدم أولا، ثم مطربا في الجامعة فقط.
"أنا طير في السما بعشق بالومى عاش قلبي ونما من غير نمنمة وبسيط إنما عايش ملحمة"لم يفكر إيمان في احتراف الغناء، لكن المصادفة ساقته إلى قدره، حيث طلب منه مدير شركة المقاولات -التي كان يعمل فيها مهندسا- الغناء في حفل زفاف أخيه، وهناك التقى بمنتج الكاسيت الشهير عاطف منتصر الذي أنتج له أول ألبوماته وكان تحت اسم "الوارثين"، ولم يكن إيمان يهدف من الألبوم سوى إحياء تراث جده وتقديمه بشكل صحيح.
حرب قديمةأصبح الألبوم (شريط كاسيت في تلك المرحلة) جاهزا في عام 1982.
كانت مصر قد استوعبت صدمة قتل الرئيس السادات في نهاية عام 1981، واتجه المجتمع نحو استقرار قلق وحافل بالتوقعات، وكان عالم الفن يعاني من غياب العندليب الأسمر وأم كلثوم اللذين رحلا في عامي 1975 و1977 تباعا، ولم يظهر من يستلم الراية، وكان المطرب الشعبي أحمد عدوية يسير قدما باتجاه المزيد من الشعبية.
بدأ جيل جديد في الظهور ومعه أسلوب جديد في الغناء، ومنه محمد منير بمشروعه الغنائي المختلف والمرتبط بجذوره النوبية، وعلي الحجار بما يحمله من ميراث والده الملحن والرائد الموسيقي إبراهيم الحجار.
كان الجيل الجديد يواجه بعدوانية شديدة وسخرية من الجيل القديم وصحافته، خاصة أن الموسيقار محمد عبد الوهاب ظل باقيا رمزا لأسلوب الغناء القديم وإن توقف عن الغناء.
تفاءل إيمان البحر -الذي يقدم في ألبومه أغاني وألحانا لها رصيد لدى الشعب الذي يعرف سيد درويش ويشتاق إلى موسيقاه وأغانيه التي عبرت عن البسطاء أولا- لكن جاءت المفاجأة قاسية، إذ رفضت كل شركات التوزيع شراء الشريط أو حتى التعهد بتوزيعه ودفع ثمنه بعد البيع.
إيمان الطيب المؤدب الصريح شخص عنيد جدا، خاصة حين تطارده أسئلة بلا إجابات، وقد كان رفض الموزعين للألبوم سؤالا كبير بلا إجابة.
فوجئ إيمان بمنتج فيلم "تزوير في أوراق رسمية" يعرض عليه دورا مع كل من الفنانين محمود عبد العزيز وميرفت أمين فوافق فورا، وخرج الفيلم إلى النور، فتسابق المنتجون لشراء ألبوم "الوارثين".
لم يسلم الفيلم أيضا من مواجهة الأعداء الذين علم إيمان البحر درويش من هم تحديدا، فأدرك أنه ورث تراث سيد درويش الموسيقي وورث معه ذلك العداء لما يمثله درويش وذلك التربص لمن يحاول أن يحمي تراث سيد درويش الذي استباحه كبار الموسيقيين ونسبوا الكثير منه إلى أعمالهم.
الإسكندريةأعاد إيمان البحر درويش للإسكندرية بعض بريقها الذي خبا خلال سنوات ما بعد ثورة يوليو/تموز 1952، وأصبحت أغنياته نشيدا قوميا إسكندريا خالصا، وبين سهرة صيفية على الشاطئ -قبل أن تخفيه المباني والنوادي المهنية- وسهرة شتوية في مقاهي المدينة كان صوت إيمان البحر درويش يوثق ملامح التحولات الحادة التي مرت بها مصر.
شهدت نهاية ثمانينيات القرن الماضي سيادة قيم الانفتاح الاقتصادي، حيث ظهر الأغنياء الجدد نتيجة عمليات الاستيراد بلا حدود، ليفرضوا ذوقا جديدا على الشارع المصري، وانتشرت أحدث موديلات السيارات التي حملت أسماء تختلف عن تلك المنقوشة عليها، فهناك السيارة التمساحة، والشبح، وعيون صفية العمري، وغيرها من الأسماء التي أكدت أن ثمة لغة خاصة أيضا في المجتمع.
صرخ هؤلاء الذين لم يلحقوا بقطار الانفتاح فلم يسمع لهم أحد، صرخوا من عدم وجود مساكن للزواج أو وظائف، فعبر عنهم إيمان في ألبومه عام 1987:
"ايدي وحده .. وانتي أيدك برضه واحدة مدّي أيدك ويا إيدي امسحي .. دمعة وليدي عايز أصرخلك وعاجز أسمعك أو تسمعيني"وكان إيمان يصعد كنجم سينمائي صاحب وجه مقبول ينتمي في ملامحه البسيطة إلى كل بيت مصري، ولعل تلك الملامح والابتسامة الطفولية العذبة هي ما أهله لتحقيق ما لم يحققه كبار النجوم في أفلامه الأولى، وهي "تزوير في أوراق رسمية" (1984)، و"حكاية في كلمتين" (1985)، و"لقاء في شهر العسل" (1987).
"أذّن يا بلال… أذّن يا بلال أذّن يا بلال فوق الأقصى وانده للخلق اللي هتنسى أذّن يا بلال… كبّر للصلاة تجمعهم تاني لبيت الله وتطمن قلب رسول الله إن الإسلام موجود لساه"
لم يلتزم إيمان البحر درويش دينيا بشكل مفاجئ كما يحدث في أغلب الأحيان مع الفنانين الذين يختارون طريق الهداية، فقد نشأ في منزل ملتزم بالقيم الدينية، ورباه والده منذ طفولته على الالتزام، لكن قراءات المطرب والممثل الشاب دفعت به إلى طريق مغاير يبدو أبعد كثيرا عن مجال احترافه، ولكن الحب الجارف الذي يحمله الجمهور له ظل سندا له ضد محاولات إبعاده بسبب التزامه.
اختار إيمان أن يقدم أعمالا تخالف ما نشأ عليه قدر الإمكان، ثم امتلك الجرأة بعد ذلك لفرض ما أراد ويختار ما يتفق مع القيم الدينية.
فاجأ المطرب -الذي أصبح يؤذن الفجر في المسجد القريب من منزله يوميا- جمهوره بألبوم "أذّن يا بلال بالجنة" عام 2002، وفي عام 2007 قدّم مسلسل "الإمام الشافعي".
الإعلام والدقةلم تكن علاقة إيمان بالإعلام جيدة طوال حياته الفنية، فقد اعتقد دائما أن الصدق والدقة والأمانة هي صفات لا ينبغي أن تغيب لدى الإنسان بشكل عام، وليس الإعلامي فقط، لكن سوء حظ المطرب والممثل إيمان البحر درويش أوقعه مع نماذج دفعته لرفع قضايا كثيرة جدا على الصحف والصحفيين، مما خلق مناخا عدائيا تجاهه في الإعلام، ورغم ذلك ظلت الصحافة الفنية تتواصل مع المطرب الذي كان يعقد لقاءاته الصحفية في المسجد.
والإعلام نفسه تم توظيفه ضد إيمان البحر درويش في معركته بنقابة الموسيقيين، ولم يكن الفنان المعروف باستقامته وصدقه يدرك أن الفنان لا ينتمي إلى عالم السياسة، لكن منصب نقيب الموسيقيين يعد سياسيا بالضرورة، وقد تستلزم السياسة بعض التروي والمهادنة، وهو ما لم يقبله إيمان الذي رشح لمنصب نقيب الموسيقيين في أعقاب ثورة يناير/كانون الثاني 2011 بناء على طلب زملائه من الموسيقيين، وفاز بفارق يصل إلى الضعف على منافسه، ثم اكتشف ما أطلق عليه "مستنقع فساد" داخل النقابة.
"يا ظالم مهما تجرحني وغدر الظلم يذبحني ده أنا عمري ما أعيش محني ولا ح أركع لغير الله"
لم يطل مشوار الفنان الإسكندري مع النقابة، إذ أُخرج منها بشكل غير قانوني ثم أعيد وخرج، وهكذا حتى نجح خصومه في وضع المطرب هاني شاكر مكانه، ثم أعلن المجلس الجديد للنقابة في مشهد عبثي أن إيمان البحر درويش مهندس ولا يحق له الغناء، وسقط إيمان لأول مرة ضحية سكتة دماغية.
ومنذ عامين أطلق الفنان إيمان البحر درويش صرخة من خلال فيديو نشره على مواقع التواصل الاجتماعي لإنقاذ مصر من كابوس سد النهضة، وطالب بانتهاج سياسات أكثر رشدا لمواجهة كارثة الجفاف القادم، ثم اختفى وسط شائعات لم تنته إلا حين نشرت ابنته أمنية صورته المحزنة على فراش المرض، فاستدعت أحزان جيل كامل حمل الفنان الإسكندري ملامح حلمه وتمدد معه على فراش المرض صامتا بلا حراك.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: إیمان البحر درویش سید درویش
إقرأ أيضاً:
بليغ حمدي في ذكرى ميلاده.. نغمة جمعت عمالقة الغناء من أم كلثوم إلى وردة
تحل اليوم ذكرى ميلاد الموسيقار الكبير بليغ حمدي الـ94، أحد أعمدة الموسيقى العربية وصانع النغمة التي لا تشيخ، تاركًا وراءه إرثًا فنيًا خالدًا يسكن وجدان كل من أحب الطرب الأصيل.
وُلد بليغ حمدي في القاهرة عام 1931، ونشأ في بيت يعشق الفن، فتعلّم العود منذ طفولته وأبدع في عزفه وهو في التاسعة من عمره.
التحق بـ "معهد فؤاد الأول للموسيقى" (الكونسرفاتوار حاليًا)، وهناك بدأت ملامح موهبته الفذة التي جمعت بين الأصالة الشرقية وروح التجديد، لتجعله لاحقًا أحد أهم المُلحنين في تاريخ الغناء العربي.
تميّز بليغ بأسلوبه المختلف الذي تمرّد على القوالب الكلاسيكية، دون أن يفقد روح الموسيقى العربية، فكان جسرًا بين التراث والمعاصرة.
وتعاون مع كبار نجوم الطرب، وكانت بدايته مع كوكب الشرق أم كلثوم التي غنت له روائع خالدة مثل: حب إيه، أنساك، بعيد عنك، وكان أصغر ملحن تتعاون معه على الإطلاق.
كما شكّل مع العندليب عبد الحليم حافظ ثنائيًا فنيًا لا يُنسى، فأهداه ألحانًا أصبحت من علامات الموسيقى العربية مثل: سواح، زي الهوى، موعود.
واستطاع بليغ أن يعبّر من خلال ألحانه عن مشاعر الحب والحنين والفرح والحزن التي عاشت في قلوب الجماهير لعقود طويلة.
لم يكتفِ بليغ بالعاطفة في موسيقاه، بل كان صوت الوطن والمقاومة، فبعد نكسة 1967، قدّم لحن "عدى النهار" لعبد الحليم، ليصبح رمزًا للألم والأمل في آن واحد، ثم تغنّت ألحانه بالنصر في "عاش اللي قال"، و"البندقية اتكلمت" بعد انتصار أكتوبر 1973، مؤكدًا أن الفن يمكن أن يكون صوت الأمة.
وفي حياته الشخصية، عاش بليغ قصة حب كبيرة مع المطربة وردة الجزائرية، التي غنت أجمل ما لحّن من أغانٍ مثل: العيون السود، خليك هنا، حنين، حكايتي مع الزمان، لو سألوك، اسمعوني.
وكانت وردة أكثر من غنّت من ألحانه، وشكّلا معًا ثنائيًا فنيًا وعاطفيًا لا يُنسى.
ورغم رحيله في 12 سبتمبر 1993 عن عمر ناهز 62 عامًا، ما زالت ألحان بليغ تتردد في الآذان وتلامس القلوب.
ترك ثروة موسيقية تنوعت بين الأغاني الرومانسية والوطنية والقصائد والإبتهالات، ومنها لحنه الشهير للشيخ سيد النقشبندي في أنشودة "مولاي إني ببابك".
تعاون بليغ حمدي مع نخبة من عمالقة الطرب مثل فايزة أحمد، شادية، نجاة الصغيرة، صباح، ميادة الحناوي، عزيزة جلال، علي الحجار، هاني شاكر، محمد رشدي، سميرة سعيد، ولطيفة، وتميزت ألحانه بالبساطة والصدق والعمق في آن واحد، حتى لُقّب بـ ملك الموسيقى ولحن الشجن.
وبعد مرور أكثر من تسعين عامًا على ميلاده، يبقى بليغ حمدي أسطورة اللحن العربي، الذي عزف للفرح والحب والوطن، تاركًا وراءه موسيقى تعيش للأبد، شاهدة على أن الفن الحقيقي لا يموت بل يُولد من جديد مع كل جيل.