ألكسندر عون يكتب: مسيحيو الشرق «2/1».. شخصيات مسيحية عربية حملت لواء القومية فى مواجهة الدولة العثمانية
تاريخ النشر: 15th, April 2024 GMT
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
على الرغم من الخطابات المثيرة للقلق، فإن وضع المسيحيين الشرقيين لا يحظى بتغطية إعلامية كافية مقارنة بالاضطرابات التى شهدها التاريخ الإقليمي. إنهم يبحثون باستمرار عن موقف تصالحى يمكن أن يسمح لهم بعيش إيمانهم فى سلام.
ومع ذلك، فإنهم لا يشكلون مجموعة متجانسة. فى كل بلد، من العراق إلى لبنان وسوريا، يتمتع المسيحيون بتفردهم الخاص من خلال منظور التقاليد اللغوية والطقوسية.
يهتم هذا الجزء الأول بنشأة المسيحية، مسلطًا الضوء على الخصوصيات المحلية والخلافات والولاءات والتفاعلات مع الإمبراطوريات الإسلامية المختلفة، حتى الصحوة السياسية والفكرية فى عصر النهضة فى نهاية القرن التاسع عشر.
ميلاد المسيحية
ولدت المسيحية وتطورت فى الجزء الشرقى من الإمبراطورية الرومانية. ولذلك فإن الشرق الأوسط هو، فى جوهره، مهد هذا الدين الجديد. لفترة من الوقت، عاش أتباع هذا المعتقد فى الخفاء ولا يمكنهم ممارسة طقوسهم علنًا.. حتى القرن الثالث الميلادي، عانى المسيحيون من العديد من الاضطهادات والمذابح. إنهم يعتبرون أعداء الإمبراطورية وغالبًا ما يُنظر إليهم على أنهم أفراد مهرطقون.. حتى بداية القرن الرابع الميلادي، كان المسيحيون تحت رحمة أباطرة مختلفين. البعض يهاجم فقط رجال الدين، والبعض الآخر يضطهد المؤمنين.
كان علينا أن ننتظر وصول الإمبراطور قسطنطين الأول، الذى اعتنق المسيحية، والذى أصدر مرسوم ميلانو عام ٣١٣ ومنح حرية العبادة فى جميع أنحاء الإمبراطورية. شيئًا فشيئًا، تطورت المسيحية وأصبحت الديانة الرسمية الوحيدة فى عهد ثيودوسيوس الأول فى نهاية القرن الرابع. أعقبت فترة من الوفرة الفكرية العديد من المناقشات اللاهوتية. تظهر الانقسامات الأولى، وهى الخلافات حول طبيعة المسيح البشرية – الإلهية – أو كلتيهما. وعلى الرغم من المجامع العديدة، إلا أن التمزقات اكتملت وأدت إلى إنشاء عدة كنائس متمايزة.
وهكذا، فى ظل الإمبراطورية البيزنطية، لم يكن المجتمع المسيحى يشكل كلًا متجانسًا. فشلت السلطة المركزية فى القسطنطينية فى مركزية وفرض عقيدة مسيحية واحدة. وفى القرنين الخامس والسادس ظهرت الكنائس القبطية فى مصر، والكنائس السريانية والآشورية الكلدانية فى سوريا، والكنائس المارونية فى لبنان. وكان أتباعهم يمارسون عقيدتهم سرًا.
عندما توفى النبى محمد عام ٦٣٢،. نظرت الكنائس المنشقة فى البداية إلى وصول جيوش المسلمين باعتباره تحررًا من السلطة الاستبدادية للقسطنطينية. فى البداية، مارس المسيحيون شعائرهم الدينية بحرية أكبر، ولا يوجد تحول قسرى لأنهم معترف بهم كأهل كتاب.. لكن شيئًا فشيئًا، تُخضِع السلطة الإسلامية المركزية المجتمع المسيحى إلى وضع أهل الذمة (وفقًا للقانون الإسلامي، يشير الذمى إلى غير المسلمين فى الدولة الخاضعة للحكم الإسلامي). غالبًا ما تُترجم هذه الكلمة على أنها شكل من أشكال "الحماية التمييزية". وبسبب هذا الوضع الثانوي، فإن المسيحيين ملزمون بدفع ضرائب إضافية (الجزية) مع حرية ممارسة شعائرهم الدينية.
من التراجع إلى الحروب الصليبية
وبسرعة كبيرة، سار وصول القوات الإسلامية جنبًا إلى جنب مع تعريب المجتمع والطقوس المسيحية. واختفت بعض اللغات اللاهوتية لصالح اللغة العربية. تمت ترجمة أول كتاب مقدس إلى اللغة العربية فى القرن التاسع. إلا أن هذا التعريب يصاحبه أسلمة جميع شرائح المجتمع الشرقي. بدأت الكنائس الشرقية تنغلق على نفسها. إن النمو الديموغرافى للمسلمين يؤدى إلى تحول وضع المسيحيين الذين أصبحوا أقلية.
وتدهورت العلاقات بين المسلمين والمسيحيين أكثر مع وصول القوات الغربية. فى الواقع، أطلق البابا أوربان الثانى دعوة لشن حملة صليبية فى عام ١٠٩٥ تحت دعوى مساعدة المسيحيين الشرقيين وتحرير القدس، مركز الحج لجميع المسيحيين الغربيين والشرقيين.. ومع ذلك، فإن الجيوش الغربية لا تحظى بالضرورة باستقبال جيد من قبل إخوانهم فى الدين الشرقيين. البعض قرر مساعدة الصليبيين مثل الموارنة، والبعض الآخر فضل البقاء فى الأراضى الإسلامية مثل المسيحيين الأرثوذكس. فى الواقع، أدى انشقاق عام ١٠٥٤ إلى إنهاء الانقسام بين الكنائس المرتبطة بروما (الكاثوليكية) والكنائس المرتبطة بالقسطنطينية (الأرثوذكسية).
غيرت فترة الحروب الصليبية من القرن الحادى عشر إلى القرن الثالث عشر وضع المسيحيين الشرقيين فيما يتعلق بالقوة الإسلامية. وبالتالى يضعف التوازن النسبى وتعانى المجتمعات المسيحية من التهميش السياسى والاجتماعى والاقتصادي.
فى ظل الإمبراطورية العثمانية من القرن الرابع عشر إلى القرن العشرين، تم دمج المسيحيين فى المجتمع كأهل ذمة فى مجموعة تسمى "الملل"، وهو نوع من البنية الطائفية الخاصة بالمجتمع.
على مدى فترات، تمت تهدئة نسبية للعلاقات. ومع ذلك، فى ضوء التوترات مع الغرب، يعانى المسيحيون من العديد من الاضطهاد الجسدى والمالي. أدت الحروب العديدة بين الإمبراطورية العثمانية وروسيا منذ القرن الثامن عشر إلى تشديد السياسات العثمانية تجاه الأرثوذكس، الذين يعتبرون قريبين من موسكو.
الغرب مهتم بمصير أتباعه فى الدين فى الشرق. أقام فرانسيس الأول علاقات مع السلطان العثمانى سليمان القانونى ووقع اتفاقية عام ١٥٣٥ سمحت له بالحق فى السيطرة على السكان المسيحيين مقابل حرية التجارة فى الموانئ الفرنسية. وبسرعة كبيرة، تم استخدام هذه الرغبة فى حماية المسيحيين الشرقيين لأغراض السياسة الخارجية. فى الواقع، أرادت القوى الأوروبية إضعاف الإمبراطورية العثمانية. وفى المقابل، تفاخر الروس والفرنسيون بأنهم «حماة المسيحيين الشرقيين». روسيا تضمن أمن الأرثوذكس بينما تريد فرنسا حماية الكاثوليك. وأخذ هذا الدور أبعادًا تاريخية خلال مجزرة الموارنة فى سوريا ولبنان. تدخلت فرنسا فى عهد نابليون الثالث عسكريًا عام ١٨٦٠ لحماية المجتمع المسيحي.
تاريخيًا، أصبح المسيحيون الشرقيون تدريجيًا رأس الحربة للتجديد السياسي. الدولة العثمانية أصبحت غارقة فى أزمة داخلية وخارجية، فشددت سياستها ومنعت أى حركة منشقة. فى المنطق القومى العربي، قامت بعض الشخصيات المسيحية اللبنانية والمصرية والسورية بكتابة ونشر وتبادل الأفكار السياسية حول القتال ضد الإمبراطورية العثمانية. ويغلب مفهوم العروبة لمحو الفوارق المجتمعية والمذهبية. وسمى هذا الحراك الفكرى والسياسى بـ"النهضة". وقد ظهر هذا الاتجاه فى نهاية القرن التاسع عشر وتجذر فى أذهان كل عربى فى ذلك الوقت. بدافع من روح تجديد الكرامة، عارض عرب الإمبراطورية العثمانية السلطة المركزية. وحظيت هذه المعارضة بدعم صادق من الغرب الذى يعتمد على انهيار الإمبراطورية العثمانية.
ألكسندر عون: صحفى فرنسى من أصل لبنانى متخصص فى قضايا الشرق الأوسط.. يستعرض تاريخ مسيحيى الشرق الأوسط، من الاضطهاد على يد الإمبراطورية الرومانية إلى عصر النهضة ومواجهة الإمبراطورية العثمانية.
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: ألكسندر عون الإمبراطوریة العثمانیة
إقرأ أيضاً:
مسيحيو لبنان.. هويات مشرقيّة صغيرة بين محدودية التمثيل وتحديات الوجود
يشبه لبنان متحفاً حيّاً للطوائف، وفسيفساء مذهبية فريدة من نوعها في محيطه العربي. وقد اتسم تاريخه بالتداخل بين الدين والسياسة، والصراعات على النفوذ وحفظ الهوية، ما جعل منه حالةً فريدةً في الشرق الأوسط، أو ربما استثناءً تاريخياً في تشكيله الطائفي المتنوّع الذي يتجاوز الصورة التقليدية لطوائفه الكبرى المعروفة، والتي لعبت أدواراً محورية منذ استقلاله، مروراً بالحرب الأهلية، وصولاً إلى مرحلة ما بعد الطائف. إذ تختزن ذاكرة هذا البلد الصغير تنوعاً مذهلاً لطوائف ومذاهب، بقي بعضها مجهولاً للكثيرين، تُشكّل جزءاً لا يتجزأ من نسيجه الاجتماعي والثقافي والتاريخي. وفي ظلّ تجاهل إعلاميّ معتاد، بقيت هذه الطوائف في الظلّ، رغم ما تحمله من إرث غنيّ وقصص غير مروية، ودورٍ لا يُستهان به في تشكيل الهُوية اللبنانية، والتأثير على المشهد السياسي والاجتماعي.
من هنا، يخصص موقع "عربي 21" سلسلة مقالات بعنوان "لبنان متحف طوائف الشرق الأوسط" وخصص هذه الحلقة للأقليات المسيحية في لبنان: اللاتين والآشوريين والكلدان، في محاولةٍ جادة وعميقة لإلقاء الضوء على هذه الجماعة، واستكشاف خصائصها وتاريخها وتراثها، والتعرف إلى الدور الذي لعبته وتلعبه اليوم في الواقع اللبناني، بعيداً من الصور النمطية والأحكام المسبقة.
هذه السلسلة ليست مجرد بحثٍ معرفي، بل هي جولةٌ بين مكوّنات مجتمعٍ زاخر بالتنوع، لا يزال رغم صراعاته قادراً على البقاء كأحد أغنى نماذج التعددية في الشرق الأوسط.
تُشكل طوائف اللاتين والآشوريين (السريان الشرقيون) والكلدان جزءًا هامًا وإن كان ضئيلاً من الفسيفساء المسيحية اللبنانية. تتشارك هذه الطوائف في الانتماء إلى المظلة المسيحية، لكنها تتباين في أصولها التاريخية، طقوسها الليتورجية، وواقعها الديموغرافي.
الخصائص الاجتماعية والدينية
تعود نشأة طائفة اللاتين التابعة للكنيسة الكاثوليكية في روما إلى البعثات التبشيرية الأوروبية والإرساليات وكذلك إلى وجود بعض الرعايا الأجانب في لبنان (تجّار، دبلوماسيون، موظفون) الذين يتبعون الطقس اللاتيني. وتُعد هذه الطائفة الأصغر ديموغرافيًا ويتركز أبناؤها في بيروت الكبرى وضواحيها، ويغلب على فئة منهم الاندماج الاجتماعي والمهني ضمن النخب المتعلمة ويُعرَفون بالتوجه نحو التعليم العالي والمهن الحرة. ومن أشهر عائلات اللاتين في لبنان: كفتاوي (أصلها keftago)، إسكندر، كتانة، منصور، غنطوس، ريشا، الداية، بوشي، سبيللا (Spella)، سيستو (Sisto).
تُشكل طوائف اللاتين والآشوريين (السريان الشرقيون) والكلدان جزءًا هامًا وإن كان ضئيلاً من الفسيفساء المسيحية اللبنانية. تتشارك هذه الطوائف في الانتماء إلى المظلة المسيحية، لكنها تتباين في أصولها التاريخية، طقوسها الليتورجية، وواقعها الديموغرافي.
فيما تعود أصول الآشوريين وهم السريان الشرقيون إلى سوريا والعراق وماردين في تركيا وهي طائفة أصيلة لها امتدادات تاريخية جاءت إلى لبنان في موجات لجوء تاريخية، أبرزها بعد مذابح سيفو عام 1915 وعملية سميل 1933. يتبع أبناء طائفة الآشوريين إلى الطقس السرياني الشرقي (الذي يُعرف خطأً بـ "النسطوري") وهي تُمثل أكبر الأقليات الثلاث التي يتناولها هذا البحث. يتركز أبناؤها في زحلة، وبلدة "الفاكهة" في البقاع الشمالي، وبيروت وبعض ضواحي المتن (مثل سدّ البوشرية والجدَيدة وسن الفيل والدورة) و يتميزون بالحفاظ على لغتهم السريانية الشرقية. ومن أشهر العائلات الآشورية في لبنان: يونان، خوري آغا، قاشا، عائلة كيوركيس/ كوركيس، بايتو، شمعون، مراد.
أما الكلدان فهم بالأصل طائفة سريانية شرقية مثل الآشوريين، لكن الطائفة انفصلت عن كنيسة المشرق واتّحدت مع الكرسي الرسولي (الفاتيكان، روما). وفدوا إلى لبنان بشكل أساسي من العراق في موجات هجرة ولجوء متتابعة، آخرها بعد الحرب الأميركية –البريطانية على العراق في العام 2003 وما تلاها. للكلدان في لبنان وجود ملحوظ خصوصاً في قضاء المتن (مناطق الدورة والجدَيدة وعين الرمانة) وكذلك في مدينة بيروت. ويتميزون بالحفاظ على طقوسهم الكلدانية الخاصة ولغتهم السريانية الآرامية الحديثة. ومن أبرز عائلات الكلدان في لبنان: حكيم، تفنكجي، قصارجي، سـاكي، حنّاوي، تيغو، ورده، موصلي، ترزيخان، كوبلي، زريفة.
إذاً، يمكن تلخيص نقاط الاختلاف الجوهرية بين الطوائف الأقلية الثلاث بأنها تباينٌ لا أكثر، تباين الأصول والطقوس الليتورجية إذ ما زالت طائفة اللاتين متأثرة بالطقس الغربي (الروماني) الذي يجعلها في نظر البعض "أجنبية" وغير أصيلة في المشرق، فيما يتأثر الآشوريون والكلدان بطقوس شرقية (سريانية) مستوحاة من أصولهم المشرقية القديمة ومن تاريخهم المرتبط باللجوء القسري من المشرق رغم أن الكلدان اختاروا الاندماج مع الكنيسة الكاثوليكية، بينما الآشوريون لم يختاروا ذلك.
الأدوار السياسية
من الاستقلال إلى الطائف مروراً بالحرب الأهلية اللبنانية، بقي الدور السياسي لهذه الطوائف الثلاث، محكومًا بـ تحالفاتها الإقليمية والتحاقها بالمظلة المارونية الأكبر، نظرًا لضآلة حجمها، أو محكوماً بتأثير شخصياتها الذين يشغلون مواقع مهنيّة حساسة أو يمتلكون ثروات.
ومن خلال تعداد المحطات المفصلية في تاريخ لبنان السياسي والاجتماعي يتبين أن الطوائف الثلاث ركزت على حماية وجودها وتثبيت مؤسساتها أكثر مما ركزت على لعب أدوارٍ قيادية مؤثرة في مسار الأحداث.
ففي مرحلة السعي للاستقلال (1920 ـ 1943) كان دور اللاتين يتمحور حول الوجود الدبلوماسي والثقافي الغربي وتأثيره. كان بعض أفرادهم يعمل في مؤسسات الدولة الحديثة أو الإرساليات الأوروبية، ما ساهم في صقل النخب اللبنانية. فيما تركز دور الآشوريين على تثبيت وجودهم كلاجئين والسعي للحصول على الجنسية اللبنانية والحقوق الكاملة، بالاعتماد على دعم بعض القوى المسيحية الأكبر فيما اقتصر دور الكلدان على الاندماج الاقتصادي والاجتماعي، من دون دور سياسي فاعل ومستقل نظراً لمحدودية توزعهم الديمغرافي وقلّة عددهم.
أما خلال سنوات الحرب الأهلية (1975 ـ 1990) فلم تنتج أي من الطوائف المذكرو ةحزباً سياسياً خاصاً بها أو ميليشيا خاصة، لكن برزت بعض الشخصيات اللاتينية في مواقع تحالفات داخل الأحزاب المسيحية الأكبر من دون أن يُعرفوا بنحوٍ مباشر على أنهم لاتين، أما الطائفة ككل، فمالت إلى الابتعاد عن الانخراط المباشر، رغم أن بيروت الشرقية التي يتمركز فيها اللاتين تعرّضت للقصف والاشتباكات.
فيما انخرطت فئة من شباب الآشوريين في أحزاب القوات اللبنانية وغيرها من الميليشيات المسيحية للحماية الذاتية، خصوصاً في مناطق المتن (مثل الجدَيدة). كما شكلوا بعض التنظيمات الصغيرة للمطالبة بحقوقهم.
وبقي وضع الكلدان هشًا بسبب ضعف التنظيم الداخلي للطائفة وتفاقم الهجرة لذلك انخرط الكلدان بشكل محدود جدًا في حماية مناطقهم، لكن دورهم كان هامشيًا مقارنة بالطوائف الكبرى.
وأخيراً، خلال مرحلة الطائف (1990) وما تلاها تجلّى دور اللاتين بشكل أساسي من خلال النخب المتعلمة في القطاع المصرفي وسلك القضاء والمناصب الدولية، مستفيدين من الاندماج في النسيج المهني اللبناني من دون تشكيل قوة تصويتية مستقلة ومؤثرة.
بينما كثّف الآشوريون جهودهم للمطالبة بترسيم هويتهم السريانية ضمن القانون، والمطالبة بمقعد نيابي خاص بهم لتعزيز تمثيلهم كطائفة عابرة للحدود. وركز الكلدان على الدفاع عن حقوق المهاجرين الجدد من العراق وسوريا، والعمل على تأمين الإقامة وتسهيل الاندماج، مستفيدين من الدعم الكنسي.
رغم انتماء هذه الطوائف إلى المظلة المسيحية اللبنانية، فإن حضورها السياسي ظلّ هامشيًا عبر مختلف المراحل ولم تُنشئ أي منها تنظيماً خاصاً يحميها في بلد الطوائف والمحاصصة،تجدر الإشارة إلى أن التمثيل النيابي لهذه الطوائف الثلاث غير مباشر رغم أن القانون اللبناني يخصص مقاعد مباشرة للطوائف الـ 18 المعترف بها رسميًا في الدستور. لذلك يتم إدراج التمثيل النيابي للاتين ضمن خانة "الأقليات" المسيحية التي تتشارك في مقاعد محددة أو تتوزع على لوائح الأغلبية في دوائر بيروت فيما يصوّت اللاتين المسجلون في الدوائر الانتخابية الأخرى ولا سيما المتن من دون تخصيص طائفي. ويُذكر أن الطائفة اللاتينية تحظى بمقعد في مجلس بلدية بيروت (مخصّص لطائفة اللاتين في القيد البلدي).
أما الآشوريون والكلدان فليس لهم مقعد مباشر كأفراد لكن، تم إقرار مقعد مخصص لـ "السريان الكاثوليك والأرثوذكس" وكنا قد تحدثنا عنهم في مقال سابق، لذلك ينظر أبناء الطوائف السريانية الأخرى إلى مقعد "السريان" كاسم جامع يمثل هويتهم المشرقية الواسعة (الآشوريون، الكلدان، السريان).
لا بدّ من الإشارة إلى أن المقعد الذي يُشار إليه أحيانًا بـ "مقعد الأقليات المسيحية" في بيروت الأولى (دائرة الأشرفية، الصيفي، الرميل) هو مقعد يتنافس عليه عدد كبير من الأقليات، بما في ذلك اللاتين والكلدان والآشوريون والأرمن الكاثوليك وغيرهم.
الواقع والتحديات
تواجه هذه الأقليات المسيحية الثلاث تحديات عميقة تهدد استمراريتها وتأثيرها في المجتمع اللبناني، وهي تحديات مشتركة لكل الأقليات المسيحية المشرقية. وتتمثل بـ:
-ـ الهجرة والنزيف الديموغرافي: إذ يسجل الآشوريون والكلدان أعلى معدلات الهجرة، بسبب الظروف الاقتصادية في لبنان، وبعضهم ينظر إلى لبنان بوصفه محطة عبور (ترانزيت) للهجرة إلى أميركا وأوروبا وأستراليا، حيث توجد تجمعات كلدانية وآشورية أكبر وأكثر دعمًا واحتضاناً. فيما تستمر فئة من اللاتين في الهجرة لأسباب مهنية أو لعودة الأصول إلى أوروبا.
ـ الاندماج السياسي مقابل الحفاظ على الهوية: يواجه الآشوريون والكلدان تحدّيًا بين الاندماج الكامل في المجتمع اللبناني (لغةً وثقافةً) وبين الحفاظ على لغتهم السريانية/الآرامية وطقوسهم الشرقية الخاصة. كما أنهم يطالبون بـ اعتراف سياسي أوضح يمنحهم تمثيلاً نيابيًا صريحًا.
ـ صعوبة التعبير السياسي المستقل: نظرًا لضآلة العدد، تجد هذه الأقليات صعوبة في تشكيل قوة تصويتية مستقلة، مما يضطرها إلى التحالف مع الطوائف المسيحية الكبرى (كالموارنة والروم الأرثوذكس) أو الذوبان فيها، الأمر الذي يقلل من ظهور قضاياهم الخاصة على الأجندة الوطنية.
ـ التحديات الاقتصادية والاجتماعية: أزمة لبنان الاقتصادية أثرت بشكل خاص على الكلدان والآشوريين، الذين يعتمدون على شبكات دعم اجتماعي أقل رسوخًا مقارنة بالطوائف اللبنانية الكبرى.
في الخلاصة، رغم انتماء هذه الطوائف إلى المظلة المسيحية اللبنانية، فإن حضورها السياسي ظلّ هامشيًا عبر مختلف المراحل ولم تُنشئ أي منها تنظيماً خاصاً يحميها في بلد الطوائف والمحاصصة، ولعل هذا ما يجعل التحديات المستقبلة أكثر صعوبة ومصيرية من تلك التي تواجهها الطوائف الكبرى التي لا تخشى تآكل وزنها الديموغرافي. وفي ظل غياب تمثيل سياسي واضح يعكس خصوصيتها، تعيش الأقليات المسيحية ولا سيما اللاتين والآشوريون والكلدان أزمة وجودية قد تهدد استمرار حضورها التاريخي في لبنان كمكوّن أصيل من فسيفسائه الطائفية.