من هو حسن الصباح زعيم طائفة الحشاشين؟
تاريخ النشر: 16th, March 2024 GMT
السومرية نيوز – دوليات
مؤسس الطائفة الإسماعيلية النزارية أو ما تعرف بـ"جماعة الحشاشين"، ولد في إيران وتوفي فيها، رباه أبوه على اتباع المذهب الإثني عشري، وعند بلوغه سن الـ17 اعتنق المذهب الإسماعيلي.
عمل لفترة في البلاط السلجوقي، ثم بدأ يتنقل بين مناطق إيران لنشر المذهب الإسماعيلي بشكل سري فزاد أتباعه إلى أن استولى على قلعة آلموت واتخذها مركزا لدعوته، ومنها بدأ توسيع نفوذه في المناطق المجاورة، ووضع أسس ما سماها "الفدائية" هو وطائفته، إذ كان يرسل أتباعه لاغتيال معارضيه في وضح النهار لإثارة الخوف والرعب في قلوب أعدائه.
المولد والنشأة
ولد الحسن بن علي بن محمد بن جعفر بن الحسين بن محمد الصباح الحميري عام 428 هجري الموافق 1037 ميلادي في مدينة قم التي كانت مركزا أساسيا للشيعة الإثني عشرية، فيما ترجح بعض المصادر ولادته في بلدة معصوم بمقاطعة الري بالقرب من طهران.
يرجع نسبه إلى قبيلة حمير، حيث قدم أبوه من اليمن إلى الكوفة ومنها إلى قم ومن قم إلى الري حيث استقر بأسرته.
كان أبوه يتبع المذهب الإثني عشري، واهتم بتعليم ابنه هذا المذهب وشجعه على الاطلاع على مختلف العلوم في عصره.
في سن الـ17 التقى بأحد دعاة الإسماعيلية ودخل معه في جدال ونقاش مستفيض شكل منعطفا حاسما في أفكاره وعقيدته، وانتهى به الحال إلى اعتناق المذهب الإسماعيلي. كان لديه علم بالحساب والهندسة، وكان مطلعا على مختلف علوم عصره النظرية والعملية، مما أهله ليلتحق بالبلاط السلجوقي ويعمل موظفا ومستشارا إداريا عند السلطان ملكشاه.
في بلاط السلاجقة
تختلف الروايات بشأن ظروف دخوله البلاط السلجوقي وخروجه منه، وكلها مرتبطة بعلاقة مزعومة بينه وبين الوزير السلجوقي نظام الملك.
تتحدث بعض المصادر عن علاقة صداقة جمعت الحسن الصباح ونظام الملك والشاعر عمر الخيام في مرحلة الطفولة، إذ تزعم هذه المصادر أن ثلاثتهم درسوا في نيسابور وتعاهدوا إذا حقق أحدهم النجاح أن يمد يد العون للبقية، لذلك عندما أصبح نظام الملك وزيرا أخذ الحسن الصباح للعمل في البلاط السلجوقي.
لكن هذه الرواية يتم التشكيك فيها من بعض الباحثين كون الحسن الصباح ولد سنة 428 هجرية ونظام الملك ولد سنة 408 هجرية، مما يعني أن فرق العمر بينهما 20 سنة، وهو ما يبطل فكرة أنهما كانا صديقين في مرحلة الدراسة، كما أن المصادر التاريخية الأكثر حجة تنص على أن الصباح تلقى تعليمه في مدينة الري وليس نيسابور.
من جهة أخرى، يقول بعض المؤرخين الشيعة إن الوزير نظام الملك تآمر لإخراج الحسن الصباح من بلاط السلاجقة وإثارة غضب السلطان عليه بعدما أظهر الصباح كفاءة، فخشي الوزير أن تتهدم مكانته في البلاط وتتزعزع ثقة السلطان به، وهي الرواية التي يعلل بها مؤرخو الشيعة دوافع هروب الحسن إلى مصر.
لكن ابن الأثير في كتابه "الكامل في التاريخ" ينفي حدوث أي صدام في تلك الفترة بين الصباح ونظام الملك، بل إن هذا الأخير كان يحسن معاملته، ويعلل ابن الاثير هروب الصباح إلى مصر بانزعاج رئيس مدينة الري من نشاطه في الدعوة الإسماعيلية وإيوائه مجموعة من الفاطميين المصريين.
أما الصباح فيفسر ذهابه إلى مصر في شذرات من سيرته بتنفيذ توجيه الداعية الكبير عبد الملك بن عطاش بضرورة الذهاب إلى القاهرة لحضور دروس العلوم الباطنية وللقاء الخليفة الفاطمي الإمام المستنصر وإعلان الولاء له مباشرة.
في مصر
عندما غادر مدينة الري عام 467 هجري/ 1076 ميلادي لم يذهب الصباح إلى مصر مباشرة، بل توجه نحو أصفهان وقضى فيها فترة يدعو إلى المذهب الإسماعيلي الفاطمي، ثم توجه إلى أذربيجان ومنها إلى ميافاريق ثم إلى الموصل ثم إلى سنجار فالرحبة فدمشق فصيدا فصور فعكا، ومنها سلك طريق البحر إلى شاطئ مصر.
وصل إلى القاهرة سنة 471 هجرية/ 1078 ميلادية واستقبله الخليفة الفاطمي الإمام المستنصر بحفاوة وكذلك كبار الدعاة ورجال الدولة، وخلال لقائه بالخليفة سأله الصباح "من إمامي بعدك؟" فقال "ابني نزار".
واصطدم في مصر مع أمير جيوشها ووزير السيف والقلم بدر الجمالي الذي كان مناهضا لتولي نزار الخلافة بعد المستنصر ومؤيدا لأخيه الأصغر أحمد المستعلي، فضلا عن أن الجمالي ضاق ذرعا من تقدير المستنصر للحسن، فعمل على طرده من مصر بعد أن قضى فيها 3 سنوات، لكن بعض المؤرخين يقولون إنه قضى فيها نحو 18 شهرا.
التحصن في آلموت
خرج الصباح من مصر واتجه بحرا إلى عكا ومنها إلى حلب ثم إلى بغداد ومنها إلى بلاد فارس، فبلغ أصفهان في يونيو/حزيران 1081 ميلادي/ 473 هجري، وظل 9 سنوات يتنقل من مدينة إلى أخرى بشكل سري يدعو إلى المذهب الإسماعيلي ويكتسب الأنصار.
في هذه الفترة قتل أنصاره في أصفهان مؤذنا كانوا قد دعوه إلى مذهبهم فرفض الاستجابة لهم فخافوا أن يكشف أمرهم للسلطات، وكانت هذه أول عملية اغتيال ينفذها أتباعه. عندما بلغ خبر الحادثة للوزير السلجوقي نظام الملك أمر باعتقال القاتل، وانتبه حينها إلى خطر هذه الجماعة والتهديد الذي تشكله على أمن واستقرار السلطة، فبدأ بتعقب المنتمين إليها ودعاتها، مما دفع الصباح إلى التفكير جديا في إيجاد حصن منيع يحميه هو وأتباعه من الملاحقة المتواصلة ويمكنه من نشر دعوته.
اختار الصباح قلعة آلموت لهذا الغرض، وهي حصن بناه أحد ملوك الديلم ويقع فوق صخرة عالية وسط الجبال ويبعد نحو 100 كلم عن مدينة طهران، وقد كان استيلاء جماعة الصباح على هذه القلعة أول عمل تاريخي كبير تنفذه هذه الحركة الوليدة.
ومن قلعة آلموت واصل الصباح نشر دعوته في المناطق المجاورة، وسيطر على عدد من القلاع والحصون مستخدما تارة الإقناع العقائدي وتارة أخرى القوة العسكرية، وقد أثارت أطماعه التوسعية غضب السلطان السلجوقي ملكشاه فقرر توجيه حملتين عسكريتين إلى قلعة آلموت وقهستان للقضاء على نفوذ الصباح المتزايد، لكنهما فشلتا في تحقيق أهدافهما.
أول عملية اغتيال
وضع الحسن الصباح الوزير السلجوقي نظام الملك على رأس قائمة الاغتيالات باعتباره عدوه الأول وعدو حركته، إذ كان من أشد المحاربين للمذاهب الفكرية الباطنية.
في 10 رمضان سنة 485 هجرية/ 1092 ميلادية اقترب فدائي من الإسماعيلية الباطنية متنكرا في زي صوفي فقير من الوزير زاعما أن لديه مظلمة، فلما اقترب منه نظام الملك سدد إليه طعنة في القلب فسقط ميتا وهو في الـ77 من عمره، وتعتبر هذه أول عملية اغتيال لشخصية كبيرة تنفذها هذه الحركة، وبها أرسى حسن الصباح أسس "الفدائية" كما يقول المؤرخون الشيعة.
بعد هذه العملية نفذت الحركة سلسلة اغتيالات طالت كبار الشخصيات التي تعارض دعوتها من وزراء وقادة في الجيوش وأمراء وعلماء بهدف زرع الخوف في قلوب أعدائها. بعد فترة قصيرة من اغتيال نظام الملك توفي السلطان ملكشاه، فاندلعت حروب داخلية بين أبنائه أضعفت السلطة المركزية السلجوقية، وانتهز الصباح هذه الفرصة ليوسع نفوذه وينشر دعوته في كل أنحاء إيران بشكل ظاهر، وهو ما تحقق بفضل تسامح بركيارق أحد أبناء السلطان ملكشاه الذين كانوا يتنازعون على العرش، إذ تعاون مع الحشاشين للقضاء على مخالفيه مقابل منح الصباح حرية نشر دعوته.
استطاع الصباح كسب المزيد من الأتباع، فازدادت قوة جماعته واتسع نفوذها واستولى على العديد من القلاع التي تمتد على مساحة جغرافية متصلة حتى شكّل دولة مترامية الأطراف أطلق عليها بلاد الإسماعيلية.
شعر السلطان بركيارق بالخطر يهدد سلطته، سواء من جماعة الصباح التي تعاظم نفوذها أو من السخط المتزايد من معارضي تسامحه تجاه أعضائها، فعقد اتفاقا مع حكام الولايات الإيرانية للقضاء على الإسماعيليين في جميع أنحاء إيران وقتل المنتمين إليها، مما عرضها لانتكاسة كبيرة، ومع ذلك ظل معقلهم الرئيسي في قلعة آلموت بعيدا عن أي تهديد.
لم توقف هذه الانتكاسة الصباح، بل استمر في إرسال الدعاة والفدائيين إلى مختلف المناطق الإيرانية وإلى سوريا لاغتيال الشخصيات التي كانت تجاهر علنا بمعارضته، ومن الشخصيات التي تعرضت للاغتيال على يد رجاله في تلك الفترة الوزير الأعز أبو المحاسن عبد الجليل بن محمد الدهستاني وزير السلطان بركيارق، ووالي بيهق، ومفتي أصفهان، وزعيم فرقة الكرامية في نيسابور، والوزير السميرمي وزير السلطان محمود.
كما أن حسن الصباح أمر بتنفيذ عمليات تخريب لإرهاب معارضي طائفته مثل حرق جامع أصفهان الشهير الذي كان مركزا للتيار السني.
استمرت محاولات دك قلعة آلموت حيث تحصن الحسن الصباح لعقود عدة، وحاصرها السلطان السلجوقي ملكشاه وكذلك ابنه السلطان بركيارق، ومن بعده السلطان محمد الذي حاصرها 8 سنوات، ومن بعده حاول السلطان سنجر مواصلة سياسة أخيه والنيل من حسن الصباح، لكنه تعرض لتهديد مباشر بالقتل فأنهى الحصار. آلموت.. خرافات وحقائق
تقول بعض المصادر إن الحسن الصباح بنى في قلعة آلموت قصورا وحدائق واسعة وصنع فيها أنهارا من خمر وحليب وعسل، وجلب إليها فتيات صغيرات جميلات ليخلق مكانا يشبه الفردوس طبق الأوصاف التي جاءت في القرآن الكريم، ومن النصوص التي أوردت هذه المزاعم ما كتبه الرحالة الشهير ماركو بولو.
وتزعم هذه الروايات أن زعيم الإسماعيليين كان يعطي الشباب الحشيش والأفيون حتى يغيبوا عن الوعي، فينقلهم إلى قصور داخل القلعة حيث يستمتعون فيها بأجواء الجنة، ثم ينومهم مرة أخرى ويعيدهم ويوهمهم أنهم كانوا في الفردوس الأعلى، فإذا أراد اغتيال شخصية ما يكلف بعض أتباعه بهذا العمل ويعدهم بأن مصيرهم بعد الموت سيكون العودة إلى ذلك الفردوس الذي كانوا فيه وتعرفوا عليه، لذلك كان الفدائيون ينفذون أوامره ويقتلون أعداء سيدهم بجرأة ودون خوف من الموت الذي ينتظرهم.
لكن تحليل الطبيعة الطبوغرافية للقلعة يجعل المرء يصنف كتابات ماركو بولو وغيره من المؤرخين ضمن الأساطير، حسب المفكر وأستاذ فلسفة الأديان المصري محمد عثمان الخشت.
وحسب المصدر نفسه، فإن القلعة تقع على صخرة ترتفع بأكثر من 10 آلاف قدم عن سطح البحر في مرتفعات فارس، ومناخ هذه المنطقة شديد البرودة حيث يتساقط الثلج فيها لأكثر من 6 أشهر في السنة.
كما أن مؤرخين آخرين ذكروا أن السكان كانوا يعزلون الحيوانات في المناطق الجنوبية خوفا عليها من البرد الشديد الذي لا يمكن أن تتحمله، لذلك اعتبر الخشت أن ما ذكره ماركو بولو وتبعه فيه كثير من المؤرخين دون تحقق لا أساس له من الصحة، ومجرد أساطير تنضاف إلى روايات أخرى انتشرت عن الصباح وجماعته، ومنها القول إن تسميتهم بالحشاشين لتعاطي أتباعه مخدر الحشيش قبل تنفيذ أي عملية اغتيال، في حين ترجح روايات أخرى أن هذا الاسم أطلق عليهم لأنهم كانوا يضطرون لأكل حشائش الأرض خلال سنوات حصار قلعتهم.
ويرى الخشت أن الطابع السري الذي ميز الإسماعيلية النزارية منح خصومها الفرصة لنسج الأساطير والخرافات عن تاريخها وأفكار مؤسسها، وقد استفاد هؤلاء من إتلاف معظم النصوص التي كتبها زعماء الجماعة، خاصة الصباح بعد سيطرة التتار على القلعة وحرق كل الكتب فيها.
شخصية جدلية
منذ استيلائه على قلعة آلموت إلى حين وفاته ظل الحسن الصباح منعزلا في القلعة، واستطاع أن يدير منها دولة صغيرة منشقة عن الحكم السني يتمتع فيها بالزعامة الروحية والفكرية والسياسية، ويعتمد على جيش من الدعاة الماهرين والفدائيين المستعدين للموت بإشارة من القائد.
ويذكر بعض المؤرخين أنه طوال 35 سنة لم يخرج من القلعة سوى مرتين، وكان يقضي جل وقته في التفكير والتأمل والقراءة والكتابة، حيث ألف كتبا كثيرة تنظر للمذهب الإسماعيلي وتفند الآراء المخالفة له، لكن الإتلاف كان مصير هذه المؤلفات بعد سيطرة التتار على القلعة سنوات بعد وفاته.
وكان للشهرستاني -وهو أحد علماء مذهب الأشاعرة، وكان معاصرا للصباح- الفضل في حفظ خلاصة تعاليمه المسماة "الفصول الأربعة"، كما حفظ مؤرخو السنة شذرات من سيرته الذاتية، إضافة إلى بعض الكتب الإسماعيلية التي اقتبست بعضا من آرائه.
يوصف بأنه مؤسس حركة دموية ضالة، وأحيانا يصفها آخرون بأنها جماعة من الملحدين غير المؤمنين بالله، في حين ذكرت مصادر أخرى أنه أسس حركة ثورية ولدت في ظروف بالغة التعقيد والضعف كان يعيشها العالم الإسلامي.
وتضمنت رسالة وجهها إلى ملكشاه أفكاره ومعتقداته وردّه على كل الاتهامات الموجهة إليه، وقال فيها إنه لم يأت بدين جديد، بل يدين بدين الإسلام وبرسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
وهاجم في رسالته العباسيين، وقال إنهم عاثوا في الأرض فسادا وفجورا، وقتلوا آلافا من أولاد الرسول في أطراف العالم حتى اضطروا إلى الاختفاء والانزواء للنجاة بأنفسهم، في حين اشتغل الخلفاء العباسيون بملذات الدنيا، واستنكر بعض أعمالهم، ومنها جلد أبي حنيفة الكوفي مع أنه كان علما من أعلام الإسلام، وصلب منصور الحلاج الذي كان قدوة للناس.
وبخصوص اغتيال أتباعه بعض كبار المسؤولين في الدولة فقد برره الصباح بانحراف موظفي السلطان ووكلاء نظام الملك وأرباب المعاملات في حدود خراسان عن جادة الصواب، وتجاوزهم عورات الناس وقتلهم النساء أمام أزواجهن، فضلا عن الظلم الذي كانوا يمارسونه إزاء الرعية.
وبينما تصف بعض الروايات الحسن الصباح بأنه كان مهووسا بالسلطة وصفته أخرى بأنه كان زاهدا قانعا لا يحب البذخ والترف، وشديدا في تطبيق أحكام الشريعة، وكان يحظر على أتباعه الخمر والموسيقى وسائر الملذات المحرمة.
كما تقول بعض المصادر إنه كان حازما وصارما في إدارة شؤون جماعته، وكان يضع المصلحة العامة فوق كل شيء، ولا يتساهل في تطبيق مبادئ وتعاليم حركته حتى أنه لم يتوان عن قتل ابنه الحسين عندما تورط في قتل أحد الدعاة، وأعدم ابنه الثاني بعد أن وجده يشرب الخمر، وطرد أحد دعاته من القلعة لأنه كان يتسلى بالعزف على الناي.
الوفاة
مرض الحسن الصباح مرض الموت في ربيع الأول عام 518 هجري، ولما أحس بدنو أجله استدعى مندوبه في قلعة لامسار وهو برزك آميد، وكان من كبار الدعاة المخلصين في نشر الدعوة الإسماعيلية، وكان له علم وافر بأصول المذهب فاختاره لخلافته، وفي 6 ربيع الثاني من العام نفسه وافته المنية.
المصدر: السومرية العراقية
كلمات دلالية: عملیة اغتیال الحسن الصباح بعض المصادر حسن الصباح قلعة آلموت نظام الملک ومنها إلى الذی کان أنه کان إلى مصر
إقرأ أيضاً:
الشرع.. من زعيم جهادي إلى رئيس براغماتي.. هل طوى صفحة السلفية الجهادية؟
بات واضحا من خلال المسارات الجديدة التي دشنها الرئيس السوري أحمد الشرع، بعد توليه منصب الرئاسة، مفارقته لكثير من مقولات وأيدلوجية وأصول السلفية الجهادية التي تبناها ودافع عنها لسنوات من حياته، وهو ما عرضه ويعرضه لانتقادات شديدة من قبل تيارات وتنظيمات سلفية موغلة في أفكار الجهادية الراديكالية.
أيديولوجية السلفية الجهادية، وجملة مقولاتها العقدية المركزية كالحاكمية والولاء والبراء، ورفض المسار الديمقراطي، والكفر بالدساتير الوضعية، وعدم الرضوخ لمنظومة الأمم المتحدة، ومركزية المطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية، هي التي حملت أبا محمد الجولاني في مقابلة سابقة مع قناة الجزيرة (2015) على تخطئة الإخوان المسلمين.
في مقابلته تلك اتهم الجولاني الإخوان المسلمين بالانحراف، كما اتهمهم بالرضوخ لإرادة الغرب والتماهي معه بأكثر مما طلب منهم، وهاجم الرئيس محمد مرسي لمحاربته المجاهدين في سيناء، والرضا باتفاقيات كامب ديفيد، ودخوله في منظومة الأمم المتحدة، وعدم الحكم بشرع الله، وقبوله بالبرلمانات، وقبوله بالانتخابات، وقبوله بكل ما تريده أمريكا منه..".
ووفقا لمراقبين فإن كثيرا من انتقادات (الجولاني/ الشرع) للإخوان المسلمين، والتي كانت تصنف في أيديولوجيته الجهادية حينذاك بـ"الخطوط الحمراء" التي يحرم فعلها أو الاقتراب منها، لم تعد اليوم كذلك، بل ذهب الرجل إلى ما هو أبعد من ذلك سعيا منه لاعتراف المجتمع الدولي به، ورفع العقوبات الأمريكية عن سوريا..
وفيما يظهر لغاية الساعة أن القاعدة الصلبة (رموز وأتباع السلفية الجهادية) للرئيس الشرع، والتي كانت في سابق عهدها تعارض أي سياسات ومواقف لحركات إسلامية أخرى على خلفية أفكارها وممارساتها ومواقفها التي كانت تعتبر كثيرا منها مخالفة للعقيدة، ومميعة لأحكام الشريعة، لم تُبدِ أية معارضة لسياسات الرئيس الشرع بعد تجاوزه لكثير من مفاهيم السلفية الجهادية، وعدم تقيده بتعاليمها.
لكن صوت تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، الذي يُعد النسخة الأكثر تشددا وتطرفا في تنظيمات السلفية الجهادية ما زال هو الصوت الأعلى في مهاجمة الرئيس الشرع، وقد تجلى ذلك بوضوح بعد لقاء الرئيس السوري أحمد الشرع بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب في العاصمة السعودية الرياض حيث شنَّ التنظيم هجوما عنيفا على الشرع، مشددا على أن خلاف تنظيم الدولة مع الجولاني لم يكن خلافا سياسيا حزبيا، بل كان خلافا منهجيا عقديا".
جاء ذلك في افتتاحية العدد الأخير (495) من صحيفة النبأ الالكترونية التابعة للتنظيم، حيث أوضح (داعش) طبيعة الخلاف بينه وبين (الجولاني/ الشرع) بالقول: "واليوم يتضح بالصوت والصورة حقيقة الخلاف، وأنه بين التوحيد والشرك، بين الإسلام والديمقراطية، بين من سيدهم محمد صلى الله عليه وسلم، وسيدهم ترامب الذي صار لقاؤه وإرضاؤه (إنجازا تاريخيا) يحتفل به الثوريون، ويتراقصون في ساحة الأمويين بحجة رفع العقوبات الأمريكية، فمن يرفع العقوبات الإلهية"؟
واتهم التنظيم الشرع بتقديم تنازلات واصفا إياها بـ"صفقات خاسرة بدأها الجولاني مبكرا قبل وصوله للحكم بسنوات طويلة، صحيح أنها منحته الرئاسة، لكنها سلبته دينه وشرفه حتى صار اسمه علما على عداء الشرع والشرف" مضيفا "منهجيا نقض الجولاني (ملة إبراهيم) وحاربها بكل قوته، فلا غرو أن يستبدلها بـ"اتفاقيات أبراهام" التي تهدف إلى تعزيز جدر الحماية لدويلة اليهود وشد حبال الولاء لهم..".
ولفت تنظيم "داعش" إلى أن "من الإملاءات الأمريكية على الجولاني، التخلص من "المقاتلين غير السوريين" الذين قاتلوا إلى جانبه طويلا، ولم يسلموا من غدره واستطاع في النهاية أن يفكك جماعاتهم ـ مستقلين وغير مستقلين ـ، وينهي مشروعهم الذي طوّعه لخدمة مصالحه دهرا".
وخاطبهم التنظيم مذكرا لهم بنصيحة قادته لهم بالقول "لقد نصحكم قادة الدولة الإسلامية مرارا وصدقوكم النصح، لكنكم تخلفتم وأعرضتم وها أنتم تدفعون الثمن تماما كما حذروكم، وما زالت الدعوة مفتوحة لكم، لا تجعلوا أنفسكم ورقة يحرقها الجولاني كسبا للرضا الدولي، فيا لها من خسارة أن تنتهي رحلتكم إلى الشام على هذا النحو، فتوبوا وعودوا والتحقوا بسرايا الدولة التي تنتشر بين ظهرانيكم في الأرياف والأطراف، ومن يطرق الباب يجد الجواب".
المسارات والسياسات الجديدة التي دشنها الرئيس أحمد الشرع منذ توليه منصبه الرئاسي، تفتح أبواب التساؤل عن مصير السلفية الجهادية في سوريا، وأين توارت مفاهيمها ومقولاتها؟ وماذا تبقى منها؟ وهل تمكن الشرع بالفعل من إقناع قاعدته الصلبة في هيئة تحرير الشام بأهمية وجدوى سياساته الجديدة متجاوزا صرامة تعاليم السلفية الجهادية؟ وهل سيتمكن من فعل ذلك إلى نهاية المطاف أم أن تلك التيارات ستتمرد عليه وتظهر معارضتها لسياساته الحالية؟
في هذا الإطار رأى الباحث السوري في الفكر الإسلامي، محمد علي النجار أن "الجماعات السلفية الجهادية على مستوى القيادات براغماتية التوجه والسياسة، وكان لها علاقات وتحالفات مع الأصدقاء والأعداء، فتنظيم القاعدة سابقا عمل مع المخابرات الباكستانية، وعمل مع إيران، وعلاقته بها قوية، وله علاقات استخباراتية مع دول وجهات عديدة، وفق رؤيتهم في قيادة التنظيم وبما يحقق المصالح التي يرونها".
وأضاف: "فتنظيم القاعدة ـ على سبيل المثال ـ حينما يعقد تحالفاته مع الدول والقوى المختلفة بوصفه ممثلا شرعيا للأمة، وفق تصوره ورؤيته، ويقوم بتبريرها استنادا إلى ذلك، لا يتردد بمهاجمة أي اتجاه أو تنظيم آخر حينما يقوم بأي عمل من تلك الأعمال التي قام بها التنظيم، وينتقدونه بشدة، وربما فسقوه وضللوه بسببها" على حد قوله.
وواصل النجار حديثه لـ"عربي21" بالقول "وهذا ما كان يفعله أبو محمد الجولاني حينما كان في إدلب، إذ كانت له علاقات مع جهات وقوى مختلفة، لكنه كان ينتقد الجيش الحر على ذات النسق من تلك العلاقات"، مضيفا "أما بالنسبة لمفهوم الولاء والبراء فهو عند هذه التنظيمات يُعطى للأمير المبايع بوصفه أميرا شرعيا، أما أمراء الحرب والقيادات الجهادية، والقيادات الثورية الأخرى فهم في نظرهم ليسوا شرعيين".
محمد علي النجار باحث سوري في الفكر الإسلامي
وردا على سؤال: هل استطاع الرئيس أحمد الشرع إقناع قاعدته الصلبة بسياساته الجديدة، وكيف تمكن من ضبط إيقاعها؟ أوضح النجار أن "معظم قيادات التيارات الأصولية المنضوية في إطار هيئة تحرير الشام، وضمن أحرار الشام وما إلى ذلك مطلعة أصلا على تلك التحالفات والعلاقات الاستخباراتية، ويعرفون ذلك، وموافقون عليها، وهم ينظرون إليها بعين المصلحة ويدافعون عنها، ويبررونها".
وتابع "أما قيادات الصف الثاني، أو بعض القيادات التي ترى أن الأمر قد تجاوز حده، فعلى الأغلب سيتم التعامل معها، وضبط ردود أفعالها عن طريق محاولة احتوائها بإقناعها أن ما يجري ما هو إلا مرحلة مؤقتة، ريثما يتم السيطرة على الوضع الحالي، فإن تعذر ذلك كله فسيتم تحييدها والقضاء عليها".
وأردف: "وأغلب الموجودين حول الرئيس أحمد الشرع من هذه التيارات الصلبة، اتباع أحد توجهين، أحدهما يرى أن ما يفعله الشرع يشكل خطرا على أصل المنهج، فهؤلاء سيتم إبعادهم والتخلص منهم، أما أصحاب التوجه الآخر فهم وإن كانوا يتبنون الأيديولوجية الجهادية الصلبة، إلا إنهم يدعمون في الوقت الراهن سياسات الشرع لأنه تم إقناعهم بأنها سياسات مؤقتة، يفعلها بحكم الاضطرار ولغياب شرط التمكين".
وختم النجار حديثه بالقول "عموما ليس الخوف على الرئيس الشرع من قيادات الصف الأول، فهي مراقبة على الدوام، وإنما الخوف من قيادات الصف الثاني والثالث، الرافضة لسياساته، والتي قد تبدأ بتجميع بعضها في نقاط للقيام بعمليات تفجير واغتيالات، ومن المتوقع أن يتم متابعتها استخباراتيا، والتعامل معها بناء على ذلك.. في ظل ذلك فإن الرئيس الشرع سيعتمد في شرعيته على الخارج، وعلى الجمهور العام في الداخل، وهذا ما يدفعه إلى بتجنيد عناصر جديدة لمواجهة أي اعتراضات أو تمرد من بعض التيارات المقربة منه".
من جانبه لفت الكاتب المصري، الباحث في شؤون الحركات الإسلامية، أحمد سلطان إلى أن "أبو محمد الجولاني أو أحمد الشرع كانت له رؤية تختلف عن الرؤية الجهادية التقليدية، فكان يرى أن من الصعب جدا على الحركة الجهادية في إطارها المعهود أن تصل إلى النتائج المرجوة، كتأسيس الدولة وإدارة شؤونها الداخلية، وإدارة علاقاتها الخارجية".
وقال في تصريحاته لـ"عربي21": "وقد ساهم في بلورة هذه الرؤية وتطويرها تجربته الذاتية، والاحتكاك بالفصائل الأخرى غير الفصائل الجهادية، ثم الانفتاح على دول إقليمية بما في ذلك تركيا، وإنشاء علاقات مع فواعل دوليين خارجيين، كالولايات المتحدة وغيرها، وهو ما ساهم في تطور رؤيته السابقة".
وأضاف "فيما يتعلق بالحاضنة أو القاعدة الصلبة للرئيس أحمد الشرع، فليست كلها على نسق فكري واحد، ففيها تيار سوري ليس لديه ارتباط بأجندة عابرة للحدود الوطنية، وهو تيار يرفض فكرة عولمة الجهاد، وهو أقرب ما يكون إلى حركة أحرار الشام في تشكيلتها الأولى أيام أبو عبد الله الحموي".
وأكمل سلطان فكرته بالقول "كما أن كثيرا من الجهاديين الآخرين الذين انضموا لهيئة تحرير الشام في أوقات سابقة، كانوا على خلاف مع تنظيم داعش، وقد قادتهم تلك الخلافات في نهاية المطاف إلى تبني نهج مضاد ومغاير لداعش، من بينها ما يتعلق بعولمة الجهاد، فقضيتهم الأولى هي سوريا، التي لها كل الأولوية، دون فتح أي مسارات خارجية أخرى".
أحمد سلطان كاتب وباحث في شؤون الحركات الإسلامية
وأردف: "كما أن الكثيرين من الجهاديين القدامى، الذين يتبنون أيديولوجية السلفية الجهادية، قُتلوا خلال سنوات القتال مع النظام وحلفائه، مما دفع قيادة الهيئة إلى تجنيد عناصر جدد، ليسوا ممن يتبنى تلك الأيديولوجية، وإنما كان جل اهتمامهم مواجهة النظام وقتاله، كجهاد وطني لتحرير سوريا من سلطة النظام وجبروته".
وشرح كيف أن شرعيي هيئة تحرير الشام ودعاتها "أصلوا ونَظّروا أن النهج الصحيح يتمثل بأن يكون الجهاد قطريا محصورا بالجهاد في سوريا، مع عدم الارتباط بأية أجندات جهادية أخرى، فقضيتنا هي تحرير سوريا، وسوريا فقط، كما أن هيئة تحرير الشام بالأساس لم تتكون من الجهاديين فقط، فهناك تنظيمات إسلامية لكنها لا تتبع للجهادية التقليدية، وكل ذلك ساهم في فكرة تجاوز أيديولوجية السلفية الجهادية التقليدية".
واستبعد سلطان فكرة تمرد بعض تيارات السلفية الجهادية المندمجة في هيئة تحرير الشام، معللا ذلك بأن الشرع "وإن كان رمزا للهيئة ولسوريا إلا أنه يعبر عن حالة قائمة وموجودة، إضافة إلى أن جميع التيارات والتنظيمات أنهكتها سنوات الحرب والقتل والدمار، حتى أن المعارضة النخبوية الموجودة ليس لديها شوكة فاعلة ومؤثرة، وهي ليست قادرة على قلب الأوضاع الحالية، فمعارضتها ستبقى في حدود المعارضة اللفظية، المسيطر عليها، وإن رأى الشرع أنها قد تتجاوز ذلك، وتشكل تهديدا لحكمه، فسيتم الإطاحة بها، والتخلص منها".
بدوره تساءل الكاتب والمحلل السياسي السوري، ياسر سعد الدين "هل استطاع الرئيس الشرع بالفعل إقناع حاضنته الصلبة بتجاوز أيديولوجية السلفية الجهادية؟ ليجيب بالقول "للرجل – بطبيعة الحال - مكانة عند أتباعه، وربما استطاع عبر بعض الشرعيين من إقناعهم بأن التنازلات التي يقدمها هي تكتيكية، وأنه يريد أن يعبر هذه المرحلة الحرجة حتى يتمكن ويثبت أقدام حكمه، وبعدها تعود الأمور إلى نصابها".
وأضاف "غير أن البعض يرى أن الصدام بين الشرع والسلفيين الجهاديين قادم لا محالة وإن كان مؤجلا، فهو يحتاجهم حتى يتم تشكيل أجهزته الأمنية والاستخباراتية والعسكرية الخاصة به، وحتى يتمكن من ذلك فإن ذلك الصدام سيكون مؤجلا، لا سيما وهم من غير العرب في معسكرات منعزلة، وقد تقدم لهم الأمور بطريقة مختلفة".
ياسر سعد الدين كاتب ومحلل سياسي سوري
وأردف: "كما أن الضغوط الغربية والأمريكية تتصاعد على الشرع للتخلص منهم، وللشرع تاريخ شبه موثق ومتواتر بالتعاون مع المخابرات الأمريكية في التخلص من البغدادي والعديد من الجهاديين، وحتى بعد سقوط النظام استهدف الأمريكيون قياديين من القاعدة في إدلب، وكان الصمت هو سيد الموقف بالنسبة للشرع ولحكومته" وفق قوله.
وأورد سعد الدين في تصريحاته لـ"عربي21" ما قاله السفير الأمريكي المتقاعد، روبرت فورد في محاضرته الأخيرة في بالتيمور، من أن أكبر ملف يواجه الشرع هو التخلص من الجهاديين"، متوقعا أن "الأمر سيتم، وبدعم أمريكي وغربي كبيرين، لكنه ليس في هذه المرحلة".
وإجابة عن سؤال إن كان الرئيس الشرع قد تمكن بالفعل من ضبط إيقاع التيارات الجهادية في هيئة تحرير الشام، أم أنها ستعارض سياساته الحالية، وربما تتمرد عليها في قادم الأيام، لفت إلى "وجود تيارات مختلفة التوجهات، منها من سيتعايش مع تغييرات الشرع ومنها من سيرفضها، غير أن الصدام مع التيارات الرافضة لا مفر منه، ولا مناص عنه" حسب تقديره.
وأنهى المحلل السياسي السوري، سعد الدين كلامه بالاستشهاد بحالة المصري أحمد منصور، والتي وصفها بأنها "نموذج للصدام بين رؤية الشرع الحالية، وبين رؤية العديد من الجهاديين ومقاربتهم، الأمر الذي يدعم مقولة الصدام الحتمي على الأقل مع بعض التيارات الملتزمة بمنهجيتها ومعتقداتها".