الجزيرة:
2025-12-13@15:16:04 GMT

أما آن للجفاء المغربي الجزائري أن يهدأ؟

تاريخ النشر: 8th, February 2024 GMT

أما آن للجفاء المغربي الجزائري أن يهدأ؟

قرأتُ باهتمام بالغ ما قالته السياسيّة الجزائرية لويزة حنون، من أنها ترفض أن يُزجّ ببلدها في حرب مع المغرب. ليس الأمر قولًا يُلقى على عواهنه؛ لأن لويزة حنون من أوتاد السياسة في الجزائر، لها تجربة طويلة، عبَرت فيه محطات حاسمة في منعرجات بلدها، وأدّت الثمن الغالي لمواقفها والتزاماتها. لا يُقاس وزنها بوزن الحزب الذي ترأسه، فهي ممن يشكلون ضميرًا لبلد، ومرجعًا، وبُوصَلة له.

أقول قولي هذا أنا المغربي، الذي لا يجد نفسه في جفاء مع الجزائر، فبالأحرى عداء. كل شيء يُوحّد بين المغرب والجزائر، عدا السياسة، والسياسة مرتبطة بمنظومة، ومرجعية، وسياق، وربما أشخاص. ليست هي الثابت وإنما المتحول.. ولكن هذا المتحول هو ما طغى على الثابت، بل الثوابت، ويوشك أن يُطوِّح بكل شيء.

رغم الجفاء بين البلدين، فلم تنطفئ جَذوة الأمل، والدليل هو نداء لويزة حنون، ونداءات مماثلة، أسمعها هنا في بلدي، وإن كانت خافتة، لا تكاد تُبِين. مازالت هناك مساحة للعقل والرّوية، ولا تزال، هنا وهناك، عقول راجحة، وأصوات حصيفة.. ولكننا ندرك أن دعوة العقل هي آخر ما ينفذ حين تعلو الجلبة ويعمّ الصراخ. ونحن في ساعة الصراخ، ولمن يمعن في الصراخ.

لا يعرف الجيل الحالي في البلدين، بعضهما بعضًا إلا من خلال سردية رسمية، رسمت عدوًا ضروريًا، أو عدوًا حميمًا، كما يقال. فتح الجيل الحالي في البلدين عينَيه والحدود مغلقة بين البلدين. لم يعشْ مد مرحلة التحرير، ولا ما أعقبها من تعلُّق بأمل وحدة المغرب الكبير.

يتراشق فاعلون إعلاميون على أشياء مشتركة هي دليل على تداخل الشعبين، على هُوية الكسكس، والقفطان، والزليج، والملحون… أجد العنت الكبير أن أذْكُره لطلبتي دائمًا، أننا بالمغرب كنا ندرس، يوم أن كنت تلميذًا، تاريخ جمعية علماء المسلمين، وأدبيات عبدالحميد ابن باديس، ونصوص البشير الإبراهيمي، وقبل ذلك نجمة شمال أفريقيا، وبعدها، رواية نجل الفقير لمولود فرعون، والثورة الصناعية في الجزائر.

ينظر إليَّ طلبتي في ذهول كما لو أحدثهم عن شيء من المريخ. هؤلاء الكراغلة، من ينعتوننا بالمراركة، تدرسون شؤونهم، ولا تقيمون الفرق بينكم؟ أأنت جادّ يا أستاذ؟

طبعًا لا يمكن الاستهانة بالمناوشات الكلامية التي يغذّيها "المؤثرون"، ولو كانت تصدُرُ عن ظن، وتنِمُّ عن جهل، ودافعها حكم مسبق. فالنار بالعودَين تُذْكى، كما يقول الشاعر، وأول الحرب الكلام، كما يُضمِّن.

ولا جدالَ، حسب ما أقدّر، أن القيادتَين، تدركان عواقب المغامرة، وتعيان عمق الوشائج بين البلدين، ولكننا ندرك أن العالم متداخل، وأن الحروب قد تُخاض بالوكالة، يُسعّرها آخرون، لفائدتهم. وذلك ما ينبغي أن يستحضره العقلاء في البلدين. مما أشارت إليه لويزة حنون، أطراف يكون من مصلحتها أن تؤلب هذا على ذاك، ثم تنفض يدها وقد أضعفت هذا وذاك.

الحرب التي أريدها ما بين بلدي المغرب وبين الجزائر، هي الحرب على الفقر، وعلى الجهل. بل أريد أن نخوضها سويًا، ولا يمكن كسب هذه "الحرب" إلا سويًا.

تقوم السياسة طبعًا على الواقعيّة، بل هي كما يُعرفها البعض، فنّ الممكن، ولكن السياسة وَفق الممكن، في سياق معين، قد تكون تربيع الدائرة، والاجترار، والقَمْص في المكان ذاته، كما يفعل الحصان بحوافره، ولذلك لا بدّ أحيانًا هتك ستر الواقعية، وكسر الحواجز المنتصبة، بالحلم والخيال، وبتعبير علمي، يتوجب تغيير البرادايم أمامَ وضع معضل.

لا انفراج في الأفق بين البلدَين وَفق النموذج القائم الناظم للعلاقات بين البلدين. العَرَض أضحى سببًا، واختلط السبب بالنّتيجة، وأضحى الأمر كمن يُقدّم "علاجًا" بناءً على تشخيص سيئ. تصوروا من يتناول حبة تبديد صداع الرأس، وهو يشكو قرحة المعدة. لا يفتأ يتناول الحبة، تلو الحبة، والقَرْح يشتد، وهو لا يبرأ.

يمكن أن أتوقع الأسوأ. أسعى أن أفكر متشائمًا، عسى أن يتاح لنا أن نعمل متفائلين. لا أتوقع بعد أن تهدأ الحرب على غزة أن تُترك المنطقة لحالها… لا أرى أن من سعوا أن ينمطوا المنطقة بعد سقوط حائط برلين، وبعد 11 سبتمبر/ أيلول، أن ينفضوا أيديهم. سيُسعّرون الحروب التي يُحسنون، بتوظيف تناقضاتنا، واللعب على نرجسيتنا: المغرب ضد الجزائر، والجزائر ضد المغرب، بالقول للجزائر ما تريد أن تسمعه، وترديد ما يريده مسؤولو المغرب أن يسمعوه، وتأليب العرب ضد الأمازيغ، والأمازيغ ضد العرب، والحداثيين ضد المحافظين، والمحافظين ضد الحداثيين، وهلمّ جرّا.

سنشهد جيلًا جديدًا من صياغة المخيال، كما سبق أن أوصى المحافظون الجدد قبل عقدين. وأحسب أن العمل بدأ من لدن الأكاديميين من أجل قَولبة المنطقة. وأتمنّى أن أكون مخطئًا.

لندعِ السياسة للسياسيين، مَن يشتغلون في دائرة الممكن، ويُربّعون الدائرة، ولْيُتَحْ لمن لا ينزغ بهم نزغ السياسة أو تشطح بهم الأهواء، أن يلتقوا فيما بينهم، وأن يتحدثوا بحرية، فعسى أن يُشخّصوا الداء، ولعلهم أن يهتدوا للدواء، أو على الأقل أن يكفّوا عن تناول الدواء غير الصحيح.

في سبتمبر/ أيلول 1991 بمناسبة انعقاد قمة مغاربية بالدار البيضاء (وأظنها الأخيرة)، وكانت حرب "عاصفة الصحراء" قد وضعت أوزارَها، وكنت حينها مكلفًا بالدراسة في الخارجية المغربية، طلب صحفيّ من جريدة "لوبينون" (الرأي) المغربية هو السيد نعيم كمال، أن يلتقي بي في فندق شيراتون، كي أضعه في الصورة كما يقال.

كان مما قلته له، والحديث بيننا بالفرنسية: إنهم سيشتغلون علينا (كذا)، وأنا أعني المنطقة. وكان رده، من جنس تخوفي، أنْ ليس الأمر بمستبعد. وللأسف الشديد تحقق ما توقعته، وتوقف الحُلم المغاربي، وضُرب الحصار على ليبيا، ودخلت الجزائر مرحلة اهتزازات قوية، ولم تلتئم قمة مغاربية بعدها.

ومن يدري؟، فلعلّ سيناريو ما بعد عاصفة الصحراء أن يتكرر بعد الحرب على غزة، وإن تكرر، فسيكون أهوج، لا يُبقي ولا يذر.

أقول تمامًا ما قالته لويزة حنون، وليس لي وزنها، ولا جُرأتها، ولا حصافتها: لا أريد لبلدي أن يُزجّ به في مغامرة مع الجزائر.. وما زلت أتطلع لعقلاء، هنا وهناك، كي يطفئوا فتيل الجفاء، وأتشوف لمن يحضن هؤلاء العقلاء. هناك فرصة تاريخيّة كي يستمع عقلاء البلدين لبعضهما بعضًا، وليس من الحكمة أن نُضيّعها.

وإذا قالت حنّون فصَدِّقوها، فالقول ما قالت حنّون.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: بین البلدین لویزة حنون

إقرأ أيضاً:

بين السياسة والدهاء.. أسرار علي ماهر باشا في إدارة مصر

علي ماهر باشا، ذلك الاسم الذي يرن صداه في صفحات التاريخ المصري، ليس مجرد سياسي عابر أو موظف حكومي، بل رجل عصامي وفذ، جمع بين الحنكة السياسية والدهاء الاستثنائي، حتى صار يعرف بين معاصريه بلقب "رجل الأزمات" و"رجل الساعة".

علي ماهر، ابن أسرة الشراكسة، ووريث إرث أبيه محمد ماهر باشا، الذي كان مثالا للشخصية القوية والمثابرة، تعلم من نشأته الأولى معنى الانضباط والمسؤولية، وكيفية الاعتماد على الذات منذ الصغر. 

فقد كان والده، رغم انشغاله الواسع بالمناصب الحكومية والعسكرية، يحرص على تربية أبنائه تربية واعية، يغرس فيهم الأخلاق الفاضلة، ويشجعهم على الاجتهاد الفكري والعملي، بل ويمنحهم فرصة إدارة شؤون المنزل كتمرين على القيادة والمسؤولية. 

ومن هذه البيئة المميزة خرج علي ماهر رجلا قادرا على مواجهة التحديات، ورئيسا وزراء مصر لأربع مرات، كان أولها في عام 1936 وآخرها في أعقاب ثورة يوليو 1952، حين كلف بتشكيل أول وزارة مصرية بعد الثورة.

نشأ علي باشا في القاهرة، متلقى تعليمه في المدارس الابتدائية فالتجهيزية، ثم الحربية التي كانت تعتمد النظام الفرنسي، ما أكسبه أساسا متينا من الانضباط والمنهجية. 

وكان والده دائما يختبر ذكاءه ودقة ملاحظاته، حتى وصل الأمر إلى برقية بسيطة عن حالة ابنته المريضة، فأجاب علي بكلمات مختصرة لكنها دقيقة، ما أثار إعجاب والده وأكسبه مكافأة رمزية، لكنه أثبت بلا شك أنه فتى ذو وعي ورؤية ناضجة، كل هذه التفاصيل الصغيرة في نشأته شكلت شخصية سياسية محنكة، قادرة على إدارة الأزمات بحكمة وبصيرة ثاقبة.

مسيرته المهنية بدأت من القضاء، حين شغل منصب قاض بمحكمة مصر الأهليه، ثم تدرج في مناصب النيابة العامة، فكانت له تجربة واسعة في مجال العدالة والقانون، قبل أن يتحول إلى الحياة السياسية بشكل كامل، مشاركا في ثورة 1919، ثم شاغلا منصب وكيلا لوزارة المعارف، وأخيرا رئيسا لمجلس الوزراء. 

لم تكن طريقه سهلة، فقد واجه محنا وتحديات جسام، منها توقيفه خلال الحرب العالمية الثانية بتهمة موالاته لقوى المحور، لكنه برهن دائما على صلابته وصلابة قناعاته، متمسكا بمبادئه الوطنية.

علي ماهر لم يكن مجرد سياسي متسلق للمناصب، بل كان رجل دولة بمعنى الكلمة، شغل منصب رئيس الديوان الملكي في عهد الملك فؤاد، وحصل على نيشان فؤاد الأول، وكان حاضرا في كل اللحظات الحرجة التي مرت بها مصر، يدير ملفات دقيقة بحكمة وذكاء.

عرف عنه قدرة غير عادية على معالجة المشكلات الصعبة، فتراه دائما في قلب الأحداث، مهيئا لحلول عملية وسريعة، ومراعيا لتوازن القوى ومصالح الوطن، لقد كان مثالا للقائد الذي يزن الأمور بعين سياسية، ويوازن بين الشجاعة والحكمة، بين الوطنية والدهاء، بين المبدأ والمرونة.

وعندما نتحدث عن علي ماهر باشا، يجب أن نتذكر أنه كان الأخ الشقيق لرئيس الوزراء أحمد ماهر باشا، وأن الأسرة كلها كانت مثالا للتفاني في خدمة الوطن. 

فقد عاش علي باشا حياة مليئة بالتحديات، وترك بصمة لا تمحى في تاريخ مصر الحديث، فقد تولى قيادة الحكومة في فترات حرجة، وشهد على الأحداث الكبرى التي شكلت مسار الأمة، من ثورة 1919 إلى ثورة 1952، مرورا بمختلف المحطات السياسية والاجتماعية التي صاغت هوية مصر الحديثة. 

وقد رحل عن عالمنا في 25 أغسطس 1960 في جنيف، لكنه ترك إرثا خالدا في القلوب قبل السجلات الرسمية، إرثا من الحكمة، الوطنية، والالتزام العميق بمصلحة مصر.

إن الحديث عن علي ماهر باشا هو الحديث عن روح مصرية صادقة، عن رجل تجسد فيه معنى الخدمة العامة والوفاء للوطن، عن شخصية توازن بين العاطفة والمنطق، بين العقل والوجدان، وتجعل من التاريخ شاهدا حيا على دورها العظيم في صياغة مصر الحديثة.

فكم نحن بحاجة اليوم، ونحن نعيد قراءة التاريخ، إلى مثل هذه الشخصيات التي لا تهاب الصعاب، وتضع الوطن فوق كل اعتبار، التي تعلمنا أن القيادة الحقيقية ليست مجرد منصب أو سلطة، بل رؤية، وضمير، وإصرار على العطاء المستمر، مهما عصفت بنا التحديات.

مقالات مشابهة

  • كوزمين يجهز «الأبيض» لموقعة «مربع الذهب» في «كأس العرب»
  • الإمارات تُقصي الجزائر وتتأهل لمواجهة المغرب في نصف نهائي كأس العرب
  • حجرُ الأحزاب في بركة السياسة
  • الإمارات تقصي الجزائر وتضرب موعدًا مع المغرب في نصف نهائي كأس العرب «فيديو»
  • الإمارات تهزم الجزائر وتضرب موعداً مع المغرب في نصف نهائي كأس العرب
  • عشية انعقاد اللجنة المشتركة بين البلدين.. قيس سعيّد يستقبل رئيس الحكومة الجزائرية
  • الجزائر وتونس يختتمان المنتدى الاقتصادي الجزائري التونسي ويدعمان الشراكات المستقبلية
  • بين السياسة والدهاء.. أسرار علي ماهر باشا في إدارة مصر
  • اعتراف دولي جديد.. اليونسكو تثبت القفطان كعنصر أصيل في التراث الجزائري
  • المغرب يفتح زوج بغال الحدودي لاستقبال 42 شخصاً قادمين من الجزائر