مخيم جباليا وبلدته وقصص البطولة وثورته
تاريخ النشر: 20th, May 2024 GMT
في ظلال طوفان الأقصى “69”
#مخيم_جباليا وبلدته و #قصص_البطولة وثورته
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
لا أستطيع إلا أن أكتب بكل الفخر والاعتزاز والتقدير والاحترام، رافعاً رأسي متشامخاً كشعبي، مزهواً مختالاً بوطني ومدنه ومخيماته وبلداته، معتزاً متشرفاً بشعبي العظيم وأهلي الكماة وناسي الأباة، عن مخيم جباليا الثائر البطل وبلدته العريقة، وسكانه الأصلاء وأهله الأماجد، ومواطنيه الكرام ولاجئيه الأشراف، والنازحين إليه من الوطن والعائدين إليه من الشتات، وعن بلداتهم الأصلية وقراهم المدمرة، وعن أحلامهم بالعودة إليها وأمانيهم باستعادتها والعيش والموت فيها.
وأن أكتب عن أبطاله ورموزه، ومشاهيره وأعلامه، وعائلاته وحمائله، وبطونه وعشائره، وعن أزقته وشوارعه، ومعالمه وحواضره، ومساجده وجوامعه، وتاريخه وأمجاده، وعن صولاته وجولاته، ومعاركه وملاحمه، وعن انتفاضته وحجارته، وشهدائه ورجاله، وصبيته وأطفاله، ونسائه وأمهاته، وعن قصص البطولة وحكايا الثورة، وعن كل ما يتعلق به ويتحدث عنه، ويخلد اسمه ويرسم صورته، وينصف أهله ويقدر سكانه، ويقدم صورته للعالم كله كأعظم مخيمٍ قاوم وقاتل، وصمد وثبت، وواجه وتحدى.
إنه مخيمي الذي فيه ولدت وترعرعت، وفي شوراعه نشأت ودرجت، وفي مدارسه تعلمت ودرست، وفيه عشت وأهلي، وسكنت واخوتي، وتزوجت منه ورزقت فيه ببناتي، وما زلت إليه رغم النفي والإبعاد أنتمي وأنتسب، وأحب وأعشق، وأحن وأشتاق.
فأنا ابن مخيم جباليا، مخيم الصمود والثورة، مخيم البطولة والتحدي، والمقاومة والنضال، المخيم الذي يخشاه العدو ويهابه، ويحسب ألف مرةٍ قبل أن يطرق أبوابه أو يفكر بالدخول إلى أعتابه، وقد عانى منه قديماً وذاق المُرَّ في شوارعه وأزقته صنوفاً، وقتل فيه جنوده وفر منه ضباطه، وعجز عن السيطرة عليه ليلاً سنين طويلة، وبقي يدخله نهاراً على حذر، إذ أن القتل كان يلاحق جنوده في كل مكانٍ، وينال منهم الفدائيون قديماً والمقاومون حديثاً بكل سهولةٍ ويسرٍ.
مخيم جباليا الذي دخله جيش العدو في الأيام الأولى لعدوانه على غزة، ودمر منازله ومساكنه، وأسواقه ومساجده، ومحاله ومخازنه، وقتل الآلاف من سكانه، وشرد عشرات الآلاف منهم إلى لا مكانَ آمنٍ، ولا إلى مناطق إيواءٍ محميةٍ، وقضى على كل مقومات الحياة فيه، إذ قطع عنه امدادات المياه وعطل المجاري، وحرم أهله من مياه الشرب والخبز، ومن السكر والدقيق وكل شيءٍ آخر، وغدت شوارعه المدمرة مبانيها والمبقورة بطونها، والمجرفة كلياً، مليئة بأكوام القمامة، وتغص بالمجاري والمياه العادمة، إذ لا قدرة على تصريفها أو التخلص منها ومعالجتها، لكن أهل جباليا أدركوا أنهم في تحدٍ فصمدوا، وفي مواجهةٍ فثبتوا، فلم يغادره إلا القليل، وبقي صامداً فيه الكثيرون من أهله.
ظن جيش العدو المدجج بكل أنواع السلاح، والمعزز بالدبابات والطائرات، أنه دمر المقاومة في شمال القطاع، وأضر ببنيتها التحتية، وقضى على قدراتها الذاتية، واكتشف أنفاقها ودمرها، وصفى رجالها وشتت قواتها، واستنفذ سلاحها وجفف منابعها، وأنه لم يعد في جباليا البلدة والمخيم مقاومةً تخيف، ولا قدرةً تردع، ولا سلاحاً يوجع، ولا تنظيماً يستعيد قواه ويعيد ترتيب صفوفه، ولن يواجه جيشه فيه أخطاراً حقيقية تهدد حياتهم، وتحبط خططهم، وتفشل مشاريعهم، وتجبرهم على أن يعيدوا جنودهم رفاةً في توابيت، أو جرحى على حمالات المسعفين في السيارات والطائرات.
لكن جباليا هبت من جديدٍ وكأنها في أول المعركة، وانتفضت وكأنها كانت على موعدٍ، تنتظر عدوها وتتربص به، وتستعد له وتتوق لمواجهته، وقد أعدت عدتها وجهزت نفسها، واستعدت لحربٍ جديدةٍ قد تكون أنكى من الأولى وأشد، وأكثر فتكاً بعدوها وتهديداً له، وهو الذي ظن أنه أمن شرها، واطمأن إلى ضعفها، وركن إلى عجزها.
لكنه فوجئ وصدم عندما رأى أنها له بالمرصاد، وقد أثبتت على الأرض وفي الميدان أنها جاهزةٌ برجالها، وأن بنادقها عامرة، وسلاحها وافرٌ، وقرارها حاضرٌ، وفخاخها متقنة، ومصائدها معدة، وحقولها الملغمة كثيرة، وأن قدرتها على لملمة صفوفها وترميم جراحها وإعادة تنظيم نفسها كبيرة، ما أهَلَّها لأن تنال منه وتوجعه، وتوقعه في حبائلها وتخسره، وتدخلها مصائدها وتكبده.
إنها جباليا التي فجرت انتفاضة الحجارة، وأشعلت فتيل الثورة، وحملت شعلتها إلى كل أرجاء فلسطين، وكان منها العقل عماد، والمبحوح محمودٌ، وأبو طاقية خالد، والسيسي حاتم، وإليها لجأ العياش يحيى وفيها أقام، ومنها كان الشهداء الستة، وأبطال الجبهة الشعبية الأوائل، وقوات جيش التحرير الأماجد، ومغاوير فتح وغيرهم من رموز الثورة ورواد المقاومة، الذين جعلوا مخيم جباليا كابوساً لا يطيقه الإسرائيليون، ورعباً لا يتعايش معه شارون وقد كان قائداً للمنطقة الجنوبية، ومصيراً يخشاه جنود النخبة وقادة الفرق الخاصة، الذين كانوا جميعاً يجبنون عن الدخول إليه، والمغامرة في حياتهم في أزقته، بحثاً عن الفدائيين، أو ملاحقةً للمقاومين.
سلام الله عليك أيها المخيم الأعلى الأشم، الأجل الأكرم، وسلام الله على أبنائك وشهدائك ومن ضحى في سبيلك، حفظك الله وأهلك، ورفع قدرك وسما بسكانك، وأيدك بنصره وأمدك بجندٍ من عنده، وسدد رمي رجالك وحمى أبطالك، وجعلك شوكةً في حلق أعدائك، وصخرةً تتحطم عليها معاولهم، وعوض أهلك خيراً ممن فقدوا، ورزقهم من بعدهم نصراً، وأكرمهم بتحرير بلادهم، والعودة إلى ديارهم، إنه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير، وما ذلك عليه سبحانه وتعالى بعزيز.
بيروت في 20/5/2024
moustafa.leddawi@gmail.com
المصدر: سواليف
كلمات دلالية: مخیم جبالیا
إقرأ أيضاً:
مخيم الهول.. قنبلة موقوتة تهدد أمن العراق ومستقبله
بقلم : الحقوقية انوار داود الخفاجي ..
من بين الرمال السورية القاسية، وتحديداً في شمال شرق سوريا، يقع مخيم الهول، الذي تحوّل خلال السنوات الأخيرة إلى ملف شائك ومفتوح في وجه الحكومة العراقية، ومصدر قلق أمني واجتماعي متفاقم. يضم المخيم أكثر من ٥٠ ألف شخص، معظمهم من النساء والأطفال، بينهم آلاف العراقيين الذين لجأوا إليه بعد سقوط تنظيم داعش، أو تم نقلهم إليه عقب معارك التحرير.
رغم مرور سنوات على انتهاء السيطرة الفعلية للتنظيم، لا يزال هذا المخيم قائماً، شاهداً على مخلّفات التطرف، ومنذراً بموجات جديدة من العنف إن لم يُحسن التعامل معه. فما المطلوب من الحكومة العراقية؟ وما هي كلفة تجاهل هذا الملف الخطير على العراق ومستقبله؟
الخطورة لا تكمن فقط في العدد، بل في نوعية الموجودين داخل المخيم. فمعظم الرجال كانوا مقاتلين في داعش، فيما تُركت النساء والأطفال في بيئة من الفقر، العزلة، والتطرف المغذّى بالفكر الداعشي. الأطفال في المخيم، وهم بعشرات الآلاف، يكبرون في مناخ يغذي الكراهية والعنف، بلا تعليم حقيقي، ولا خدمات نفسية أو اجتماعية تؤهلهم للاندماج مستقبلاً في المجتمع.
تحذيرات أممية متكررة أشارت إلى أن مخيم الهول تحول إلى أرض خصبة لعودة تنظيم داعش، حيث تنتشر الخلايا النائمة، وتُنشر الأفكار المتطرفة بين الأطفال والنساء. الإبقاء على هذا المخيم بهذا الشكل، وترك هؤلاء الأفراد في وضع معلق، يعني أننا لا نؤجل الخطر فقط، بل نُغذّيه ليعود بأشد مما كان.
على الحكومة العراقية أن تتحرّك بشكل استراتيجي وعاجل. لا يكفي إعادة دفعات محدودة من العوائل بين فترة وأخرى، بل يجب وضع خطة وطنية شاملة تتضمن:
•إعادة تأهيل العائدين من نساء وأطفال نفسياً وتربوياً، ودمجهم في برامج متخصصة بعيداً عن الوصم المجتمعي.
•محاسبة كل من ثبت تورطه بأعمال إرهابية، ضمن إجراءات قانونية عادلة تضمن العدالة ولا تؤجج روح الانتقام.
•تعزيز البنية الأمنية والاجتماعية في المناطق المحررة التي يُعاد إليها هؤلاء، لضمان عدم عودتهم إلى أحضان التطرف أو تعرضهم للانتقام.
•التنسيق مع المنظمات الدولية لتوفير الدعم الفني والمالي في عمليات الإعادة وإعادة الإدماج.
ان الإبقاء على المخيم بهذا الشكل يعزز فرص انتشار الفكر الإرهابي مجدداً، ويحوّل الأطفال إلى قنابل موقوتة تربّت على الحقد والعنف. كما أن استمرار المخيم يُشكل عبئاً سياسياً وأمنياً على العراق أمام المجتمع الدولي، ويُضعف من قدرة الدولة على التحكم بحدودها ومستقبل أمنها. إضافة إلى ذلك، فإن ترك النساء في بيئة لا تتوفر فيها مقومات الكرامة الإنسانية، دون تأهيل أو محاسبة أو أمل في العودة، يزيد من خطر إعادة تدوير العنف وتكريس ثقافة الكراهية.
ختاما مخيم الهول ليس مجرد مخيم، بل تحدٍ وجودي للعراق وأمنه القومي. لا مجال للمماطلة أو التسويف، ولا مكان لسياسات رد الفعل. العراق اليوم أمام خيارين إما معالجة الملف بعقلانية وشجاعة، أو الانتظار حتى تشتعل شرارة جديدة تنطلق من تحت خيام الهول.
انوار داود الخفاجي