بداية تقارب سوداني إيراني بعد قطيعة استمرت نحو 8 سنوات.. هذه علاماته
تاريخ النشر: 13th, February 2024 GMT
كشفت تقارير سودانية وإيرانية متطابقة أن القيادتين السودانية والإيرانية تتجهان بخطى حثيثة لفتح صفحة جديدة في العلاقات، وسط توترات إقليمية متصاعدة بين طهران وداعميها من جهة، وواشنطن وحلفائها من جهة أخرى، وحرب يخوضها الجيش السوداني ضد قوات الدعم السريع شبه العسكرية منذ أبريل/ نيسان 2023.
ووفق تقرير لوكالة "الأناضول"، رصدته "عربي21"، فقد تمثلت آخر خطوات التقارب في زيارة امتدت يومين أجراها وزير الخارجية السوداني علي الصادق إلى طهران في 5 فبراير/ شباط الجاري، بوصفه أول وزير في بلاده يزور إيران بعد 8 سنوات.
وقد استقبل الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي وزير الخارجية السوداني مرحبا برغبة الخرطوم في إحياء العلاقات مع طهران واعتبر ذلك "أساسا لتعويض الفرص الضائعة وتوفير أخرى جديدة".
وأكد الرئيس الإيراني دعم طهران لـ"إرساء حكومة قوية في السودان وسيادته"، معتبرا أن "إعادة فتح السفارتين في طهران والخرطوم وتبادل السفراء يمهدان الأرضية المناسبة لإحياء وتطوير علاقات البلدين".
الترحيب بعودة العلاقات من أعلى مستويات الدولة الإيرانية، قوبل بتأكيد سوداني من وزير الخارجية الذي أعلن استعداد بلاده "لاستعادة العلاقات السياسية والدبلوماسية مع إيران".
وفي الزيارة ذاتها، أعرب وزير الخارجية السوداني خلال لقائه نظيره الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، عن أسفه لـ"توقف العلاقات بين البلدين" مؤكدا "إرادة الخرطوم الجادة في تعزيز وتطوير الأواصر مع طهران بمختلف المجالات".
يذكر أن السودان وخلال حكم الرئيس السوداني السابق عمر البشير (1989 ـ 2019)، كانت قد قطع علاقاته الدبلوماسية مع إيران، ردا على اقتحام محتجين لسفارة السعودية في طهران وقنصليتها بمدينة مشهد (شرق)، بعد أن أعدمت الرياض رجل الدين الشيعي السعودي نمر النمر مع مدانين آخرين، بتهمة الإرهاب.
وقبل قطع العلاقات بين البلدين كانت العلاقات بين الخرطوم وطهران وثيقة، وكانت الأخيرة مصدرا وموردا للأسلحة إلى الخرطوم منذ تسعينيات القرن الماضي، كما تضمنت العلاقات آنذاك اتفاقيات تعاون عسكرية ودفاعية بالإضافة إلى مشاريع مشتركة.
بدأ جبل القطيعة بين البلدين في الذوبان بعد نحو 3 أشهر من تعرض السودان لحرب مدمرة بين الجيش وقوات الدعم السريع شبه العسكرية، إثر خلافات بشأن دمج قوات الأخيرة في المؤسسة العسكرية الرسمية.
ففي يوليو/ تموز 2023، التأم أول لقاء بين وزيري خارجية السودان وإيران على هامش اجتماع وزراء خارجية دول "حركة عدم الانحياز" بالعاصمة الأذربيجانية باكو، وأعلن الوزيران في ذلك اللقاء "استئنافا وشيكا للعلاقات بين البلدين"، ليعلنا رسميا في 9 أكتوبر/ تشرين الأول من العام ذاته، قرار استئناف علاقاتهما الدبلوماسية بعد قطيعة 7 سنوات.
بعد ذلك الوقت، وعلى هامش القمة المشتركة الاستثنائية لمنظمة التعاون الإسلامي والجامعة العربية بالرياض في نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، التقى الرئيس الإيراني برئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان وبحثا تعزيز العلاقات بين البلدين.
ومنذ منتصف أبريل 2023، يخوض الجيش السوداني بقيادة رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان، حربا مع قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو "حميدتي"، خلّفت أكثر من 13 ألف قتيل وما يزيد على 8 ملايين نازح ولاجئ، وفقاً لبيانات الأمم المتحدة.
وفي 20 يناير/ كانون الثاني الماضي، جمدت الخرطوم عضويتها في الهيئة الإفريقية الحكومية للتنمية في شرق إفريقيا "إيغاد" التي كانت ترعى جهودا لحل الأزمة عبر محاولة عقد لقاء مباشر بين البرهان وحميدتي.
الخرطوم أرجعت التجميد إلى ما قالت إنه "تجاهل المنظمة لقرار السودان، الذي نُقل إليها رسميا بوقف انخراطه وتجميد تعامله معها في أي موضوعات تخص الوضع الراهن في السودان".
و"إيغاد" منظمة حكومية إفريقية شبه إقليمية، تأسست عام 1996، وتتخذ من جيبوتي مقرا لها، وتضم دولا من شرق إفريقيا هي: السودان وجنوب السودان وإثيوبيا وكينيا وأوغندا والصومال وجيبوتي وإريتريا.
وفي الآونة الأخيرة، تداولت تقارير صحفية دولية منها ما نشرته "بلومبرغ" أنباء عن تزويد طهران الجيش السوداني بطائرات مسيرة قتالية جرى استخدامها في الحرب ضد قوات الدعم السريع، دون تأكيدات رسمية من البلدين بهذا الشأن.
ويحظى السودان بإطلالة على البحر الأحمر بطول يقارب 800 كلم، وهو ما جعله محورا للتنافس الإقليمي والدولي على تشغيل موانئه.
وتضامنا مع غزة التي تواجه حربا إسرائيلية مدمرة بدعم أمريكي، منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، يستهدف الحوثيون بصواريخ ومسيّرات سفن شحن إسرائيلية أو مرتبطة بها في البحر الأحمر، عاقدين العزم على مواصلة عملياتهم حتى إنهاء الحرب على القطاع.
ومنذ مطلع العام الجاري، يشن تحالف تقوده واشنطن غارات يقول إنها تستهدف "مواقع للحوثيين" في مناطق مختلفة من اليمن، ردا على هجماتها في البحر الأحمر، وهو ما قوبل برد من الجماعة من حين لآخر.
ومع تدخل واشنطن ولندن واتخاذ التوترات منحى تصعيديا لافتا في يناير الماضي، أعلنت الحوثي أنها باتت تعتبر كافة السفن الأمريكية والبريطانية ضمن أهدافها العسكرية.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة مقابلات سياسة دولية السودانية العلاقات التقارب إيران إيران السودان علاقات تقارب المزيد في سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة قوات الدعم السریع وزیر الخارجیة العلاقات بین بین البلدین
إقرأ أيضاً:
أين ذهب الرفاق؟ تأملات في فكر وتجربة اليسار السوداني (1)
د. ناهد محمد الحسن
هناك شيء مُحيِّر في التاريخ الإنساني: أجمل الأفكار تسقط حين تغادر الكتب. لا يهم إن كان اسمها الماركسية، أو الإسلام السياسي، أو الليبرالية، أو النسوية الراديكالية، أو حتى الحركات الروحية والصوفية. تبدأ الفكرة نيِّرة، مشتعلة بالعدل والحرية والخير، ثم ما تلبث أن تتعثّر، أو تتخشّب، أو تتحوّل إلى شيء آخر تمامًا.
لماذا يحدث هذا؟
لا أعتقد أن البشر سيئون بطبعهم، ولا أن النظريات خاطئة بالكامل، بل لعلّ السبب أن أي نظرية—مهما بلغت نقاوتها—تحمل داخلها بذور أزمة مستقبلية. وحين تتوسّع وتُطبَّق، تبدأ تناقضاتها الداخلية في الظهور، كما تكشف الممارسة حدودها الواقعية. هذه ليست قضية ماركسية فقط، بل قضية الأفكار حين تتحوّل إلى مؤسسات.
السودان، بتنوّعه وتعقيده، كان ساحة نادرة كشفت هذه التوترات بوضوح. فالنظرية شيء، والتجربة الإنسانية شيء آخر. النظرية تحاول أن تشرح العالم ببضع معادلات أو قوانين، لكن الإنسان لا يمكن اختزاله في معادلة. الإنسان يحمل خوفه وطموحه، إيمانه وتاريخه، ولاءاته وتعقيداته النفسية، علاقاته العائلية والجندرية، هويته الإثنية والروحية. وهذا التعقيد يتجاوز قدرة أي إطار نظري واحد.
يشير شارلز تايلور إلى أن محاولات اختزال التجربة الإنسانية في مبادئ كلية “تحرم الذات من عمقها الأخلاقي”.[i] ويذكّرنا برونو ليتور بأن النظريات، حين تحاول الإمساك بالواقع، تكتشف أن الواقع “أكثر حياةً وتناقضًا” [ii]مما يسمح به أي نظام فكري. هنا يبدأ الشقاق: النظرية تصف عالمًا مستقيمًا، بينما البشر يعيشون في عالم دائري ومعقّد.
وما إن يتبنّى الناس فكرة، حتى تتحوّل إلى نظارة ينظرون بها إلى العالم، وإلى هوية ينتمون لها، وحدٍّ فاصل بين “نحن” و”هم”. لا يختلف هذا كثيرًا عن الحركات الدينية أو الطائفية. وكما يلاحظ طلال أسد، يمكن لأي منظومة فكرية أن تتحوّل إلى “تقاليد خطابية” تُعيد إنتاج ذاتها باستمرار.[iii] عند هذه النقطة، لا تعود الممارسة مجرّد تطبيق للفكرة، بل دفاعًا عنها بوصفها هوية. يصبح النقد تهديدًا، والاعتراف بالخطأ مساسًا بالذات، ويتقدّم خطاب “الصفاء” و“النقاء” داخل الجماعة.
في السودان، رأينا هذا النمط لا داخل اليسار وحده، بل داخل الإسلاميين، والطرق الصوفية، وحتى بعض الحركات الشبابية الحديثة. ما إن تتحوّل الفكرة إلى هوية، حتى تبدأ في التخشّب.
هناك مشكلات خارجية، سياقية، تُضعف النظريات أو تعيق تطبيقها، مثل اختلاف التاريخ، فقر المعلومات، البنية الطبقية والثقافية، سلطة الدولة، والاستعمار. هذه يسهل رصدها. لكن الأخطر هو المشكلات الداخلية البنيوية، لأنها أقل وضوحًا. وهي فخاخ كامنة في بعض افتراضات النظرية حين تتحوّل إلى ممارسة مؤسسية: ادعاء امتلاك الحقيقة العلمية، احتكار النخبة للمعرفة، وجود قيادة “طليعية”، النظر إلى الجماهير بوصفها قاصرة، مركزية التنظيم، تصور طبقي جامد، وإقصاء الجندر والثقافة والدين من التحليل، إلى جانب ميل غير واعٍ إلى الوعظ الأخلاقي.
هذه السمات لا تظهر دائمًا مجتمعة، ولا في كل السياقات، لكنها تتكرر تاريخيًا حين تُعاد إنتاج المعرفة والسلطة داخل التنظيمات، كما يشير ميشيل فوكو[iv].
لماذا يتكرّر الفشل في كثير من الحركات؟
لأن النظرية حين تتحوّل إلى مؤسسة، تتغيّر وظيفتها. في الكتب، تهدف النظرية إلى تفسير العالم. أمّا حين تصبح مؤسسة، فتتحوّل وظيفتها إلى مهام تنظيمية: الحفاظ على الكيان، حماية الهوية، فرز الداخل والخارج، ضبط السلوك، فرض الانسجام، وصيانة الهيبة. هكذا تتحوّل الفكرة، دون قصد، من مشروع للتحرّر إلى مشروع للضبط، ومن أفق للتغيير إلى آلية للصيانة، ومن سؤال مفتوح إلى إجابة نهائية. يصف روبرت ميشيلز هذا المسار فيما سمّاه “قانون الأوليغاركية الحديدي”[v]، الذي يرى أن كل تنظيم—حتى التقدمي منه—يميل بمرور الوقت إلى إنتاج نخبة ضيقة تُعيد إنتاج علاقات السلطة داخله.
السودان: مختبر لفهم تعثّر النظريات
السودان مجتمع متعدّد القوميات والثقافات والأديان. المسلمون فيه، في جزء كبير منهم، متديّنون بطبعهم، والمجتمع ريفي في جوهره، لغاته وثقافاته متعددة، السلطة فيه موزعة، والنساء يلعبن أدوارًا اجتماعية لا تلتقطها النظريات الكلاسيكية، مع نزعة أناركية أصيلة في العلاقة مع الدولة. كل ذلك يجعل السودان مستعصيًا على أي نظرية موحّدة. ولهذا تعثّرت فيه مشاريع الأسلمة، والتعريب، واليسار الكلاسيكي، والدولة الحديثة، وحتى مشاريع التحديث التنموي. ليس لأن هذه المشاريع سيئة بالضرورة، بل لأنها لم تستطع استيعاب تعددية المجتمع وتعقيده.
يشير جيمس سكوت إلى أن المشاريع الاجتماعية الكبرى تنهار حين تتجاهل المعرفة المحلية وتعقيد الحياة اليومية[vi]. وقد انتبه الشهيد عبد الخالق محجوب مبكرًا إلى هذا المأزق، في ورقته المقدّمة للمؤتمر الثالث للحزب الشيوعي عام 1963، حين دعا إلى تحويل الفكر الثوري إلى “اللغة التي يفهمها شعبنا”، مؤكدًا أن المسألة ليست لغوية فحسب، بل تتعلق بكيفية تجسيد النظرية داخل شروط اجتماعية واقعية. هذا الوعي المبكر يعكس رؤية ثاقبة وفهمًا متقدمًا لتحديات الماركسية، ويقودني إلى التساؤل: كيف كان سيواجه هذا العقل الكبير، واقع عجز النظرية عن الإجابة على كل الفخاخ التي أشار إليها لاحقًا في ورقته “إصلاح الخطأ في العمل بين الجماهير”؟
كيف نفهم الفكرة حين تتعثر؟
ربما نحتاج إلى أدوات بسيطة تعيد ترتيب علاقتنا بالأفكار. أن نرى النظرية كأداة لا كهوية، كخريطة لا كأرض. أن نميّز بين العدالة بوصفها قيمة، والأدوات التي نستخدمها لتحقيقها. فالغاية النبيلة لا تبرّر احتكار المعرفة، ولا الوصاية، ولا قمع الاختلاف. وأن نعترف بأن الإنسان أكثر تعقيدًا من أي إطار شامل، وأن أي مشروع تحرري حقيقي يجب أن يبدأ من التجربة اليومية: من اللغة الحية، والثقافة، والجندر، والدين، والخوف والأمل، والعلاقات، وتناقضات البشر، لا من نصوص كبرى تُفرض على الواقع.
كان عبد الخالق محجوب مدركًا لأهمية التعلّم من الجماهير، إذ أكّد أن الجماهير ليست “تلاميذ ينتظرون التوجيه”، ولا “أدوات دعائية”، بل مصدر الشرعية ذاته، وأن العلاقة يجب أن تقوم على المشاركة والثقة والفعل المشترك. كانت رسالته ماركسية، لكن أرضه كانت السودان، وسؤاله كان بسيطًا وعميقًا: “لماذا لا نصل إلى الناس؟”
يبقى السؤال مفتوحًا: إلى أي حد كانت ستُسعفه النظرية نفسها؟
في هذه السلسلة، سنحاول تقليب دفاتر الماركسية وتجربة اليسار السوداني، لا لنُدينها، بل لنفهمها: أين تنجح النظرية؟ وأين تخفق؟ ولماذا، رغم وعي مبكر بهذه المآزق، تعثّرت الممارسة، وانزلقت أحيانًا إلى الوصاية والوعظ؟ لماذا تكرّرت الانقسامات، وغادر الرفاق؟ ولماذا ظلّ اليسار يواجه صعوبة في فهم الدين والجندر والثقافة؟
سنرى أن هذه ليست “أخطاء أشخاص”، بل فخاخ تظهر حين تتحوّل الأفكار إلى مؤسسات. وهذا لا يُنقص من قيمة الفكرة الأصلية، بل يعيدها إلى حجمها الإنساني، ويجعلها أكثر تواضعًا… وربما أكثر قدرة على الحياة.
[i] Charles Taylor, Sources of the Self, 1989.
[ii] Bruno Latour, Reassembling the Social, 2005.
[iii] Talal Asad, Genealogies of Religion, 1993.
[iv] Michel Foucault, The Archaeology of Knowledge, 1969.
[v] Robert Michels, Political Parties: A Sociological Study of the Oligarchical Tendencies of Modern Democracy, 1911.
[vi] James C. Scott, Seeing Like a State, 1998.
الوسومد. ناهد محمد الحسن