أفغانستان تستمر في إثارة دهشتنا
تاريخ النشر: 11th, February 2024 GMT
في المقالات التي نقلت فيها انطباعاتي بعد زيارتي أفغانستانَ، قلت؛ إن طالبان التي استعادت السلطة قبل عامين ونصفٍ، وطردت القوة العظمى في العالم بعد أن خاضت معها قتالًا شرسًا عشرين عامًا، لم تسعَ إلى تصفية الحسابات مع الشعب. وأضفت أن هذا السلوك يقلب رأسًا على عقب الصورة التي حاولت وسائل الإعلام الغربية رسمها لطالبان على مدى سنوات.
هناك انطباع تشكّل على مدى عقود حول طالبان، وكان المتوقع -وَفقًا لهذا الانطباع- أنها ستسفك دماء الشعب الأفغاني بمجرد أن تصل إلى السلطة، فقد جرت العادة أن يكون سفك الدماء بين القبائل التي تسكن تلك المنطقة سهلًا.
كان المتوقع على الأقل أن تقوم بمحاسبة بقايا النظام السابق المتعاون مع المحتلين الذين تسببوا في مقتل 400 ألف شخص، وقد يخضع هؤلاء لمذابح دون إجراء محاكمات.
في الواقع، قبل مغادرة المحتلين، أفغانستانَ، رسّخوا هذا التوقع في الأذهان، وبقيت في ذاكرتنا صورةُ الناسِ الذين يتشبّثون بعجلات وأجنحة الطائرات الأخيرة التي تركت البلاد، والآخرينَ الذين يركضون وراء الطائرة في هلع.
أراد المحتلون على مرّ السنين أن يرسموا لطالبان صورة وحشية تشبه تنظيم "داعش" الإرهابي، والجميع يعلم أن العنف المفرط المنفلت الذي مارسه "داعش" لا يمتّ إلى الإسلام بصلة، كما أن الجميع يعلمون أنهم كانوا صنيعة أولئك المحتلين أنفسهم.
وبالطبع، ساهم في ترسيخ التوقعات بوقوع حمام دم بعد وصول طالبان للسلطة، حقيقة أن جميع الثورات أو تغيير الأنظمة التي حدثت في الغرب أو الشرق لم تتم دون المحاسبة على دفاتر الماضي.
"قطع الرؤوس" كان جزءًا لا مفر منه في أي ثورة؛ الثورة الفرنسية، ثورة أكتوبر البلشفية عام 1917، أو الثورة الإيرانية. نال المرتبطون بالنظام القديم دائمًا نصيبهم من العقاب على المقاصل، بمحاكمات أو بدون محاكمات. وليت الأمر كان يتوقف عند حدود هؤلاء، فالثورات كانت تلتهم أبناءها أيضًا.
ولكن حقيقة الأمر، أن تلك الثورات لم تكن إلا تغييرًا في السلطة.
لا توجد ثورة حقيقية على الظلم يتفوق فيها عرق على آخر، أو طبقة اقتصادية على أخرى، أو منظمة مسلحة على أخرى. إذا أردت أن ترى ثورة حقيقية، فانظر إلى الثورة الروحية لنبينا محمد- صلى الله عليه وسلم- الذي حوّل أعداءه إلى أصدقاء وإخوة، وحول الأصدقاء إلى "صحابة".
هكذا تكون الثورة الحقيقية. إنها ذلك المنهج الذي يمدّ يده للجميع فيجعلهم إخوة. ويضمن الحياة حتى لأعدائه إن كفّوا أذاهم.
يرى قادة طالبان أن العفو عن أتباع النظام السابق ومد اليد للجميع هو جزء طبيعي من اتّباع سُنة النبي، ويقولون؛ إنهم يعتبرون هذا السلوك واجبًا طبيعيًا. كما لم يسعَ النبي وراء الانتقام عند فتح مكة وعفا عن الجميع، كذلك فعلوا.
مولوي محمد يعقوب، ابن مؤسس طالبان الملا عمر والذي تولى وزارة الدفاع في الحكومة المشكلة لاحقًا، أعطى قادته الذين دخلوا كابل تعليمات كتلك التي أعطاها النبي للصحابة عند فتح مكة: "من أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن طلب العفو يُعفَ عنه، ولا يقتل من لا يقاوم بالسلاح، ولا يغار على بيوت فارغة".
التزمت طالبان بهذه القواعد حتّى النهاية، فاختفى الخوف من القتل والنهب من صدور الناس بسرعة، ولم تحدث تلك الهجرة الجماعية التي كانت متوقعة. ولو كان الأمر على خلاف ذلك، لربما واجهنا في تركيا عشرة أضعاف المهاجرين غير النظاميين الذين نواجههم.
لقد قدمت طالبان في الواقع خدمة للدول التي تعاني من الهجرة غير النظامية، لكنهم لم يفعلوا ذلك لمجرد منع الناس من الهجرة. فالدافع الوحيد الذي يحفزهم هو الالتزام بأخلاق الإسلام، وتقريب الشعب الأفغاني، المحافظ بطبيعته، إلى الإسلام أكثر فأكثر.
تم إعلان عفو عام، واستمر مسؤولو النظام القديم في الوزارات والجيش في مناصبهم. أي أنه لم يحدث حتى "فصل من العمل" كالذي نشهده عند تغيير البلديات، وهذا زاد التعاطف الاجتماعي مع طالبان بشكل كبير.
يزيدنا مولوي يعقوب دهشة، فيعلن أن القادة البارزين للنظام القديم -مثل أشرف غني، وحامد كرزاي، والدكتور عبدالله عبدالله- يمكنهم العيش بحرية وسلام في كابل.
أنس حقاني هو أصغر أبناء جلال الدين حقاني، أحد أبرز أسماء الجهاد الأفغاني ضد السوفيات وضد الولايات المتحدة أيضًا. يبلغ أنس من العمر 28 عامًا، لكنه يجيب عن أسئلة TRT World بحكمة لا تتوقعها من عمره، يذكر نصيحة من الخليفة عمر بن عبدالعزيز لأحد ولاته تقول: "إذا دعتك قدرتك إلى ظلم الناس، فتذكر قدرة الله عليك".
تتملكك الدهشة إذا علمت أن أنس هذا، قُتل أربعة من إخوته على يد الأميركيين، واحتجز هو 5 سنوات في السجن، منها 4 سنوات في حبس انفرادي، تعرّض خلالها لتعذيب شديد. لكن كل ما يفكر فيه الآن هو سلام أفغانستان، ووحدتها، واستقلالها، وتطورها. تقع عينه يوميًا على أشخاص تعاونوا مع المحتلين والنظام القديم الذي تسبّب له في هذه المعاناة، ومع ذلك، لا يحمل ضدهم أدنى شعور بانتقام أو كراهية.
يقول أنس: "ما عانيناه كان جزءًا من ابتلاء الله لنا، وإذا بقينا على الطريق الصحيح، فسنحصل على ثواب ذلك بالتأكيد. لكن إذا جعلنا الأمر شخصيًا، فسننحرف عن طريق الشريعة".
التجربة الأسطورية لطالبان التي لا يرغب أحد في رؤيتها في أفغانستان، هي بطولة أكبر حتى من طرد الأميركيين من البلاد.
تناقش الفلسفة الغربية أسئلة معقدة حول مواضيع، مثل: "التسامح، والعطاء"… إلخ، لكن ممارساتِها على أرض الواقع، تأتي واضحة، فهي إبادة جماعية، ثأر، انتقام، عنصرية. أما العالم الإسلامي فيقدم أبناؤه ممارسات أسطورية لهذه القيم النبيلة دون الخوض في فلسفة معقدة.
الأمثلة واضحة، لمن يريد أن يرى.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
إقرأ أيضاً:
الأمم المتحدة تحذر: الصراع الإيراني الإسرائيلي يُهدد استقرار أفغانستان ويُفاقم أزماتها الإنسانية
حذرت روزا أوتونباييفا، الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة في أفغانستان ورئيسة بعثة يوناما، من التأثيرات السلبية للصراع المتصاعد بين إيران وإسرائيل على استقرار أفغانستان، مؤكدة أن الصراع يُعطل حركة التجارة، ويرفع أسعار السلع الأساسية والوقود، ويدفع المزيد من الأفغان إلى العودة من إيران إلى بلادهم.
وخلال إحاطة قدمتها لمجلس الأمن الدولي، أوضحت أوتونباييفا أن هذه التحديات تتفاقم في ظل حالة من عدم الاستقرار الإقليمي، مشيرة إلى أن الوضع في أفغانستان معقد أصلًا ولا يحتمل مزيدًا من الضغوط الخارجية.
السيسي يؤكد أهمية اضطلاع "الأمم المتحدة" بدور ملموس في تحقيق السلام بالمنطقة (فيديو) الأمم المتحدة: المنطقة تحتاج إلى احترام القانون الدولي وليس مجرد خطوط حمراء مبادرات دولية لدعم اندماج أفغانستان.. وتحذير من تطبيع "الوضع الراهن"أكدت أوتونباييفا أن هناك "نهجًا شاملًا" يجري العمل عليه لإعادة دمج أفغانستان في المجتمع الدولي، مشددة على أن الهدف من هذه الجهود ليس تطبيع الأوضاع الحالية بل الإبقاء على القضايا الحساسة، وخاصة التزامات البلاد الدولية، في صميم العمل الدبلوماسي الدولي.
وأضافت أن المجتمع الدولي لا يزال يشعر بقلق بالغ حيال استمرار تدهور أوضاع النساء والفتيات في أفغانستان، وتراجع الحوكمة الشاملة، وانتهاكات حقوق الإنسان.
تدهور في عمليات إزالة الألغام وتهديد لأمن المدنيينكشفت أوتونباييفا عن انهيار خطير في عمليات إزالة الألغام، حيث انخفض عدد الفرق العاملة ميدانيًا إلى النصف مقارنة بالعام الماضي، محذرة من أن هذا الانخفاض في التمويل قد يهدد أرواح المدنيين، ويزيد من الخطر في المناطق المتأثرة بالنزاعات.
تحذيرات من أزمة إنسانية خانقة في ظل ضعف التمويلمن جانبها، حذرت جويس مسويا، مساعدة الأمين العام للشؤون الإنسانية، من أن الشعب الأفغاني يواجه احتياجات إنسانية طارئة بسبب عقود من الصراع، والفقر المدقع، والتغير المناخي، إلى جانب القيود القاسية على النساء والفتيات، في ظل بيئة تمويلية خانقة.
وأكدت مسويا أن واحدًا من كل خمسة أفغان يعاني من الجوع، و3.5 مليون طفل يعانون من سوء التغذية الحاد، بينما يُقدّر عدد الأطفال خارج المدارس بـ3.7 مليون، منهم 2.2 مليون فتاة مُنعن من التعليم بعد تجاوزهن سن الحادية عشرة.
وشددت على أن معدل وفيات الأمهات في أفغانستان يتجاوز 2.5 ضعف المتوسط العالمي، لافتة إلى أن العاملين الإنسانيين، خصوصًا النساء، يواصلون تقديم المساعدات في ظروف صعبة، ويصلون إلى أماكن لا تصل إليها أي جهات أخرى.
فجوة تمويلية ضخمة ونداء لدعم عاجلأشارت مسويا إلى أن خطة الاستجابة الإنسانية للعام الجاري لم تتجاوز 21% من التمويل المطلوب، ما ترك فجوة قدرها 1.9 مليار دولار.
وأوضحت أن هذا النقص أجبر الوكالات على تقليص المستفيدين من 16.8 مليون إلى 12.5 مليون شخص فقط، ما يهدد بإغفال الاحتياجات الأساسية لملايين من المحتاجين.
ودعت المجتمع الدولي إلى تعزيز تنفيذ الاستثناء الإنساني في قرار مجلس الأمن رقم 2615، وزيادة الاستثمارات في القطاعات الحيوية مثل الزراعة والرعاية الصحية لضمان صمود المجتمعات الأفغانية.
سيما بحوث: لا يمكن تطبيع قمع 20 مليون امرأةبدورها، نددت سيما بحوث، المديرة التنفيذية لهيئة الأمم المتحدة للمرأة، بالقمع الممنهج الذي تتعرض له النساء في أفغانستان، مشيرة إلى أن "قمع 20 مليون امرأة لمجرد كونهن نساء أمر غير مقبول إطلاقًا".
وأكدت أن واقع النساء والفتيات ازداد سوءًا منذ آخر إحاطة قدمتها قبل تسعة أشهر، ولم يُرفع قيد واحد، في وقت تتجاهل فيه الجهات الدولية هذا الملف إلا عند فرض قيود جديدة.
وقالت بحوث: "المرأة الأفغانية لم تستسلم. ولا يمكننا نحن أيضًا أن نستسلم. إنهن ينظمن أنفسهن، ويفتتحن مدارس سرية، ويبنين حياة رغم القيود المفروضة عليهن".
توصيات أممية لدعم النساء ومحاسبة طالبانقدمت سيما بحوث أربع توصيات رئيسية:
عدم تطبيع سياسات طالبان أو دعمها دون قصد في التعاملات الدولية.دعم جهود المساءلة الفعالة في ما يتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان.تخصيص 30% من المساعدات المالية لدعم النساء والفتيات مباشرة.الاستثمار في محو الأمية الرقمية للنساء والفتيات لتعزيز قدراتهن الذاتية.