حوار مع صاحب «السارد وتوأم الروح».. النقد الأدبي و«حياة المعنى»
تاريخ النشر: 15th, February 2024 GMT
حوار: محمد نجيم
راكم الباحث والناقد والأستاذ الجامعي المغربي د. محمد الداهي، الفائز بجائزة الشيخ زايد للكتاب فرع الفنون والدراسات النقدية، عن كتابه «السارد وتوأم الروح.. من التمثيل إلى الاصطناع»، مؤلفات تحوم في مجملها حول السيميائيات الذاتية التي تُعنى بانطباع الآثار الذاتية في الخطاب، وبمواقع المتلفظ والسارد في الأدب الشخصي «أنواع الكتابة عن الذات»، وبالمشاريع السيميائية والصُّوريَّات التي تُعنى بتمثيلات الذات ناظرة ومنظوراً إليها.
* قد يبدو لبعض القراء عنوان هذا الكتاب ملغزاً. ما دلالة هذا العنوان؟
- يقدم الكتاب تصوراً سيميائياً «علاماتياً» عن المعنى من حيث حياته «حياة المعنى» ومشروعه ومآله «معنى الحياة». قد يبدو العنوان تلاعباً لفظياً بقلب مواقع اللفظ في سياقين مختلفين، لكن صياغته على هذا النحو تقتضي معالجة المعاني المختلفة والمتضاربة التي يحفل بها الكون، ونصادفها أينما حللنا وارتحلنا، وتفعم حياتنا بأريج المشاعر والأحاسيس. كما تحتم علينا أن نختار زاوية من الزوايا المتعددة لتبئير وجهة نظرنا على حيز أو مجال محدد باعتماد المقاربة المناسبة «السيميائيات على سبيل المثال».
امتداد المعنى
* بُني الكتابُ على تدبير المعنى بصفته حياة ومشروعاً للحياة؟ أليس كذلك؟
- سعيت إلى إبراز راهنيَّة الموضوع وجِدّته بالنظر إلى امتداد المعنى وانتشاره في جميع الأنساق والدعامات الدلالية «المعمار، الإشهار، اللباس، الطعام..»، وملازمته الوجود في مختلف مظاهره وتجلياته أكانت ذات الصلة بالغلاف الإحيائي «الحيز الذي توجد فيه الحياة، وتتقاسمه الكائنات الحية» أو بالغلاف السيميائي «حيز التعدد اللغوي والثقافي، ما يميز الإنسان بصفته كائناً ناطقاً». والحال هكذا، ارتأيت أن أعالجه من المنظورين الآتيين، وهما:
أ- باحتكاك الإنسان بالعلامات يومياً يعطي لحياته معنى، ويحرص على تدبير هذا المعنى لتحسين علاقاته بالكائنات الحية والموجودات، وتحقيق أهدافه، وتفادي ما يُكدِّرُ ويُنغِّصُ عيشَه. لا يخلو «تدبير المعنى» من توتر وصراع بسبب تضارب المصالح والنزاعات. وفي هذا الصدد، حرصت السيميائيات على مقاربة المعنى من زوايا متعددة لإبراز تحركات الإنسان وأعماله «سيميائيات العمل»، وأهوائه ومشاعره «سيميائيات الأهواء»، وقيمه «السيميائيات الأكسيولوجية»، وبيان علاقاته بالموجودات «سيميائيات الأشياء»، وبمَسْرحة الحياة والشعائر الاجتماعية «السيميائيات الثقافية»، وبالممارسات اليومية «سيميائيات أشكال الحياة». وهذا ما حرصت على تحليله بطريقة تركيبية ونسقية حتى يأخذ القارئ العربي فكرة مجملة عن المشاريع السيميائية التي ما فتئت محافظة على سمتها وراهنيتها وجديتها. وهذا ما ينطبق على فهم كينونة الإنسان المعقدة في تساوُق مع سعيه إلى تدبير شؤونه اليومية، ومشاريعه المستقبلية، وتكريس تشبثه بأهداب الحياة.
ب - ما يحرص عليه الإنسان باحتكاكه يومياً بالكائنات الحية والأشياء هو الرقي بالمعنى من الحالة العابرة والمبتذلة إلى الحالة المستديمة والجدية. وهو ما يحفزه على البحث عن المعنى، ويقتضي منه حسن تدبيره حتى لا تكون له عواقب غير محمودة. ومن ثم، ركز السيميائيون على هوى «الإصرار» بصفته شكلاً من أشكال الحياة للمضي قدماً إلى الأمام أياً كانت الظروف والعوائق. والإصرار شكل من أشكال الحياة يستدعي -علاوة على المؤهلات الذهنية واللغوية- طاقة نفسية جبارة. وأستحضر -في هذا الصدد- شكلين من أشكال الحياة أضحيا شائعين في المجال الرياضي، هما: «الكرينتا» Grinta «لفظ إيطالي تُعنى به المثابرة والعزيمة»، و«الريمونتادا» (Remontada) «لفظ إسباني يُعنى به التعافي والعودة القوية». فالفريق الرياضي يحقق بفضلهما النصر المنشود والنتيجة المرضية دون أن يتأثر بضعف أدائه أو تلقيه هدفاً مباغتاً في بداية المباراة. وهو ما يتجسد أيضاً في إصرار الإنسان على تحدي المصاعب والعراقيل، وتحمل المشقة والعناء سعياً إلى تحقيق أهدافه.
نقد النقد
* بتصفح الفهرس نعاين أنك عالجت «حياة المعنى» بطريقة تركيبية ملماً بالمرجعية السيميائية كما نهجتها «مدرسة باريس» لرائدها ألجيرداس جوليان كريماس وأتباعه؟
- أشكرك على هذه الملاحظة الذكية. أحرص في كتاباتي بصفتي باحثاً أن أتفادى المقاربة المدرسية التي تراهن على تذليل المعارف العالِمة وتقديمها في حلة مبسّطة وميسّرة للقارئ. ولا أنفي دور هذه المقاربة التي لها أهميتها وملاءمتها للمساهمة في تثقيف القراء وإرشادهم إلى المعارف المناسبة. وأحرص في كتاباتي على معالجة إشكال يستأثر باهتمامي بالنظر إلى تخصصي. وقد سعيت في هذا الكتاب إلى إبراز كيف عالج السيميائيون المعنى من مختلف الوجهات والتصورات أكانت عَمليَّة أم استهوائية أم تلفظية أم ظاهراتية أو أكسيولوجية، ثم التموضع بصفتي في الضفة المقابلة ضمن السيميائيات الذاتية (Sémiotique Subjectale) التي اتخذتُها موئلاً ومصدراً لتناول مظاهر التلفظ وتجليات الذاتيَّة في الثقافة العربية، وخاصة في متغيرات السيرة الذاتية «ما اصطلح عليه بسرديات البرزخ».
فكل كتاب يفرض عليّ طريقة لمعالجة محتوياته بالنظر إلى طبيعة القارئ الذي أتوجه إليه. أعرف مسبقاً أن السيميائيات علمٌ له مُصطلحيَّته ولغته الواصفة ومنهجيته ورواده، وهو ما يحتم عليّ أن أتوجه إلى جمهور محدد يتمتع بالخلفيات المعرفية المناسبة. ومع ذلك حرصت في الكتاب على المسعييْن التواصلي «مخاطبة جمهور أوسع من القراء» والذاتي (تبني «نقد النقد» بتعبير تزفيتان تودوروف لتقدير جهد باحثين وكتاب سيميائيين تعلمت منهم، واهتديت بهم في مساري الفكري).
تطويع النظرية
* بدا لي -بتصفح الكتاب- أنك راهنت على القارئ المطلع أو القارئ النموذجي بتعبير إمبرتو إيكو. ما الهدف الذي توخيته من وراء ذلك؟
- كل كتاب يفرض -كما قلت- على صاحبه أسلوباً معيناً بحسب طبيعة الجمهور المستهدف من جهة، وبالنظر إلى الموضوع المعالج من جهة ثانية. وقد أتاح لي الكتابان الأخيران «السارد وتوأم الروح» ثم «متعة الإخفاق» هامشاً من الحرية لتطويع النظرية حتى تغدو ميسرة ومنقادة لدى القراء على اختلاف مستوياتهم ومشاربهم. فكل قارئ قد يجد فيه ما يناسبه بحسب مؤهلاته وخلفياته. ولكن الأمر يختلف في هذا الكتاب الذي صدر مؤخراً «حياة المعنى»، إذ إن طبيعة الموضوع حتمت عليّ مخاطبة فئة من القراء سواء من لهم تكوين سيميائي أم من هم في عداد الساعين إلى التعرُّف على المجال السيميائي الرحب والتخصص فيه. وعلاوة على ذلك فالمجال السيميائي هو علم له قواعد وضوابط ولغة واصفة، وهو ما يقتضي من أي قارئ أو باحث -قبل الخوض فيه- أن يكون ملماً بالمجال، ومطلعاً على خباياه وتطلعاته.
وقد حرصت -بالحفاظ على اللغة السيميائية الواصفة- على تقديم تصور شامل للقارئ العربي عن المشاريع السيميائية التي اضطلعت بها «مدرسة باريس للسيميائيات» (العمل، والأهواء، والأشياء، والثقافة، والكلام)، وبيان الطفرات التي حققتها بالانتقال من المراهنة على القواعد السردية «الخوارزميات السردية الكونية» إلى مواكبة أشكال حياة الإنسان وأساليبه في العيش «سيميائيات المعيش»، وإبراز إشعاعها الكوني بعد أن استوعبت جغرافيات سيميائية جديدة «بما فيها السيميائيات العربية»، واستقطبت اهتمامات متعددة في ربوع المعمورة.
ومع ذلك ما فتئ بعض القراء العرب يجدون مصاعب في فهم الكتب السيميائية بحكم مصطلحيَّتها ومرجعيَّتها ومقصديَّتها، وأحياناً قد يختلط عليهم الحابل والنابل بتطاول أشخاص على المجال وتقحُّمه دون دراية. وفي هذا الصدد يتحتم على السيميائيات الانفتاح على ثقافة الآخر بحثاً عن تلاقح الأفكار، وتعاضد الرؤى، وتكامل وجهات النظر، وتعزيز سبل العيش المشترك. وهي -في ذلك- تؤدي دوراً أساسياً في إعطاء المعنى لحياتنا بمساءلة وجودنا، وتدبير اختلافاتنا وصراعاتنا، واقتراح بدائل جديدة للعيش وللسلم المستديم.
ولا بد في الأخير من التمييز بين النقد الانطباعي الذي يصدر أحكاماً باعتماد الذوق والتأثير وبين النقد الرصين الذي يستند إلى أدوات ومفاهيم وفرضيات علمية. ومع ذلك يستحسن أن نُنزل النقد من عليائه أو برجه العاجي حتى يسهم في إثارة النقاش العمومي، وفي تنوير الرأي العام بقضايا تهم الوضع البشري عموماً. وفي هذا السياق، تندرج مؤلفاتي بالحرص على المواءمة بين الذاتي والموضوعي، بين الجامعة والمحيط، بين المركز والضاحية، بين الفرد والمجتمع. وعليه فلابد للنقد من الانخراط في الحياة العامة عوض التقوقع والانقطاع عن شواغل الناس وأهوائهم وتطلعاتهم.
المصدر: صحيفة الاتحاد
كلمات دلالية: جائزة الشيخ زايد للكتاب أشکال الحیاة هذا الکتاب المعنى من فی هذا وهو ما
إقرأ أيضاً:
حوار الوفد مع العشماوي عن وظيفة الرؤى والكرامات في الإسلام
وظيفة الرؤى والكرامات في الإسلام! ذكر الدكتور محمد إبراهيم العشماوي أستاذ الحديث الشريف وعلومه في جامعة الأزهر الشريف فى حواره مع الوفد وقال سيد الطائفة، الإمام الجنيد البغدادي رضي الله عنه: "الحكايات جند من جنود الله، يقوِّي بها قلوب المريدين!".
وقال سيدنا الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه: "الحكايات عن العلماء والصالحين؛ أحبُّ إليَّ من كثيرٍ من الفقه؛ لأنها آداب القوم وأخلاقهم!".
إن الرؤى والكرامات عبارة عن حكايات، يحكيها المرء عن نفسه، أو يحكيها غيره عنه، وهي أوقع في النفوس من العلم المجرد، ومن الوعظ المباشر؛ ولهذا قال الجنيد: "إنها تقوِّي قلوب المريدين!".
أي: تثبِّت اعتقادهم، وتقوِّي يقينهم!
ولهذا لا تعجب إذا وجدتَ تراجِم علماء الإسلام - في كتب التراجِم والتواريخ والطبقات - محشوَّة بذكر الرؤى والكرامات، فهي من أهم عناصر الترجمة؛ لدلالتها على فضله وصلاحه، بل يذكرها علماء الحديث في تراجِم الرواة، كالدليل على عدالتهم!
ونحن نتساءل: من أين عرف المؤرخون والمترجِمون هذه الرؤى والكرامات؟!
والجواب الضروري لهذا السؤال؛ أن الرائي حكاها عن نفسه أو عن غيره؛ لأنه لا سبيل إلى معرفة الرؤيا المنامية إلا من الرائي!
فلماذا حكاها إذن؟! أليس هذا تزكية للنفس؟!
والجواب: أن لهم في حكايتها مقاصد لا تخفى على بصير، وهي تختلف باختلافهم، فمنهم من يحكيها دفعًا للتهمة عن نفسه، أو ترغيبا للناس في الأخذ عنه، أو في فعل الخيرات وترك المنكرات، أو لغرس محبة الصالحين في قلوبهم، وتقوية الجانب الروحي عندهم. وغير ذلك من المقاصد الصالحة!
أما الرؤيا الصالحة نفسها فهي جزء من النبوة، كما صرح به المعصوم - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري في [صحيحه]، وسماها (مبشرات)، فبين بذلك بعض وظائفها، وهي أنها تبشر صاحبها بأنه على خير!
والقول في الكرامات كالقول في الرؤى والمنامات، غير أن الكرامة قد يشاهدها كثير من الناس، فتكون حكايتها من الناس لا من صاحبها!
ويكفي لكي تعلم مكانة الرؤيا أن الله تعالى ذكرها في غير موضع من القرآن، محتفيا بها، سواء وقعت لأنبياء أو لغيرهم!
كما احتفى بها أهل الحديث، فترجم البخاري في صحيحه كتابًا، وسماه كتاب [التعبير]، وأورد فيه كثيرا من المرائي!
وصنف الحافط ابن أبي الدنيا كتاب [المنامات]، وأورد فيه كثيرا من الرؤى المنامية!
وذكر الفقيه ابن أبي جمرة في مقدمة [شرحه على البخاري] عشرات الرؤى المنامية، التي ساقها للاستبشار بها، وللدلالة على فضل كتابه!
ووقفت على رؤيا للقرطبي حكاها عن نفسه، في [شرحه على صحيح مسلم]، في موضع لا يحضرني ذكره الآن!
هذا جانب من احتفاء القرآن والسنة وأهل العلم بهما، بمسألة الرؤى والمنامات!
على أنه لا ينبغي أن نبني عليها أحكاما شرعية، ولا أن تتوقف حياتنا عندها، وإن كان يستحب العمل بما وافق الشريعة منها، وقد ذكر ابن القيم في كتابه [الروح] عمل بعض السلف بالرؤى المنامية الصادقة!
وأما الكرامات فليس أدل على احتفاء القرآن بها؛ من ذكرها في مواضع مختلفة، كما وقع لسيدتنا مريم، ولأهل الكهف، ولصاحب موسى!
وترجم لها الإمام النووي في [رياض الصالحين] بباب [كرامات الأولياء]، وصنف الشيخ يوسف النبهاني كتابًا ضخما سماه [جامع كرامات الأولياء]!
ومما يدل على أهميتها؛ ذكرها في كتب العقائد الإسلامية، لاتصالها بمعجزات الأنبياء، بل قالوا: "كل ما كان معجزة لنبي؛ جاز أن يكون كرامة لولي، إلا ما اختص به الأنبياء!".
وأنشد الشيخ اللقاني في منظومته المباركة [جوهرة التوحيد]:
وأثبتنْ للأوليا الكرامةْ
ومن نفاها فانبذنْ كلامهْ!
هذه سطور كتبتها - على عجَل - جوابًا على سؤال مَن سأل: لماذا تذكر الرؤى المنامية الصالحة التي رأيتَها أو رؤيت لك؟!