عبد الله علي إبراهيم
كان يوم الـ 26 من يناير2023 الذكرى الـ 39 بعد الـ 100 لفتح محمد أحمد المهدي للخرطوم عام 1885 وتأسيس الدولة المهدية من فوق أنقاض دولة الحكم التركي المصري (1821-1885).
لم تمر هذه الذكرى هذه المرة كتاريخ كعهدنا بها ننوه بها محتفيين بها كمأثرة وطنية وسابقة في بناء الدولة السودانية المستقلة، ويخرج فيها المرحوم السيد الصادق المهدي، حفيد المهدي ووارث إمامته على أنصاره وزعيم حزب الأمة، ليجدد عزائم الأمة في يوم نصر تاريخي لها.


زكى الإمام الراحل فتح الخرطوم في آخر احتفالاته به قبل رحيله في الـ 26 من نوفمبر 2020 ناظراً لثورة ديسمبر 2019 كصنيع جميل للمهدية التي استنهضت همم السودانيين للحرية، ولا سبيل في قوله لفهم النزعة الثورية السودانية من دونها.
مرت هذه الذكرى لفتح الخرطوم في يومنا والمدينة في براثن واقع حرب لاحتلالها. فاختلط تاريخ فتح الخرطوم بواسطة المهدي بواقع الصراع حولها ليومنا بين القوات المسلحة و"الدعم السريع". فتبنّى طرف "الدعم السريع" الفتح كسابقة لإهلاك "دولة 56" في السودان والتي رغب في وراثتها "كقرية بطرت معيشتها"، وهي الآية التي تلاها المهدي نفسه في أول خطبة جمعة له بعد نصره على الحكومة التركية.
أما طرف القوات المسلحة فاسترجع في الذكرى، وقد رأى خراب المدينة على يد "الدعم السريع"، ما أذيع عن الدمار الذي لحق بالخرطوم خلال فتح المهدي لها. فضرست ذكرى الفتح نشر مادة معربة في المواقع عن "أوتاقو ديلي" النيوزيلندية (19 يناير 1899) شديدة الخصومة للخليفة عبدالله، القائم على أمر السودان يومها. فذكرت من فظائعه مثل قتل 15 ألف من سكان الخرطوم عند الفتح، وبطش بطشاً لم يرحم معه الدبلوماسيين ولا رجال الدين، فبتر يد القنصل الإغريقي وقطع جسده إرباً بالسواطير ورمى بأجزاء جسده على قارعة الطريق. كما علق راهبة أسترالية من معصميها على عارضة مرتفعة وجلدها بعصا سميكة على باطن قدميها وقلع أظافرها من قدميها.
وجاء في عنوان هذه المادة في الوسائط "ما أشبه الليلة بالبارحة"، أي أن فتح الخرطوم بيد المهدي مطابق لغزوها على يد الـ "جنجويد" حذو النعل بالنعل. ونقول عرضاً إنه من رأي الكاتب أن الخليفة انطوى على نازع إجرام وسفك دماء أخفاه عن المهدي بحياته إلى حد ما، ثم أسفر هولاً وجوراً لما خلا له الجو بموت المهدي. ولا يعرف المرء كيف نجح الخليفة في قتل 15 ألف شخص في فتح الخرطوم والمهدي، الذي أخفى الخليفة القادم عنه فظاظة نفسه، واقف على الأمر. وصح السؤال ما هو "الحد ما" الذي انخدع به المهدي عن طوية خليفته متى وقف خليفته عنده ولم يفحش. المؤكد أن هذا "الحد ما" ليس عند قتل هذا العدد المرموق من سكان المدينة البالغ عددهم 50 ألفاً.
وستكون العبارة الأخيرة أعلاه المدخل إلى نقد الكتابات البريطانية والأوروبية عن المهدية التي قبلنا بسلطانها المعرفي بغض النظر عن حقائقها واستنصرنا بها في خصوماتنا السياسة. وهي كتابات خرجت من مصنع تعبئة الرأي العام البريطاني للحماسة لفكرة "استعادة السودان"، وهي العبارة في صيغتها التاريخية والمقصود استعادته للخديوية المصرية، التي كانت وجدت معارضة مستقيمة من وليام قلادستون رئيس الوزراء بذاته. وصبت تلك التعبئة جام نيرانها على الخليفة عبدالله ودولته لتدخل في روع البريطانيين نبل مهمة استنقاذ السودانيين من مستبد شرقي كما يقال. وتولت كبر ذلك الأرزاء بدولة المهدية إدارة الاستخبارات بالجيش المصري التي كان عليها ريقنالد ونجت باشا الذي صار حاكماً عاماً على السودان بعد استعادته. وكانت أبرز إسهاماته في باب هذه التعبئة تحريره كتابات ردولف سلاطين، حاكم دارفور في الدولة التركية في السودان، والقس جوزيف أهروالدر ممن هربوا من محبسهم في أم درمان وكتبوا كشاهدي عيان في الألمانية عن استبداد الخليفة عبدالله وشروره. وزاد كتاباتهما ضغثاً على إبالة تحرير ونجت للكتابين في الإنجليزية كما سيرد.
وكانت تلك التعبئة للإمبراطورية في بريطانيا عامة. وتناولها بسداد الأكاديمي البريطاني جون مكنزي في كتابه "الدعاية والإمبراطورية: استغلال الرأي العام البريطاني، (1880-1960)" الصادر عام (1984)، فلم تكن الحكومة البريطانية، في قوله، طرفاً كبيراً في هذه الدعاية المحرضة لبناء الإمبراطورية البريطانية، ولكن تكفلت بها في آخر القرن الـ19 وأوائل القرن الـ20 وكالات دعائية تجارية سرّبت دعوتها إلى المجتمع في دوائر التعليم والجيش والكنائس وعامة الناس الذين توسلت لهم بالعروض المسرحية والترفيهية والمعارض، وسمّى مكنزي تعبئة عامة الناس لدعم بناء الإمبراطورية بـ "الإمبريالية الشعبية".
ومن المستغرب خضوع صفوتنا للمعارف التي تلقتها عن أدب الدعاية الإمبريالية عن المهدية لا تزيد على إعادة إنتاجه كما رأينا في حين كان من انتقد هذا الأدب هو من أسس للتأرخة المهنية للمهدية. وهو الأكاديمي الإنجليزي ب م هولت الذي استأجرته الإدارة البريطانية خلال الخمسينيات لفهرسة وثائق الدولة المهدية التي كانت توافرت على جمعها بدأب خلال استعادة السودان وحفظتها طوال تلك الأعوام.
ونواصل

IbrahimA@missouri.edu  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: فتح الخرطوم

إقرأ أيضاً:

في حوار خاص لـ "الفجر".. هاني المهدي يكشف أسرار القوة الناعمة لمصر عبر اللغة العربية

في ظل التغيرات المتسارعة التي يشهدها العالم، وتنامي الحاجة إلى التفاهم الثقافي والحضاري بين الشعوب، تبرز اللغة العربية كأحد أهم جسور التواصل الإنساني والمعرفي، لا سيّما لما تحمله من ثراء لغوي وتاريخي وحضاري عميق. ومع تزايد الاهتمام العالمي بتعلم اللغة العربية لأغراض دينية، أكاديمية، اقتصادية، وسياسية، تتعاظم مسؤولية الدول العربية – وفي مقدمتها مصر – في تطوير هذا المجال الحيوي واستثماره كأداة فاعلة لتعزيز مكانتها الثقافية والدبلوماسية على الساحة الدولية.

ومن هذا المنطلق، يتناول موقع الفجر  هذا الحوار مع الدكتور هانئ محمد المهدي، عضو هيئة التدريس بجامعة الزقازيق والخبير في تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها، أبعاد هذا الملف المحوري الذي لا يقتصر تأثيره على التعليم فقط، بل يمتد إلى مجالات الاقتصاد، والسياحة، والدبلوماسية الثقافية. يسلّط الحوار الضوء على واقع تعليم العربية للوافدين في مصر، ومستوى الإقبال العالمي عليها، والتحديات التي تواجه إعداد المعلم الكفء، إضافة إلى دور تقنيات الذكاء الاصطناعي في تجويد العملية التعليمية. كما يطرح الدكتور المهدي رؤى مستقبلية جديرة بالتأمل لدعم هذا القطاع الواعد، من أجل أن تبقى مصر منارةً للغة الضاد وقِبلةً للراغبين في تعلمها من مختلف أنحاء العالم.

نرحب بالدكتور هانئ محمد المهدي، عضو هيئة التدريس بجامعة الزقازيق، وخبير ومستشار في تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها. بدايةً، دكتور هانئ، نود أن نتعرف من حضرتكم على أهمية هذا المجال، وموقع مصر فيه.

أشكركم على الاستضافة. تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها، وإعداد معلميها، يمثل مجالًا بالغ الأهمية، ليس فقط من الناحية التربوية، بل أيضًا كرافد من روافد الاقتصاد الوطني، وأداة فعالة لدعم القوة الناعمة المصرية في الخارج. لقد كانت مصر، ولا تزال، منارةً للعلم، ومركزًا رئيسًا لإعداد الكفاءات في هذا المجال الحيوي، الذي بات يلقى اهتمامًا عالميًا متزايدًا.

 هل ترون أن هناك إقبالًا ملحوظًا على تعلم اللغة العربية من غير الناطقين بها داخل مصر؟

 نعم، الإقبال في تزايد مستمر من مختلف الجنسيات. وتشير الإحصاءات إلى أن نحو 15 مليون شخص حول العالم يرغبون في تعلم اللغة العربية، من بينهم أكثر من خمسة ملايين لديهم رغبة ملحة لذلك. وعند البحث عبر الإنترنت باستخدام مصطلحات مثل "Learning Arabic"، تظهر مصر في مقدمة الخيارات، وتحديدًا مدينة نصر التي تحتضن أكبر سوق دولي لتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها، وهو ما يعكس حجم الاهتمام العالمي ودور مصر المحوري.

 من وجهة نظركم، ما مدى الدعم المؤسسي لهذا القطاع في مصر؟

هناك جهود مؤسسية مشكورة، أبرزها ما تقوم به الجامعات المصرية التي أنشأت أقسامًا متخصصة، مثل قسم تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها بكلية الدراسات العليا للتربية بجامعة القاهرة. 

هذا القسم يقدم برامج أكاديمية متكاملة، تبدأ بدبلومات تمهيدية وتمتد إلى درجات الماجستير والدكتوراه. واليوم أصبح بالإمكان الحصول على ترقيات أكاديمية متخصصة في هذا المجال، بعد أن كان ذلك حلمًا بعيد المنال في الماضي.

وماذا نحتاج لتحقيق نقلة نوعية في هذا المجال؟

 نحتاج إلى دعم أكبر، سواء من المؤسسات الحكومية أو منظمات المجتمع المدني، لدفع هذا المجال نحو آفاق أوسع. الدعم لا يعني بالضرورة التمويل فقط، بل يشمل أيضًا الاعتراف القانوني والمؤسسي بجهود العاملين فيه، وتهيئة بيئة حاضنة تضمن لهم التأهيل العلمي والتربوي والمهني المستمر. هذا المجال يعكس صورة مصر الحضارية، ويستحق أن يحظى بالعناية والاهتمام.

 شاركتم مؤخرًا في ندوة ناقشت دور الذكاء الاصطناعي في تعليم العربية. كيف ترون هذا التكامل؟

 الندوة جاءت تحت عنوان "تمكين المعلم من استخدام الذكاء الاصطناعي في تعليم اللغة العربية"، وهو موضوع بالغ الأهمية. الذكاء الاصطناعي يتيح إمكانيات واسعة في إعداد المحتوى، وتصميم الدروس، وقياس الأداء اللغوي. وقد استعرض مركز "لسان العرب" تجربته الرائدة في هذا المجال، من خلال توظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي في تقديم دروس تفاعلية، وتطوير وسائل التقييم، وتعزيز المهارات اللغوية الأربع: الاستماع، والكلام، والقراءة، والكتابة، عبر أدوات متعددة مثل الفيديوهات التفاعلية وتقنيات التعلم التكيفي.

وماذا عن أبرز التحديات التي تواجه إعداد معلمي اللغة العربية لغير الناطقين بها؟

 هناك عدة تحديات، أهمها:

التمكن العلمي: كثير من الخريجين يفتقرون للأساس المتين في علوم اللغة العربية، مما يؤثر سلبًا على قدرتهم في التعليم.

النموذج اللغوي: المعلم يجب أن يكون ناطقًا بالعربية الفصحى بطلاقة، لأنه يُعد قدوة لغوية للمتعلمين.

شخصية المعلم: لا يكفي أن يمتلك المعرفة، بل يجب أن يتحلى بثقة الحضور، والقدرة على التواصل، وفهم احتياجات الطلاب من خلفيات ثقافية متنوعة.

المهارات المهنية: لا بد من تنمية المهارات التربوية والتقنية، خصوصًا في ظل التحول نحو التعليم الرقمي والتفاعلي.

بإجمال، التحديات تتوزع بين المعرفة، والكفاءة، والشخصية، والمهارات، وكلها ضرورية لصناعة معلم مؤهل لتعليم لغة القرآن الكريم بفاعلية واقتدار.

 وفي نهاية هذا الحوار، ما النصائح التي تود تقديمها لمعلمي اللغة العربية، لا سيما في هذا التخصص؟

 أوصي المعلمين بأمرين أساسيين:

أولًا، أن يلتزموا باستخدام اللغة العربية الفصحى في كل جوانب تواصلهم المهني، فالمعلم قدوة لغوية.

ثانيًا، أن يحرصوا على القراءة الجهرية المستمرة لمصادر الأدب العربي الرفيع، مثل مؤلفات طه حسين، والعقاد، والمنفلوطي، والرافعي، لما فيها من أساليب فصيحة وبناء لغوي سليم. كما أنصحهم بقراءة القرآن الكريم يوميًا، فهو المصدر الأول للفصاحة والبيان.

 شكرًا جزيلًا لكم، دكتور هانئ، على هذا اللقاء الشيق والمفيد.

 الشكر موصول لكم على اهتمامكم بهذا الموضوع الحيوي، وعلى إتاحة الفرصة لتسليط الضوء عليه.

مقالات مشابهة

  • ولي العهد السعودي: سنواصل جهود إنهاء الأزمة في السودان من خلال منبر جدة الذي يحظى برعاية سعودية-أميركية
  • مسؤول حكومي سابق يكشف علاقة الإمارات بالنحاس المسروق من السودان.. برفقة حراسة مشددة من قيادات الدعم السريع
  • ???? الجهة التي سيقع عليها الدور بعد السودان سوف تبدأ الحرب فيها بالمسيرات
  • وزير الداخلية السوداني يصدر توجيهاً بشأن الوجود الأجنبي في الخرطوم
  • عامان على الحرب: صورٌ تحكي مأساة الإعلام السوداني وصمت استوديوهاته
  • في حوار خاص لـ "الفجر".. هاني المهدي يكشف أسرار القوة الناعمة لمصر عبر اللغة العربية
  • ثُمَّ شَقَّتْ هَدأةَ الليلِ رُصَاصة !!
  • الخرطوم تحذر من احتمال وقف تصدير النفط من جنوب السودان
  • المتحف الوطني في الخرطوم.. أُفرغت محتوياته الثمينة ونُهبت ودُمّرت
  • المملكة والسفير – السعودية تدشن إعمار السودان