يحتفي العالم اليوم الخميس بالشعر، كأحد أشكال التعبير الإبداعي وأحد مظاهر الهوية اللغوية والثقافية، وقد اعتمد المؤتمر العام لليونسكو، خلال دورته الـ30 التي انعقدت في باريس عام 1999، في 21 مارس/آذار، يوما عالميا للشعر، بهدف دعم التنوع اللغوي، ومنح اللغات المهددة بالاندثار فرصا أكثر لاستخدامها في التعبير، وتكريم الشعراء وإبداعهم المتميز.

وحول عطاء الثقافة العربية في هذا المجال، أشار أدباء إلى أهمية المناسبة في إلقاء الضوء على جهود الشعراء في صون اللغة العربية وتعزيز محتواها الحضاري، مشيدين بدور الشعر العربي المعاصر في إعلاء مفاهيم الجمال والحوار والتضامن والتعايش، وأكدوا لوكالة الأنباء القطرية على رحابة عطاء الشعر العربي وتجدد أشكاله ومضامينه، وإسهام الحضارة العربية في تزيين الحياة بالحكمة والجمال والبلاغة.

الشعر إعمار للنفس

وأوضح الشاعر والأديب القطري محمد إبراهيم السادة أن الشعر مرآة تعكس ما يجيش بخاطر الأديب من أحاسيس تجاه الآخرين والمحيطين به أو تجاه أمكنته ووطنه أو آرائه ومعتقداته، لافتا إلى قدرة الشعر على إعمار النفس بمشاعر الإكبار والاستحسان من خلال ألفاظ تحمل معاني مكثفة بإيقاع جميل، فقد نظم القدماء علومهم بالشعر حتى يسهل الحفظ على متلقي تلك العلوم لما للشعر من موسيقى وإيقاع.

وأشار إلى أن الشعر حمل لنا الكثير من المعلومات عن حياة السابقين وطرق معيشتهم ورحلاتهم وأدواتهم والكثير من طباعهم وتجاربهم في الحياة، وكأن قصائدهم عبر مئات السنين رسائل تحمل لنا خبراتهم ونصائحهم.

وشدد السادة على أن الشعر العربي حمل لنا إبداعات في وصف الطبيعة وسحر جمالها من واحات وأنهار وكثبان، واحتفى بالإنسان من خلال أغراض شعرية كالغزل والإخوانيات والحماسة والفخر والرثاء وغيرها، وروى لنا وقائع ومعارك وأحداثا وهو بذلك وثق لنا جزءا من التاريخ.

وحول تعدد وتنوع الأشكال الشعرية، قال السادة: إن العبرة بجودة الشعر والإيقاعات ليست حكرا على أحد، فقد جدد الشعراء المحدثون أساليبهم وأدواتهم وصنعوا قوالب شعرية حظيت بإعجاب المتلقي وأرضت ذوقه وحسه الأدبي.

مآثر الشعراء

ومن جانبه، قال الشاعر والأديب السوداني الدكتور الصديق عمر الصديق، إنه في اليوم العالمي للشعر، يذهب المشتغلون بالشعر إبداعا ودرسا مذاهب شتى في تقدير قيمة الشعر العربي، والتنويه بمآثر الشعراء الذين ضربوا بسهم كبير أو صغير في رفد حياضه، ولكنهم جميعهم يوقنون أن الشعر هو ديوان العربية الذي حفظ ألفاظها وتراكيبها، وطرائق بنائها، ورفدها بوابل غزير من تشعباته المجازية الساحرة، والأساليب البلاغية المبتكرة، وأصناف من النظم المبتدع من تنضيد الجمل الشعرية المحكمة النسج؛ فكانت كلها مراكب للمعاني الحكمية الرفيعة.

وليس عجيبا، بحسب الأكاديمي السوداني، أن يعبأ الشعر العربي المعاصر بأمر ترقية الحس الجمالي، وإذكاء ذائقته حين وجدنا الشاعر العربي ممتزجا بالطبيعة هائما بعناصرها، سابحا في آفاق الجمال الكوني، شاهدا على تعانق المادة والروح في تأمل تجليات سفور الحسن الكوني حتى يصنع الشاعر وجودا مغايرا من الفن البديع.

ويؤكد الدكتور الصديق: "إذا كان هذا شأن الشعر مع الجمال فليس عجيبا أن يعلي من شأن المعاني الإنسانية الرفيعة كالحوار، والتضامن البشري لإشاعة السلام والرغبة في التعايش بين البشر. ولأن الشعر عمل فني مركب فإنه لا يتوسل في إعلاء هذه القيم توسل الخطابة، والتقرير المباشر وإنما يتخذ من الأساليب الفنية من المجاز، والانزياحات الأسلوبية معبرا إلى الإبداع".

بستان ديوان العرب

ويضيف أن الشعر العربي فضاء شاسع مليء بالتعدد والتنوع في الأشكال والمضامين، وهو بستان كبير لك أن تقطف منه ما يروقك التماسا لشكل بعينه: عمودا مركوزا، أو تفعيلة مجنحة، أو نثرا شاردا متمردا. كلها أشكال بنائية من الكتابة الشعرية. أما المضامين فهي المحتوى الفكري الذي وسعه الشعر العربي من لدن الجاهليين، وغموض حنينهم الطللي، وروحانية المتنسكين، بأصناف من الفلسفات، والأفكار، والمذاهب العصرية، فالشعر حقا هو ديوان العرب بهذا المعنى وبغيره.

بدوره، أفاد الشاعر والأديب الموريتاني أدي ولد آدب، أن تخصيص يوم عالمي للاحتفاء بالشعر، ما هو إلا رد جميل لهذا الإبداع الذي ظل يحتفي بكل الأيام المميزة، ويؤثث بالجمال، كل المناسبات والمواسم، والمحافل، مثلما كانت المواسم، والمناسبات تحتفي بالشعر، لا سيما بالنسبة لأمة العرب، التي كانت البلاغة عموما بصمة روحها، والشعر خصوصا أبو فنونها.

وأوضح أن الإبداع الشعري أسهم منذ غابر الأزمان في تهذيب الأرواح، وبناء جسور الحب والسلام والجمال، ففي اللغة العربية علاقة وطيدة بين فن الشعر والمشاعر الإنسانية.. فكانت بحوره مصب روافد الجمال والفن، حتى استطاع رقراقه، منذ غابر الأزمان، أن يطيب شظف الصحراء، وينضر جدبها، وأن يهذب الأرواح، ويشيع الحب والسلام والجمال، ففي اللغة العربية تجانس اشتقاقي بين فن الشعر والمشاعر الإنسانية، فالشعر-في حقيقته- فعول، متفاعل، أو لا يكون.

أشكال الشعر ومآلات الشعراء

وحول أشكال الشعر وقوالبه، قال الشاعر الموريتاني إن الشعر الحقيقي اليوم متمرد على أي قالب تقليدي، أو حداثي، لا يلائم روح الشعر الجموح، فالشعرية روح سارية في الأشكال، ويظلمها من يلتمسها في المعجم وحده، أو في التصوير، أو في العاطفة، أو في الفكرة، أو الوزن، أو القافية، أو البناء العام، كل على حدة، فهي طاقة سحرية تدب في كل أولئك معا.

ومن جانبه يعرف عيسى الشيخ حسن الشاعر الأديب السوري الشعر بأنه انهماك المجازات في تجميل الغامض، وتوتر اللغة في ترجمة الألم، والصعوبة بوصفها قنطرة إلى الوضوح، والغروب بوصفه برزخا بين لونين، والشعر منظور هندسي، وسدنته جديرون بأن نطلق أسماءهم على المكتبات وقاعات الجامعات وشوارع المدن. فهم حملة الفوانيس في ليل الأمة كي يضيؤوا فكرة السعادة بالكلمة والصورة.

وهنا نتذكر شعراء ماتوا مشردين، وغرباء، وجوعى جراء حيف السلطان، ومآلات الحروب السوداء، ووجع الحب. ورغم ذلك ما زال القارئ العربي يرى الضوء المنبثق من قصائد أمل دنقل، ورياض الصالح حسين، وإدريس جماع، وعبد الوهاب الفيحاني.

وحول دور الشعر العربي المعاصر في إعلاء مفاهيم الجمال والحوار والتضامن والتعايش، أشار إلى أن الشعر يدون الجمال والحرية والموت، ويزين الحياة، ونصوص الشعر الحقيقي عابرة للإثنيات والملل والنحل، والشعر أسس الحضارة، تلك التي تتناقلها الأمم مثل عصا التتابع. وربما كان لاتساع نشاط الترجمة في تعرفنا على طاغور الآسيوي وسنجور الإفريقي ونيرودا اللاتيني، وعرفتنا سونيتات شكسبير والدو بيت الفارسي، والهايكو الياباني.

وأكد عيسى الشيخ حسن دور الشعر العربي في نشر رسالة السلام والحرية والأمل، وأنه ما زال رغم التحديات المعاصرة يفاجئ جمهوره بظواهر شعرية لافتة، فشجرة الشعر ظليلة تطعمت عبر العصور بأنواع جديدة، فحملت غصونها من كل الثمرات، وفي مرحلة تالية تشابكت هذه الأشكال وتبادلت مزاياها عبر تقنيات الحداثة كالتناص مثلا، واستعارت أشكالها كقصيدة النيو كلاسيك العمودية، وغير بعيد سرحت قصيدة النثر في مراع جديدة، مضيفة إلى الشعر العربي لونا جديدا. فالشعر في النهاية هو قوس احتمالات اللغة.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: رمضان 1445 هـ حريات الشعر العربی أن الشعر

إقرأ أيضاً:

منتصر الحمد: كيف نعيد تموضع اللغة العربية كفاعل ثقافي عالمي؟

يعد الدكتور منتصر فايز فارس الحمد، الأكاديمي والباحث في اللغات السامية والكتابات القديمة، أحد أبرز الخبراء الدوليين في تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها. وقد جاء حضوره في سياق "مؤتمر الاستشراق – الدوحة" ليمنح بعدا حيا وناقدا لمفهوم "الآخر" كما تشكل في الوعي العربي، لا سيما في مجال اللغة، وكيف تعامل العرب الأوائل مع الأعجمي، ليس من منطلق مركزيتهم، بل من منطلق مسؤوليتهم الثقافية.

والدكتور منتصر الحمد هو أكاديمي وباحث، ولد في 12 يوليو/تموز 1971، ويقيم حاليا في الدوحة، ويشغل منصب أستاذ مشارك في تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها بجامعة قطر، ويعد خبيرا دوليا معتمدا في هذا المجال، حيث تعاون مع عدد من الجهات الكبرى كجامعة اليرموك، وشبكة الجزيرة الإعلامية، والمجلس الثقافي البريطاني.

يحمل الدكتور منتصر درجة الدكتوراه في اللغات السامية المقارنة، ودرجة الماجستير في النقوش والكتابات القديمة، إلى جانب دبلوم عال في التربية والممارسة الأكاديمية، وبكالوريوس في اللغة العربية وآدابها. وقد مثل اللغة العربية في محافل علمية وإعلامية دولية، وشارك بصفته محاضرا وخبيرا في مؤتمرات وندوات متخصصة داخل العالم العربي وخارجه.

كما يتميز بإسهاماته الثقافية والإبداعية، منها ابتكار شخصيات تعليمية كرتونية (يوسف وياسمين)، والمشاركة في تأسيس مهرجان إدنبرة العربي، ومشروع "ألف اختراع واختراع" العالمي. إلى جانب نشاطه البحثي، يعرف الدكتور منتصر بقدرته على الربط بين الأصالة اللغوية والتجديد المعرفي، ساعيا إلى تقديم رؤية نقدية متجذرة في الثقافة العربية تجاه قضايا التعليم والاستشراق والاستعمار اللغوي.

ولقد الدكتور إلى أن العرب -من الجاحظ إلى ابن خلدون- قد صاغوا مصطلحاتهم ومفاهيمهم الخاصة، مثل "المستعرب" و"اللكنة" و"العجمة"، من رؤية داخلية نابعة من فهم ذاتي، لا من انبهار خارجي أو تقليد أعمى.

إعلان

ودعا الحمد في رؤيته إلى ضرورة توطين العلوم، لا باعتبارنا مستهلكين لمفاهيم الآخر، بل بوصفنا فاعلين ثقافيين نمتلك رصيدا غنيا يمكن إعادة بعثه وتقديمه بقوالب جديدة. وقد كان لافتا في طرحه مقاربته النقدية لمصطلحات مثل "اللغة الأم" و"اللغة الثانية"، التي نشأت -كما قال- في سياقات استعمارية ترى في غيرها موضوعا لا فاعلا، مؤكدا أن هناك اليوم في الغرب ذاته جهودا لتفكيك هذا الإرث عبر مبحث "تفكيك الاستعمار في تعليم اللغات" (De-colonization of Language Teaching).

تحاور "الجزيرة نت" الدكتور منتصر الحمد عن مشاركته بالمؤتمر، ومداخلاته النقدية في صلب علاقة الذات بالآخر، والمركز بالهامش، والاستشراق بوعي الذات الثقافية، مناقشا الاستشراق بزاوية جديدة تنطلق من اللسان العربي، وتفتح أسئلة حقيقية حول القدرة على إعادة تعريف علاقتنا بأنفسنا وبالعالم. فإلى الحوار:

ما الدور الذي يلعبه مؤتمر الاستشراق في الدوحة في إعادة تشكيل فهم الاستشراق من منظور عربي؟ وما أهميته في الساحة المعرفية العالمية؟

جاء مؤتمر الاستشراق في الدوحة -كما تفضلت الوزيرة لولوة الخاطر- بمبادرة ورؤية من سعادتها، وذلك بعد زيارة قامت بها إلى روسيا الاتحادية قبل عدة سنوات. وقد تزامن ذلك مع اهتمام متزايد داخل المؤسسات الأكاديمية في دولة قطر، وعلى رأسها جامعة قطر، بموضوع "الاستغراب" (أي دراسة الغرب من منظور شرقي).

ارتأت سعادة الوزيرة، وكانت آنذاك تعمل في السلك الدبلوماسي بوزارة الخارجية، أن دراسة الاستشراق من منظور عربي، وبمساهمة فكرية ومعرفية من الإنسان العربي، تمثل خطوة مهمة في إعادة صياغة وتفكيك الرؤية الاستشراقية السائدة في المؤسسات الأكاديمية الغربية، وهي الرؤية التي شابتها حمولات سلبية في كثير من الأحيان.

ومع مرور الزمن، وخصوصا بعد الإصدار الشهير للراحل إدوارد سعيد لكتابه "الاستشراق"، الذي قدم فيه الاستشراق بوصفه خطابا ملازما للاستعمار، ظهرت الحاجة إلى إعادة النظر في هذا المفهوم وتفكيكه، وقراءته قراءة أكثر اتزانا. وقد حاول إدوارد سعيد نفسه لاحقا، في كتابه "الثقافة والإمبريالية"، أن يوضح أنه لم يكن يقصد أن يتحول موضوع الاستشراق إلى هذا البعد الأحادي، أو أن تحصر المناقشة في زوايا معينة لم يكن يرغب في تسويقها منذ البداية.

من هنا، نشأ مؤتمر الاستشراق في الدوحة ليقدم رؤية عربية مستقلة -ليست منعزلة عن الآخر بل منفتحة عليه- تسعى إلى مساهمة العرب أنفسهم في رسم ملامح حقل الاستشراق، لا كمجال معرفي مغلق، بل كحقل معرفي عام، بيني، عابر للتخصصات.

من هنا، نشأ مؤتمر الاستشراق في الدوحة ليقدم رؤية عربية مستقلة -ليست منعزلة عن الآخر بل منفتحة عليه- تسعى إلى مساهمة العرب أنفسهم في رسم ملامح حقل الاستشراق، لا كمجال معرفي مغلق، بل كحقل معرفي عام، بيني، عابر للتخصصات.

فالاستشراق لا يعد تخصصا بمنهجية واحدة، بل يشمل دراسات اجتماعية لغوية تاريخية وأنثروبولوجية، وله مناهجه الخاصة التي يحتكم إليها، والتي تبنى على أساسها النتائج العلمية الرصينة. ومن ثم، لا ينبغي أن نسطح مفهوم الاستشراق أو نختزله على أنه مجرد فرع معرفي محدود، بل يجب فهمه ضمن سياق تعدد المناهج والتخصصات التي يتقاطع معها.

كيف تسهم دراسات ما بعد الاستعمار ومؤتمر الاستشراق في الدوحة في تجاوز النظرة التقليدية للاستشراق وبناء علاقة أكثر ندية وتفاعلا بين الشرق والغرب؟ إعلان

ما يعرف بالاستشراق الجديد أو بدراسات ما بعد الاستعمار -إن اتفقنا أصلا على أننا نعيش الآن في "حقبة ما بعد الاستعمار"- يعكس تحولا مهما في النظرة إلى العلاقة بين الشرق والغرب. قد نكون قد تحللنا من الاستعمار بصورته التقليدية، لكني لا أود استخدام المصطلح الذي أطلقه المفكر علي شريعتي حين غير حرف العين إلى حاء في الكلمة.

بل أود الإشارة إلى أن هذا "الاستعمار الجديد" أو "دراسات ما بعد الاستعمار" حاولت أن تنأى بنفسها عن الحمولات السلبية التي ارتبطت بمفهوم الاستشراق التقليدي.

لقد ارتبط الاستشراق، في صورته الكلاسيكية، بالمؤسسة الأكاديمية الغربية، التي كانت، في كثير من الأحيان، متشابكة مع مشاريع استعمارية، سواء من حيث التمويل أو الأهداف. وهنا تجدر الإشارة إلى أن المستشرق أو الباحث نفسه قد لا يكون واعيا بدوره في هذه المنظومة، فقد يكون مجرد ترس صغير في آلة ضخمة، لا يدرك بالضرورة الأجندة الكاملة التي تتحرك بها هذه المؤسسة. وقد يرى البعض طرحي هذا نوعا من التبسيط أو السذاجة، لكنه يعبر عن واقع مركب.

ارتبط الاستشراق، في صورته الكلاسيكية، بالمؤسسة الأكاديمية الغربية، التي كانت، في كثير من الأحيان، متشابكة مع مشاريع استعمارية، سواء من حيث التمويل أو الأهداف. وهنا تجدر الإشارة إلى أن المستشرق أو الباحث نفسه قد لا يكون واعيا بدوره في هذه المنظومة، فقد يكون مجرد ترس صغير في آلة ضخمة، لا يدرك بالضرورة الأجندة الكاملة التي تتحرك بها هذه المؤسسة. وقد يرى البعض طرحي هذا نوعا من التبسيط أو السذاجة، لكنه يعبر عن واقع مركب.

دراسات ما بعد الاستعمار سعت إلى مراجعة هذا التراث، فبدأ كثير من الجامعات والمؤسسات الأكاديمية في تغيير خطابها ومصطلحاتها، بل تخلى عدد كبير من الباحثين عن وصف "مستشرق" لما يحمله من دلالات سلبية. وبدلا من ذلك، ظهرت تسميات بديلة مثل "مستعرب"، أو تغييرات في أسماء التخصصات، كما نرى في انتقال بعض الجامعات من تسمية Oriental Studies (الدراسات الشرقية) إلى Middle Eastern Studies (دراسات الشرق الأوسط)، أو Gulf Studies (دراسات الخليج)، كما هو الحال في جامعة إكستر البريطانية، وغيرها من المؤسسات التي اختارت توصيفات أكثر حيادية أو دقة.

لكن، في الجوهر، لا تزال هذه الدراسات تدور حول الموضوعات نفسها: الدين، الثقافة، اللهجات، المجتمعات الشرقية، والعوامل المؤثرة فيها. الفارق يكمن في السؤال التالي: هل تدرس هذه الموضوعات باعتبارها مجرد "مواضيع للدراسة"؟ أم باعتبارها "فاعلة ثقافيا" ومؤثرة في الفضاء الحضاري العالمي؟

إذا انطلقنا من الفرضية الثانية، نكون قد تحررنا من الإطار الضيق للاستشراق، وانتقلنا من منطق "الصدام الحضاري" إلى منطق "التعايش الحضاري"، بل إلى "التعاون الحضاري" الذي يعد درجة أرقى، إذ إن التعايش قد ينطوي على قدر من السلبية أو التحييد، بينما التعاون يعني الندية والفاعلية المتبادلة.

وهنا يتولد سؤال جوهري: كم من مؤسساتنا الأكاديمية العربية تهتم اليوم بالدراسات المناطقية أو بدراسة "الغرب" كفاعل حضاري مؤثر في واقعنا العربي؟ وكم من الباحثين العرب يدرسون المجتمعات الغربية أو، على نحو أدق، يدرسون "الآخر الصهيوني" الذي يمارس علينا اليوم حرب إبادة؟ كم من الدارسين العرب يعكفون على دراسة تاريخ هذا الآخر، وأفكاره، وخلفياته الفكرية والفلسفية؟ إذا لم نكن على وعي بهذه المنطلقات التي يشكل بها الآخر رؤيته لنا، ويقولبنا بها، فلن نتمكن من مواجهته أو التفاعل معه بفعالية.

من مؤسساتنا الأكاديمية العربية تهتم اليوم بالدراسات المناطقية أو بدراسة "الغرب" كفاعل حضاري مؤثر في واقعنا العربي؟ وكم من الباحثين العرب يدرسون المجتمعات الغربية أو، على نحو أدق، يدرسون "الآخر الصهيوني" الذي يمارس علينا اليوم حرب إبادة؟ كم من الدارسين العرب يعكفون على دراسة تاريخ هذا الآخر، وأفكاره، وخلفياته الفكرية والفلسفية؟ إذا لم نكن على وعي بهذه المنطلقات التي يشكل بها الآخر رؤيته لنا، ويقولبنا بها، فلن نتمكن من مواجهته أو التفاعل معه بفعالية

من هنا جاءت مبادرة الأستاذة لولوة الخاطر، حين كانت تعمل في وزارة الخارجية، من إدراكها العميق لدور الدبلوماسي في فهم الآخر، والانفتاح عليه، والتعامل معه. فالذي يعمل مع الآخر، كما كانت تفعل هي في محافل العالم المختلفة، لا بد أن يفهم كيف يفكر هذا الآخر، وكيف يعيد إنتاج مفاهيمه ومواقفه، من أجل بناء جسور التعاون على المستويات الإنسانية والسياسية والاقتصادية وغيرها.

هذه الرؤية هي ما نأمل أن نكون جزءا منه في مؤتمر الاستشراق بالدوحة. نحن لا نقيم هذا المؤتمر رفضا للباحثين الغربيين الذين يدرسوننا كـ "آخر"، بل ندعوهم إلى فضاءات أكاديمية عربية، نتحاور فيها بانفتاح، ونناقش كل الأفكار، سواء راقت لنا أم لم ترق. وما لا يروق لنا ينبغي أن نرد عليه بمنهج علمي رصين، لا بردود انفعالية أو اتهامية.

إعلان

لا وجود لما يسمى "شيطنة" في عالم المعرفة، بل ينبغي أن يكون خطابنا قائما على المنهج، وأن نصل إلى نتائج مدروسة عبر أدوات علمية دقيقة.

لا وجود لما يسمى "شيطنة" في عالم المعرفة، بل ينبغي أن يكون خطابنا قائما على المنهج، وأن نصل إلى نتائج مدروسة عبر أدوات علمية دقيقة.

هل لديكم نية للتوسع في موضوع "الاستغراب"؟ وما أهمية دراسته في السياق العربي المعاصر؟ وكيف تسهم في إعادة تشكيل الوعي الذاتي والعلاقة مع الآخر الغربي؟

بالطبع، أتمنى لو كنت قادرا على الإجابة عن هذا السؤال من جوانبه التخطيطية والإستراتيجية، لأقول: نعم، هناك خطط واضحة ومحددة للتوسع في هذا المجال. ولكن، ما يمكنني الحديث عنه الآن هو الأمنيات والطموحات.

بصفتنا أكاديميين، لا يمكن أن نتجاهل أن بعض الأكاديميين العرب، أو ربما كثيرا منهم -وخصوصا في الحقول الإنسانية- أصبحوا اليوم، بشكل أو بآخر، جزءا من ما يمكن تسميته بـ "الاستشراق الذاتي"، أي أنهم ينظرون إلى ذواتهم ومجتمعاتهم بعين الآخر الغربي، متأثرين برؤاه ومنطلقاته الفكرية والمعرفية.

ومن أجل التحرر من هذا التأثير، أو حتى من أجل بناء رؤية نقدية حقيقية للذات، لا بد أن ندرس الآخر أيضا، لا من باب التماهي، بل من باب المقارنة، ومن أجل استخدام الأدوات والمنهجيات العلمية التي استخدمها هو في دراستنا وتفكيك مجتمعاتنا، لنستخدمها بدورنا في دراسة مجتمعاته وتفكيك خطابه.

نحن بحاجة إلى دراسة "الآخر" الغربي، ليس فقط لأغراض البحث الأكاديمي، بل لنقدم نتائج هذه الدراسات لأصحاب الرؤية في مجتمعاتنا: من دبلوماسيين وساسة وتجار وأدباء ونقاد وصناع سينما وغيرهم، فهؤلاء يحتاجون إلى صورة حقيقية وواعية عن هذا الآخر، لكي يعرفوا كيف يتعاملون معه، لا أن يترك له المجال ليقدم نفسه كما يشاء، ويشكل صورته كما يريد، مستخدما في ذلك أدوات القوة الناعمة، بمختلف أشكالها، ليؤثر فينا ويشكل وعينا الجمعي.

لقد وقعنا، في كثير من الأحيان، فريسة لهذه القوة الناعمة الغربية، التي لم تكتف بتقديم صورة الآخر عن نفسه، بل قدمت "نحن" أيضا لمجتمعاتنا، بالشكل الذي يخدم سرديته ومنظومته القيمية.

لقد وقعنا، في كثير من الأحيان، فريسة لهذه القوة الناعمة الغربية، التي لم تكتف بتقديم صورة الآخر عن نفسه، بل قدمت "نحن" أيضا لمجتمعاتنا، بالشكل الذي يخدم سرديته ومنظومته القيمية.

لذلك، من الضروري أن تعي الجامعات العربية أهمية هذه الدراسات، لا سيما تلك التي تتناول "الاستغراب"، أي دراسة الغرب بوصفه موضوعا للبحث والفهم، وليس فقط كمرجعية أو نموذج.

وأنا لا أوافق أولئك الذين يقولون إن دراسات الاستشراق أو الاستغراب أصبحت جزءا من الماضي. نعم، ربما تكون بعض صيغها التقليدية قد انتهت أو تجاوزها الزمن، لكن دراسة الآخر ستظل دائما ذات أهمية متجددة، لأنها تمثل جسرا لفهم الذات والواقع، كما تمثل أداة للتفاعل مع الآخر، سواء من أجل التعاون أو التعايش، أو حتى الصدام إن كان لا بد منه.

الآخر ليس كائنا بعيدا أو هامشيا، بل هو حاضر معنا في مختلف مستويات الحياة: من الفرد إلى الأسرة إلى المجتمع إلى الدولة إلى العلاقات الدولية وغيرها. هناك "آخر" دائما في المشهد، ولهذا يجب أن نفهمه، وأن نحسن التعامل معه، علميا وثقافيا وسياسيا.

ما أهمية استعادة المصطلحات والمعارف اللغوية العربية القديمة في تدريس اللغة العربية لغير الناطقين بها؟ وهل لديكم منظور جديد في مجال تعليم اللغة العربية للأعاجم؟

لا أدعي أن لدي منظورا جديدا كليا، ولكن ما يمكنني تأكيده هو أن علماء العرب، عندما بدؤوا التفكير بهذا الحقل، وعندما تشكلت لديهم الرؤية تجاه "الآخر" الراغب في تعلم لغتهم وثقافتهم، أسسوا لذلك من منطلق عربي خالص. فمنذ الجاحظ وصولا إلى ابن خلدون، بدأت تتبلور معالم هذا الاهتمام، حيث استخدمت مصطلحات ذات خلفية معرفية عربية، عكست نظرتهم إلى المتعلم الأجنبي، وإلى المادة التعليمية، والتحديات اللغوية التي تواجهه.

لا أدعي أن لدي منظورا جديدا كليا في تدريس اللغة العربية، ولكن ما يمكنني تأكيده هو أن علماء العرب، عندما بدؤوا التفكير بهذا الحقل، وعندما تشكلت لديهم الرؤية تجاه "الآخر" الراغب في تعلم لغتهم وثقافتهم، أسسوا لذلك من منطلق عربي خالص. فمنذ الجاحظ وصولا إلى ابن خلدون، بدأت تتبلور معالم هذا الاهتمام، حيث استخدمت مصطلحات ذات خلفية معرفية عربية، عكست نظرتهم إلى المتعلم الأجنبي، وإلى المادة التعليمية، والتحديات اللغوية التي تواجهه.

لقد تحدثوا عن "المستعرب" و"الأعجمي" و"اللكنة"، وغيرها من المصطلحات التي وردت في كتبهم، وتناولوا هذه القضايا بتفصيل واهتمام. وليس خافيا أن من بين أهم من أسهموا في تعليم اللغة العربية وعلومها، لم يكونوا من أصل عربي، بل أعاجم في الأصل، كسيبويه، الذي يعد أبرز مثال… فكيف استطاع رجل أعجمي أن يضع كتابا مؤسسا في قواعد اللغة العربية؟ ما يهمني هنا ليس منهجيته فحسب، بل قدراته اللغوية الفائقة التي مكنته من ذلك.

كذلك الأمر بالنسبة لابن جني (أو كما ينطقه بعضهم "ابن جوني")، الذي كان من المولدين، إذ كان والده روميا، لكنه ألف كتاب "الخصائص"، وهو من أعظم المؤلفات في فلسفة اللغة. وغيرهما من المولدين الذين أسهموا في بناء تراثنا اللغوي والمعرفي.

إعلان

نحن بحاجة إلى العودة إلى هذه المصطلحات والمنهجيات، لا لنكون أسرى لما يريده الآخر من مصطلحات أو تعبيرات قد يرى أنها أكثر "لطافة" أو "قبولا". فمثلا، البعض يتحسس من مصطلح "أعجمي"، ويظنه تحقيرا، كما التبس الأمر لدى البعض خلال حرب الخليج حين شبه بـ "العلوج". لكن "الأعجمي" في اللغة العربية لا يعني السباب، بل هو توصيف لغوي، يطلق على من في لسانه عجمة، أي صعوبة في النطق بالعربية، حتى لو كان عربي الأصل.

بل إن أبناءنا الذين ينشؤون في الغرب، إذا نشؤوا ولسانهم لا يجيد العربية أو فيه عجمة، فهم يعدون أعاجم، رغم نسبهم العربي. فالقرآن الكريم بين أن الأمر متعلق باللسان: (وهذا لسان عربي مبين)، ولم يقل: "وهذا نسب عربي".

أبناءنا الذين ينشؤون في الغرب، إذا نشؤوا ولسانهم لا يجيد العربية أو فيه عجمة، فهم يعدون أعاجم، رغم نسبهم العربي. فالقرآن الكريم بين أن الأمر متعلق باللسان: (وهذا لسان عربي مبين)، ولم يقل: "وهذا نسب عربي".

من هنا، فإن توطين المعرفة والمصطلحات والانطلاق من رؤيتنا الذاتية ليس فقط مسألة لغوية، بل هو احترام لذواتنا ولخصوصيتنا الثقافية، باعتبارنا فاعلين لا مجرد متلقين أو مترجمين لمفاهيم الآخر. فبعض المصطلحات التي نروج لها اليوم أصلا نشأت في بيئات استعمارية كانت تنظر إلينا كمفعول به ثقافي، لا كفاعل. ولذلك نجد تعبيرات مثل "اللغة الأم"، و"اللغة الوراثية"، و"لغة الأجداد"، و"لغة أجنبية"، و"اللغة الثانية"، محملة برؤية خارجية.

إذن تدعوا لتفكيك الاستعمار أو إزالة المنظور الاستشراقي عن تعليم اللغة العربية؟

حتى الغرب اليوم بدأ يراجع هذه المفاهيم، وهناك دراسات تعنى بما يسمى ب "تفكيك الاستعمار في تعليم اللغات" (Decolonization of Language Teaching)، وهي تحاول التخلص من المصطلحات والمفاهيم التي نشأت في ظل المنظومة الاستعمارية.

ما أطالب به ليس بالضرورة استحداث مصطلحات جديدة، بل العودة إلى ما لدينا، نزيل عنه الغبار، ونعيد تقديمه بقوالب جديدة ومعاصرة، تراعي السياقات الحديثة من دون التفريط بالهوية والموروث.

ما أطالب به ليس بالضرورة استحداث مصطلحات جديدة، بل العودة إلى ما لدينا، نزيل عنه الغبار، ونعيد تقديمه بقوالب جديدة ومعاصرة، تراعي السياقات الحديثة من دون التفريط بالهوية والموروث.

كما أن هذه التناولات الغربية – رغم أهميتها – لا يمكننا تبنيها كما هي، لأن لكل لغة خصائصها. فما يصح في تعليم لغة معينة قد لا يصح في تعليم العربية. ليس لأن اللغة العربية "أفضل"، ولكن لأنها تملك ميزات خاصة، كما لكل لغة ميزاتها.

لذلك، فإن تعليم اللغة العربية للأعاجم لا بد أن يتم من خلال مقاربات خاصة بها، تراعي هذه الخصائص، وتنطلق من رؤية نابعة من داخلنا، لا من تصورات مفروضة من خارجنا.

والأعاجم ليسوا فئة واحدة، بل هم فئات متعددة ومتباينة. فمثلا: الأعاجم الأتراك يختلفون عن الأعاجم الفرس، وهؤلاء يختلفون بدورهم عن الأعاجم من الولايات المتحدة أو أوروبا الغربية.

الأتراك نشترك معهم في بعض المعجم اللغوي، ولكن لا نشترك معهم في الحرف الكتابي. كما نجد تقاطعا جزئيا في بعض عناصر الثقافة، ولكن لا يجمعنا بهم تركيب لغوي مشترك، فهم ينتمون إلى اللغات اللصقية.أما الفرس، فنشترك معهم في المعجم إلى حد ما، ونتقاطع معهم في استخدام الحرف (العربي)، لكننا لا نشترك معهم في التركيب اللغوي، إذ إن لغتهم تنتمي إلى العائلة الهندو-أوروبية.بينما الغربيون (كالناطقين بالإنجليزية أو الفرنسية) فقد نتلاقى معهم في جانب التركيب اللغوي أكثر من غيرهم، لكننا لا نلتقي معهم لا في المعجم ولا في الثقافة.

من هنا، فإن التعامل مع الفضاء العالمي بوصفه كتلة واحدة في مجال تعليم اللغة العربية، وتقديم اللغة ذاتها بالطريقة ذاتها لكل الأعاجم، هو طرح غير دقيق. بل ينبغي لنا أن ندرس الشعوب المختلفة، وثقافاتها، وأنماط تفكيرها، لنقدم لغتنا وثقافتنا بأفضل الوسائل، وأنسب الطرائق، بما يراعي خصوصية كل فئة.

وهنا أطرح سؤالًا: نحن نحتفل باللغة العربية في مناسبات عدة – في اليوم العالمي للغة العربية الذي يصادف 18 ديسمبر، أو في اليوم العالمي للغة الأم في فبراير. ولكن، متى نحتفل بـ اليوم العالمي للغة الإنجليزية؟ لا يوجد. ومتى هو اليوم العالمي للغة الفرنسية؟ كذلك لا يوجد. فلماذا توجد أيام عالمية لبعض اللغات ولا توجد لغيرها؟ إن كان الغرض من تخصيص يوم عالمي للغة ما هو الاعتراف بها كلغة عالمية، فلماذا لا ينسحب هذا المبدأ على اللغات الأخرى؟.. أترك هذا السؤال مفتوحا للتأمل.

وأحب أن أسوق مثالا، عندما كنت طالبا في بريطانيا، كان يضرب لدينا مثل طريف يتداول في فترة الأعياد. كانوا يقولون للناس بعد انقضاء مواسم الاحتفال "Dogs are not just for Christmas"، أي "الكلاب ليست فقط لفترة الأعياد"، والمقصود لا تأخذوا الكلاب للتنزه واللعب أثناء الأعياد ثم تهملوها بعد ذلك وتتركوها في البيوت.

وأنا أقول كذلك اللغة العربية ليست فقط لليوم العالمي للغة العربية. لا يصح أن ننزل اللغة من على الرف، ونحتفي بها، ونصفق لها، ونهتف ونزغرد، ثم ما إن ينتهي الاحتفال حتى نعيدها إلى الرف مرة أخرى! فاللغة العربية ليست زينة موسمية، بل ينبغي أن يكون الاحتفاء الحقيقي بها هو في توظيفها، قدر المستطاع، في كل مجالات حياتنا.

وأنا أقول كذلك اللغة العربية ليست فقط لليوم العالمي للغة العربية. لا يصح أن ننزل اللغة من على الرف، ونحتفي بها، ونصفق لها، ونهتف ونزغرد، ثم ما إن ينتهي الاحتفال حتى نعيدها إلى الرف مرة أخرى! فاللغة العربية ليست زينة موسمية، بل ينبغي أن يكون الاحتفاء الحقيقي بها هو في توظيفها، قدر المستطاع، في كل مجالات حياتنا.

أتذكر أستاذي في الجامعة، دخلت عليه ذات مرة وكنت أتحدث إليه بالعامية "المانكونية" (لهجة مانشستر)، فقال لي "Leave that rubbish outside my office"، أي "دع هذه القمامة خارج مكتبي"، وكان يقصد بذلك لهجة العامية. فقد كان يعتبر أن استخدام اللهجة في المكتب الأكاديمي فيه نقص في احترام المؤسسة الأكاديمية. مع أنني حين أزوره في بيته، أتحدث معه أحيانا بنفس تلك اللهجة، ويقبل ذلك، لكن في بيئة الجامعة كان له موقف واضح وحازم.

وهذا الموقف يلقي الضوء على مسألة بالغة الأهمية "الانضباط اللغوي داخل المؤسسة الأكاديمية"، كم من الأكاديميين اليوم في جامعاتنا ومؤسساتنا التعليمية يستخدمون العربية استخداما سليما؟ لن أقول الفصحى الفصيحة على إطلاقها، بل مجرد الالتزام بحد أدنى من الفصاحة والسلامة اللغوية في تدريسهم وكتاباتهم – كم منهم لا يلحن؟

هذه هي التحديات التي يجب أن نضعها في الحسبان عند حديثنا عن "الاحتفال باللغة العربية". فالاحتفاء الحقيقي يبدأ من الصف الأول الابتدائي، ولا ينبغي أن يتوقف حتى نكتب على شاهد القبر جملة سليمة باللغة العربية. هكذا فقط نكون قد وفينا هذه اللغة شيئا من حقها.

مقالات مشابهة

  • «الثقافي العربي» في الشارقة يستضيف جورج غريغوري
  • مشاركة متميزة للأولمبياد الخاص المصري باليوم العالمي للريشة الطائرة في العين السخنة
  • ملتقى الشعر العربي في أفريقيا ينطلق من تشاد
  • غرفة تبوك التجارية تستضيف أمسية شعرية بعنوان “شقائق الحرف بين الفصحى والنبط”
  • النصيحة ومحاسبة الذات في الشعر النبطي
  • منتصر الحمد: كيف نعيد تموضع اللغة العربية كفاعل ثقافي عالمي؟
  • اختتام الاجتماع العربي الإقليمي في تونس.. إعلان الأولويات العربية لمؤتمر القمة العالمي الثاني
  • مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية والمركز الوطني لتنمية الحياة الفطرية يطلقان معجم “مصطلحات الحياة الفطرية”
  • من منكم صحى مع الديك؟!
  • إجابات امتحان اللغة العربية تخصص الورقة الثانية 2025 في الأردن