التحديات الرقمية.. بين التنميط والخصوصية
تاريخ النشر: 20th, May 2024 GMT
كثيرا ما تصلنا مقاطع متعددة المصدر لمحاكاة مقطع مرئي أصبح موضوعًا لوسائل التواصل الاجتماعي عالميًا، خاصة «التيك توك» التطبيق الأكثر انتشارًا بين الشباب في كثير من دول العالم، ولا ينبغي الاعتقاد بأن كل ما قد يصدر عن هذه التطبيقات هو شر بالضرورة، أو التوهم بأن كل ما يصلنا منها هو خير كذلك، لكن اليقين أنها تنميطات لقوالب متشابهة تحمل كثيرًا من التسطيح والإلهاء وقليلًا من الخير ونشر الوعي، ولعل من القليل الخيّر ما انتشر مؤخرًا من رسائل توعوية حول قضية الشعب الفلسطيني وما نتج عنها من «ترندات» عالمية تدعم حق الشعب الفلسطيني في الحياة وفي العودة للوطن، وما تمخّض عن كل ذلك من مناشدات لمقاطعة الشركات الداعمة للكيان الصهيوني أو حتى تلك المتوافقة مع سياساته، بل إن بعضها تجاوز كل ذلك إلى الدعوة لمقاطعة كل المشاهير الصامتين عن دعم الشعب الفلسطيني أو أولئك المروجين لأي شركة داعمة للاحتلال الإسرائيلي.
هذه الدعوات الشبابية بدأت من غزة ذاتها في أكتوبر من العام الماضي واستمرت لتنطلق من دوائر مركزية تحمل الوعي ذاته والرسالة ذاتها، بل قد تتجاوزه لوعي أعمق يسعى لتغيير السرديات الدعائية لمزاعم إسرائيل ومحاولتها الدائمة الربط بين الديانة اليهودية وبين الكيان الإسرائيلي وسياساته، هذه المنطلقات الدولية اختلفت في موقعها لتشمل أوروبا وأمريكا وبريطانيا وروسيا والصين واليابان وغيرها من دول العالم الحر المؤمن بالإنسان قضية لا جدال فيها، ولا مراء حول ضرورة دعمها دعما مستحقا، وتأييدها تأييدا ثابتا انتصارا للإنسانية وشرعية حق الناس في الأرض والأمن والخدمات بعيدا عن أي تمييز عرقي، أو تهميش مناطقي، أو حسابات نفعية اقتصادية أو سياسية، هذا الانتصار هو تأكيد لضمان ألا يمر هذا المدافع الواعي اليوم في أي دولة بمثل هذه المعاناة مستقبلا فيندم على صمته أوان الحاجة لصوته وإعلاء حجته المعرفية على المنافع الآنية والمصالح المرحلية.
وكما أن انتشار الوعي المجتمعي العالمي مثال معاصر على أهمية وإيجابية هذه المنصات المفتوحة، فإن للتنميط وانتهاك الخصوصية أمثلة عديدة، منها ما تجاوز انتهاك الخصوصية إلى انتهاك الحق بالحياة لمّا صارت هذه الرسائل -المضمنة في «ترندات» وتحديات مواقع التواصل الاجتماعي- وسائل تحريض على المغامرة بالحياة وإنهائها حين يتلقاها جمهور من المراهقين منهم من بلغت به المحاكاة حدّ التعمية والتضليل ليقع فريسة للاكتئاب، ومن ثم الرغبة بالانتحار أو حتى الإقدام على الانتحار فعليًا سواء قصده أم لم يقصده، ومن ذلك ما نشرته وسائل الإعلام من أن مراهقًا يدعى هاريس ولوباه تناول شريحة تورتيلا تحتوي على تركيز عالٍ من مركب كيميائي موجود في الفلفل الحار، توفي بنوبة قلبية في سبتمبر الماضي، وكان ولوباه يعاني من عيب خلقي في القلب، يحاول تجربة «تحدي شريحة واحدة» من الرقائق الحارة للغاية، وعندما تناول شريحة التورتيلا المتبلة بكل من فلفل كارولينا ريبر وفلفل ناجا فايبر أصيب بجلطة قلبية، ورغم تأكيد البعض بأن التحدي كان مخصصا للبالغين والأصحاء إلا أن إمكانية حظر التحدي على الأطفال والمراهقين أشبه بالمستحيل في عالم «الترندات» الجماعية التي تسري بين الشباب سريان النار في الهشيم، وهو ما نلاحظ مع مختلف مضامين التحديات السطحية الساعية لإلهاء الشباب عن الوعي الحقيقي بقضاياه المصيرية وإشغاله بقضايا استهلاكية عابرة، بل قد تتجاوز تحدي «الترند» الهندي مؤخرًا إلى تحديات أكثر خطورة كما حصل مع ولوباه المغامر بحياته بالتهامه الرقائق الحارة.
أما الخصوصية فانتهاكها صار أمرًا مألوفًا في البيوت وبين أفراد الأسرة، بل حتى في عقر غرف النوم الأكثر خصوصية وحميمية، وقد يضع بعضهم لذلك مبررات مختلقة مثل التنبيه حول مشكلة ما أو التسويق لمنتج ما، أو حتى مجرد «الفضفضة» للمتابعين والمعجبين مع إضمار نية انتهاك الخصوصية المتعمد استجلابًا لمزيد من المشاهدات والمتابعين ولمساحات من الشهرة المأمولة، وضمن ذلك ما وصلنا خلال أسبوع واحد من مقاطع لمراهقين كان الهدف المعلن منها التحذير من تصرفات خاطئة لهؤلاء المراهقين، بين مشهد عنف مرفوض يمارسه مراهق على زميل له، وآخر لمجموعة من المراهقين يتراقصون ساخرين في قلب المسجد، وبعيدا عن قناعة الجميع بالخطأ المتفق عليه في المقطعين إلا أنه من غير العدل عدم الانتباه إلى انتهاك خصوصية هؤلاء المراهقين بنشر مقاطعهم دون إخفاء هوياتهم، مع ما في ذلك من إمكانية تعرضهم جميعا للأذى النفسي والاجتماعي بسبب نشر هذه المقاطع، متغاضين عن أن هذه التصرفات الناتجة عنهم في هذه المرحلة العمرية يمكن تقويمها ومحاسبتهم عليها، لكن من سيعوضهم حينها عما قد يصيبهم من أذى نفسي أو أسري أو مجتمعي جرّاء انتهاك خصوصيتهم وتعريضهم لشهرة سلبية قد تودي بإمكانية إصلاحهم فضلا عن إمكانية تجاوزهم آثارها النفسية؟
ختامًا؛ نكرر ما كنا قد أكدناه في أكثر من مقالة على ضرورة الحذر في التعامل مع التطبيقات الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي، وليتأنَ كلُّ منا قبل المسارعة لنشر مقطع مرئي أو صوتي سعيًا لتوثيق سبق شخصي على حساب هدم شخصية إنسان، أو تعريض سمعته ومستقبله لخطر التجريح والتدمير، كلنا مُعرّض لذلك التشهير ولو بعد حين ما دامت الأجهزة الذكية أسلحة الجميع في اختراق خصوصيتنا وحرمة دورنا ويومياتنا.
حصة البادية أكاديمية وشاعرة عمانية
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
المسار المزدوج: مستقبل “شات جي بي تي” بين تسارع النمو وتشابك التحديات
المسار المزدوج: مستقبل “شات جي بي تي” بين تسارع النمو وتشابك التحديات
منذ إطلاقه في 30 نوفمبر 2022، تحوّل “شات جي بي تي” (ChatGPT) من روبوت محادثة تجريبي إلى ظاهرة عالمية تعيد صياغة العلاقة بين الإنسان والآلة، وتفرض على العالم نمطاً جديداً من التفكير والمعرفة والعمل. ومع تجاوز التطبيق 700 مليون مستخدم نشط أسبوعياً، لم يعد السؤال المطروح يدور حول كيفية استخدام هذه التكنولوجيا، بل حول كيفية احتواء آثارها وتوجيهها وإعادة هندسة الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية لاستيعابها، ولا سيّما مع الانتشار الجماهيري لهذا التطبيق الذي حمل تأثيرات ممتدة من التقنية إلى الاقتصاد والتفاعلات الاجتماعية والخطابات السياسية والتحديات الأمنية، خصوصاً مع إطلاق وكيل “شات جي بي تي” في العام الحالي والذي يعمل بشكل مستقل واستباقي؛ ليقدم مستوى جديداً من إدارة المهام ومن التحديات أيضاً في عصر الأنظمة الذكية متعددة الوكلاء.
صعود متدفق:
شكّل “شات جي بي تي” منذ الأيام الأولى لإطلاقه، حالة انتشار هائلة لا يمكن مقارنتها بأي تقنية معاصرة؛ إذ جذب مليون مستخدم في غضون خمسة أيام فقط، ثم 100 مليون خلال شهرين. وتحول التطبيق بسرعة إلى مرجع للذكاء الاصطناعي التوليدي، ليس فقط لأنه الأوسع انتشاراً؛ بل لأنه أصبح الاسم الذي يُستخدم للدلالة على النوع كله، وهو أمر نادر في تاريخ البرمجيات، ويشير إلى أن النموذج لم يكن مجرد منتج تقني، بل علامة ثقافية انتشرت عالمياً. وقد سجّل التطبيق، في عام 2025، أكثر من 700 مليون مستخدم نشط أسبوعياً، و5 ملايين مشترك مدفوع، وأكثر من 3 مليارات رسالة يومياً؛ وهي أرقام كشفت عن تحول عميق في سلوك الجمهور نحو الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في المهام اليومية، سواء أكانت أكاديمية أم مهنية أم شخصية.
وعلى المستوى التقني، تطورت بنية “شات جي بي تي” من نموذج نصي محدود القدرات في إصدار (GPT-3.5) إلى أنظمة متعددة الوسائط مثل (GPT-4o) و(GPT-5)؛ القادرة على فهم الصوت والصورة والفيديو واللغة الطبيعية بدرجة تقترب من الإدراك البشري. وقد أصبح بإمكان المستخدم إجراء حوار صوتي فوري مع النموذج، وتكليفه بالتحليل، والبحث، والكتابة، وتوليد المحتوى البصري، وإتمام المهام المعقدة عبر “وكلاء أذكياء” قادرين على تنفيذ سلسلة من الخطوات دون تدخل بشري مباشر.
وقد صدرت ورقة عمل عن “المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية” (NBER) أعدها فريق البحث الاقتصادي في شركة “أوبن إيه آي” (OpenAI)، المالكة لخدمات “شات جي بي تي”، بالتعاون مع الخبير الاقتصادي بجامعة هارفارد، ديفيد ديمينغ، شملت تحليل 1.58 مليون رسالة من محادثات 130 ألف مستخدم؛ بهدف تتبع تطور استخدام المستهلكين للذكاء الاصطناعي منذ إطلاق “شات جي بي تي” قبل ثلاث سنوات. وتوصلت إلى أن الكتابة هي الأكثر شيوعاً بين المستخدمين في المهام المتعلقة بالعمل، وأنها تمثل إلى جانب البحث عن المعلومات والإرشادات العملية ما يقارب من 80% من المحادثات، كما كانت استخدامات العمل 30% فقط؛ وهو ما يكشف عن تغلغل استخدام التطبيق في تفاصيل الحياة اليومية الشخصية، ويلفت الانتباه إلى تأثيره الاجتماعي والنفسي، وتوغله في صميم النشاط المعرفي اليومي لمختلف الفئات العمرية والمهنية؛ ما يؤدي إلى إعادة تعريف دور التكنولوجيا بوصفها شريكاً معرفياً وعاطفياً، وليس مجرد أداة.
ومن الناحية الاقتصادية، أحدث “شات جي بي تي” تحولاً غير مسبوق في مسار شركة “أوبن إيه آي”؛ إذ ارتفعت قيمتها من نحو 29 مليار دولار في عام 2023 إلى ما يقارب 500 مليار دولار في عام 2025، مدفوعة بجولات تمويل ضخمة بلغت 40 مليار دولار، وتقييم ما بعد التمويل وصل إلى نحو 300 مليار دولار. كما توسعت الشركة عبر استحواذات استراتيجية، شملت شركة “ويندسيرف” (Windsurf) وشركة “آي أو” (io)، ووقّعت عقوداً حكومية كبرى، أبرزها عقد مع وزارة الحرب الأمريكية بقيمة 200 مليون دولار. وفي الوقت نفسه، عززت “أوبن إيه آي” بنيتها التحتية التقنية بالاعتماد على موارد حوسبية مقدمة من شركات كبرى مثل “مايكروسوفت” (Microsoft) و”أوراكل” (Oracle) و”كورويف” (CoreWeave) و”غوغل كلاود” (Google Cloud)؛ ما أتاح لها تنويع مزوديها ورفع قدراتها التشغيلية.
وبذلك لم يكن صعود “شات جي بي تي” مجرد توسع تجاري؛ بل أسهم في إعادة تشكيل خريطة المنافسة العالمية في مجال الذكاء الاصطناعي، مع بروز منافسين مثل “جيميناي” (Gemini) و”ديب سيك” (DeepSeek) و”كلود” (Claude) وغيرها، وإن ظل “شات جي بي تي” الأكثر انتشاراً وحضوراً وتأثيراً بين المستخدمين.
الوجه الآخر:
بعد مرور ثلاث سنوات أظهر فيها “شات جي بي تي” قدرة استثنائية على الانتشار والتأثير، فقد كشف في الوقت ذاته عن تحديات بنيوية تتعلق بالدقة، والخصوصية، والحقوق الفكرية، والبيئة، وتوازن القوى في الفضاء المعلوماتي العالمي؛ ليطرح أسئلة أخلاقية وسياسية عميقة حول التحكم والمساءلة والاعتماد الزائد.
وقد واجه “شات جي بي تي” عدداً من التحديات الجوهرية التي تراكمت خلال السنوات الثلاث الماضية، وتنوعت بين قضايا قانونية وأخلاقية وبيئية واجتماعية؛ حيث أصبح طرفاً في 20 دعوى قضائية خلال الفترة من يونيو 2023 وحتى إبريل 2025، يتعلق أغلبها بحقوق الطبع والنشر، بينها 12 قضية دمجتها المحاكم الأمريكية في مانهاتن، تتهم الشركة باستخدام محتوى محمي بحقوق النشر دون إذن، وكذلك تجاوز “جدران الدفع” (Paywalls) الخاصة بمواقع صحفية مثل “نيويورك تايمز” (New York Times) التي طالبت التطبيق بالإفصاح عن 20 مليون محادثة تثبت ذلك بما يوقع ضرراً مباشراً عليها، إضافة إلى دعوى شركة “زيف ديفيس” (Ziff Davis) ودعاوى دولية في البرازيل وكندا والهند وقضية ألمانية.
وتجلت أيضاً إشكالات الخصوصية، مثل الدعوى الجماعية حول الاستنساخ الرقمي، والدعاوى التي تتعلق بأضرار نفسية نتجت عن استخدام التطبيق، بما في ذلك الحالات المرتبطة بالأفكار الانتحارية، حيث تواجه” أوبن إيه آي” ما لا يقل عن سبع دعاوى قضائية تدّعي أن استخدام “شات جي بي تي” دفع الأشخاص إلى الانتحار أو تسبب في أوهام ضارة.
كما كشفت اختبارات “بي بي سي” (BBC)، في ديسمبر 2024، عن أن 51% من إجابات الذكاء الاصطناعي تضمنت أخطاءً جوهرية أو “هلوسات”، وأن نسبة من الاستشهادات كانت ملفقة أو منسوبة خطأً؛ ما يثير مخاوف حول الاعتماد على النماذج في المجالات الأكاديمية أو الصحفية أو القانونية، بل والطبية مع تزايد الاعتماد على التطبيق في الحصول على النصائح الطبية. وهذا ما وضع الذكاء التوليدي في قلب نقاش عالمي حول الحقيقة والتضليل والمصداقية ومخاطر الاعتماد المفرط على الآلة في إنتاج المعرفة، خاصةً مع المخاطر الجسيمة لانتشار المحتوى المضلل في الفترات الحرجة مثل الأوبئة والحروب؛ وهو ما أفرز تسميات عديدة مثل التلوث الرقمي واضطراب المعلومات، بخلاف الإفراط في حجم المحتوى منخفض الجودة؛ مما أثر سلباً في بيئة المعلومات وخلق تحديات حقيقية أمام الصحافة الجادة والبحث العلمي والتعليم.
ويشير هذا أيضاً إلى التأثير السلبي المحتمل للاعتماد على النماذج اللغوية مثل “شات جي بي تي”، والتي تعيد صياغة المفاهيم المرتبطة بالتعلم والذاكرة والعمل، ليصبح الإنسان محاطاً بشبكة من “الرفقاء الخوارزميين” الذين يتابعون سلوكه وتفضيلاته وخياراته؛ بهدف تحسين جودة الحياة وزيادة الإنتاجية، ولكنه يهدد أيضاً بظهور أنماط جديدة من التبعية التكنولوجية، وتآكل بعض القدرات المعرفية البشرية نتيجة الاعتماد المفرط على النماذج، هذا إلى جانب تأثير تلك التفاعلات المؤتمتة في العلاقات الاجتماعية والمدركات الإنسانية بشأن الذات والعائلة والمجتمع.
ويزيد من تلك الجوانب المعتمة، توظيف “شات جي بي تي” في الانتهاكات الأمنية الضارة. وقد سبق أن أفصحت “مايكروسوفت” عن قيامها بتتبع 300 جهة تهديد، بما في ذلك 160 جهة تابعة لدول من بينها روسيا والصين وإيران وكوريا الشمالية وكوريا الجنوبية وفيتنام، وهي التهديدات التي تم الكشف عن استغلالها أدوات الذكاء الاصطناعي ولا سيّما نماذج اللغة الكبيرة مثل “شات جي بي تي”؛ بهدف الاستعلام عن المعلومات مفتوحة المصدر والترجمة والعثور على أخطاء الترميز وتشغيل مهام الترميز الأساسية. وقد عقدت “مايكروسوفت” شراكة مع “أوبن إيه آي”، أعلنا في إطارها عن تحديد مصادر التهديدات التي استغلت تلك النماذج، والتي كان منها اثنان تابعان للصين والبقية لإيران وروسيا وكوريا الشمالية.
اتجاهات مستقبلية:
في ضوء هذا المسار المزدوج بين النمو المتسارع والإشكاليات المعقدة، يبدو مستقبل “شات جي بي تي” غير مرتهن فقط بقدرته على تحسين دقته أو توسيع نطاق تطبيقاته، بل بقدرته على إعادة تعريف العلاقة بين المستخدم والنظام الذكي باعتباره أكثر من مجرد أداة للإجابة أو المساعدة، ولكن فضاءً تواصلياً جديداً يُعاد فيه تشكيل أنماط المعرفة، وتوزيع السلطة المعلوماتية؛ حيث يشير تطور نماذج (GPT-5) و(GPT-5.1) إلى ظهور نمط جديد من الذكاء التوليدي يتحول فيه النموذج اللغوي إلى بنية إدراكية قادرة على تنفيذ مهام تشبه الأنظمة الخبيرة ونظم دعم القرار في آن واحد.
ومع تطور الواجهات الصوتية والمرئية، يتحول التفاعل مع “شات جي بي تي” من نصوص مكتوبة إلى حوارات متعددة الوسائط، مدعومة بقدرات تحليلية تتجاوز الإدراك البشري في السرعة والنطاق، مع توسع قدرات النماذج اللغوية من نطاق المساعد الفردي إلى منظومات متكاملة من الوكلاء الأذكياء متعددي المهام، وتوظيفهم في إدارة عمليات معقدة من التخطيط وصنع القرار والتفاوض والتنفيذ بطريقة شبه مستقلة. وفي هذا السياق، يُنتظر أن يتجاوز “شات جي بي تي” وظيفته الحالية بوصفه منصة للحوار؛ ليصبح نظاماً تشغيلاً للبيئة الرقمية قادراً على إدارة سلاسل الإنتاج المعرفي والصناعي والاقتصادي، ودعم المؤسسات في اتخاذ قرارات استراتيجية تعتمد على تحليل متغيرات ضخمة في الزمن الفعلي.
وتؤكد ذلك المنافسة المحتدمة بين “أوبن إيه آي” و”جوجل”؛ حيث تعتمد الأولى على نظام الوكلاء، فيما تعتمد “جوجل” عبر “جيميناي” على فلسفة التكامل بين الذكاء الاصطناعي ومحركات البحث وخدمات جوجل السحابية. وإذا كانت “أوبن إيه آي” قد نجحت في بناء قاعدة استخدام جماهيرية واسعة جعلت “شات جي بي تي” بمثابة معيار لهذا النوع من الذكاء؛ فإن “جوجل” تمتلك مصادر بيانات ضخمة قد تمنح نماذجها قدرة أفضل على الربط بين البيانات الحية والمخرجات التوليدية؛ وهو ما يغير نطاق المنافسة لتمتد من مستوى الأداء اللغوي إلى مستوى النظام الكامل وقدرة النموذج على التصرف كوحدة فاعلة داخل بيئات اقتصادية ومؤسسية معقدة.
ومن الناحية السياسية والاقتصادية، يتزايد دور “شات جي بي تي” وغيره من النماذج التوليدية كأدوات مؤثرة في تشكيل الرأي العام، خصوصاً مع تطور قدرات المحاكاة وتخصيص الرسائل السياسية والتحليل الديمغرافي الدقيق؛ وهو ما ينبئ بتفاقم التحديات أمام النزاهة خاصةً في النظم الانتخابية، حيث تتزايد قدرة الأحزاب، والحكومات، والجهات الفاعلة غير الرسمية على استخدام الذكاء الاصطناعي في تصميم حملات تستهدف الأفراد والجماعات؛ ما قد يؤدي إلى استقطاب سياسي مبرمج أو تضليل عالي الدقة بدعم من قدرات التخصيص العميق، تسعى الدول إلى تحجيمه بالضوابط القانونية جنباً إلى جنب مع تطوير تقنيات التحقق والمطابقة.
وعلى صعيد متصل، تعزز تلك التطورات التي تقودها نماذج مثل “شات جي بي تي” تسارع التحول نحو الاقتصادات المعتمدة على نماذج الذكاء الاصطناعي، لتصبح الشركات التي تتبنى الذكاء التوليدي قادرة على مضاعفة إنتاجها بتكلفة أقل؛ مما يعيد تشكيل ميزان القوى الاقتصادية بين الدول، وبما يخلق فجوة جديدة بين الاقتصادات القادرة على الاحتضان التقني وتلك العاجزة عنه؛ الأمر الذي يجعل الذكاء الاصطناعي أحد عناصر القوة الجيوسياسية.
وبالنظر إلى هذه الأبعاد المتشابكة، يبدو مستقبل “شات جي بي تي” معتمداً على قدرته على تطوير مكانته كمعيار عالمي في مجال الذكاء الاصطناعي التوليدي، قادر على الابتكار ضمن إطار واضح من الشفافية والمسؤولية. ويتطلب ذلك تحقيق توازن دقيق بين التطور الوظيفي عبر تقديم خدمات أكثر تخصيصاً وكفاءة، والالتزام بالمتطلبات القانونية والأخلاقية، فضلاً عن مواجهة منافسة متصاعدة في سوق واعدة. كما يستلزم تأمين التمويل الكفيل بتطوير قدراته التقنية وتوسيع بنيته التحتية، وتطبيق منظومات حوكمة صارمة تعزز المساءلة وشفافية الأداء، بما يكفل كسب ثقة المؤسسات الدولية والمستخدمين على حد سواء.