في مشهد يتفوق على أفلام هيتشكوك وروايات أجاثا كريستي إثارة وتشويقا ومفاجآت حبس العالم أنفاسه الأسبوع الماضي في دوامة حلزونية من التشاؤم والتفاؤل. بدأت بالتشاؤم التام يوم الرابع من مايو ومعظم الخامس من مايو حيث لا حديث فيه سوى عن انهيار مفاوضات الهدنة بين حماس وإسرائيل بوساطة مصرية - قطرية وهندسة وإشراف أمريكي.

انتقلت إلى التفاؤل التام مساء ٥ مايو عندما سجلت المقاومة هدفا استرتيجيا قلبت به الموازين بإعلان غير متوقع لقبول مقترح الهدنة. تفاؤل وصل لدرجة خروج الجماهير في غزة في الشوارع ابتهاجا وخروج عائلات الأسرى في إسرائيل للشوارع أيضا مُطالِبَةً نتنياهو بقبول ما وافقت عليه حماس.

انتقل العالم مع عدم قبول نتنياهو المقترح الذي كان مطلعا عليه عبر الوسطاء ولكن في الوقت نفسه تفاديه إغلاق الباب تماما بإعلانه إرسال وفد للتفاوض من جديد على الاتفاق.. انتقل إلى حالة مرتبكة بين التفاؤل الذي أشاعه الأمريكيون عن فجوات محدودة يمكن جسرها بين الطرفين وبين التشاؤم من إعلان نتنياهو أن اقتحام رفح سيتم باتفاق أو بدونه.

بعد يومين من المفاوضات عدنا إلى نقطة الصفر وأهدر التعنت الإسرائيلي جهد شهور في المفاوضات وانهارت المفاوضات وساد التشاؤم بعد أن غادر وفد حماس ووفد إسرائيل وحتى وليام بيرنز نفسه، فقد الثقة في قدراته السحرية وأصابه اليأس راحلا عن المنطقة بعد إقامة مكوكية فاشلة بين القاهرة والدوحة والقدس المحتلة.

لكن الأخطر من عملية «البسترة» السياسية بين حرارة التفاؤل وبرودة التشاؤم، والأكثر إثارة للدهشة هو ما بدا أنه تحويل لمشهد الحرب والمفاوضات إلى مشهد سريالي وعبثي بامتياز. تمثل هذا المشهد في عدم حدوث كل المواقف البديهية والمنطقية من الولايات المتحدة والوسطاء والتي كان يفترض أن ترد على احتقار إسرائيل لجهودهم برفضها الاتفاق الذي سبق وأن وافقت عليه في الكواليس.. وكذلك عدم حدوث كل المواقف البديهية والمنطقية التي كان يُفترض، أيضا، أن تعقب اقتحام إسرائيل العسكري لرفح واستيلائها على معبر رفح والذي يهدد حياة عشرات، وربما مئات الألوف، من المدنيين الفلسطينيين الذين تكتظ بهم، خاصة وأن هذا الاقتحام اعتبر باستمرار خطا أحمر سواء من الأمريكيين والعرب بل والمجتمع الدولي.

في هذا المقال محاولة للتفكير بصوت عال مع القارئ حول أسباب هذا المشهد الذي بدا هزلا في مقام الجد، خاصة في حرب يقترب فيها نحو مليون شخص إلى حافة الموت جوعا ويقترب عدد شهدائها ومصابيها ومفقوديها إلى نحو ١٥٠ ألفا من الفلسطينيين أغلبيتهم الساحقة من النساء والأطفال وكبار السن.

١- الوسطاء العرب المباشرون وغير المباشرين: كان منطقيا وبديهيا أن يسارع الوسطاء الذين كانوا طرفا في الاتفاق وفي الضغط على حماس لتقبل به أن يخرجوا ليدينوا علنا وبحسم في مؤتمر صحفي أو بيانات رسمية ما قامت به إسرائيل من رفض للاتفاق وقد قبلته حماس. لكن ذلك لم يحدث بل وحتى لم يردوا عن أنفسهم التهمة التي لمّحت إليها مصادر إسرائيلية بأنهم -أي الوسطاء- تلاعبوا بالنص المتفق عليه وغيروا فيه دون إطلاع الطرف الإسرائيلي.. فالجميع يعلم أن وليم بيرنز كان يُطلع نظيره الإسرائيلي، رئيس الموساد دافيد برنياع، بكل تطور في المفاوضات أولا بأول.

بدلا من ذلك أبدوا استعدادهم للتفاوض من جديد وعُقدت جولة المباحثات الأخيرة التي انتهت إلى الفشل بعد أن طلب الإسرائيليون تعديلات أعادت الأمور إلى نقطة الصفر ودمرت معها معظم ما اتفق عليه في باريس في الأشهر الأربعة السابقة.

موقف سلبي عربي امتنع عن التنديد بالتّجبر والاستهتار الإسرائيلي المتمثل في رفض الاتفاق وامتنع عن إعطاء مرونة ومسؤولية حماس في موافقتها عليه ما تستحقه جهرا من تقدير وإشادة. هذا الموقف يؤكد أن دور معظم وحدات النظام العربي الرسمي هو دور «وظيفي» حدد لها سلفا في إطار الاستراتيجية الأمريكية للتعامل مع حرب طوفان الأقصى منذ السابع من أكتوبر. فبعد أن أسلمت الدول العربية كل مفاتيح التعامل مع الأزمة إلي واشنطن حصرتها الأخيرة في أدوار تحقق هدفها الاستراتيجي في سحق المقاومة وتمكين إسرائيل من الاستفراد بها. مثل أدوار الحوار مع طهران والمحور الإقليمي المرتبط بها والضغط عليهم لمنع اتساع نطاق الحرب الذي تخشاه أمريكا أشد الخشية.. أو في لعب دور الوساطة المحايدة بين المقاومة الفلسطينية وهي طرف عربي مثلهم ومع إسرائيل وهي عدو لأمنهم القومي يستوي عندهم الطرفان مثلهم في ذلك مثل أي دولة غريبة من خارج المنطقة. في هذا الدور الوظيفي تكون حرية الحركة محدودة وردود الفعل المتوقعة في موقف من المواقف مقيدة بالطرف المهيمن على قواعد اللعبة... الطرف الذي يظل يطلب منك الدوران في الساقية نفسها وأداء أدوار الوساطة نفسها وممارسة النفوذ لصالح استراتيجيته التي هي منحازة بالكلية لدولة الاحتلال والعدوان!

٢- الانتخابات الأمريكية وخيارات بايدن المؤلمة:

كان متوقعا - نظريا - وقد تحدى نتنياهو هيبة الولايات المتحدة وأهان هيبتها برفضه اتفاقا هندسته هي بكل محاوره من جهة وتحتاج إليه إدارتها الحالية أشد الاحتياج في عام الانتخابات الرئاسية الحاسم من جهة أخرى.. أن يعاقب الرئيس بايدن إسرائيل ويتخلى عنها وعن موقف الانحياز السياسي المطلق والدعم العسكري غير المسبوق في تاريخ العلاقات بينهما لكن بايدن ارتبك ارتباكا شديدا وفعل الشيء وعكسه في الوقت نفسه بل واليوم نفسه. يعود ذلك إلى واقع أن الرئيس الأمريكي الأكثر صهيونية في التاريخ -بتعبير إسرائيلي - واقع بين خيارات أحلى ما فيهما مرٌّ فانفجار ثورة الجامعات الأمريكية ضد حرب الإبادة الجماعية التي تمولها حكومتهم بالمال والسلاح وفقدانه المتوقع أخلاقيا لأصوات الشباب الأمريكي وأصوات التيار المدني الحقوقي وأصوات الناخبين العرب والمسلمين الأمريكيين جعله يوقف مؤقتا شحنة سلاح لإسرائيل ويعترف بأن إسرائيل استخدمت السلاح الأمريكي في قتل مدنيين وشجع إدارته على تقديم تقرير للكونجرس يرجح -ولكن لا يقطع - بأن الجيش الإسرائيلي في حملته الدموية على شعب غزة استعمل السلاح الأمريكي بصورة تنتهك وتخالف القانون الدولي أي ارتكب جرائم حرب. لكن الجمهوريين وعلى رأسهم ترامب اتهموه بأنه رئيس ضعيف خضع للتقدميين في حزبه وفي المجتمع وخان الحليف الأهم في الشرق الأوسط. ترافق مع ذلك التهديد الضمني والابتزاز العلني غير المسبوق دبلوماسيا لبايدن من السفير الإسرائيلي في الأمم المتحدة باحتمال خسارة أصوات وأموال اليهود واللوبي الصهيوني في الانتخابات وتجييشها لمنافسه المحتمل ترامب.

بين خوفه من خسارة التيار التقدمي في حزبه الديمقراطي وتيار الحقوق المدنية والعرب والمسلمين وخوفه من خسارة أصوات الناخبين اليهود الذين يصوتون تاريخيا تقليديا لمرشح الحزب الديمقراطي وأصوات التيار المسيحي الصهيوني المتنامي في السياسة الأمريكية حذرت الإدارة الأمريكية إسرائيل إن دخلت رفح بمراجعة شاملة للعلاقات وبأنها ستعيد النظر في مسألة إمدادها بالأسلحة وفي الوقت نفسه فعلت العكس تماما لدرجة تحريضها على دخول رفح دون أن تخشى عقابا فقد صرح أركان الإدارة أن من حق إسرائيل المضي قدما في مسألة القضاء على حماس وأن بايدن وجه إدارته للتعاون مع إسرائيل في تحقيق ذلك. وعبرت مصادر الإدارة خاصة البنتاجون عن تعاطف مع حق إسرائيل في تفكيك ما تزعم أنه ٤ كتائب عسكرية فاعلة باقية لحماس في رفح وحقها في السيطرة على معبر رفح لمنع ما تزعم أنه عملية تهريب الأسلحة إلى حماس عبر الأنفاق مع أنه انتهاك صريح لمعاهدة السلام مع مصر. بل تساوقت واشنطن في نفاق أخلاقي كامل مع السردية الإسرائيلية الكاذبة عن أن حماس والوسطاء أضافوا تعديلات على الاتفاق من وراء ظهر إسرائيل رغم أن الاتفاق صنعه وليم بيرنز بنفسه.

مصادر أمريكية استخدمت الإعلام لتحميل المقاومة مسؤولية انهيار مباحثات القاهرة بتسريبات غير صحيحة عن أن حماس طرحت تعديلا في ٧ مايو يطيل زمن المرحلة الأولى من ٦ أسابيع إلى ١٢ أسبوعا. المثير للسخرية أن حماس كانت أعلنت موافقتها على الاتفاق كما هو في ٥ مايو دون أي تعديل.

لم تخسر المقاومة شيئا من قبولها الاتفاق، بل على العكس فقد وضعت الإسرائيليين والأمريكيين في مأزق أمام الرأي العام العالمي وحافظت على قوة الدفع في الحركة الطلابية والشعبية المعادية لحرب الإبادة الإسرائيلية في غزة والضفة الغربية.. وفي الوقت نفسه لم تُلقِ سلاحها وترفع الراية البيضاء كما أراد بايدن ونتنياهو.

حسين عبد الغني إعلامي وكاتب مصري

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: فی الوقت نفسه

إقرأ أيضاً:

3 أدوات ضغط استخدمها الاحتلال ضد حماس في غزة وارتدت عليه

أكد جنرال إسرائيلي، أن أدوات الضغط التي حاولت تل أبيب استخدامها ضد حركة حماس في قطاع غزة، ارتدت بشكل عكسي، بفعل استخدامها بشكل غير صحيح أو لفترة طويلة جداً.

وأوضح الجنرال دورون هدار، القائد السابق لوحدة الأزمات والمفاوضات في الجيش، أنه "بعد عامين تقريبا من القتال العنيد، ومع عيون مفتوحة، أوصلت تل أبيب نفسها لمستوى جديد من الانحدار متمثلاً بتجويع المدنيين الفلسطينيين في غزة، ما خلق صورا صادمة في مختلف أنحاء العالم، وإدانات دولية من كل حدب وصوب، وخمسين مختطفاً لم يعودوا لذويهم، ونزيف الجنود في حرب متفجرات".

وأضاف في مقال نشرته القناة 12، وترجمته "عربي21" أنّ "إسرائيل في محاولة للهروب من الضغوط الدولية أعلنت عن "هدنة إنسانية" في غزة، دون أن تتلقى رهينة واحدة في المقابل، فكيف وصلت لهذا الوضع، طالما أن الروافع هي أدوات في المفاوضات مصممة للتأثير على مصالح ودوافع الطرف الآخر، وتنقسم إلى "العصا والجزرة"، الأولى هي أدوات الضغط، والثانية هي أدوات المكافأة".



وأشار إلى أن "الرافعة في المفاوضات يجب أن تكون مرتبطة بشكل مباشر بالمفاوضات، وأن تكون ذات معنى، وبالتالي فعالة، ومن المستحسن أن يتم تعظيم السيطرة عليها، ولكن منذ السابع من أكتوبر، تعمل إسرائيلي على عدة أدوات من أجل دعم ومساعدة عملية التفاوض من أجل عودة كافة المختطفين، وإن جميع هذه الروافع مترابطة ومؤثرة على بعضها، ما يخلق تعقيدًا إضافيًا في إدارة الحرب".

أدوات الضغط
وبيّن أن "الرافعة الرئيسية هي استخدام القوة العسكرية، التي تهدف إضافة لتدمير عناصر حماس وبنيتها التحتية إلى خلق "ثمن خسارة"، وبلغ هذا النفوذ ذروته أواخر 2024، حيث شهدت حماس العديد من الاغتيالات والغارات، وكانت معزولة تمامًا على المستوى الدولي، وعقب خطة "عربات غدعون"، التي هدفت للاستيلاء على الأراضي، وفصل السكان عن الحركة، نشأ احتكاك كبير بين الجيش والجمهور في غزة، وفي الوقت نفسه سمح للحركة باستغلال العديد من الفرص العملياتية لإلحاق الضرر بقوات الجيش".

وأكد أنه "بسبب بقاء القوات ثابتة في المناطق الخاضعة لسيطرتها في غزة جاءت النتيجة المباشرة هي سقوط عدد كبير من القتلى في صفوف الجنود، معظمهم نتيجة العبوات الناسفة ونيران مضادات الدبابات، وبجانب ذلك كله صعوبات كبيرة يواجهها الفلسطينيون، ومن الواضح لكل من يفهم المهنة العسكرية أن الرهائن الأحياء لا يمكن إطلاق سراحهم إلا من خلال صفقة، وليس من خلال النشاط العسكري".

ولفت إلى أن "الرافعة الثانية هي خلق الضغط على الفلسطينيين، وبالتالي الضغط على قيادة حماس في غزة، الجزء الأول حدث ويحدث، الضغط على السكان كبير، ما يخلق صوراً صعبة في العالم، وضغوطاً دولية على تل أبيب لوقف الحرب، وزيادة المساعدات الإنسانية، وفي الواقع العملي فإن الضغط الشعبي على حماس ليس فعالا".



وذكر أن "الرافعة الثالثة هي الدولية، ففي الأشهر الأولى بعد هجوم السابع من أكتوبر، حصلت إسرائيل على شرعية دولية واسعة، ما سمح لها بتنفيذ مناورة "قطع الأشجار" في القطاع، وشملت اغتيالات، وتدمير البنى التحتية، والتدمير الكامل للعديد من المساحات، مع القيام بنشاط توعوي يشرح أهمية وضرورة هذه الأعمال، أما اليوم فإن الواقع هو العكس، فقد تم استبدال الشرعية بنزعها، وتراجعت أنشطة رفع الوعي، وتضاءلت القدرة على تفسير ضرورة التكتيكات العسكرية المتبعة حالياً".

وأضاف أن "الظروف المعيشية للفلسطينيين التي يتم تغطيتها بشكل واسع في وسائل الإعلام العالمية، يجعل من الصعب على تل أبيب إيصال رسائلها وتفسيراتها، ففي نهاية المطاف، صورة واحدة لطفل في محنة أقوى من ألف تفسير، ولن يكون من المفيد لإسرائيل أن تشرح أن المساعدات الإنسانية تدخل القطاع، في حين أن هناك جوعاً في الواقع".

وختم بالقول إن "المفاوضات في الدوحة تستمر، وحماس تستمر في استمداد القوة من الإدانات الدولية لإسرائيل، ورفع الأثمان عليها، ما يستدعي منها التوجه نحو اتفاق كامل وشامل الآن، وإلا فإن هاوية عميقة ستنفتح لم يشهد مثلها من قبل، وتتمثل في نهاية قسرية للحرب دون عودة المختطفين".

مقالات مشابهة

  • إسرائيل تُقدّم مقترحًا جديدًا للوسطاء
  • جولة جديدة خلال أيام - صحيفة: حراك وتكثيف لمحاولات إحياء مفاوضات غزة
  • حماس تربط المفاوضات بتحسن الوضع الإنساني في غزة
  • حماس للوسطاء: لا مفاوضات قبل تحسين الوضع الإنساني في غزة
  • حسام الغمري: الخائن «خليل الحيّة» يُصوّر نفسه على أنه بطل |فيديو
  • إسرائيل: نجري مفاوضات إيجابية مع سورية
  • مفاوضات غزة: الوسطاء سلّموا حماس اعتراضات إسرائيل على ردّها.. ما هي؟
  • 3 أدوات ضغط استخدمها الاحتلال ضد حماس في غزة وارتدت عليه
  • نتنياهو يحمل حماس مسؤولية إفشال المفاوضات
  • كواليس مفاوضات وقف النار في غزة وأسباب انقلاب إسرائيل