شعرتُ بتضاؤل كلماتي وبهشاشة الكتابة وعبثيتها، عندما شاهدتُ الطبيب العُماني أيمن السالمي يمضي حاملا روحه بين يديه، شاقا عتمة الحرب، غير مُكترث بصروف الأيام القادمة، في مكانٍ تجزه مناجل الموت والجوع كل دقيقة وثانية. شعرتُ كما يقول إلياس خوري في كتابه: «النكبة المستمرة» الصادر عن دار الآداب، «كأنّ الكلمات تملأ الفراغ بالفراغ».
كم أغبط السالمي في خياره الإنساني، في أن يهب المستضعفين قشة النجاة الأخيرة، ولذا كنتُ في أعماقي أتساءلُ بحسرة: أي عمل يمكن أن يُضاهي أو يُداني رفعة ما يفعله هو وغيره من الأطباء؟
وبقدر ما شعرتُ أنّ الكتابة ذات تأثير هامشي إزاء من يتعامل بشكل دقيق مع جراح الناس وأوجاعهم بالمعنى الحرفي وليس المجازي، إلا أنّي وفي استعادتي لأحاديثي الأخيرة مع دور النشر في معرض مسقط الدولي للكتاب، التقطتُ تلك الإشارات المتعلقة بالإقبال على شراء الكتب التي تتعلق بالقضية. قالت لي الصديقة الناشرة رنا إدريس: «القُراء منذ 7 أكتوبر لا يقبلون إلا على كل ما يتعلق بفلسطين»، وكأنّ ذلك الخزي العربي العميق والمُعذب هو من يحملهم على تقديم تلك المؤازرة الصغيرة والتضامن عبر فعل القراءة.
مما يدل على أنّ فعل الكتابة يُرهب العدو بقدر ما يفعل الصمود والتشبث بالأرض، وإلا فلماذا تترك وسائل الإعلام الإسرائيلية أشغالها الكثيرة، كما فعلت صحيفة «هآرتس» لتقدم تقريرا حول رواية الأسير باسم خندقجي «قناع بلون السماء»، التي ترشّحت مؤخرا «للقائمة القصيرة في جائزة الرواية العربية (البوكر)، حيثُ وصفته الصحيفة بالإرهابي الفلسطيني المتورّط في قتل الإسرائيليين.. وقد سبق وأن كتبتُ من قبل عن التشويه الذي طال رواية عدنية شبلي «تفصيل ثانوي»، وعن تراجع معرض فرانكفورت عن الاحتفال بها. ماذا أيضا عن القتل العمد للصحفيين الذين يمنحوننا قصّة مُغايرة لسرديتهم المُلفقة! كل هذا يؤكد لنا قدر الرعب الذي تفعله الكلمات التي تُعري زيفهم، فالكلمات تفعل ما يفعله الرصاص أو الحجر أو يد طبيب تخيط الجراح.
وليس بعيدا عن هذه الاستعادات، أتذكرُ السؤال الذي تلقيته من أحد المستعربين أيام معرض مسقط الدولي للكتاب أيضا، عندما قرأ روايتي: «لا يذكرون في مجاز» فسألني عن الحرية التي ننشدها في السرد وفي الواقع. بدا الأمر وكأننا نعيشُ في هوتنا السحيقة المنفصلة عن العالم، ولا أدري لماذا أجبته بذلك النحو من الصلافة: لو أنّك سألتني قبل أحداث 7 أكتوبر لكنتُ أجبتُ إجابة مُغايرة، ولكن الصورة «المثال» للحريات بذلك المعنى المتسامي في أذهاننا تمّ سحقها وتفتيتها في وعينا العام، فالحرية التي تكيل بمكيالين وتنظر لنا من مناظيرها المتعالية تهاوت إلى الحضيض، وتناقضت أيّما تناقض في نظرتها للإنسان «بين براهمة ومنبوذين» على حد تعبير الكاتب الكيني علي المزروعي.
يخبرنا إلياس خوري بأنّ الروائي الإسرائيلي «يزهار» قدّم شخصية الفلسطيني صامتا أو شبحا وقد ساد من بعده هذا الأنموذج في الأدب الإسرائيلي. ولعلي أجد الكتابة إعادة لسان مقطوع لجسد مُهشم. محاولة مستمرة لتوضيح سوء الفهم الذي جرى استخدامه كأداة للسيطرة كما وصفه إدوارد سعيد في كتابه الاستشراق. فالضحية التي أكرهت على الصمت، يمكن للكتابة أن تمنحها صوتا.
يتحدث خوري عن كلمة «نكبة» التي صاغها المؤرخ قسطنطين زريق، وكانت عصية على الترجمة فدخلت في نسيج اللغات، ألا يعني ذلك أنّ الكتابة سردية مُضادة للغة المحو، لا سيما في وقت تضاءلت فيه الحدود، وبات التلاعب بالمعنى يزج بوجهه القبيح في كل لحظة!
بينما أنجز هذه الكلمات كان الطبيب أيمن السالمي يقطع مُضطرا يد طفلة من غزة تبلغ من العمر ثلاث سنوات ليبقيها على قيد الحياة، أخذ العجز وقلة الحيلة يُعبئان قلبي، لكنني قلتُ في نفسي: يمكن للكتابة أيضا أن تقف جوار الأيدي التي تُطعم وتداوي وتُعلم وتخبز، فهي تُخبر العالم دوما بالقصّة المستبعدة.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
تراجم :معسكر الموت في غزة: كيف يقاوم الفلسطينيون بالفن عندما تعجز الكلمات؟
في الوقت الذي تمضي فيه إسرائيل في اغتيال العلماء الإيرانيين وقصف المستشفيات ومحطات التلفزة في مختلف أنحاء إيران، يتواصل منطق التصعيد، وما يصاحبه من جبن سافر تمارسه ما تُسمى بـ”أكثر الجيوش أخلاقًا” في “الديمقراطية الوحيدة” بالشرق الأوسط، بخطى محسوبة لا تعرف الكلل.
هذا التصعيد طال حتى شخصيات لا تمت للسياسة بصلة، مثل اغتيال محمد نصر الله، النحال المحبوب في قرية حولا جنوب نهر الليطاني في لبنان. ربما كان نصر الله ، أو خلايا نحله، تُشكّل “تهديدًا وجوديًا” للمستوطنين الإسرائيليين قرب الحدود!
إن المزج المستمر بين العنف العشوائي والاستهداف الدقيق يجعل من الفقد الفردي، ومن الحداد الحقيقي، أمرًا يصعب حتى الشعور به أو التعبير عنه. الصدمة العابرة التي سادت حين تبيّن، بعد أيام فقط من تشغيل ما سُمي بـ”محطات المساعدات الإنسانية” المدعومة من الولايات المتحدة والمرتبطة بالموساد، أنها في الواقع نقاط قتل مُصممة لسحق التضامن الفلسطيني عبر التجويع والسيطرة الإجرامية على الغذاء ، تلك الصدمة سرعان ما تلاشت، إذ سرعان ما اعتاد الناس على الرعب.
ولم يكتفِ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالتلميح، بل اعترف علنًا بأن القوات العسكرية والأمنية الإسرائيلية تتعاون مع عصابات إجرامية للسيطرة على توزيع المواد الغذائية. هذا الاعتراف لا ينفصل عن سياق مستمر من عمليات التصفية والاغتيال والتدمير، الذي يستهدف كل مستوى من مستويات الحياة المدنية والجماعية الفلسطينية.
في معظم معسكرات الاعتقال، كمعسكرات الغولاغ السوفيتية الشهيرة التي كانت تُستخدم للعمل القسري في ظل نظام ستالين، كانت نتائج العمل المضني، والحصص الغذائية الضئيلة، وانعدام الرعاية الطبية تؤدي إلى تفشي الأمراض مثل التيفوس، ثم إلى الموت. أما في غزة، التي تعدّ اليوم أضخم معسكر اعتقال عرفه العالم ، فالفلسطينيون يُبادون كأنهم مجرد أرقام، ويُصنّفون في فئات، وتُطبّق عليهم درجات متفاوتة من القسوة.
أما العمل القسري المفروض على الفلسطينيين، فقد بلغ درجة من الانحراف الأخلاقي لم يسبق لها مثيل، إذ بات يُمارَس على الذات نفسها، أي أن تفعل كل ما يمكنك لتنجو: أن تتبع أوامر الإخلاء التي لا تنتهي، وأن تركض وسط الرصاص والقذائف والصواريخ، سواء كانت تطلق من قناصة، أو دبابات، أو طائرات دون طيار، أو طائرات حربية، أو حتى سفن بحرية.
في ما يُسمى بـ”الممرات الإنسانية”، يُقتل يوميًا مئات الفلسطينيين الباحثين عن أدنى مقومات البقاء لعائلاتهم الجائعة. يُقتلون بدم بارد، عشوائيًا، فقط ليكونوا عبرة. أما من ينجو من القتل المباشر، فقد يُطعن أو يُصاب برصاص المجرمين الذين يسرقون الطعام الثمين لبيعه في السوق السوداء.
في الدليل الإسرائيلي للقتل، ما لا يُتصور يصبح روتينًا. ففي خان يونس، يوم 17 يونيو، قُتل نحو 80 شخصًا، كانوا ينتظرون حفنة مساعدات “كريمة” تحدثت عنها المتحدثة باسم البيت الأبيض تامي بروس، على يد طائرات إسرائيلية مولها دافعو الضرائب الأمريكيون. كما أُصيب أكثر من 300 آخرين.
ومع تزايد اغتيال الصحفيين الفلسطينيين، تتضاءل الروايات العينية الخارجة من غزة. ومع ذلك، فإن البنية التي يتم من خلالها تنفيذ هذه المجازر، مثلما كان الحال مع نظام العقوبات الأمريكية على العراق، تلك الآلة البيروقراطية والتقنية التي أودت بحياة مئات الآلاف، تبقى أشد استعصاءً على التوثيق من النتائج المدمرة التي تخلّفها على الأرض.
فوضى مصطنعة
في التاسع من يونيو، كتب الطبيب الفلسطيني البارز د. عزالدين شهاب على منصة X: "أبلغنا منظمة الصحة العالمية بهدوء وبشكل رسمي أن الجيش الإسرائيلي قد أوقف التنسيق الطبي لجميع الذكور الفلسطينيين الذين تزيد أعمارهم عن اثني عشر عامًا. اثنا عشر عامًا.”
وكأن المعاناة اليومية التي يعيشها كل فلسطيني في غزة للحصول على إذن إسرائيلي للإخلاء الطبي لا تكفي، يأتي هذا القرار ليكون بمثابة حكم إعدام مباشر وصريح.
وبنبرة غاضبة ودقة طبيب يُشخّص داء أمة، يضيف الدكتور شهاب: “هذا ليس إهمالًا؛ بل عقيدة، عقيدة القسوة... ما يحدث ليس جنونًا؛ بل هو نظام. وهذه هي الكارثة. لا صراخ، ولا لهب، ولا فوضى. فقط صمت ناعم لإيقاف الإحالات، ودقة بيروقراطية في الأوراق، وسكون مطلق لأطفال لم يبلغوا سيارة الإسعاف. والعالم يراقب. منهم من يعدّ القتلى، ومنهم من يعدّ الأصوات الانتخابية. لكن لا أحد يحصي من يحتضر في الظل...”
هذه الفوضى المصطنعة وهذا التدمير المنهجي ليست مجرد نتائج جانبية لحرب، بل هي خطة محكمة تُنفَّذ على أرض فلسطين وعلى أجساد أهلها، سواء في “السجون الصغيرة” أو في “السجن الكبير” الذي أصبحت عليه فلسطين المحتلة، كما نظّر الراحل وليد دقة.
وفي سُلّم الرعب والقمع الذي تفرضه إسرائيل، ليس مستغربًا أن تعتقل سناء سلامة، أرملة الشهيد دقة، يوم 29 مايو أثناء عبورها أحد الحواجز. وُجِّهت إليها تهمة “التحريض الإلكتروني”، وسعى وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير إلى ترحيلها وسحب جنسيتها.
كانت برفقة طفلتهما “ميلاد”، التي لم تتجاوز الخامسة من عمرها، والتي وُلدت من نطفة مهرَّبة من والدها الذي حُرم من حقوق الزيارة الزوجية، في فصل بطولي جديد من مقاومة الاحتلال.
بعد أن فُصلت عن ابنتها، وخضعت لسبع جلسات محكمة، أُفرج عنها في 12 يونيو. وعندما سُئلت إحدى معارف العائلة عن ردة فعل ميلاد تجاه اعتقال والدتها، أجابت: “إنها ذكية، وتفهم أن أمها اعتُقلت.”
صدقات ضد النسيان
بينما تتجه الأحداث في غزة نحو مزيد من التصعيد والانهيار الكامل للمنظومة الإنسانية، وتتناقص التغطية الإعلامية عبر وسائل التواصل، تظهر أعمال الفن البصري كنافذة مدهشة تكشف عن اتساع الروح الإنسانية في لحظة يأس كاسح.
بعد أيام قليلة من المجزرة التي باتت تُعرف باسم “مجزرة ويتكوف” في 2 يونيو، والتي قُتل فيها 31 فلسطينيًا كانوا يبحثون عن الطعام، وأُصيب أكثر من 200 آخرين، نشر الفنان أسامة حسين رسمة مؤلمة، نشر مجموعة من الأشخاص يحملون أكياس دقيق فوق ما كان يُستخدم في العادة لحمل الجرحى.
تتوازن الأكياس على أكتافهم، بينما تنظر وجوههم للأسفل نحو جثث ممددة على الأرض. وفي تعليق مرافق للرسم، كتب حسين:
“كسر الجوع ما تبقى من منظومة القيم؛ فحُمِل الطحين، وبقيت الأجساد على الأرض دون أن يحملها أحد. رسمت هذا العمل وأنا أشعر بثقل هذا التناقض. لم يكن اتهامًا، بل مرآة لحالة مستحيلة حين يضطرك الحصار إلى تفضيل نجاتك الجسدية على مشاعرك وعلى من مات أمام عينيك...”
وفي سياق مماثل، نشر الفنان رائد عيسى، أحد مؤسسي مجموعة “التقاء” للفنون المعاصرة في غزة، والتي دُمّرت بالكامل، رسمة لماعز تنظر بذهول إلى ما سيحدث، وكتب تعليقًا عليها: “نظرة وداع... إن لم تكن هناك حقوق للإنسان، فأين حقوق الحيوان؟”
أما الفنان سهيل سالم، وهو أيضًا من مؤسسي “التقاء”، فيدوّن يومياته البصرية في أي دفتر يقع في يده. أحد أعماله، المرسومة داخل كراسٍ مدرسي تابع للأونروا، تمكّن من الخروج من غزة ليُعرض لاحقًا في دار “دارة الفنون” بعمّان.
وبحسب ما يبدو، فإن رسومات سالم المذهلة رُسمت بأقلام جافّة فقط. إحدى هذه الرسومات، رغم صغر حجمها المفروض بسبب الظروف ، تضاهي في قوتها لوحة “غيرنيكا” الشهيرة لبيكاسو؛ إذ تمتلئ المساحة بوجوه نساء في حداد، يحدقن في المتلقي بنظرات مؤلمة.
الفنانة خلود حماد، التي لم تتجاوز الحادية والعشرين من عمرها، ترسم بروح مقاومة متفجرة، حيث تصور شخصيات بطولية، ومشاهد إعصار من الدمار والدم، أو بنايات تتفجر في مخططات هندسية متداخلة.
تقول خلود: “ينبع فني من الواقع الذي أعيشه يوميًا، من مشاهد القصف، والفقدان، والصمود... أصبح الفن صوتي حين خذلتني الكلمات. هو وسيلتي لفهم الألم، ومقاومة الظلم، ونقل حقيقتي إلى العالم.”
وفي الوقت الذي تُحكم فيه الأنظمة حول العالم، من واشنطن ولندن وبرلين وباريس، إلى القاهرة وعمان والرباط والرياض، قبضتها لتقييد الغضب الشعبي تجاه ما ترتكبه إسرائيل من جرائم دون محاسبة، تعجز الكلمات أحيانًا أمام هذا الكمّ من القسوة غير المسبوقة.
ومع ذلك، فإن رباطة الجأش التي يبديها هؤلاء الفنانون والفنانات في غزة تثير الإعجاب والتقدير العميقين، إنها شهادة حية على الصمود، تستحق الاحترام والتوقير.
ولعلنا نستعير قولًا مقلوبًا لشكسبير ،ذلك الذي أحبه الشاعر الفلسطيني المغدور رفعت الأعرج، ونقول:
هذه الأعمال الفنية هي “صدقات في وجه النسيان”.
أميئيل ألكالاي شاعر وروائي ومترجم وناقد وأكاديمي أمريكي. ألّف أكثر من 25 كتابًا، من أحدثها “الهدم الممنهج: عمل في أربعة كتب”، كما شارك في ترجمة ديوان ناصر رباح “غزة: القصيدة قالت كلمتها”. يشغل منصب أستاذ في كلية كوينز وجامعة مدينة نيويورك.