يكفي أن تتردد هذه الأغنية لعبدالحليم حافظ في الإذاعة، متبوعة بأغنية (مـ الثانوية عالكلية) لليلى نظمي، حتى تعلم كل عُمان أنه يجري الآن إذاعة أسماء الناجحين. فهي الوسيلة الأسبق، بينما ستنشر الجريدة غدا كل الأسماء، ولن تصل إلى كل الولايات في اليوم نفسه، وسيحرص الناجحون، وخاصة الأوائل الذين وضعتهم على لوحة الشرف، على الاحتفاظ بنسخة من الجريدة أو بتسجيل كاسيت رُصد من الإذاعة.
وأحسب أن كل من مر بهذه المرحلة لا ينسى ذلك اليوم، بل وحتى أي مذيع قرأ اسمه، كما حدث معي في حوالي العام 1980م عندما أنهيت الإعدادية العامة (هكذا كانت تسمى) أي الصف التاسع، وكنت أقضي إجازة الصيف في البلد، عندما تحلقنا حول الراديو، فأسمع المذيع يقرأ اسمي، وتزيد فرحتي أن الذي قرأ اسمي هو ذلك المذيع الذي أرى فيه النموذج الذي أتمنى أن أصبح مثله، الأستاذ إبراهيم اليحمدي، غير متوقع أنني في ظرف سنتين سأصبح أحد زملائه وأصدقائه إلى اليوم.. وسأجلس على كرسي الاستوديو نفسه لأقرأ أسماء الناجحين في المواسم التالية، عندما أتعين بشهادة الأول الثانوي، وأكمل الثاني ثانوي كطالب وموظف، أما عندما وصلت للثالث الثانوي فقد اقترح علي مدير المعهد في خطوة غريبة أن أنتقل للدراسات الحرة أو المنزلية معللا بأنني لن أقدر على التوفيق بين الدراسة والوظيفة (ربما كنت مشاكسا قليلا).
وفي زحام المرحلة التي كنت أجتهد فيها لأصبح إعلاميا ناجحا نسيت أنني طالب، وانشغلت بالعمل أكثر، حتى بدأ الحديث عن قرب اختبارات الثانوية العامة، وأن المتبقي أقل من ثلاثة أسابيع. صحوت من غفلتي، وطلبت من صديقي وزميلي في المعهد سالم العامري الذي أصبح زميلي في دائرة الأخبار، ويسكن في ملحق لقريبه بمدينة الإعلام، أن يعطيني نسخة من مفتاح غرفته لأعكف فيها على المذاكرة بعد فترات الدوام.. أخذت أقرأ الكتب وأستوعب شيئا وأجهل أشياء، لدرجة أنني صدمت من حجم كتاب الجغرافيا فتركته جانبا مستسلما أنه سيكون أحد مواد الدور الثاني، ولم أتصفحه إلا ليلة وصبيحة الامتحان. أول مرة أشعر برعب من ورقة الاختبار لدرجة العرق حتى على باطن كفي. أحتاج إلى (مساعدة صديق) وصديقي الذي طلبت منه أن يرفع ورقته كلما استطاع لم أتمكن سوى من التقاط جدول كتب عليه المصفوفة، فرسمت مثله وعبأته بطريقة حتما سيكشفها المصحح، وكتبت كل ما ثبت في ذهني من معلومات جغرافية عامة من الكتاب.
كانت النتائج تصل لإدارة الإذاعة بشكل مفاجئ، وتحاط بسرية تامة ولو لبضع ساعات لدى بعض المسؤولين ريثما يهيئ الظرف لبداية بثها، ويعمل قسم التنسيق على ضبط الخارطة البرامجية لذلك اليوم، فكل المواد ستتوقف أو ترحّل، عدا بعض الثوابت التي لا تقبل الإلغاء، فقد يلغى موجز أخبار مثلا، ولكن لا مساس بالنشرة ووقتها، وإذا رفع الأذان فلا داعي للابتهال أو القرآن الذي يسبقه أو يليه وهكذا... يكفي أن يبدأ أول مذيع مناوب تقديم ديباجة يهنئ فيها الطلاب والطالبات وأولياء الأمور بالنجاح، وقراءة أسماء الأوائل متبوعة بأسماء الناجحين والمدارس ومناطقها، حتى يتوافد باقي المذيعين إلى الإذاعة للمشاركة رغم أنه لم تكن هناك هواتف نقالة، فاليوم ذروة الاستماع للإذاعة وفرصة للمذيعين لتسجيل الحضور في يوم مميز كهذا، وقد يختار بعضهم مدارس أو ولايات بعينها تعني لهم شيئا شخصيا، وقد تمتد القراءة إلى وقت متأخر من الليل حيث ختام الإرسال، ففي كل عام يزيد عدد الطلبة بشكل واضح، حتى وصلت الأعداد إلى استحالة قراءتها كلها بالنسبة للإعدادية العامة، وكانت الهواتف الأرضية قد بدأت تنتشر أكثر، كما أن الجريدة أصبح وصولها أسرع، فتم إلغاء قراءة نتائج الإعدادية العامة، وبقيت الثانوية العامة سنوات عديدة، حتى ألغيت لاحقا للأسباب نفسها «.. هواتف الإذاعة في الاستوديو والمكاتب لا تسكت في هذا اليوم، فالمكالمات من كل عُمان، في محاولة من البعض لاستباق معرفة نتائجهم، وإذا تعاونت مع أحدهم ومررت له اسم ابنه أو ابنته سيطمع أيضا في معرفة بعض أقاربه أو جيرانه، فكان هذا التسريب يسعدنا ونشعر أنه من واجباتنا بعيدا عن الهواء، ولكنه أحيانا يشكل لنا ضغطا حقيقيا. وبعض المواطنين من الولايات قد يتبرعون ويأتون إلى مسقط في وقت متأخر من الليل للحصول على بضعة أعداد من الجريدة يسابقون بها الوقت لتبشير ذويهم.
في ذلك العام (1985/م) بعد أن أنهيت الاختبارات، لم أكترث كثيرا بانتظار النتائج ليقيني أن الدور الثاني لن يخطئني وسأدفع ثمنه طوال إجازة الصيف.. دخل رمضان، وقبل أذان المغرب بخمس دقائق ومائدة الفطور عامرة، اتصل بي سالم الذي عايش ظرفي خلال الأسابيع الماضية وكان في الدوام بدائرة الأخبار ليقول لي: (مبروك محمد نجحت، النتائج وصلت) لأرد عليه: دع عنك المزاح الثقيل واتركني لأفطر، مما اضطره أن يحلف لي. فلم يكن مني إلا أن أخرج من البيت مسرعا إلى الإذاعة فأصل وأجد كل الموظفين في المطعم على الفطور.. ذهبت مباشرة للأستاذ الزميل حمدان الحميدي الذي كان يشغل منصب رئيس قسم تخطيط البرامج وقد أغلق على القوائم داخل مكتبه حتى يحين البدء في إعلان الأسماء، فتارة أستجديه وتارة أسحبه من يده دون أن يكمل فطوره، لنتوجه إلى مكتبه وأرى اسمي بعيني في قائمة الناجحين، وإن كان بنسبة غير مشرفة، ولكن يكفي أنني ناجح، ويكفي أنني سأرتفع درجتين ماليتين، من الدرجة سادسة/ثانية إلى رابعة/ثانية، أي أن راتبي سيرتفع من 198 ريالًا إلى أكثر من 300 ريال... والرائع في هذا المساء الرمضاني الذي أشارك فيه الزملاء قراءة أسماء الناجحين أن تقع في يدي- صدفة أو بتخطيط- المجموعة الخاصة بالمعهد الإسلامي الثانوي بالوطية، فأقرأ أسماء زملائي، حتى أصل إلى قراءة اسمي بنفسي، لدرجة أنني قرأته بشيء من الارتباك أو التقطع (محمد بن علي... بن صالح.. المرجبي).
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: أسماء الناجحین
إقرأ أيضاً:
من البوسنة إلى أستراليا.. هذا ما تعلمته طفلة لاجئة عن حرب البوسنة
بمناسبة مرور 30 عاما على اتفاقيات دايتون للسلام التي وضعت حدا لحرب استمرت بين عامي 1992 و1995 في البوسنة والهرسك، نشرت صحيفة غارديان في نسختها الأسترالية تقريرا يتناول قصة ياسمينة يولديتش، الطفلة اللاجئة اليافعة.
يفيد التقرير -الذي أعدّه مراسل الصحيفة في أستراليا جو هينشكليف- بأن ياسمينة لم تكن قد تجاوزت التاسعة من عمرها عندما اكتشفت أنها ولدت في عائلة مسلمة، وكانت والدتها سلمى تحاول أن تشرح لها ولأختها الكبرى أميلا سبب اقتياد رجال مسلحين لوالدهما.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2كاتب بريطاني: الانتقال للمرحلة الثانية من سلام غزة مستحيلlist 2 of 2لوفيغارو: استخبارات الدانمارك تضع واشنطن ضمن تهديدات الأمن الأوروبي لأول مرةend of listتحدثت ياسمينة يولديتش -التي تبلغ حاليا 43 عاما من العمر وتعمل حاليا نائبة الأمين العام للتعليم العالي في الحكومة الفدرالية الأسترالية- للصحيفة عن اللحظة الفاصلة في حياتها عندما كانت في التاسعة من عمرها في يوليو/تموز 1992.
كانت تلك اللحظة هي اليوم الذي أُخذ فيه والدها أنور إلى معسكر اعتقال من قبل رجال مسلحين كانوا جيرانهم، وبدأت والدتها تشرح لياسمينة وشقيقتها لأول مرة مفهوم الدين.
تقول ياسمينة إنها لم تعرف "من هي أو ماذا هي حتى بدأت الحرب"، حين علمت في لحظة أن التصنيفات الدينية يمكن أن تضع نهاية عنيفة لطفولة مثالية.
هشاشة المجتمع والتعايشمن خلال ذاكرتها الطفولية، يوضح التقرير كيف أن الحروب لا تندلع بالرصاص وحده، بل بالكلمات والتصنيفات. "هم" و "نحن" كانت المفردات الأولى التي شقّت مجتمعا كان متداخلا ومتماسكا. فالجيران الذين عاشوا جنبا إلى جنب تحوّلوا بسرعة إلى أعداء، ومعهم انهارت فكرة الأمان التي تحيط بالطفولة.
من هذا المنظور، ترى ياسمينة أن الكراهية ليست قدرا تاريخيا، بل نتاج خطاب يُغذّى ويُترك من دون كبح، حتى ينفجر في صورة عنف جماعي.
ترى ياسمينة أن تجربتها الشخصية أظهرت لها مدى هشاشة المجتمع وسرعة انهيار النسيج الاجتماعي. تتذكر صدمتها عندما كان المسلحون الذين اعتقلوا والدها هم جيرانها، وكيف يمكن للدولة والمجتمع والأسرة أن تتفكك.
ياسمينة: الكراهية ليست قدرا تاريخيا، بل نتاج خطاب يُغذّى ويُترك من دون كبح، حتى ينفجر في صورة عنف جماعي.
كانت والدتها تحاول حمايتهما من انهيار جمهورية يوغوسلافيا آنذاك، لكن اختطاف الأب أجبرهما على فهم "المصطلحات والأفكار الكبيرة" مثل الدين والكراهية فجأة. هذا المسار دفع العائلة إلى رحلة مملوءة بالصدمات قبل أن تستقر في بريسبان عاصمة ولاية كوينزلاند في أستراليا.
الكراهية وشيطنة الآخرأعربت ياسمينة للمراسل عن قلقها البالغ من الخطاب المتصاعد ضد المهاجرين، سواء في أستراليا أو على الصعيد العالمي، وتصف "شيطنة الآخر" بأنها تثير لديها ما يشبه اضطراب ما بعد الصدمة.
إعلانوتؤكد أنها "تعرف إلى أين يقود ذلك"، مشددة على أن الكراهية يمكن أن تتصاعد بسرعة كبيرة وتدمر أي مجتمع. وتستذكر بوضوح مشاهد مذبحة سربرنيتسا، عندما شاهدت عبر التلفاز تقدم قوات صرب البوسنة، وتنبؤ والدها في تلك اللحظة بأنهم "سيقتلونهم… سيذبحونهم بالكامل".
هذا الارتباط المباشر بين الخطاب المتطرف والعنف الجماعي هو ما يدفعها إلى التحذير من مغبة التهاون مع مثل هذه التطورات.
تنظر ياسمينة إلى اتفاقيات دايتون، التي أنهت الحرب عام 1995، وقسمت البوسنة إلى كيانين (البوسنة والهرسك وجمهورية صرب البوسنة)، من منظور متغير.
كانت ترى أن الاتفاقيات، التي يصفها بعض الأكاديميين بـ"السلام القبيح" أو الناقص، قد "جمدت الزمن" وتركت القوميين في السلطة عبر نظام معقد لتقاسم السلطة وحق النقض.
ومع ذلك، عندما وقعت أحداث غزة وأوكرانيا، بدأت نظرتها تتحول، فقد أيقنت أن المنجز الأهم في دايتون هو وضع حدٍّ للحرب والاقتتال وسفك الدماء في منطقة البلقان.
ياسمينة: حذار من أخذ التماسك الاجتماعي على أنه أمر مسلَّم به، لأنه يمكن أن يتداعى بسرعة وينتهي بطريقة خاطئة ومروعة.
وعلى الرغم من الصدمات، كان المسار الذي سلكته ياسمينة دافعا لها لتحقيق مسيرة مهنية مرموقة في أستراليا. فبعد استقرارها في بريسبان، حيث أقامت عائلتها جذورا قوية، تؤكد إسهام المهاجرين في إثراء أستراليا ثقافيا واقتصاديا.
وتؤكد ياسمينة أن حماية الأمن والرخاء مسؤولية الجميع. وتشدد على ضرورة "عدم أخذ التماسك الاجتماعي على أنه أمر مسلَّم به"، لأنه يمكن أن يتداعى بسرعة وينتهي بطريقة خاطئة ومروعة.
في الذكرى الثلاثين التي مرت قبل أشهر لمجزرة سربرنيتسا، والتي أبيد فيها أكثر من 8 آلاف مسلم بوسني على يد القوات الصربية، يتجدد القلق الدولي بشأن استقرار البوسنة والهرسك، الدولة الصغيرة والمقسمة عرقيا، والتي لا تزال أسيرة اتفاق دايتون الذي أوقف الحرب من دون أن ينهي الانقسام.
وقال تقرير نشرته صحيفة فايننشال تايمز إن ميلوراد دوديك، زعيم صرب البوسنة، يمثل اليوم التهديد الأكبر لوحدة البلاد، إذ يسعى بصراحة لتقويض مؤسسات الدولة المركزية بدعم رمزي من موسكو، التي تراه جزءا مهما من محور مؤيد لروسيا على هامش أوروبا.