بعد انتهاء المذبحة، وإنجاز الإبادة، يأتي الوقت لإخفاء الجريمة، وغسل الأيدي من الدم، وإخفاء وجوه القتلة بأطنان من مساحيق التجميل.
هذه هي السياسة التي اتّبعها الغرب على مدار القرون الماضية في التعامل مع مذابحه المستمرّة في أرجاء العالم، منذ تفوَّق في صناعة أدوات القتل الجماعي.
لقد قتل الاستعمار الغربي مئات الملايين من البشر الأبرياء العزل في شتّى أرجاء العالم، أباد فيها شعوبًا كاملة في الأميركتَين وآسيا وأفريقيا.
احتل بالحديد والدم معظم دول العالم، ورسّخ صورة أنه المدافع الأكبر عن الحرية والتحرير. مارس استبدادًا متوحشًا، ودعم المستبدين الفاسدين في أنحاء العالم، ثم احتكر الحديث باسم الديمقراطية وحقوق الأقليات والمستضعفين.
على مدار قرن من الزمان، سارت إسرائيل على خطى الغرب الدموي، فارتكبت المذابح المروّعة، ثم شوّهت الحقائق لتبدو في صورة حمل وديع محاط بذئاب متوحّشين. احتلت أرض شعب كامل بعد قتله، وتشتيته، ثم روّجت الكذبة السخيفة بأن اليهود شعب بلا أرض يعمِّرون أرضًا بلا شعب.
وخلال الأشهر الست الماضية ارتكبتْ واحدة من أفظع الجرائم ضد الإنسانية، والإبادات الجماعية، ويقينًا ستسعى إلى تجميل وجهها، وتشويه إدراك العالم للمذبحة، وفرض النسيان عليها. وسوف يعاونها في ذلك أساتذة تلاعب بارعون، ومتخصصون في تزييف الوعي، بمشاركة جيش الصحف والقنوات العالمية التي يملكونها، وكتيبة هوليود التي يسيطرون عليها، وكتائب شخصيات عامة سياسية وأدبية وفنية ترتبط مصالحهم بها.
يتطلب الوعي بمخاطر تجميل المذابح، والحيلولة دون الإفلات من عقابها، ونسيانها عملًا منظمًا على جبهات عدة. فالحرب على الذاكرة لا تقل خطورة عن الحرب على الأرض. ولأجل الحفاظ على الحقيقة، والحيلولة دون إغراق الجرائم في مستنقع النسيان، يجب القيام بإجراءات أساسية هي:
أولًا: توثيق المجازر وأرشفتهاوفق إحصاءات المكتب الحكومي في غزة، ارتكبت إسرائيل في غضون ستة أشهر من "طوفان الأقصى" 2933 مذبحة، قتلت فيها 39975، وخلفت 75577 مصابًا. 73% من ضحايا المجازر الإسرائيلية، هم أطفال ونساء؛ فإسرائيل تقتل 4 أطفال كل ساعة منذ بدء الإبادة.
يُملي الضمير الإنساني على كل حر في هذا العالم أن يُساهم في توثيق هذه المجازر، وأرشفتها، وإتاحة سجلاتها بكل لغات العالم.
من الضروري رواية قصة كل فلسطيني قتله الاحتلال في هذه الإبادة الجماعية. يتعين جمع كل الصور والتسجيلات المرئية والمسموعة التي تصف وقائع المجازر بدقة، وأرشفة هذه الوثائق، وحفظها من الضياع. كما يجب جمع سرديات المجازر الشفوية، وتسجيلها، وإتاحتها.
ويمكن تأسيس فرق عمل تجري مقابلات مع الناجين من المجازر، أو شهود العيان عليها، ونشر قصصهم، وترجمتها. ويجب ألا يتوقف توثيق المجازر عند حصر الضحايا، وحكي قصصهم، بل يجب أن يشتمل كذلك على توثيق الجرائم نفسها، بوصف أحداثها، وأفعالها، وآثارها، ومرتكبيها.
من المهم معرفة أسماء كل من سفكوا الدماء، وأعطوا الأوامر، وقدموا الدعم العسكري والمعلوماتي. قد نظن أنه من غير الممكن محاسبة المجرمين، وتحقيق العدالة، لكن الزمن متقلب، وما يبدو اليوم مستحيلًا، قد يكون في المستقبل القريب ممكنًا بشكل لا يمكن تصوره.
ويجب أن يعلم كل من شارك في الإبادة أن يد العدالة ستطاله، ولو بعد حين، فالجرائم ضد الإنسانية لا تتقادم، ولا تسقط بمرّ السنين. ومن الضروري أن تتاح هذه الأرشيفات بشكل إلكتروني، بكل اللغات الحية، وأن يُحفَّز الأفراد العاديون على المساهمة بما لديهم من وثائق مرئية أو مصورة في بنائها. ويجب أن تتضافر جهود الأفراد والمؤسسات الدولية في إنجاز هذا العمل، لا سيما جامعة الدول العربية، ومنظمات حقوق الإنسان، ومنظمة العفو الدولية، ومراكز بحوث الإبادة، وأقسام العلوم السياسية والاجتماعية في الجامعات العربية، وغيرها.
ثانيًا: دراسة أساليب تزييف الوعي بالمجازرمنذ بدء إبادة غزة، مارست وسائل الإعلام والسياسيون الغربيون حملة تضليل شاملة، يندى لها جبين الإنسانية. فقد وضعت صحف، مثل: "نيويورك تايمز"، و"واشنطن بوست"، وقنوات مثل: "بي بي سي"، و"سي إن إن"، معايير النزاهة والموضوعية تحت أقدامها، لأجل إخفاء الإبادة. واستعملت في سبيل تحقيق ذلك عتادًا ضخمًا من أساليب التلاعب والتزييف والتضليل.
ومن الضروري تعرية الأساليب القذرة التي يستعملها الاحتلال وأعوانه؛ لإخفاء الإبادة، والتقليل من أثرها، وفرض الصمت عليها، وتشويه إدراكها. ويقع على عاتق الباحثين في العالم بأسره مسؤولية الكشف عن هذه الأساليب وفضحها، ومقاومتها. ولتحقيق ذلك من الضروري إجراء دراسات شاملة حول هذه المذابح، وحول الخطابات التي صاحبتها، وأعقبتها. وفضح كل من حرضوا عليها، أو زيفوا الوقائع بشأنها.
ثالثًا: إبقاء ذاكرة الإبادة حية ومقاومة النسيانحين تظل المجازر حيَّة في الذاكرة يبقى الأمل في أن تتحقق العدالة يومًا ما، فلا تضيع الأرواح البريئة سُدى وهباء. أما المجازر التي تتلاشى من الذاكرة بفعل إستراتيجيات التلاعب والتزييف، فإنها تضيف مجزرة جديدة للمجزرة الأولى هي مجزرة النسيان. وليس هناك أبشع من ارتكاب المجازر إلا نسيانها، وغسل أيدي مرتكبيها، وتبييض وجوههم بعدها.
وللحفاظ على ذاكرة إبادة غزة حيَّة، يجب استمرار التعريف بها، واستعمال طرق متنوّعة لحفظها. يجب، من الآن، العمل على تخليد الإبادة، عن طريق الأفلام التسجيلية، ومعارض الصور الفوتوغرافية، ورسوم الحوائط، وملصقات الشوارع، واللافتات، والأغاني، والكتب، والأفلام السينمائية، ومقاطع الفيديو المصورة، والأعمال الأدبية المكتوبة والمصورة، وعروض صالات المتاحف، والرقص التعبيري، والموسيقى، والمسرحيات، والحكايات الشفهية، والألعاب الإلكترونية، والكتابة على الملابس، وغيرها.
يجب إدراج الإبادة ضمن مقررات التدريس في العالم العربي، وفي أرجاء العالم، بوصفها واحدة من أشنع جرائم الإبادة في القرن الحالي.
لقد عانى معظم الأحرار في العالم من شعور فادح بقلة الحيلة، وهم يشاهدون وقائع الإبادة بعيونهم دون أن يملكوا القدرة على إيقافها. لكن باستطاعة كل إنسان في هذا العالم أن يخوض معركة الحفاظ على الإبادة من النسيان، وهذا أقلّ ما يمكن أن نفعله كي نستطيع النظر في وجوهنا أمام المرآة.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: ترجمات حريات من الضروری
إقرأ أيضاً:
الاحتلال يقتل أكثر من 50 شهيداً خلال 5 ساعات بينهم 33 طفلاً وامرأة
#سواليف
أكد “المكتب الإعلامي الحكومي” في قطاع #غزة أن الاحتلال الإسرائيلي يقتل أكثر من 50 شهيداً خلال خمس ساعات بينهم 33 طفلاً وامرأة.
وأدان “الإعلامي الحكومي” في تصريح صحفي، “بأشد العبارات #المجازر الدموية المتواصلة التي يرتكبها جيش الاحتلال بحق المدنيين العزل في قطاع #غزة، والتي تصاعدت منذ فجر اليوم الثلاثاء بشكل همجي ومُركّز، واستهدفت بشكل مباشر منازل آمنة ومأهولة، ومراكز إيواء، و #مستشفيات، وتكايا توزع الطعام على #الجوعى و #المنكوبين، في سلوك إجرامي يرقى إلى #جريمة_إبادة_جماعية مكتملة الأركان”.
وأضاف أنه “في الساعات الخمس الأولى من الفجر، أسفر القصف الوحشي الذي شنه #الاحتلال عن #استشهاد أكثر من 50 مدنياً، بينهم 33 من الأطفال والنساء والمسنين، في مشهد دموي مروّع يُجسّد جريمة مكتملة الأركان، ويُظهر إصرار الاحتلال على استخدام آلة القتل والتجويع كوسيلتين للحرب ضد السكان المدنيين، في انتهاكٍ صارخٍ وممنهجٍ لكافة القوانين والمواثيق الدولية”.
مقالات ذات صلةوأشار إلى أن “هذه المجازر تتزامن مع تصريحات غير مسبوقة لمسؤول إسرائيلي رفيع المستوى، حيث أدلى “يائير غولان”، النائب السابق لرئيس أركان #جيش_الاحتلال تصريحات اعترف فيها صراحةً بأن الجيش الإسرائيلي “يخوض حرباً ضد المدنيين”، وأنه “يقتل الأطفال كهواية”، وأن هدفه الأساس هو ” #تهجير_السكان “، وهو ما يمثل إقراراً واضحاً من داخل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية بجريمة الإبادة الجماعية الجارية ضد شعبنا الفلسطيني.
وأكد أن “هذا السلوك الإجرامي من قبل جيش الاحتلال، مدعوماً بهذا النمط من التصريحات المليئة بالكراهية والتحريض، يُظهر الوجه الحقيقي للاحتلال بوصفه نظاماً استعمارياً عنصرياً يمارس الإرهاب المنظم على مرأى ومسمع من العالم”.
وحمل الاحتلال والإدارة الأمريكية والدول المشاركة في جريمة الإبادة الجماعية مثل المملكة المتحدة، وألمانيا، وفرنسا؛ المسؤولية الكاملة عن ارتكاب هذه الجرائم النَّكراء الوحشية بدعمهم السياسي والعسكري والدبلوماسي اللامحدود لهذا الاحتلال.
وطالب “المجتمع الدولي، والأمم المتحدة، ومحكمة الجنايات الدولية، ومنظمات حقوق الإنسان، بالخروج من صمتهم المشين، والتحرك العاجل والفوري لوضع حد لهذه المجازر البشعة، ومحاسبة #قادة_الاحتلال الإسرائيلي كمجرمي حرب”.
ودعا “وسائل الإعلام الحرة، والمؤسسات الحقوقية، وأحرار العالم، إلى فضح هذه الجرائم المستمرة، ونقل الحقيقة للعالم دون مواربة، والوقوف إلى جانب شعبنا الأعزل الذي يواجه آلة القتل والدمار بكل شجاعة وثبات”.