شاهد المقال التالي من صحافة لبنان عن اقتراح قانون لاعفاء معدات صناعة الادوية من الضريبة على القيمة المضافة، اقتراح قانون لاعفاء معدات صناعة الادوية من الضريبة على القيمة المضافة،بحسب ما نشر لبنان 24، تستمر تغطيتنا حيث نتابع معكم تفاصيل ومعلومات اقتراح قانون لاعفاء معدات صناعة الادوية من الضريبة على القيمة المضافة، حيث يهتم الكثير بهذا الموضوع والان إلى التفاصيل فتابعونا.

اقتراح قانون لاعفاء معدات صناعة الادوية من الضريبة...
اقتراح قانون لاعفاء معدات صناعة الادوية من الضريبة على القيمة المضافة

المصدر: صحافة العرب

كلمات دلالية: موعد عاجل الدولار الامريكي اليوم اسعار الذهب اسعار النفط مباريات اليوم جدول ترتيب حالة الطقس

إقرأ أيضاً:

صناعة الخـوف قراءة في رواية «الرّوع» لـ زهران القاسمي

تمتد رواية «الروع» بخيط طويل من الخوف والفزع، تتكئ مشاهدها الدرامية على فنتازيا الرعب، في قرية تحرس نفسها من سلطة الطبيعة ومفرداتها؛ ذلك أنه حين تبدأ الطبيعة بالزئير يشرع الإنسان في محاولة لوقف عنفها، وكسب رضاها. 

«محجان» هو ذاك الإنسان البدائي في تفكيره، يحاول أن يفسّر ظواهر الطبيعة، ويحرس نفسه من غضبها وسخطها، ويتّقي بوسائله البسيطة شرّها، ورث مخاوفه منذ الطفولة وكبرت معه، وأخذت تترصّده في ظلّه. نشأ على عادات القرية، وتقاليدها، حتّى الخوف كانت له تقاليده وشخصياته التي تجسّده؛ فالمطوّع يمسك بزمام الخوف، وشيخ البلاد في عينيه سلطة الخوف يقذف بشررها من يحاول أن يرفع حاجبيه أمامه، حتى الحيوانات السائبة لا تكفّ عن الأذى الذي تلحقه بالمزارع إلا بالخوف.. الخوف هو الكائن المتسلّط على الجميع، لا سيما حين تهدأ القرية ليلًا، وتختفي أصوات البشر، حينها تحلّ في الظلام كائنات الليل، وتستبدل القرية بالصخب والحركة، الهدوء المخيف، والصفير المرعب. 

لم يكن بطل الرواية «محجان» ليعيش في القرية بقدر ما كان يعيش في جلباب الفزع والخوف، يبدو أنها تركة ثقيلة تقاذفتها مراحل الزمن ككرة الجليد فاستقرّت في روحه. الزمن المعتّم عدوّ لدود يخبّئ في أحشائه شبحًا يطارده. تنشأ فوبيا الخوف Phobia في البيئة. إنها ترتبط بذكريات مكبوتة في العقل الباطن -كما يقرّر علم النفس Psychology- ترتبط بأشياء أو مواقف، وأفكار لم يتكيّف أو يتأقلم معها الإنسان. هكذا نشأ «محجان» منذ طفولته. 

«في طفولته كان يخاف ظلّه. حكت له أمّه أنه رأى في إحدى ليالي الشتاء القارسة ظلّه يمتدّ على ضوء القنديل فصرخ من الخوف، وركض بعيدًا حتى اندسّ في حضنها. حدث ذلك وهو في الثالثة من عمره. لكنّ الأدهى أنه، عندما اكتشف ظله في وضح النهار هرب راكضًا، وهو ينظر خلفه ويبكي مستنجدًا بها. كان كلّما هرب إلى جهة تبعه الظلّ فازداد خوفه». 

يحيل الخوف الإنسان إلى صناعة مصدّ يدفع به حالة الهلع التي تجتاحه من الداخل، بعد أن يفقد المأوى الذي ظل يحتمي به في مرحلة الطفولة. يبدو هذا الخوف عند «محجان» شبحًا يلاحقه في كلّ زاوية وكلّ لحظة، إنه خوف عامّ يـتـلبّسه في زوايا الحياة كلها، وهو ما سوف ينعكس عليه حتى في مرحلة شبابه. العنصر المغلق بزواياه، والمغلق بعتمته، والمغلق بقتامته، والمغلق بفقده مظاهر الحياة، حتى اللون الأسود في الملابس يتحول إلى عنصر مغلق مرعب في أجساد عجائز لا تزال في الوعي الجمعي تعيش بمرجعياتها الشريرة والسحرية. 

«ظلّ محجان زمنًا طويلًا يخاف الأماكن المعتمة، والظلال القاتمة، والبيوت الطينية المهجورة، والبقع الضيقة بين الجبال، والملابس السّود التي تلبسها العجائز..». 

فكلّ مفردات الزمان والمكان توصف بالعتمة والسواد والضيق، وهي تصنع في داخله شعورًا بالفزع والتشظّي من الداخل. 

«محجان» الاسم «العصوي» نسبة إلى عصا الراعي؛ تشبيه ساخر عرف به! وتناسى المجتمع اسمه الحقيقي «عبيد»؛ بسبب طول ساقيه؛ جعله ذلك، مع تركة الطفولة، يتطلّع إلى صناعة الخوف، وكما يقول «ويستر ماير» إن الخوف هو القوة العظيمة التي تدفع إلى أفعال الحفاظ على الذات. وهي صناعة يدفع بها محجان، في المقام الأول، الفزع الذي نبت ونمى في داخله منذ الطفولة وكبر حتّى تكلّس في وجدانه. كلّ شيء ينشر ظلامه في المكان ويزرع الخوف في نفس محجان، ويؤطّر ذاكرته بالرعب والهلع؛ حتى الأماكن المغلقة تبعث في داخله فوبيا الخوف؛ مخزن البيت المغلق طبع الذاكرة منذ الطفولة بالرّهاب. 

« لكنّ أكثر ما كان يخيفه مخزن البيت... غرفة من الطّين... تحاشى طوال طفولته الدخول إلى ذلك المخزن؛ لأنه فقد مرّة نعله فدخله.. فانغلق عليه الباب.. فكاد يومها يموت من شدّة الهلع». 

لم يقتصر خوف «محجان» على الكائنات الجامدة التي تلتحف بالقتامة والاكتظاظ والانغلاق، بل امتدّ إلى الكائن البشري الذي يتوشّح جسده بالسواد؛ وكلّ أسود مرشّح ليصبح ساحرًا أو شرّيرًا في العرف الشعبي. كان يفرق منه لأنه -في اعتقاده- ينتمي إلى تلك الكائنات التي تهيم في ظلام الليل فتقبض أرواح البشر. «أبو الليل» رجل أسود يحمل character «الغراب»، فهو «قطعة ظلام تمشي في النّهار»، كما وصفه السرد. فـالغراب البشري هذا يشبه في مظهره الخارجي تلك الثياب الرثّة السوداء التي تنتمي إلى العجائز، وإلى ذاك المكان المغلق المظلم المسكون بالفزع. «كان محجان يخافه في صغره، وبمجرّد أن ينظر ناحيته، ترتعد فرائصه ويهمّ بالركض مبتعدًا عنه، فيتحاشى الطرق التي يمرّ فيها، ويعتقد، مثل أمّه، أنه ليس إنسانًا، بل فيه شيء من سلالة أهل الليل، تلك الكائنات الخفيّة التي تتجوّل في الظلام، وتعزى إليها كلّ الأحداث في أرجاء القرية». 

فجـلّ ما يحرّك دوافعه إلى الحياة يكون الخوف جزءًا أصيلًا فيه. فحين فكّر محجان في حماية مزرعته من الحيوانات السائبة والطيور العابثة كان يصرّ أن يكون الرّعب هو مصدر القوّة، وحين أراد أن يصنع ذلك المصدر بحث عن اسم تجتمع فيه صفات الخوف والرّعب جميعها. 

«مرّت عليه أسماء كثيرة في ذاكرته.. عن ساحرات يتوكّأن على أنيابهنّ في المشي، عن كائنات تأكل فرائسها بنظرة من عيونها وتذيب الحجر..». 

حين كان يفتّش بين الأسماء التي تتكدّس في ذاكرته كانت مشاعر مدفونة تدفعه دفعًا ليفرغ في الاسم كلّ اضطرابات الخوف والفزع الذي تلبّسه منذ الصّغر، ليأمن هو على نفسه من ذاكرة ما فتئت تطارده حتى اللحظة، ويتخلّص من نظرة مجتمع عاش يتضاءل في عينيه. أراد أن يفرغ كلّ ذلك في صناعة مسمًّى قبل صناعة جسد؛ فالاسم عتبة الخوف. 

«لا بدّ أن تكون الرّوع، فيخافها الجميع: الطيور والحيوانات والأطفال والنساء، بل يخشاها حتّى الرّجال أصحاب النفوس الخفيفة..». 

من العينين تبدأ رحلة الخيال إلى أعماق النفس. «حفر في وجهه ثقبين غائرين. نعم، ثقبين من عتمة حالكة». 

أراد «محجان» أن يثأر من الأشياء التي أوجعته في نفسه بألم الجُبْن والخوف، أراد أن يصنع لكائنه الجديد رعبًا يتعالى على كل رعب عرفه في طفولته أو مر عليه في محطة من محطات حياته. من العينين تنسج أسطورة القوّة، وفي ظلمتهما تتوالد مغارات الرّعب. 

«لا بدّ أن تكون عينا الرّوع أشدّ عتمة ورعبًا من كهوف الجبال، من نوافذ البيوت المهجورة، من عيون بعض الناس...». 

في غموضهما تنشط الذاكرة بسيل من الصّور المتحركة، حيث العينان مأوى الأرواح التي تـتـقـفّـز عبر ذاكرة الطفولة، لتجترّ آلام الخوف في تأمّل عميق سابر ما تقوله عينا «الرّوع». 

«خيّل إليه أن عيني الرّوع تدوران في محجريهما، وأنه رأى صورته في مقلتيهما الشديدتي السّواد حين لمعتا فجأة. وبدا له أنه أحسّ بوخز في صدره، يشبه ما اعتراه حين وقف أمام المغارة، أو ما كان يعتريه حين يصادف في طريقه بعض من خافهم في طفولته، أو حين يمشي وحيدًا بين السكك المعتمة ويمرّ بالبيوت الطينيّة». 

ولعلّ هذا يتقاطع مع ما ذكره «فرويد» من أنّ جذور القلق والخوف التي يصاب بها الإنسان في أي مرحلة إنما تعود إلى مرحلة الطفولة المبكرة نتيجة عـقـد ومخاوف في سنوات العمر الأولى. 

كان «محجان» حريصًا على أن يشحن هذا الكائن كل ما من شأنه أن يبعث الخوف في الأرواح ويبثّ رائحة الموت في المكان، كان يفكّر، بطريقة مجنونة، كيف يحمي مزرعته من الطيور والحيوانات، لكنه في اللاشعور الفردي كان يحاول أن يقطع سياج الخوف الذي صنعه واقعه الطفولي في داخله، إنها معادلة صعبة بين الخارج والداخل تسعى الذات إلى خلق توازن بينهما، فيبحث في مفردات الرّعب والموت كي تثأر له من الآخر. فاختار ملابس الموتى تتزيّن بها «الرّوع». إنه طقس جنائزيّ يستحضر به موت الآخر، وعنف الطبيعة لينقله إلى «الرّوع». 

«ومن الكهوف حيث تترك ملابس الموتى مطويّةً في صرّة كبيرة، توضع هناك لتتآكل مع الزمن، كما تآكل جسد صاحبها المقبور... أخذ ينتقي القطع المناسبة، ذات الألوان الغامقة..». 

ما يحاول «محجان» صناعته في «الروع» هو ما يتطلّع أن يكون عليه؛ القامة والجبروت. يصنع «محجان» كائنه بفلسفة الخوف، حيث الديمومة والخلود هما ما يميّزانها عن بقية الأرواع التي سرعان ما تنطفئ جذوة الخوف فيها، ويدرك أصحابها أنهم صنعوا مجرد «دمية» جامدة صامتة لا تستطيع حتى الدفاع عن نفسها، لتدرك الطيور والحيوانات حقيقتها فتشنّ هجومها على الحقول والمزارع. 

«يدرك أهل البلاد عيب تلك الأرواع، يدركون أنّ سكونها يعني موتها، لأنّ الفزع كلّه مبنيّ على حركتها». 

هذه أرواع أهل القرية جميعهم، أمّا «رّوع» محجان «لا يمكن إلا أن تكون وحدها، لا يشبهها شيء، بقامتها الفارعة، وصمتها المريب، ورعبها الذي اختزنته في ذاتها». 

إنّ هذا التوصيف المقارن لا يمكن أن يكون مجرد إظهار صفة التفوّق والغلبة في الصناعة فحسب، بل يشير إلى «جوّانيّة» مسكونة بالخوف والغضب في الوقت نفسه، تتملّكها رغبة عارمة في تحويل هذا الغضب إلى خوف عند الآخر؛ بترهيبه. 

إنّ «محجان» يهرب من انفعالاته ليضعها في جسم خارجيّ. وخلق الروع ليس إطلاقًا للمشاعر الحبيسة وإنما هو فرار منها. إنه يحاول أن يخلق معادلًا موضوعيًّا Objective Correlative يسقط فيه كل مشاعر الخوف التي دهمته في حياته، فهذا الكائن المعادل لا يخشى ظلام الليل، ولا الحيوانات. 

«وجاء الليل.. وحدها الرّوع كانت واقفة في مكانها، باسطة ذراعيها مثل وحش جبّار نبت فجأة في المكان. هناك في ذلك المكان القصيّ من البلاد، وقفت غير عابئة بالعتمة وكائناتها، وانتصبت مثل لعنة». 

إنه يكثّف من مشاهد القوّة والهيبة في كائنه المرعب وهو تكثيف يعكس سيكولوجية «محجان»، إذ يتطلّع إلى الخلاص من شبح الخوف الذي يلاحقه. ثمّة وجع «جوّانيّ» تئنّ تحت وطأته الذات، يدفع بهذا الكائن «القماشيّ» إلى التّوحّش والجبروت كي يهابه الجميع؛ فهو استشراف صانعه. الرّوع المهاب هو «محجان» ذاته، ذاته الجوّانيّة التي تكثّف مفردات السّلطة والسّيادة. 

«زحفت الحشرات مبتعدة عن المكان، الصراصير، العناكب، الأفاعي.. هربت باحثة عن مكان آخر حتى لا تمرّ على تلك البقعة المريبة وعلى ذلك الكائن الغريب... وقفت الرّوع هناك مثل وحش جبّار يتحدى الظلمة وأشباحها وحيواناتها. وقفت بطولها الفارع حارسةً للحقل... ها هي الرّوع منتصبة أمامه بكلّ رهبتها..». 

«محجان» يتطلّع إلى أن يدرك الآخر «المجتمع» حقيقته التي بات عليها، الآخر الذي ينظر إلى «محجان» بازدراء الشّكل، وضعة المكانة، أراد أن يعوّض في «روعه» عقدة النقص التي سبّبها له مجتمعه. «الرّوع» هي من سوف تصنع له المهابة _ كما يتوهّم _ في نفوس الناس حين يقفون أمام جبروت قامتها. 

«.. جاء الناس من كلّ مكان.. وقفوا أمام الرّوع... منهم من وقف حائرًا لسبب ما، زرع الوجل في صدره، فبدأ يتنفّس بصعوبة كمن أصابته نوبة من الكرب. وثمّة من علقت عينا الرّوع في مخيّلته وخرجت معه حتى وصلت إلى أحلامه. أمّا بعض الأطفال الذين استطاعوا الوصول إلى هناك فلم يعرف أحد ماذا أصابهم تلك الليلة، إذ سرت الحمّى في أجسادهم الصغيرة، وطغى الهذيان على مناماتهم...». 

لقد استشرف «محجان»، كما يبدو، المكانة التي سوف يكون عليها في مجتمعه، بعد أن شاهد الناس «روعه» وقد صنع في عينيها الخوف، وفي قامتها الفارعة الجبروت، وبات الجميع ينظر إلى هذا الضئيل «محجان» من زاوية مختلفة، زاوية ملؤها الدهشة من صنعته المتعالية على كلّ الأرواع في القرية. هذا الواقع الجديد فرضه الكائن «القماشيّ» على الناس ومجتمع القرية، وشكّلت كومة القماش تلك معادلًا موضوعيًّا لـ«محجان». 

«والآن، وقد عرف الناس في البلاد أمر الرّوع، وباتوا يترقّبون فعلها، آن لمحجان أن يمشي في الحارات مرفوع الرّأس، يراه الجميع ويفتحون معه الكلام عن الأخبار، والزروع، والمحاصيل، ويسألونه عن الرّوع». 

تراتبية العلاقة بين «محجان» وروعه أفضت إلى نوع من الارتباط الحميميّ بدأ يشعر به «محجان»، أخذ بتلابيب حياته، وأصبح أسيره؛ ذلك أنها صنعت له مكانة كبيرة ومهابة في مجتمعه، وأخذ الناس يلتفتون إليه، يتحدثون عنه ليل نهار، وأصبح شغلهم الشاغل، وتحوّلت «الرّوع» إلى «عشتار» آلهة الحبّ والخصب. 

«بوجودها عاد الأمن والأمان إلى مزرعته، فاستعادت نضارتها. كبر الزرع، وأنتجت الضواحي محاصيل عديدة..». 

الرّوع، في عمق «محجان» السيكولوجي، ليست كائنًا جامدًا من قماش وقشّ، فهي إنسان تحمل مشاعر وعواطف، وتكره أن تجرح في كبريائها بالإهانة، وقد أدرك «محجان» أنه وقع في خطأ لا يغتـفـر حين رفع صوته في وجهها. بعدها حاول «محجان» أن يكثّف من أحاسيسه بالرّوع ليصبح هذا الكائن القشّيّ متعاليًا في تجسّده المقدّس؛ ممّا استدعى أن يمارس الطقوس، ويقدّم القرابين. لقد شعر بالنّدم بعد فعلته تلك، ولم يكتف بالبكاء في حضنها، بل ذهب إلى زوجه، قائلًا لها: 

«الروع زعلانة، أنا السبب، لازم نراضيها، لازم. طلب ديكًا، وخمس بيضات، وصوفًا من كبشها الأسود... باغي صيغتش». 

يذهب «فريزر» إلى أنّ كلّ الطقوس (والأساطير) تخفي تحتها نمطًا أو بنية كونيّة: موت إله أو ملك مقدّس وعودته إلى الحياة لضمان خصوبة الأرض. لقد مثّـل انطفاء الحياة في «الرّوع» موت النّبات والأشجار، والحيوانات، وجفاف الأرض، وجفاف الرّوح في «محجان». 

«... جرت في الخفاء أحاديث كثيرة عن الرّوع التي تجرّ أسمالها وهي تمشي في الحقول، عن عينيها المشعّتين في الظلام مثل جمرتين من نار، عن الحيوانات التي وجدوها ميتةً في أطراف القرية... وقيل إنّ القرية حلّت بها لعنة الرّوع، فذبلت الأشجار المثمرة الخضرا ...». 

لقد تعمّد أهل القرية، لا سيّما المطوّع وشيخ البلاد، أن يبيعوا الوهم للنّاس، فاتّـهموا «روع» محجان بالدّمار الذي حلّ بالقرية، وأنّ اللّعنة أصابت البلاد بسببها؛ شيخ البلاد الذي كانت روعه... «ترى من بعيد». 

أمّا مطوع البلاد فلا يرى في روع «محجان» إلا صنمًا ملعونًا يخسف الله به أرض القرية، ويبتليها بكلّ أصناف العقاب والعذاب، وقد غضّ طرفه عن الأرواع الأخرى.. 

«وأخطر ما في ذلك الهيكل المنصوب عند أطراف القرية أن سيعمّم عليهم الشرّ ذات يوم ولن يجدوا منه ملجأ. فماذا لو خسف الله بهم الأرض؟ ماذا لو حلّت بهم كارثة قويّة اجتاحت البلاد؟ مرض، زلزال، طوفان، أو نار تحرق السّهول والحقول والبيوت»؟. 

في المقابل يقف «محجان» عاجزًا عن تفسير ما أصاب كائنه القماشيّ بعد أن تماهت روحه معه! وأسقط فيه كلّ مشاعره وجراحاته المزمنة! حتّى الطّقوس التي سعى بها إلى إحياء الرّوح فيه لم تحرّك ساكنًا! استذكر تلك الوجوه القرويّة التي زارت «الرّوع»، فتّش في عيونهم؛ تأكّد في قرارة نفسه أنّها عيونهم التي أسقطتها في هذا الصمت الرهيب، وبدأت تذوي وتنطفئ منها الحياة 

«يعلم تمامًا أنها تقف هناك عاجزةً ولا حول لها في ما وصلت إليه. مرضت، نعم، أصابها مرض العيون الحاسدة، كانت روحها تذوي وعيناها تنطفئان، وهو مشغول باستقبال عيون المادحين، أولئك الذين جعلوها تفقد روحها شيئًا فشيئًا، إلى أن انتهت. انتهى الخوف منها، فسقطت وهي لا تزال قائمة». 

إنه الخوف الوهمي الذي يسيطر على «محجان»، يخاف الإنسان من كراهية الناس له، الخوف من الحسود، والكاره، والحاقد، وكلّ ما يرتبط بذلك من عمل حجاب لحماية الإنسان من عيون الحسود. كما فعل «محجان» في طقوس النذر. 

لعلّ العبارة التي تعلن «انتهى الخوف منها» بقدر ما تحمل من سقـوط مدوّ للكائن الذي عكف على تشكيله وترميزه فإنّها تجترّ كلّ عذابات السخرية والتهميش في الماضي، تجترّ آلام النّفس، وتستذكر خوف الطّفولة. إنّه يرثي الخوف في عيون «الرّوع»، الخوف الذي يواجه به المجتمع حين يشاهده في عيون الجميع، إنّه ينظر إليها الآن ويستحضرها بين محطّتين في الزمن؛ الواقع والماضي. وما هذا الاستحضار سوى رثاء للنفس. 

«إنه وحيد أمام أمثولته الجميلة التي صنعها بيديه. احتفظ في ذاكرته بكلّ ما سبّبته من رعب، لا للحيوانات والطّيور فحسب، بل في ملامح من وقفوا قبالتها أيضًا. كان الخوف يتسرّب إليهم من صمتها العميق، ومن حقيقتها التي لا يدركها سواه، ومن روح رعب تشتعل في جسدها». 

حينها لم يكن «محجان» ذلك الإنسان الساذج الذي استسلم لعذاباته، وأسكنّها روحه طوال حياته، لقد أراد لحظتها أن يوقظ «عبيد بن ربيع» في داخله؛ لينهض من الرّماد لا ليحرق نفسه، بل ليحرق القرية ويحوّلها إلى رماد. أراد «عبيد» أن ينتقم لرفيقته المحبوبة، رفيقته التي تماهى معها لدرجة أن يجهش بالبكاء، وهو يرى انطفاء الهيبة والجبروت في عينيها. إنه انطفاء الحياة التي كان يأملها في واقعه المرير، فعجز «الرّوع» يعني انهيار الحلم الذي كان يسعى إليه في صناعة الخوف في قامة رفيقته، وجبروتها. والآن آن لهذه القرية أن تتألّم كما يتألم.. 

«لهذا قرّر أن ينتقم لنفسه أولًا، وأن ينتقم لها ثانيًا من هذه البلاد التي وثق بها تمام الثقة. قرّر أن يبحث عن شيء يبعث الألم في نفوسهم ويبقى في ذاكرتهم مثل الوسم على الجلد... فقال في نفسه وهو يجهش بالبكاء: قتلوها... جلس على ركبتيه وواصل نحيبه..». 

وها هي الكينونة المتجذّرة في العاشق، في روح «محجان» لـ الرّوع التي باتت إنسانًا بكلّ ما تحمله المفردة من معان حسّيّة وعاطفية وجماليّة؛ التّماهي، الذّوبان، الغياب في الآخر حدّ التوحّد، انشغال القلب بكليته بحبّ «الرّوع»، وعشقه الصّوفي. 

«جعل ظهره على صدرها، وتركها تحتضنه وقد مدّ ذراعيه لتلتحما بساعديها، وأسند رأسه حتّى ذاب فيها. أراد أن يكونها فتكونه، فغاب وغابت فيه، رأى بعينيها، وسمع بأذنيها، وسرت روحها في روحه». 

في جنون العشق الماثل تتجسّد كلّ مشاعر الغضب للانتقام بعد أن تلبّس «محجان» بالعشق، إنه عشق الذات التي تجسّدت في «الرّوع» وأفرغ فيها كلّ مشاعره، واستشرف فيها كلّ أحلامه، أحلام القوّة والمكانة والجبروت. لم يستطع أن يشاهد كل ذلك ينهار أمامه، كان عشقه طوفانًا مدمّرًا، أصابته نوبة الانتقام وجنونه. 

«ماشي روع إلا روعي، ماشي روع إلا روع محجان. اشتعلت النّيران في أرجاء القرية... كان يمشي ويحدّث نفسه: فلتذهب كلّ أرواع القرية إلى النّار..». 

إنّ فقدان الموضوع (موضوع الحبّ) يحيل الذات المتألّمة إلى الاشتغال على الحداد، ويعدّ الحداد نشاطًا نفسيًّا، واستجابةً لتجربة أليمة، يعيش فيها الفرد حالةً من الاكتئاب جرّاء فقدان موضوع الحبّ، ويسمح طقس الحداد بالحفاظ على أمن «الأنا» واستقرارها، وإذا لم تمارس «الأنا» في المقابل طقس الحداد إزاء (الموضوع)، فإنّ ذلك يجعل الذات تعيش في خضمّ الصراعات النفسية، غير قادرة على التكيّف مع واقعها الداخلي والخارجي والموضوعي. الحداد يذكّر بموت «الرّوع»؛ بانطفائها وعجزها، وليس كلّ موت يحمل معه حدادًا؛ إذ يجب أن يكون المفقود ذا أهمية قصوى، فالمهمّ في الحداد هو التعلّق والفقدان. كما هي علاقة «محجان» بـ «الرّوع»، كما أنّ الفقدان ليس في الشّخص المفقود نفسه، وهي « الرّوع»، بل فيما تمثّله بالنسبة لـ «محجان»، في رابطته معها، قيمتها وعلاقته بها.. يعيش «محجان» المرحلة الثانية من مراحل الحداد بعد مرحلة «الصّدمة»، وهي المرحلة المركزية أو الحالة الاكتئابية؛ إذ يعيش فيها حالة من الانطوائية نتيجة الجهد المبذول في استحضار ذكرياته مع «الرّوع»، تجعله غير قادر على سحب الاستثمار من الموضوع المفقود إلى مواضيع جديدة، أو إدماج ذلك الانقطاع أو الفقد. فـ «ذات» محجان تقوم بتثبيت الموضوع المفقود «الرّوع»، بإهمال العالم الخارجي (مجتمع القرية)، وإشعال النار فيه؛ ممّا يجعلها غير قادرة على التعويض، والدخول في تجربة جديدة؛ لهذا حدث اللاتوافق بينه وبين الآخر (مجتمع القرية) الذي لا يعوّض الموضوع المفقود. بعد أن أحرق «محجان» مزارع القرية بـأرواعها كلّها، ذهب إلى «محبوبته» الموضوع المفقود؛ ليتماهى معها في كينونة واحدة. 

«خرج محجان من الحوض، ولبس ملابسه الجديدة. ثمّ وقف أمام الرّوع، وقد أحضر معه حبلًا متينًا لفّه على ساعديها. عندها التحم بها، ووضع ساعديه، وأسند ظهره إلى جسدها، ثمّ أدخل يديه في الرّباط، صالبًا نفسه على جسدها. أغمض عينيه، واتّحد بروحه فيها ليكون هو فيها، ولتذوب هي فيه، فتحوّل إلى روع قائمة وسط الحقول». 

مقالات مشابهة

  • رسميا.. هذه هي القيمة الجديدة للأجر الوطني المضمون ومنحة البطالة
  • الدفاع المدني: 10 آلاف جثمان تحت الأنقاض بغزة وجهود الانتشال محدودة
  • وزير الاستثمار: نستهدف تعظيم الصادرات ذات القيمة المضافة وخفض عجز الميزان التجاري
  • شحنة معدات عسكرية ضخمة تصل "إسرائيل" من واشنطن
  • صناعة الخـوف قراءة في رواية «الرّوع» لـ زهران القاسمي
  • الدفاع المدني لصفا: حفار واحد فقط يعمل بالميدان وانتشال الجثامين يحتاج لتدخل عاجل
  • الدفاع المدني لصفا: حفار واحد يعمل فقط في الميدان وانتشال الجثامين يحتاج لتدخل عاجل
  • الطريقة الصحيحة لتحويل القيمة المالية لحجز وحدة في مبادرة بيتك في مصر
  • كايزر تشيفز يتفوق في القيمة التسويقية على الزمالك
  • تقرير: قفزة نوعية في صادرات صناعات تركيا الدفاعية