جُرجى زيدان.. والتاريخ الإسلامى أدبًا وعلمًا
تاريخ النشر: 3rd, May 2024 GMT
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
ظل تاريخ التمدن فى الحضارة الإسلامية لقرون عديدة مدفونا تحت منقولات التراث والروايات غير الموثقة إلى أن جاء جُرجى زيدان ليرْسم لنا بِذَائِقَتِهِ التاريخية هذا التاريخ ليس فقط من خلال موسوعته "تاريخ التمدن فى الإسلام" ولكن أيضا من خلال كم هائل من الروايات التاريخية التى كان رائدا فى كتابتها، وتناقل عدد من الباحثين أن جُرجى زيدان كان مُتَهيبًا من الدخول فى هذا الميدان التاريخي؛ لأنه كان مجهولا غير محدد المعالم، ويتجلَى وجه تفرّد زيدان من خلال تطرُّقِهِ لنواحٍ عسيرة من التاريخ الإسلامى كالناحية المالية بوصفها من أكثر النواحى إشْكالًا فى التاريخ الإسلامي، ويَكْمُنُ ثراء هذا التاريخ فى تضمُنه تاريخ العالم المتمدن فى العصور الوسطى، فهو التاريخ الذى يمتلكُ جسرًا يربطُ التاريخ القديم بالتاريخ الحديث، كما يرى زيدان أن الوجه الحقيقى الذى يُفْصِح عن تاريخ الأمم؛ هو تاريخ تمدنها وحضارتها لا تاريخ حروبها وفتوحاتها، وقد استهلَّ كتابه بمقدماتٍ تمهيدية تتناول تاريخ التمدن العربي، وحال العرب قبل الإسلام، كما بحث عن ثروة المملكة الإسلامية وحضارتها وعلاقتها بالدول المعاصرة لها، ووصف أحوال الخلفاء فى مجالسهم ومدى اهتمامهم بالعلماء والشعراء، ثم تطرق إلى أحوال العلوم والفنون فى الأقطار العربية والعادات والتقاليد الاجتماعية المُتَعارَفِ عليها.
لم يمنعه أنه ابن أسرة مسيحية فقيرة فى بيروت من شغفِه بالمعرفةِ والقراءة، فإنه لم يُكمِلْ تعليمَه بسببِ الظروفِ المعيشيةِ الصعبة، إلا أنه أتقنَ اللغتَينِ الفرنسيةَ والإنجليزية، سافر إلى القاهرة، وعمِلَ محرِّرًا بجريدةِ «الزمان» اليومية، ثُم انتقلَ بعدها للعمل مترجما فى مكتب المخابرات البريطانية بالقاهرة عام ١٨٨٤م، ورافق الحملة الإنجليزية المتوجِّهةَ إلى السودان لفكّ الحصارِ الذى أقامته جيوش المَهدى على القائد الإنجليزى «جوردون». عاد بعدها إلى وطنه لبنان، ثم سافر إلى لندن، واجتمع بكثير من المستشرقين الذين كان لهم أثر كبير فى تكوينِه الفِكْري، ثم عاد إلى القاهرة ليُصدِرَ مجلةَ «الهلال» التى كان يقوم على تحريرِها بنفسِه، وقد أصبحَتْ من أوسع المجلات انتشارا، وأكثرِها شهرة فى مصر والعالم العربي.
وبالإضافةِ إلى غزارة إنتاجِه كان متنوعا فى موضوعاتِه؛ حيث كتب فى العديدِ من الحقول المعرفية؛ كالتاريخ والجغرافيا والأدب واللغة والروايات. ورغم أن كتابات «زيدان» فى التاريخِ والحضارةِ جاءَت لتَتجاوزَ الطرح التقليدى السائد فى المنطقة العربية والإسلامية آنَذاك، والذى كان قائما على اجترارِ مَناهجِ القُدامى ورِواياتِهم فى التاريخِ دونَ تجديدٍ وإعمالٍ للعقلِ والنَّقد؛ فإنَّ طَرْحَه لم يتجاوزْ فكرةَ التمركُزِ حولَ الغربِ الحداثي؛ حيث قرَأَ التاريخَ العربيَّ والإسلامى من منظور استعمارى فتأثَّرَتْ كتاباتُه بمناهج المستشرِقِين، بما تَحملُه من نزعة عنصرية فى رؤيتِها للشرق، تلك النزعة التى أوضحها بعد ذلك المفكر الأمريكى الفلسطينى المولد «إدوارد سعيد» فى كِتابِه "الاستشراق".
ومن بين أهم الروايات التاريخية لجُرجى زيدان رواية «أبومُسلم الخُراساني» التى كتبها ضمن سلسلة «روايات تاريخ الإسلام»، وقد تناول فيها عِدةَ وقائعَ مهمة فى التاريخِ الإسلامي، منها كيفيةُ سُقوطِ الدولةِ الأُمويةِ التى حَكمَها بنو أُميَّةَ كأولِ الأُسَرِ المُسلمةِ الحاكمة، وكيف صَعِدَتِ الدولةُ العباسيةُ على أنقاضِ الدولةِ الأُمويَّةِ البائدة، كما وضَّحَ كيفَ سعى أبومُسلم الخُراسانى صاحبُ الدعوةِ العباسيةِ فى خُراسانَ إلى تأييدِ مُلكِ الدولةِ العباسيةِ عن طريقِ القتلِ والفتكِ وشدةِ البطش، وكيفَ قُتِلَ أبومُسلمٍ بَعدَ ذلك. كما عرَّجَ بنا زيدانُ على فترةِ ولايةِ أبى جعفر المنصور، وقد تَخلَّلَ تلك الوقائعَ والأحداثَ الروائيةَ التاريخيةَ وصفٌ لعاداتِ الخُراسانيِّينَ وأخلاقِهم، ونِقمةِ المَوالى على بنى أُميَّة وانضمامِهم لأبى مُسلم، وتنافُسِ بنى هشامٍ على البَيعة.
كذلك رواية «العباسة أخت الرشيد»، فمن خلال قصة العباسة أخت الخليفة هارون الرشيد وجمع فى سردها بين منطق الرواية التاريخية القائم على الخيال وبناء الشخصيات وتفاصيل المشهد، وبين منطق المادة التاريخية المستند إلى الوقائع والأحداث الفعلية، وقد اشتمل العمل على نكبة البرامكة وأسبابها، كما تخلله وصفًا لمجالس الخلفاء العباسيين، وملابسهم، ومواكبهم وحضارة دولتهم فى عصر الرشيد.
ومن بين أهم إصدارات سلسلة روايات تاريخ الإسلام تأتى رواية «الحجاج بن يوسف»، وتتناول الرواية شخصية من أكثر الشخصيات إثارة للجدل فى التاريخ الإسلامي، وهى شخصية الحجاج بن يوسف الثقفي، ذلك السياسى الأموى والقائد العسكري، الذى لم يألُ جهدًا فى تثبيت دعائم الدولة الأموية، وقد اشتهر عن الحجاج أنه شديد البطش بخصومه، ظلومًا جبَّارًا، حتى إنه فى حربه مع عبد الله بن الزبير، لم يتردد فى حصار مكة، وضربها بالمجانيق مما أدَّى إلى هدم الكعبة، وتنسب إلى الحجاج أعمال أخرى عظيمة ارتبطت بالفتوح الإسلامية، وتخطيط المدن، وتنقيط القرآن الكريم.
ورواية «الأمين والمأمون» التى تستقى أحداثها من وقائع التاريخ الإسلامى خلال الفترة العباسية، حيث تشتمل على ما وقع بين الأمين والمأمون من خلاف على الخلافة بعد وفاة والدهما الخليفة هارون الرشيد، وقد تطورت هذه الأحداث بعد ذلك إلى صراع بين الأخوين، دخل فيه الأحلاف والموالون، ولعبت فيه الدسائس والمؤامرات دورًا كبيرًا، كما سنرى فى نهاية الرواية، حيث أيَّدت الفرس المأمون، وناصرته على أخيه الأمين حتى سقطت بغداد وقُتل الأمين على يد خونة من أتباع المأمون.
ورواية «أحمد بن طولون» والتى تجمع بين خصائص الرواية الأدبية وبين الحقائق التاريخية، وتركز فيه الرواية على الأحداث التاريخية المهمة التى وقعت فى عهد أحمد بن طولون، كما تشتمل على وصف لمصر ولبلاد النوبة فى أواسط القرن الثالث للهجرة، كما تهتم الرواية بوصف الأحوال السياسية والاجتماعية والأدبية، فى العهد الطولوني، وقد اعتمد زيدان فى هذه الرواية التاريخية على المزج بين خياله وبين الوقائع التاريخية التى اعتمد فى ذكرها على مرجعين رئيسيين كما ذكر وهما: تاريخ المقريزي، وتاريخ التمدُّن الإسلامي.
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: تاریخ الإسلام فى التاریخ من خلال
إقرأ أيضاً:
أحمد ياسر يكتب: مصر.. التاريخ والعنوان
في خضمّ التعليقات الصاخبة المحيطة بالحرب المدمرة في غزة، ترسخت رواية ساخرة ومُستمرة.. رواية تسعى إلى تصوير مصر كطرف سلبي، أو حتى متواطئ، في معاناة الشعب الفلسطيني.
هذه الإدعاءات الخبيثة، التي تنتشر بسرعة التضليل الإعلامي، ليست تشويهًا عميقًا للحقيقة فحسب، بل هي إهانة لأمة تحملت، تاريخيًا وحاضرًا، أثقل أعباء القضية الفلسطينية… إن المراجعة الموضوعية للحقائق ليست ضرورية فحسب، بل تُعدّ أيضًا دحضًا قاطعًا لهذه الحملة من التضليل الإعلامي.
(أولا)يتمحور أكثر هذه الادعاءات خبثًا حول معبر رفح الحدودي، الذي يُصوّر بشكل غير نزيه على أنه دليل على "حصار" مصري، هذه الإدعاء مُفلس فكريًا… فمعبر رفح هو حدود دولية بين دولتين ذات سيادة، (مصر وفلسطين) ، تحكمها اتفاقيات دولية واعتبارات أمنية وطنية عميقة، لا سيما في ظلّ معركة مصر الطويلة والمكلفة مع الإرهاب في سيناء.
فهو ليس نقطة تفتيش داخلية متعددة؛ بالنسبة لغزة، فهي البوابة الوحيدة إلى العالم التي لا تسيطر عليها إسرائيل.. إن مساواة إدارة مصر المنظمة لحدودها السيادية بالحصار العسكري والاقتصادي الشامل الذي تفرضه إسرائيل - الذي يسيطر على المجال الجوي والساحل والمعابر التجارية لغزة - هو تحريف متعمد وخبيث للمسؤولية.
والحقيقة هي أنه منذ بداية هذه الأزمة، لم يكن معبر رفح حاجزًا، بل الشريان الرئيسي للمساعدات المنقذة للحياة، وهو شهادة على الالتزام المصري، وليس رمزًا للعرقلة.
(ثانيا) هذا يقود إلى الزيف الثاني: فكرة أن الدعم الإنساني المصري كان غائبًا… يتلاشى هذا الادعاء أمام الأدلة الدامغة، منذ اليوم الأول، نسقت مصر عملية لوجستية واسعة النطاق ومتواصلة، وقد سهلت الدولة المصرية، بالتنسيق مع الهلال الأحمر المصري وجهات وطنية أخرى، دخول الغالبية العظمى من جميع المساعدات الدولية المقدمة إلى غزة.
نحن لا نتحدث عن لفتات رمزية، بل عن آلاف الشاحنات المحملة بالغذاء والماء والوقود والإمدادات الطبية الأساسية. نتحدث هنا عن مستشفيات ميدانية مصرية أُقيمت على الحدود، وعن آلاف الجرحى الفلسطينيين والأجانب الذين دخلوا لتلقي العلاج في المستشفيات المصرية.
لقد تكبدت الخزينة المصرية ثمنًا باهظًا جراء هذا الجهد الضخم، وأثقل كاهل بنيتنا التحتية اللوجستية والأمنية إلى أقصى حد، وبينما قدّم آخرون كلماتهم، قدّمت مصر شريان حياة، مُقاسًا بالعدد وبالأرواح التي أُنقذت.
وأخيرًا، يكشف نقد الجهود الدبلوماسية المصرية عن سوء فهم جوهري لواقع الوساطة الإقليمية القاسي. . إن اتهام مصر بالتقصير الدبلوماسي يتجاهل حقيقة أن القاهرة من العواصم القليلة جدًا في العالم التي يُؤتمن على التحدث مع جميع الأطراف.
هذا ليس تواطؤًا؛ بل هو العمل الأساسي والمضني لصنع السلام…تعمل الأجهزة الأمنية المصرية والقنوات الدبلوماسية بلا كلل للتوسط في وقف إطلاق النار، والتفاوض على إطلاق سراح الرهائن والسجناء، ومنع اندلاع حرب إقليمية أوسع نطاقًا.
علاوة على ذلك، ترتكز الدبلوماسية المصرية على مبادئ راسخة… لقد كان الرئيس عبد الفتاح السيسي واضحًا لا لبس فيه في التعبير عن خطين أحمرين أساسيين لمصر:
١- الرفض القاطع لأي تهجير قسري أو طوعي للفلسطينيين من أرضهم.
2- المطالبة الثابتة بحل الدولتين على أساس حدود عام 1967…هذه ليست مواقف سلبية؛ بل هي مبادئ أمنية وطنية راسخة وفعّالة وجهت أفعال مصر، ووضعتها أحيانًا في خلاف مع مخططات جهات فاعلة عالمية أقوى.
سيكون التاريخ هو الحكم النهائي، وسيُظهر سجله أنه بينما انغمس الآخرون في الغضب الاستعراضي والتظاهر السياسي، كانت مصر على الأرض، تُدير الحدود، وتُسلم المساعدات، وتُعالج الجرحى، وتُشارك في دبلوماسية حل النزاعات الجائرة والمرهقة…
و تتلاشى الادعاءات الخبيثة عند مواجهة وطأة أفعال مصر. ونقول للجميع أن التزامنا ليس محل نقاش؛ إنه مسألة مُسجلة تاريخيا..