لجريدة عمان:
2025-07-28@03:09:46 GMT

هل تفضي قدرات الذكاء الاصطناعي إلى «لا شيء» ؟

تاريخ النشر: 21st, February 2024 GMT

هل تفضي قدرات الذكاء الاصطناعي إلى «لا شيء» ؟

ترجمة: أحمد شافعي -

لو أنكم سألتم روبوت الدردشة المدعوم بالذكاء الاصطناعي (تشات جي بي تي) عما قد يعنيه صعود الذكاء الاصطناعي بالنسبة لمستقبل الإنسانية، فإنه يعمد إلى إجابة محسوبة فيقول إن «مستقبل الإنسانية مع الذكاء الاصطناعي ليس محسوما سلفا، فسوف يعتمد أثره على كيفية تطور الذكاء الاصطناعي، والقواعد التي ستوضع له، وطريقة اندماجه في مختلف جوانب الحياة».

ولا بأس بذلك الجواب، ولكنه ـ لو تحرينا الصراحة ـ مراوغ. لكن لو أنكم تريدون حقا أن تعرفوا كيف ستنتهي حقبة الذكاء الاصطناعي بالنسبة لنا، فخير لكم أن تطرحوا السؤال على سكوت آرونسن وبوعاز باراك، عالمي الكمبيوتر في جامعة تكساس وجامعة هارفرد على الترتيب. فقد تكبدا بالفعل عناء تصفية النقاش المطول في هذا الأمر ووصلا إلى حفنة من النتائج، وأطلقا على كل نتيجة منها اسما غريبا. يقول آرونسن «لقد كان هدفنا هو أن نوضح السيناريوهات التي يتكلم عنها الناس في الوقت الراهن».

خلال مناقشة مسهبة للأمر على عشاء، انتهى العالمان إلى الاقتناع بوجود خمسة عوالم تشمل جميع النتاجات المحتملة لتطوير الذكاء الاصطناعي. ثم كتب الاثنان منشورا على مدونة آرونسن بعنوان «عوالم الذكاء الاصطناعي الخمسة» راجين من ذلك أن يساعدا أهل المجال على أن يكون حديثهم مجديا حول الغايات النهائية، وحول وضع القواعد الحاكمة لتطوير الذكاء الاصطناعي. يقول باراك «تحرينا نبرة مازحة، لكننا لم نحد عن الجدية في محاولة وضع أساس للنقاش».

إليكم إذن استكشاف لعوالمهما الخمسة على طريقة (اختر مغامرتك بنفسك). وهي لا تخلو من طرافة في ظل منعطف سببه أن طريقة تعاملنا مع الأمور قد تنتهي بنا إلى عالم طوباوي مدعوم بالذكاء الاصطناعي أو إلى محو الإنسانية.

تبدأ رحلة هذه العوالم الخمسة بسؤال بسيط: هل يمكن أن تنتهي قدرات الذكاء الاصطناعي المحتملة إلى لا شيء؟ لا يبدو الأمر كذلك في اللحظة الراهنة، لكن يحتمل كثيرا أن تتوقف مسيرة الذكاء الاصطناعي بسبب شرهه الشديد إلى الموارد. فمن المحتمل أن تتسبب الكهرباء والمياه اللازمتان لإدارة وتبريد خوادم الذكاء الاصطناعي إلى فرض حظر في نهاية المطاف على المزيد من تطويره. أو ربما نستنفد ما لدينا من بيانات نستعملها في تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي المستقبلية، بمعنى ألا تتحقق للتكنولوجيا مطلقا قوة تغيير اللعبة التي تعد بها فينشأ العالم الذي يطلق عليه آرونسن وباراك اسم «أرض الفشل المدعومة بالذكاء الاصطناعي». يقول باراك «أعتقد أن هذا السيناريو مستبعد. أعتقد أن الذكاء الاصطناعي سوف يغير العالم تغييرا كبيرا».

بفرض أننا لا ننتهي في «أرض الفشل»، على حد تعبير أحد المعلقين، يكون علينا أن نواجه سؤالا آخر: هل تستمر الحضارة في التطور وتظل مألوفة لنا؟ لو أن الإجابة هي نعم، يذهب آرونسن وباراك إلى أننا قد ننتهي في أحد سيناريوهين إضافيين، أحدهما جيد ويطلقان عليه اسم مسلسل تلفزيوني كارتوني هو (مستقبل فيوتشراما) تظهر فيه حضارة المستقبل شديدة الإيجابية. والسيناريو الآخر ليس كذلك كثيرا فيسميانه «ديستوبيا الذكاء الاصطناعي».

نعرف الدستوبيا من قصص خيال علمي لا حصر لها، وأشهرها (1984) لجورج أورويل. وفيها تستعمل الحكومة نظام مراقبة عميقا لإرغام المواطنين على الطاعة العمياء. وتترسخ التفاوتات والانحيازات، وتصبح أماكن العمل أماكن شقاء، ويحصل العاملون على أجور متدنية، اللهم إلا نخبة ضئيلة. يقول آرونسن إن «هناك من قالوا إن سيناريو 1984 غير ممكن لأنه لن يتوافر مطلقا العدد الكافي لمتابعة جميع الشاشات. لكن هذا ممكن مع الذكاء الاصطناعي».

في حال وصولنا إلى هذا، لن يكون ذلك ذنب الذكاء الاصطناعي حقا، لأن دور التكنولوجيا القوية لا يعدو أنها تضخم ما يكون قائما بالفعل، حسبما يقول آرونسن. «سيقول بعض الناس إننا لا ينبغي أن نبدع تكنولوجيا لو أننا نعرف أنها سوف تستعمل في أمور سيئة. لكن لو أننا لن نخترع أي شيء يمكن استعماله في شر، فالواقع أننا لن نخترع أي شيء».

يرجو باراك أن يؤدي تطور الذكاء الاصطناعي إلى خاتمة أفضل، على غرار مستقبل فيوتشراما، فهذا في رأيه هو أفضل العوالم المحتملة، إذ يقول إن «هذا بالدرجة الأساسية هو السيناريو الذي يكون كل شيء فيه كما هو الآن، لكنه أفضل». ها هنا يستعمل الذكاء الاصطناعي لتقليل الفقر وضمان توافر الغذاء والرعاية الصحية والتعليم والفرص الاقتصادية لمزيد من البشر. وقد يقع ضرر بين الحين والآخر بسبب الشر أو الإهمال البشريين، ولكن سكان هذا العالم من البشر سيكونون على الأرجح مسرورين كثيرا بنصيبهم، إجمالا.

بل إن الوضع قد يكون أفضل من ذلك. إذ يرجو آرونسن أن يأتي يوم محتمل فتوجد فيه يوتوبيا يقودها الذكاء الاصطناعي ويطلق عليها هو وباراك سنجولاريا. وسوف يحدث هذا إذا ما بلغ أثر الذكاء الاصطناعي من العمق أن يجعل مستقبلنا مغايرا لدرجة ألا نعرفه، لكنه مغاير على نحو إيجابي. وها هنا تعيشون جنبا إلى جنب كائنات الذكاء الاصطناعي التي تكون عمليا سلالة فائقة الذكاء تستولي على إدارة الحضارة. ومن حسن الحظ أنها ستكون قوى خيرة، متسامحة مع فقراء الكوكب، من البشر المساكين. ستحل جميع مشكلاتنا المادية، وتمدنا بوفرة لا حدود لها، وتنوب عنا في كثير من مهامنا المضجرة وتوفر التسلية لعقولنا المفتقرة حديثا إلى الحوافز. يقول آرونسن «إنها عمليا جنة الذكاء الاصطناعي».

جميل. لكن ماذا لو أن كائنات الذكاء الاصطناعي ذات القوة الكلية هذه لم تأت بهذا السخاء؟ إذن مرحبا بكم في (جحيم المشابك). وثمة سبب وجيه لهذه التسمية الغريبة. في عام 2003 وصف عالم الرياضيات والأخلاقيات إليزار يودكووسكي ـ الشريك المؤسس لمعهد بحوث الذكاء الآلي في كاليفورنيا ـ تجربة فكرية تكلف فيها الإنسانية الذكاء الاصطناعي بتحسين إنتاج بعض الأشياء العادية، ولنقل إنها مشابك الورق. في حال عدم التفكير جيدا في الخصائص المطلوبة، قد ينتهي الذكاء الاصطناعي إلى محو الإنسانية لوقوفها في وجه حصد جميع موارد الأرض، وربما موارد كل العوالم الأخرى، وتسخيرها جميعا لصنع مشابك ورق أفضل.

كان طرح يودكووسكي أكثر دقة مما يبدو هنا، ولكن الهدف العام بسيط: من الصعب أن نتخيل سيناريوهات لا يكون فيها خلقنا للذكاء الاصطناعي هو آخر ما نفعله نحن البشر. ومن هنا فنحن بحاجة إلى التفكير كثيرا في ما نسمح للذكاء الاصطناعي بالعمل عليه، وفي ربطه بالموارد المادية من قبيل محطات الطاقة أو الأسلحة النووية، وفي إلزام صانعي الذكاء الاصطناعي بالشفافية وإخضاعهم للمحاسبة. ونحن بحاجة إلى التفكير بسرعة أيضا. تقول جريتا دوليبا مديرة الاتصالات في معهد بحوث الذكاء الآلي إن «تغيير السياسات والقواعد يستغرق وقتا طويلا، لأن تروس الحكم بطيئة الدوران. ونخشى أن ينفد الوقت قبل سن تشريعات ذات مغزى».

أما آرونسن وباراك فليسا خائفين كثيرا من احتمال «جحيم مشابك الورق». ففي حين يرى يودكووسكي أن الاحتمال الأرجح، بل الفرض شبه المؤكد، هو أن ينجم حدث كارثي عن بحوث الذكاء الاصطناعي الرديئة، ويعتقد آرونسن أن هذا مستبعد. أما باراك فهو أكثر حذرا، إذ يقول «أنا لست مؤمنا بالاحتمالات البعيدة من قبيل سنجيولاريا أو جحيم مشابك الورق، لكنني أعتقد أن عقولنا يجب أن تبقى منفتحة».

تبدو هذه فكرة طيبة، لكي نتأكد أننا منتبهون لـ«كيفية تطوير الذكاء الاصطناعي، ووضع قواعده، ودمجه» على حد تعبير (تشات جي بي تي). وإن لم نكن كذلك، فقد نجد أنفسنا بلا أي خيارات في لعبة (اختر مغامرتك بنفسك) التي نلعبها مع تطورات الذكاء الاصطناعي.

الحقيقة أنه حتى في ظل وجود قواعد حسنة النية، من المحتمل تماما أن ننتهي في أحد العوالم المتأثرة بالذكاء الاصطناعي التي نفضّل اجتنابها. وفي هذه الحالة، يجب أن نعمل أيضا على كيفية التنقل بين العوالم. ففي نهاية المطاف، قد نرغب يوما ما في العثور على طريقنا نخرج به من سيناريو دستوبيا الذكاء الاصطناعي لنصل إلى سيناريو فيوتشراما، بل وإلى سنجولاريا. يتساءل آرونسن «هل أرغب في الحياة في عالم تزدهر فيه بلا حدود كائنات حساسة داخل محاكاة لجنة ما؟ نعم، أنا أدعم ذلك كثيرا».

مايكل بروكس مستشار فيزياء في مجلة «New Scientist»، حاصل على درجة الدكتوراه في فيزياء الكم، ويعمل مؤلفاً وصحفياً ومذيعاً

خدمة تربيون عن مجلة «New Scientist»

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الذکاء الاصطناعی إلى بالذکاء الاصطناعی

إقرأ أيضاً:

كيف تواكب المؤسسات الدينية الذكاء الاصطناعي دون تفريط في الفتوى؟ مفتي الجمهورية يُجيب

أكد مفتي الجمهورية الدكتور نظير عياد، أن مؤتمر صناعة المفتي الرشيد في عصر الذكاء الاصطناعي والمقرر أن تعقده الدار على مدار يومي 12 و 13 أغسطس القادم يهدف إلى استكشاف تأثير الذكاء الاصطناعي على الفتوى الشرعية، مع التأكيد على أهمية الجمع بين التقنيات الحديثة وأصول العلم الشرعي.

وقال مفتي الجمهورية في حوار خاص مع وكالة أنباء الشرق الأوسط اليوم السبت، إن المؤسسات الدينية بحاجة إلى مواكبة الثورة الرقمية عبر التحول إلى الفتوى الرقمية، مع ضمان أن تكون الفتوى مسؤولة أخلاقيًا وإنسانيًا، وأن التحديات الكبرى تشمل الفتاوى الآلية المضللة واستخدام الذكاء الاصطناعي في دعم الخطاب المتطرف.

وأشار عياد، إلى ضرورة أن يكون المفتي العصري فقيها ومفكرا، وعلينا توظيف الذكاء الاصطناعي كأداة مساعدة للمفتي دون التفريط في القرار الإفتائي، موضحا أن الرسالة الأساسية التي يسعى المؤتمر لإيصالها هي رسالة عالمية بامتياز، تعكس عمق الدور الحضاري الذي تضطلع به دار الإفتاء المصرية وذراعها الدولية متمثلة في الأمانة العامة لِدُور وهيئات الإفتاء في العالم في هذا العصر المتداخل.

وأوضح أنه من أبرز ما نأمل من مخرجاته هو إعداد تقرير استشرافي شامل حول التحديات والفرص التي يطرحها الذكاء الاصطناعي على الفتوى عالميًا، يتضمن تحليلاً للوضع القائم، وسيناريوهات للمستقبل، وتوصيات عملية موجهة لصناع القرار الديني، وكذلك تطوير خطاب عالمي مشترك يدعو إلى أخلاقيات رقمية عادلة، ويؤكد أن الفتوى ليست مجرد معلومة تُنتج، بل مسؤولية دينية وأخلاقية وإنسانية، فضلاً عن فتح قنوات تعاون وشراكات جديدة بين المؤسسات الدينية حول العالم، لتوحيد الجهود وتبادل الخبرات، خصوصًا في ما يتعلق بالتقنيات الجديدة، ومواجهة خطاب الكراهية، وتصحيح الصورة النمطية عن الإسلام.

وتابع:" أنه لا شك أن هذه المخرجات تمثل نقلة نوعية من العمل الإقليمي إلى الفعل الحضاري العالمي، وهي مسؤولية نضطلع بها في دار الإفتاء المصرية، والأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء في العالم، بكل وعي وإصرار، وتمثل صميم رسالتنا.

ورأى المفتي، أن المؤسسات الدينية تحتاج إلى مقاربة مزدوجة، تتمثل في فهم عميق لأدوات العصر، وتمسك راسخ بأصول العلم الشرعي، فالتحول الرقمي ليس مجرد ترف تقني أو تحديث إداري، بل هو إعادة صياغة لكيفية الوصول إلى الجمهور، ومخاطبته، والتفاعل معه، في زمن تغيرت فيه وسائل السؤال، وأنماط الفهم، وحتى اللغة.

ونوه عياد، إلى أنه يمكن للمؤسسات الدينية أن تواكب الثورة الرقمية من خلال عدة مسارات استراتيجية، أبرزها التحول من الفتوى الورقية إلى الفتوى الرقمية الذكية، وبناء قاعدة بيانات معرفية فقهية رقمية، وتكوين "المفتي الرشيد" لا المفتي الآلي، وكذلك تدريب العلماء والدعاة على مهارات العصر.

ولفت إلى أنه يجب أن يعي الجميع أن الفرد مهما بلغت كفاءته، يبقى رهينًا ببيئة مؤسسية إما أن تطلق طاقاته أو تعيقه، لذلك سنعمل من خلال المؤتمر على دعم التحول المؤسسي داخل هيئات الإفتاء من خلال وضع معايير لقياس الأداء المؤسسي الإفتائي في العصر الرقمي، تتضمن مؤشرات مرجعية دقيقة لمدى التأثير المجتمعي للفتوى، ومردودها الإعلامي، وآليات ضبطها وتحليلها، إلى جانب توصيات بإنشاء فرق بحثية متخصصة داخل كل مؤسسة إفتائية، تتولى رصد المستجدات التقنية والقيمية التي تؤثر في واقع الفتوى، وتقديم الاستجابات العلمية المناسبة لها.

وأضاف الدكتور نظير، أن ذلك يأتي فضلًا عن دعم التجارب الدولية الناجحة من خلال تخصيص محور كامل في المؤتمر لعرض تجارب الدول في تطوير الأداء الإفتائي، مثل تجربة دار الإفتاء المصرية، والأردنية، والماليزية، والأوزبكية، وغيرها، وهذا التصور يفتح الباب أمام نقلة نوعية في البنية المؤسسية للفتوى، تنقلها من النمط التقليدي إلى نموذج رقمي متكامل، يراعي الشفافية، والحوكمة، وجودة المخرجات.

وعن التحديات التي يواجهها المفتي في عصر الذكاء الاصطناعي، قال إن هناك جملة من التحديات فرضها انتشار أدوات الذكاء الاصطناعي، فاليوم يستطيع أي برنامج أن يولد نصوصًا دينية، أو يقدم إجابات على مسائل شرعية، دون ضبط علمي أو شرعي أو سياقي، وهنا يكمن الخطر، لأن المتلقي قد يخلط بين الفتوى الشرعية الموثوقة، وبين المحتوى الاصطناعي الخالي من المرجعية.

وأوضح مفتي الجمهورية، أنه من أبرز هذه التحديات هو انتشار "الفتاوى الآلية" التي تصدر عبر روبوتات أو منصات مدعومة بذكاء اصطناعي بلا إشراف، وكذلك التضليل الخوارزمي حيث تظهر للجمهور فتاوى شاذة أو منحرفة لأنها تتفق مع ميوله أو بحثه السابق، وأيضًا استخدام الذكاء الاصطناعي في دعم الخطاب المتطرف، واستغلال ضعف الوعي المجتمعي في التمييز بين المفتي الحقيقي والمنتج الرقمي المصطنع، لذلك نعمل في دار الإفتاء من خلال الأمانة العامة لدُور وهيئات الإفتاء في العالم على إطلاق مؤشرات ذكية لرصد الفتاوى المنتشرة عبر الإنترنت، وتطوير أدوات تحليل رقمية لرصد الاتجاهات المنحرفة، كما نسعى خلال المؤتمر إلى وضع ميثاق دولي للفتوى الرقمية يراعي الضوابط الشرعية والأخلاقية، ويحدد الإطار الذي ينبغي أن تتحرك فيه المؤسسات.

وبشأن توظيف الذكاء الاصطناعي في دعم القرار الإفتائي دون المساس بجوهر الفتوى الشرعية، أكد المفتي أن الذكاء الاصطناعي ليس عدوًا للفتوى، لكنه ليس مفتيًا، فهو أداة قوية، لكنها تفتقر إلى العقل المقاصدي، والنظر الفقهي، والتقدير الإنساني الذي تستلزمه الفتوى، ولذلك فإن توظيف الذكاء الاصطناعي في دعم القرار الإفتائي لا يعني تفويض الآلة بإصدار الفتوى، بل استخدام قدراتها في تمكين العالِم الحقيقي من أداء دوره بصورة أدق وأسرع وأكثر وعيًا بتغيرات الواقع.

وشدد عياد، على أن الدار لا تتخوف من التقنية بحد ذاتها، بل من استقلالها عن الضوابط الشرعية والأخلاقية، وإذا استخدم الذكاء الاصطناعي وفق ضوابط رشيدة يمكن أن يكون عونًا للمفتي، وأداة مساعدة له ومحسنة من عمله وأدائه، وعلى سبيل المثال يمكننا استخدام الذكاء الاصطناعي في تصنيف الأسئلة، وتحليل الأنماط، والمساعدة في بناء قواعد بيانات ضخمة من الفتاوى، أو حتى تقديم إجابات مبدئية لبعض المسائل الشائعة أو الفتاوى العامة بناءً على فتاوى سابقة، لكن لا يمكن، ولن يكون مقبولًا، أن تتصدر الآلة مشهد إصدار الحكم الشرعي، لأن الفتوى ليست عملية حسابية أو منطقية فقط، بل هي اجتهاد إنساني مركب يتطلب الوعي بالمقاصد، وتحقيق المناط، ومعرفة حال المستفتي، ومراعاة الزمان والمكان والأشخاص والأحوال.

وأشار المفتي، إلى أن الضوابط تبدأ من التأكيد أن الذكاء الاصطناعي خادم للفقيه، لا حاكم عليه أو مستقل عنه، وأن الفتوى الصادرة عبر الآلة يجب أن تمر دومًا بمراجعة بشرية من جهة مؤسسية مسؤولة.

وأوضح أن الفتوى في فلسفة الدار "بنت زمانها"، ليست استنساخًا لحلول الماضي، بل اجتهادًا متجددًا يوازن بين النص والمصلحة، بين القيم الثابتة والمتغيرات الطارئة، وهنا نؤكد أن دار الإفتاء تضم لجانًا علمية متخصصة تعكف على دراسة المسائل المستجدة، وتشرك خبراء من مجالات متعددة لفهم أبعاد الظواهر الحديثة، بما يضمن أن تكون الفتوى مواكبة دون أن تفرط، وعصرية دون أن تشوه مرجعيتها، وبهذا النهج تقدم دار الإفتاء نموذجًا حيًّا لمؤسسة دينية تجمع بين عمق التراث وحيوية الحاضر.

وعن دور التدريب والتأهيل المستمر للمفتين في بناء مفتي يواكب هذا العصر المعقد، قال إن تكوين المفتي المعاصر أصبح أمرًا ضروريًا ولا يمكن حصره في حدود الفقه التقليدي، ذلك لأن المفتي العصري لا بد أن يكون فقيهًا ومفكرًا وناصحًا اجتماعيًا ملمًا بعلوم وأدوات العصر.

وأشار عياد، إلى أنه بات ذلك مشروعًا مركبًا يتطلب تأهيلًا متعدد الأبعاد، يتقاطع فيه الفقه مع علوم الاجتماع والعلوم الإنسانية والسياسة والاقتصاد والتكنولوجيا وعلوم الاتصال، ولهذا السبب، انتهجت الدار في السنوات الأخيرة نهج الشراكة المؤسسية مع جهات أكاديمية ومتخصصة لتقديم تدريب نوعي للمفتين الجدد.

ولفت إلى أن الدار لا تكتفي بالتدريب الداخلي في "مركز إعداد المفتين"، بل تنسق بفاعلية مع كيانات رائدة مثل أكاديمية الأزهر العالمية للتدريب، ومؤسسات متخصصة في الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي، وهذا التوسع في الشراكات يعكس قناعة الدار بأن المفتي اليوم بحاجة إلى أدوات معرفية وسلوكية تتجاوز الجواب الفقهي، ليصبح قادرًا على التعامل مع الأسئلة المركبة التي تمزج بين الدين والمجتمع والاقتصاد، وفهم البيئة الرقمية ووسائل التواصل التي تعيد تشكيل الفتوى يومًا بعد يوم، والتواصل الفعال مع جمهور متعدد الثقافات والمستويات.

وأكد عياد، الحرص على أن تكون الفتوى الصادرة عنها نتاجًا لتكامل علمي ومهني رفيع، حيث لا تكتفي بالاجتهاد الشرعي المجرد، بل تعلي من قيمة التشاور مع أهل التخصص في مختلف المجالات عند النظر في النوازل والقضايا المستجدة، وذلك إيمانًا منها بأن الفتوى الرشيدة لا تبني فقط على فهم النصوص، بل أيضًا على إدراك الواقع وتشعباته.

وفيما يخص تطوير الأدوات أو البرامج التي تعتمدها دار الإفتاء حاليًا لتسهيل العمل الإفتائي، فأكد أننا نعيش لحظة مفصلية تعيد تعريف وظيفة المفتي ودوره المجتمعي، لم يعد المفتي مجرد فقيه يجيب عن حكم الطهارة والصلاة فقط، بل أصبح رجلًا يخاطب الإنسان المعاصر، بلغته، وهمومه، وتحدياته، وسط عالم شديد التعقيد، لذلك لم تعد الكفاءة الشرعية كافية وحدها، بل أصبح من الضروري أن يضاف إليها وعي واقعي، وثقافة موسوعية، وفهم نفسي، وإدراك للسياقات الاجتماعية والسياسية والتقنية.

وأشار إلى أن المفتي اليوم يجب أن يعرف شيئًا عن الإعلام الرقمي، والاقتصاد السلوكي، والعلاقات الدولية، وقضايا البيئة والتكنولوجيا، لهذا حرصنا في دار الإفتاء على تطوير برامج تكوين المفتي لتشمل مواد مثل "فقه الواقع"، و"دراسات إنسانية"، و"مهارات القيادة والتواصل"، إلى جانب تدريب عملي مباشر على التعامل مع الأسئلة الجديدة والملفات والأدوات المعاصرة.

وعن التمييز بين الفتوى الصادرة عن عقل بشري مؤهل والردود التي ينتجها الذكاء الاصطناعي، قال المفتي إن التمييز يبدأ من فهم جوهري لطبيعة كل منهما، فالمفتي الإنسان لا ينقل حكمًا فحسب، بل يجتهد، ويراعي المقاصد، ويقدر الظروف، ويتحمل مسؤولية الكلمة التي يوقع بها عن الله، بينما الذكاء الاصطناعي يقدم ردودًا آلية مستندة إلى أرشيف من النصوص والمعلومات، دون وعي أو فقه للسياقات الفردية والاجتماعية.

وأضاف عياد، أنه من ثم فالفتوى البشرية تتسم بالتفصيل، وبالقدرة على التمييز بين الحالات، وبالتردد الورع أحيانًا في إصدار الحكم، في حين تميل إجابات الآلة إلى الاختزال، والجمود، وغياب الحس الإنساني، فلا تعرف التدرج، ولا تتردد في القطع بحكم دون مراعاة لحالة السائل أو لزمانه ومكانه، كما أن المفتي البشري قد يقول لا أعلم تواضعًا وخشية، بينما الآلة تجيب على كل شيء بلا مسؤولية، ولعل أخطر ما في الفتوى الآلية أنها تخفي ظاهرها المنضبط تحت قناع تقني، بينما تفرغ الفتوى من بعدها الشرعي والروحي والإنساني، ولهذا يبقى الوعي مصدر الأمان، فكل فتوى تفتقر إلى الاجتهاد، ولا تراعي المقاصد، ولا تحمل في طياتها تمييزًا بين الناس والسياقات، لا بد أن يعاد النظر فيها.

اقرأ أيضاًمفتي الجمهورية: الجهود الوطنية تُجسد يقظة دائمة بمسؤولية حماية البلاد

مفتي الجمهورية ينعى الأمير الوليد بن خالد بن طلال بن عبد العزيز آل سعود

مفتي الجمهورية: تطوير الميدان الإبراهيمي بدسوق خطوة مهمة لإحياء التراث الديني والحضاري

مقالات مشابهة

  • دعوة لمقاربة شاملة لتنظيم الذكاء الاصطناعي
  • الجدل الاقتصادي في شأن الذكاء الاصطناعي 1/5
  • الذكاء الاصطناعي يفضّل الاستشهاد بالمحتوى الصحفي
  • فيديو.. مباراة تنس بلا نهاية بين روبوتات غوغل لتدريب الذكاء الاصطناعي
  • البشر يتبنون لغة الذكاء الاصطناعي دون أن يشعروا
  • الصين تحذر من احتكار الذكاء الاصطناعي
  • كيف تواكب المؤسسات الدينية الذكاء الاصطناعي دون تفريط في الفتوى؟ مفتي الجمهورية يُجيب
  • الذكاء الاصطناعي يساعد على توقع الخصائص الكيميائية
  • أهم ما يميز أداة الذكاء الاصطناعي نوت بوك إل إم من غوغل
  • كشف دليل داعش السري: كيف يستخدم التنظيم الذكاء الاصطناعي؟