لجريدة عمان:
2025-12-13@11:32:16 GMT

قوة المستضعفين.. تأملات في المقاومة

تاريخ النشر: 28th, January 2024 GMT

إذا كان من السهل على أي دارس للكهرباء تعريفُ المقاومة بأنها خاصية فيزيائية تقيس مدى قدرة المادة على عرقلة مرور شحنات التيار الكهربائي عبرها؛ فإن محاولة وضع تعريف فلسفي جامع مانع لمفهوم المقاومة لهي مسألة أكثر صعوبة مما هي عليه في المختبرات التي تفحص عبور الإلكترونات. فالممارسات الإنسانية، بتداخلها العميق بين الذاتي والموضوعي، وسط نظام معقد من السُلُطات وتوازنات القُوى، قادرة باستمرار على توليد أنماط وأساليب متعددة من المقاومة الجمعية أو الفردية، التي تُعاش كفلسفة حياة ويعاد اختراعها في ممارسات مختلفة.

وهنا يمكننا أن نستفيد من دارس الفيزياء الكهربائية في تحديد المبدأ الرئيس الذي تعمل المقاومة من خلاله كردة فعل ضد قوة أو سلطة ما، مطوِّرة حالة من «العناد الإيجابي» تتحول معها من الاستجابة اللاواعية إلى الوعي والتنظيم، وذلك قبل أن تفرض نفسها، هي الأخرى، كسُلطة منشقة تؤسس ببطء لواقع مناهض بديل.

إن المقاومة موقف يبدأ من رفض واقع قائم رفضا معنويا يتجذر بقول: «لا» النافية الناهية في آن معا، تلك الـ«لا» الهامسة التي تكبر شيئا فشيئا حتى تدوي كصرخة غير منظمة من شأنها أن تُعرقل الانسياق العام، أو أن تُعكّر -على الأقل- هيمنته المُطلقة ريثما تُبلور رؤيتها للنضال ضد الواقع المرفوض وتُنظم نفسها في صور وتعبيرات محددة وواعية. ومن الملفت أن يرافق هذه الحالة من الرفض إحساس داخليٌّ بالعودة إلى الذات أو الشوق إليها، حتى لو كانت هذه الذات المنشودة معنىً مُتَوهما. ولا ينمو هذا الشوق إلى الذات إلا في ظل إحساس عميق بالاغتراب عنها. إنها، إذن، لحظة شوق عارم في جو مثالي من الاغتراب الذي ينشأ نتيجة للحياة تحت سلطة قاهرة تمثلت عبر تاريخ المقاومة في سلطة الاحتلال أو الاستعمار أو الاستبداد المحلي. وهنا يتدخل الأدب لتصعيد هذا الحنين وتحويله إلى وقود ثوري.

يمكن النظر إلى المقاومة كدفاع تلقائي عن الذات أو الهوية المهدَّدَة، بصرف النظر عن استمرارها في فعل منظم أو تلاشيها أمام قوة الردع. وهذا تفسير كفيل ليؤشِّر إلى أن المقاومة فعل أخلاقي من حيث المبدأ، قبل أن ترتقي إلى الفعل السياسي. بعبارة أخرى فإنه يمكن القول: إن المقاومة نوع من النضال الأخلاقي ضد القوة/ القوى المتفوقة من الناحية المادية. ولذلك فإن القاعدة الأخلاقية التي تنطلق منها المقاومة تمثل رأسمالها النوعي لإدارة اشتباك طويل الأمد مع التفوق السياسي والعسكري واللوجستي الذي تتمتع به سلطة الواقع (العدو) وهذا ما يُفسر تباهي الخطاب المقاوم بتفوقه الأخلاقي والتشبث بالفضائل التقليدية كالعدالة والشجاعة والتضحية التي تفتقر لها القوى النظامية المهيمنة على الواقع بحساباتها المادية. ولعل هذا التفوق الأخلاقي بحد ذاته، المضاد للتفوق المادي، شافعا كافيا للمقاومة حتى في لحظة انكسارها أمام العدو التي تعترف بها كنوع من «الهزيمة البطولية».

ولكن لا يمكن لحركات المقاومة أن تتحول إلى هيمنة، كما لا يمكن أن تكون امتدادا للسلطة الغالبة إلا لحظة انتصارها التي تكون إعلانا ضمنيا لنهايتها كمقاومة. فجزء من طبيعة المقاومة وحيويتها يأتي من اعتمادها على «قوة المستضعفين» على حد تعبير فاتسلاف هافل، أو بالمهزومين الذين يعدون العدة لمحاولة جديدة للاشتباك مع سلطة الواقع.

ولطالما كانت الأقليات الصغيرة هي البيئات الأكثر ابتكارا واحتضانا للفكر المقاوم. ولن نحتار في تفسير هذا الاستنتاج الذي يبرز كنتيجة مباشرة للظلم المتكرر الذي يلحق بالأقليات عبر التاريخ في مختلف جهات العالم. وبذلك تكون المقاومة سلوكا ضروريا، غريزيا، لمقاومة تمدد المتن على الهامش وطغيان السائد على الاستثناءات القليلة المتفرقة. وفي الوقت نفسه فإن هذا الفكر، المتمرد بالضرورة، لا يولد كحالة جمعية بل يبدأ بتمرد فردي أعزل وموحش يحملنا للعودة إلى نماذج شاخصة في التاريخ الإسلامي، كشخصية أبي ذر الغفاري المنفيّ في الرَّبذة، وإلى تراث لغوي زاخر بالتمرد والثورات، حيث تتردد المقولة المنسوبة للإمام علي بن أبي طالب: «لا تستوحشوا طريق الحق لقلة سالكيه».

سالم الرحبي شاعر وكاتب عماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: التی ت

إقرأ أيضاً:

برعاية أم الإمارات، «الإمارات للإفتاء» ينظم مؤتمر الأسرة في سياق فقه الواقع 15-16 ديسمبر

أبوظبي
أعلن معالي العلامة الشيخ عبد الله بن بيه - رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي عن إطلاق الهوية البصرية الرسمية لمؤتمره العالمي الثالث بعنوان: «الأسرة في سياق فقه الواقع: هوية وطنية ومجتمع متماسك»، والمقرر انعقاده يومي 15 - 16 ديسمبر 2025، في العاصمة أبوظبي، تحت الرعاية الكريمة لسمو الشيخة فاطمة بنت مبارك «أم الإمارات»، رئيسة الاتحاد النسائي العام، رئيسة المجلس الأعلى للأمومة والطفولة، الرئيسة الأعلى لمؤسسة التنمية الأسرية.
وتعكس الهوية البصرية التي تمَّ إطلاقها رؤية المؤتمر في ترسيخ الأسرة الإماراتية محورًا ومنطلقًا وغاية لجهوده العلمية ومبادراته الوطنية؛ إذ يستلهم الشعار شكل البيت الإماراتي التراثي بوصفه رمزاً للثبات والانتماء، ويجسّد صلابة الروابط العائلية، وحفظ الموروث الثقافي، في سياق حضاري ينفتح على تحولات العصر وتطوراته.
ويرتكز التصميم على حضور كلمة «الأسرة» بخط حديث متماسك يعبّر عن وحدة أفرادها وتلاحم بنيانها، فيما تُبرز العناصر الهندسية المحيطة بالشعار: صلة الأجيال وتداخل مكونات المجتمع في نسيج واحد، كما يستوحي الرمز بصرياته من: تفاصيل معمارية وزخرفية إماراتية أصيلة، تشمل نقوش الجص، وسعف النخيل، والأفلاج، والكثبان الرملية؛ بما يعكس عمق الهوية الوطنية وتجذّر قيم الكرم والمحبة والتآزر، ويؤكد امتداد علاقة الأسرة بالأرض عبر الأجيال.
وتبرز الهوية البصرية العلاقة الوثيقة بين «فقه الواقع» والأسرة، من خلال التأكيد على أهمية استيعاب التحولات الاجتماعية والعلمية والرقمية، وتقديم فتاوى أسرية مؤسسية تراعي الأعراف الوطنية وتستند إلى مقاصد الشريعة في: حفظ النسل، واستدامة الروابط الزوجية، ورفع الحرج عن الناس، بمنهجية معتدلة وميسّرة.
كما تتضمن الهوية منظومة من القيم المركزية التي يتبناها المؤتمر، أبرزها: الانتماء الوطني، نمو الأسرة، الرحمة والإحسان في العلاقات الأسرية، الاعتدال في الفتوى، وأخلاقيات التعامل مع التطورات العلمية والذكاء الاصطناعي، إضافة إلى دور الأسرة في تعزيز التماسك المجتمعي والانفتاح الحضاري المتوازن.
وأكّد المجلس أنَّ إطلاق الهوية البصرية يمثّل مرحلة محورية في التحضيرات الجارية للمؤتمر، بوصفها إطارًا جامعًا لرسالته وقيمه ومضامينه العلمية، ويعبّر عن حرصه على تقديم نموذج مؤسسي معاصر، يجمع بين عمق المبادئ والاعتبارات الشرعية وروح الهوية الإماراتية، ويستشرف مستقبل الأسرة في سياق فقه الواقع.

أخبار ذات صلة «الفارس الشهم 3» تبدأ تحميل «سفينة محمد بن راشد الإنسانية» لدعم غزة الهلال الأحمر الإماراتي يفتتح عيادة متنقلة في الساحل الغربي باليمن

مقالات مشابهة

  • إقبال دبلوماسي كثيف نحو السودان.. كيف يمكن أن تتم ترجمة نتائجه على أرض الواقع
  • برعاية أم الإمارات، «الإمارات للإفتاء» ينظم مؤتمر الأسرة في سياق فقه الواقع 15-16 ديسمبر
  • "صحح مفاهيمك".. ثقافة القاهرة تنظم لقاءات توعوية متنوعة
  • حماس تستهجن تقرير "العفو الدولية" الذي يزعم ارتكاب جرائم يوم 7 أكتوبر
  • جامعة قناة السويس تعزّز دورها المجتمعي بسلسلة ندوات توعوية وتربوية تستهدف طلاب المدارس
  • تقرير أميركي: انتعاش النفط الليبي بين الواقع والطموح
  • تأملات قرآنية
  • أجمل طبق للتقديم .. طريقة عمل سلطة البطاطس
  • العداء الإثيوبي.. والصبر المصرى
  • الإدارة التي تقيس كل شيء.. ولا تُدرك شيئًا