كيف يؤثر التطرف الديني والسياسي في تشريعات الكنيست؟
تاريخ النشر: 8th, June 2024 GMT
القدس المحتلة- تتنافس الأحزاب السياسية الإسرائيلية في ما بينها لتحريك مشاريع قوانين الكنيست يطغى عليها طابع التطرف الديني والقومي والسياسي، وهو ما يعكس توجه المجتمع الإسرائيلي نحو اليمين وانحرافه لمزيد من التطرف، ويوضح ملامح وهوية التوجه الإسرائيلي الجديد بعد "طوفان الأقصى".
وتحت ذريعة الحرب على غزة و"أنظمة الطوارئ"، شرّع الكنيست رزمة من القوانين التي تسلب الحريات وتقيد حقوق الإنسان، بالإضافة لتشريعات تحمل في طياتها مضامين تطرف سياسي وديني، حيث صودق بأغلبية ساحقة على قانون يحظر الاعتراف أحادي الجانب بدولة فلسطين.
كما صادق الكنيست بالقراءة التمهيدية على مشروع قانون يعد وكالة الأونروا "منظمة إرهابية"، ومشروع قانون أنظمة الطوارئ، الذي يمنع المحتجزين والأسرى خلال الحرب من الاتصال بمحامين، وصادق بالقراءة الأولى على مشروع قانون يمنع فتح بعثات دبلوماسية في القدس لتقديم خدمات للفلسطينيين.
ولم تتوقف تشريعات البرلمان عند المسار السياسي وجوانب الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، بل يسعى رئيس حزب "عظمة يهودية" وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير إلى التركيز على الجوانب الدينية، حيث يحرك مشروع قانون فرض الإحلال الديني في المسجد الأقصى تحت عنوان "عودة إسرائيل إلى جبل الهيكل".
وفي ظل التصعيد التي تشهده فلسطين والتوتر الإقليمي في الشرق الأوسط، سارع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إلى تأجيل مداولات الكنيست بالوضع القائم بالمسجد الأقصى، إذ تعمد بن غفير إدراج مشروع القانون للنقاش بالتزامن مع ما يسمى بـ"يوم توحيد القدس" و"مسيرة الأعلام".
يرى الباحث في الشأن الإسرائيلي أنطوان شلحت أن الكنيست الحالي -وحتى قبل طوفان الأقصى- يعد الأكثر تطرفا على المستويين القومي والديني، وهذا انعكس على ما تسمى خطة "الإصلاح القضائي" التي اعتبرت خطة انقلابية على المنظومة القضائية الإسرائيلية.
وأوضح شلحت للجزيرة نت أن التيار السائد والمهيمن على المشهد السياسي بإسرائيل هو تيار الصهيونية الدينية المتطرفة، وهو صاحب طرح وأيديولوجية خطة حسم الصراع مع الفلسطينيين، وأن "أرض إسرائيل للشعب اليهودي".
ولفت إلى أن تيار الصهيونية الدينية يدفع من وراء الكواليس لاعتماد التعاليم التوراتية والتلمودية وتفسيرات الحاخامات لتكون حجر الأساس في دستور إسرائيل، وذلك بدلا من القوانين المعمول بها والتي تتعلق بحقوق الإنسان.
وأكد شلحت أن اليمين المتطرف، ارتباطا بالحرب على غزة، دفع قدما بالقوانين المتطرفة دينيا وقوميا، وضرب مثالا بالتصويت على قانون منع الاعتراف أحادي الجانب بدولة فلسطين، حيث حظي بتأييد 99 من أعضاء الكنيست، قائلا إن "ذلك يدل إلى أين تتجه الرياح بالساحة السياسية والحزبية بإسرائيل من الناحية القومية والدينية".
وبشأن كل ما يتعلق بالمسجد الأقصى، يقول الباحث بالشأن الإسرائيلي إن الأوساط اليمينية المتطرفة تعده "جبل الهيكل"، وتعارض الوضع القائم في ساحات المسجد الذي ترعاه الأردن، حيث يسعى تيار الصهيونية الدينية إلى اختراق هذا الوضع وتقنينه، "ويبقى السؤال إذا ما كان الجو العام بالكنيست يسمح بمثل هذه القوانين".
ويعتقد شلحت أن تشريع أي قوانين من شأنها أن تخترق الوضع القائم بالأقصى ستكون ذروة جديدة من الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، ليأخذ طابع الصراع الديني، لافتا إلى أن المشروع الصهيوني القائم على أسس ومعتقدات علمانية أصبح أسيرا للفكر الديني التوراتي.
وعزا شلحت ما يمر به المشروع الصهيوني من تغييرات إلى كون كافة الدعاوى التي تطرحها الصهيونية سواء "الوطن القومي اليهودي" و"الدولة اليهودية" و"أرض إسرائيل الكبرى"، كلها دعاوى تستند إلى أطروحات دينية وتوراتية.
وعلى الرغم من ذلك، فإن شلحت شكك في إمكانية تشريع الكنيست تقنين الوضع القائم بالأقصى واعتباره "هيكلا" ومكانا مقدسا لليهود، ورجح أن مثل هذه القوانين ستخلق أزمة دبلوماسية مع الأردن والمغرب، وقد تؤدي إلى إلغاء اتفاقيات السلام.
وحيال ذلك، يقول الباحث بالشأن الإسرائيلي إن نتنياهو سارع للإعلان عن مناقشة مكانة الأقصى في الكنيست واحتواء بن غفير، في محاولة من رئيس الوزراء للهروب إلى الإمام، لتفادي أزمة دبلوماسية مع العالمين العربي والإسلامي لا تمكن معرفة تداعياتها.
الطرح ذاته تبناه المحامي المختص في قضايا القدس والأقصى خالد زبارقة، الذي أوضح أن الحكومة الإسرائيلية الحالية تدير الأمور من منظور ديني تلمودي للأحداث المستقبلية، لافتا إلى أن مكتب رئيس الوزراء يستعين بمجموعة من الحاخامات ليكونوا مستشارين لنتنياهو بكل ما يتعلق بالمنظور التوراتي للأحداث.
وأشار زبارقة للجزيرة نت إلى أن السياسية الإسرائيلية الحالية ترتكز بشكل كبير جدا على المفاهيم التلمودية والتوراتية لأحداث آخر الزمان، ويقول إنه بناء على ذلك تكثر المفردات الدينية في خطاب نتنياهو أكثر من السابق، وكذلك بات جميع الوزراء بالحكومة يعتمدون مفردات دينية واقتباسات توراتية، هذا عدا عن خطابات وزراء وحاخامات الصهيونية الدينية.
ولفت إلى أن عديدا من الوزراء وأعضاء الكنيست العلمانيين والليبراليين أصحبوا يتحدثون بلغة دينية توراتية، ويعتمدون مفردات تلمودية، وهو ما يشير إلى هيمنة هذه المفاهيم على سلوك ونهج وقرارات الحكومة الإسرائيلية من منطلق المفهوم الديني التلمودي لأحداث ومآلات آخر الزمان.
وعزا المختص في قضايا القدس والأقصى ما وصلت إليه الساحة السياسية الإسرائيلية من تعزيز المنطلقات الدينية والمفاهيم التوراتية في الخطاب الإسرائيلي العام إلى تعزز القناعات لدى الإسرائيليين بالوصول إلى "مرحلة الحسم"، وعلى هذا الأساس فهم يروجون منذ بداية الحرب على غزة الاقتباسات الدينية والتوراتية لتبرير استمرار الحرب.
وأشار إلى أن كبار الحاخامات، وتحديدا في "الصهيونية الدينية"، يؤمنون أنه على الرغم من الأوضاع الصعبة التي يعيش بها اليهود في فلسطين، وغرقهم في القضايا المصيرية، فإن هذا سيؤدي بهم إلى الخلاص، ويؤمنون أنه ستأتي معجزة لتنقذهم من حالة الضياع التي يعيشونها بهذه المرحلة.
ولفت إلى أن مجموعة الحاخامات التي تقود إسرائيل في هذه المرحلة، ترى بالحرب على غزة فرصة للقضاء على الفلسطينيين، ويرون أن هذه المرحلة المناسبة للقفز نحو الأمام بالقضايا المصيرية، بكل ما يتعلق بهوية إسرائيل بوصفها دولة يهودية توراتية، والمفهوم الديني التلمودي لـ"جبل الهيكل" والأقصى والقدس.
لكن زبارقة يعتقد أن التطرف الديني الذي تشهده الخارطة السياسية الإسرائيلية ستكون له تداعيات سلبية على إسرائيل أكثر منه على الفلسطينيين، قائلا إن "اقتحام الأقصى ومسيرة الأعلام واعتداءات المستوطنين على الأماكن المقدسة، وحرب الإبادة وجرائم الحرب لا تحرك فقط مشاعر العرب، بل تثير مشاعر الغضب ضد إسرائيل حول العالم".
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات السیاسیة الإسرائیلیة التطرف الدینی الحرب على غزة الوضع القائم مشروع قانون إلى أن
إقرأ أيضاً:
من نقد التاريخ إلى نقد اللاهوت.. صادق جلال العظم وتفكيك العقل الديني
في عمق الجنوب السوري، حيث تمتزج الحجارة السوداء بعبق الزعتر البري، وحيث تتحد جبال السويداء الشامخة بسهول الجولان السليبة، تولد التعبيرات الأولى للإنسان عن ذاته: أنغام شجية، وكلمات مقتضبة، لكنها مشبعة بالحضور والذاكرة. هناك، لا يُغنّى الناس للترف، بل لأن الغناء امتداد للوجود، ومرآة لعلاقة متجذّرة بين الإنسان ومحيطه، بين العشق والمقاومة، بين الغياب والصمود.
في السويداء والجولان، لم تفلح آلة الاحتلال ولا حملات التهويد ولا سياسات الاقتلاع في طمس ملامح الهوية. بقيت الأصالة عصيّة، تُصاغ في الحكايات الشعبية، في الأهازيج، في أسماء الأماكن، وفي الأناشيد التي تعبر الأجيال كما تعبر الجبال. نمطٌ من التعبير الشفهي الشعبي، يبدو بسيطًا في ظاهره، لكنه يخفي في جوهره هندسة كاملة لهوية متماسكة، تنبني على الكرامة، والانتماء، والمقاومة اليومية للنسيان.
هذه الأصالة ليست حنينًا متجمّدًا للماضي، بل طاقة ثقافية حية، تمنح المجتمع مناعة في وجه التفكك، وقدرة على التماسك في وجه الاحتلال والاقتلاع الرمزي. ففي زمن تتكالب فيه محاولات طمس الذاكرة وتزييف التاريخ، تبقى تلك التعبيرات الشعبية بمثابة صمّام أمان، تردّ الروح للجماعة، وتؤكد أن الانتماء ليس شعارًا، بل ممارسة يومية، وصوت، وحركة، ومخيال جماعي.
من هنا، فإن الحديث عن الأصالة في الجنوب السوري، في السويداء والجولان، ليس استدعاءً عاطفيًا لزمن مضى، بل قراءة في كيفيات البقاء، ومقاومة الذوبان، وصنع المعنى في مواجهة قوى تسعى إلى محو الإنسان من جغرافيته وتاريخه. الأصالة هنا ليست ما تبقى، بل ما يجعل البقاء ممكنًا.
إذا كان هشام جعيّط قد دشّن مسارًا نقديًا جديدًا في الفكر العربي المعاصر من خلال مساءلة الجذور التاريخية للسلطة السياسية في الإسلام، وتحليل الكيفية التي تم فيها تبرير الحكم وتوطيده عبر التحالف مع المرجعيات الدينية، فإن صادق جلال العظم يُمثّل استئنافًا حادًا لهذا المسار، ولكن من زاوية مغايرة: زاوية تفكيك البنية اللاهوتية التي تشكّل عقلنا الجمعي وتعيد إنتاج الخضوع باسم المقدّس.ومن رحم هذه الأرض التي تنحت هويتها بالصبر والمقاومة، لم يخرج فقط المزارعون والمغنّون والشهداء، بل خرج منها أيضًا المفكرون والمجددون، أولئك الذين حملوا ترابها في لغتهم، وهمّها في أفكارهم، حتى وإن اشتبكوا معها نقدًا وتشريحًا. فالأصالة هنا لا تُعادِل الجمود، ولا تُخاصم السؤال، بل تتسع لجدلٍ حيّ بين الموروث والتحوّل، بين الوفاء للمكان، وضرورة مساءلته.
وفي هذا السياق، يبرز اسم صادق جلال العظم، أحد أبرز المفكرين السوريين في النصف الثاني من القرن العشرين، الذي عُرف بجرأته في نقد التراث والدين والمؤسسة، دون أن ينفصل يومًا عن انتمائه العميق لهذه الأرض. فرغم ما اتسمت به طروحاته من حدّة نقدية وشجاعة فكرية، ظل العظم، في جوهر مشروعه، ابنًا لهذه التربة الثقافية السورية الخصبة، التي لا تكفّ عن إنتاج المعنى، ولا تتردد في إعادة النظر في ذاتها.
من جعيط إلى جلال العظم
إذا كان هشام جعيّط قد دشّن مسارًا نقديًا جديدًا في الفكر العربي المعاصر من خلال مساءلة الجذور التاريخية للسلطة السياسية في الإسلام، وتحليل الكيفية التي تم فيها تبرير الحكم وتوطيده عبر التحالف مع المرجعيات الدينية، فإن صادق جلال العظم يُمثّل استئنافًا حادًا لهذا المسار، ولكن من زاوية مغايرة: زاوية تفكيك البنية اللاهوتية التي تشكّل عقلنا الجمعي وتعيد إنتاج الخضوع باسم المقدّس.
فبينما اشتغل جعيّط على تفكيك لحظة التأسيس السياسي في الإسلام من الداخل، بوصفها لحظة فاصلة بين الرسالة والسلطة، اختار العظم أن ينقّب في طبقات الوعي الراهن، حيث تستمر أنماط التفكير اللاهوتي في تشكيل علاقتنا بالعالم، وفي إنتاج خطاب يغلّف السلطوي والمألوف بثوب المقدّس، مانعًا مساءلته أو زحزحته. بهذا المعنى، لا يقف العظم خارج أسئلة الأصالة أو الهوية، بل يعيد توجيهها نحو تحرير العقل من بنياته الخاضعة، وفتح أفق نقدي جديد في التعامل مع الموروث.
في مشروع العظم، تنتقل المعركة من ميدان التاريخ إلى ميدان الفكر الديني نفسه؛ حيث تتداخل مفاهيم التقديس، الإيمان، السلطة، والخرافة ضمن نسيجٍ متين من ما يسميه بـ"العقل غير النقدي". فالعظم لا يكتفي بالتاريخ كأداة تفكيك، بل يرى أن نقد البنية اللاهوتية للعقل الإسلامي التقليدي هو الشرط الأول لتحرير الذات من الاستبداد، سواء كان سياسيًا أو معرفيًا.
لقد كان انخراط العظم في جدل الحداثة استجابةً لمأزق حضاري حادّ: انغلاق الفكر الديني وعجزه عن إنتاج مفاهيم حية ومتحررة قادرة على ملامسة الواقع وتحولاته. وإذا كان جعيّط قد فكّك "الفتنة الكبرى" بوصفها لحظة انبثاق للاستبداد السياسي، فإن العظم يتجاوز هذه اللحظة ليقرأ في العقل الديني ذاته البنية الحاضنة لهذا الاستبداد، والمانعة لأي نهضة عقلانية حقيقية.
من هنا، لا يبدو الانتقال من جعيّط إلى العظم قفزة بين مفكرَين، بل تحوّلًا في زاوية الهجوم على نفس البنية المتحجرة: تحالف السلطة مع المعنى، والنص مع التأويل، والتراث مع المؤسسة. وبين التاريخ والدين، تتشكّل خيوط تيار نقدي جذري، يسعى هذا البحث إلى تتبّع معالمه وتأكيد ضرورته كأفقٍ للتحرر الفكري في زمن عربي مأزوم.
نقد الفكر الديني بوصفه شرطًا للتحرر
أولًا ـ العقل الديني كعائق للنهضة
في حين أن "الفتنة" لدى هشام جعيّط تمثل لحظة انكسار سياسي ـ ديني، فإن صادق جلال العظم يذهب أبعد: يرى أن الاستبداد العربي ليس مجرد حادثة سياسية، بل بنية فكرية ممتدة، تستند إلى منظومة لاهوتية ترسّخ الخضوع وتمنح الطاعة طابعًا مقدسًا.
في كتابه المفصلي نقد الفكر الديني (1969)، يضع العظم يده على جوهر المعضلة: الهيمنة اللاهوتية على العقل، من خلال تجريم السؤال، تقديس النقل، وتحويل النصوص إلى مرجع نهائي لا يقبل المراجعة. هذا التقديس، بحسب العظم، لا يقتل الإبداع فحسب، بل يمنع نشوء أي حداثة عربية، لأن الحداثة تبدأ من الشك، لا من الامتثال.
ثانيًا ـ تفكيك الخطاب الديني بوصفه بنية سلطة
يعتمد العظم مقاربة عقلانية تحليلية تُفكك الخطاب الديني التقليدي بوصفه بنية لغوية ومعرفية تُنتج السلطة لا الحقيقة. وينظر إلى البنى المضمرة في الممارسة الدينية، والتي تعيد إنتاج التسلط باسم الإيمان، بوصفها أداة أيديولوجية بيد الأنظمة.
لقد كان انخراط العظم في جدل الحداثة استجابةً لمأزق حضاري حادّ: انغلاق الفكر الديني وعجزه عن إنتاج مفاهيم حية ومتحررة قادرة على ملامسة الواقع وتحولاته. وإذا كان جعيّط قد فكّك "الفتنة الكبرى" بوصفها لحظة انبثاق للاستبداد السياسي، فإن العظم يتجاوز هذه اللحظة ليقرأ في العقل الديني ذاته البنية الحاضنة لهذا الاستبداد، والمانعة لأي نهضة عقلانية حقيقية.يفرّق العظم بوضوح بين الدين كإيمان فردي والفكر الديني كمؤسسة، مؤكدًا أن انتقاده موجّه للثاني. يرى أن الفكر الديني المحافظ لم يعد قادرًا على ملامسة الواقع، بل صار يشتغل كجهاز دفاعي ضد التغيير، والعقل، والحرية.
ثالثًا ـ الكتاب في لحظة ما بعد النكسة
صدر نقد الفكر الديني عقب نكسة 1967، لحظة الانكسار الجماعي في الوعي العربي. في هذا السياق، لم يقدّم العظم تحليلاً للنكسة من زاوية سياسية، بل من زاوية معرفية وثقافية: الهزيمة، في جوهرها، هزيمة عقل، ومخيلة، ونمط تفكير مغلق.
بهذا المعنى، كان الكتاب صرخة فكرية في وجه خطاب قومي مأزوم، وسرديات دينية تُنتج الإيمان لكنها تقتل العقل.
رابعًا ـ العقلانية الجذرية: لا إصلاح، بل قطيعة
يرفض العظم مشاريع الإصلاح الديني التي حاولت التوفيق بين النص والعصر (كأمثال عبده وعبد الرازق). بالنسبة له، التحرر لا يتم عبر التأويل، بل عبر القطيعة. فالحداثة ليست مظهرًا، بل موقف إبستمولوجي يقوم على نزع القداسة عن النصوص والتاريخ، ونقل مركز المعرفة من الميتافيزيقا إلى الواقع.
خامسًا ـ العلمانية كتحرير للعقل
ليست العلمانية عند العظم فصلًا بين الدين والدولة فحسب، بل تحريرًا للعقل من أسر المقدّس. وهي تبدأ، لا من الإصلاح الدستوري، بل من نقد البديهيات التي تحكم الحس العام، ومن تقييد السلطة الرمزية للمؤسسة الدينية في المجال العام.
بهذا المعنى، تلتقي أطروحة العظم مع مشروع جعيّط، مع فارق أن العظم لا يكتفي برفض التداخل السياسي مع الدين، بل ينزع الشرعية المعرفية عن الفكر الديني المحافظ نفسه.
سادسًا ـ التلقي والجدل
أثار نقد الفكر الديني جدلًا واسعًا. تعرّض العظم للملاحقة والمحاكمة، وواجه اتهامات بـ"عداء الدين"، وهو ما أنكره بشدة، مؤكدًا أن نقده موجّه للفكر، لا للإيمان.
من أبرز الانتقادات التي وُجّهت إليه:
ـ اعتماده على أدوات نقدية غربية دون مراعاة للخصوصيات الثقافية؛
ـ إغفال البعد الأنثروبولوجي الشعبي في الممارسة الدينية؛
ـ التركيز على الفكر السني دون توسّع في نقد التصوف أو الفكر الشيعي.
ومع ذلك، يبقى العظم رائدًا أساسيًا في تفكيك العقل اللاهوتي العربي، وأحد أوائل من قدّموا مشروعًا فلسفيًا متماسكًا لتحرير الثقافة من الطاعة العقائدية.
سابعًا ـ من نقد الدين إلى نقد الثقافة السياسية
في أعمال لاحقة مثل ذهنية التحريم وما بعد ذهنية التحريم، وسّع العظم مشروعه ليشمل نقد الثقافة السياسية، مسلطًا الضوء على تواطؤ النخب القومية واليسارية مع المقدّس، وعلى هشاشة الخطاب الذي يدّعي التحديث لكنه يعيد إنتاج الاستبداد.
يرفض العظم مشاريع الإصلاح الديني التي حاولت التوفيق بين النص والعصر (كأمثال عبده وعبد الرازق). بالنسبة له، التحرر لا يتم عبر التأويل، بل عبر القطيعة. فالحداثة ليست مظهرًا، بل موقف إبستمولوجي يقوم على نزع القداسة عن النصوص والتاريخ، ونقل مركز المعرفة من الميتافيزيقا إلى الواقع.في هذه المرحلة، لا يعود الاستبداد مجرد ظاهرة سياسية، بل بنية نفسية ومعرفية تسكن الخطاب العربي، حتى في صيغته التقدمية.
ثامنًا ـ العظم ضمن التيار النقدي الجذري
مع هشام جعيّط وطيب تيزيني، يشكّل صادق جلال العظم أحد أعمدة التيار النقدي الجذري في الفكر العربي المعاصر، الذي يرفض التلفيق، ويؤمن أن التحرر يبدأ من نقد المسلّمات، لا من ترقيعها.
وإذا كان جعيّط قد فكّك أسطرة التاريخ، فإن العظم مزّق أسطرة الفكر الديني، ودعا إلى تأسيس ثقافة جديدة لا تقدّس السؤال، بل تطرحه من جديد، بلا خوف، وبلا وصاية.
من العظم إلى أفق التيار النقدي الجذري
يشكّل تحليل مشروع صادق جلال العظم محطة مركزية في فهم تحوّل التيار النقدي العربي من مساءلة السلطة التاريخية (كما عند جعيّط) إلى تفكيك البنية اللاهوتية التي تحكم العقل وتُعيد إنتاج الخضوع. فالعظم لم يكتف بممارسة نقد فكري للفكر الديني، بل ذهب إلى الجذور المعرفية التي تحكم بنية التفكير التقليدي في الثقافة العربية، رابطًا بين اللاهوت والخرافة، وبين النص المقدس ومؤسسة السلطة.
بهذا المعنى، يصبح العظم نموذجًا للفكر الذي لا يسعى إلى الإصلاح داخل الإطار، بل إلى تفكيك الإطار ذاته وإعادة صياغة شروط التفكير. ومن هنا تنبع أهمية مشروعه في سياق البحث الذي نرومه، والذي يسعى إلى تتبّع التيار النقدي الجذري لا كمجموعة من المواقف المعرفية المتفرقة، بل كمسار تحرري متكامل يربط بين نقد التاريخ، ونقد الفكر الديني، ونقد الثقافة السياسية.
ومع العظم، نبدأ بالاقتراب من قلب هذا التيار: من الشك كمدخل، إلى القطيعة كمنهج، وصولًا إلى العقلانية الجذرية كموقف. وسيكون الانتقال إلى مفكرين آخرين داخل هذا المسار ـ من أمثال طيب تيزيني أو نصر حامد أبو زيد ـ امتدادًا طبيعيًا لهذا التفكيك المتصاعد، الذي لا يزال في صراعه المفتوح مع المقدّس، والمؤسسة، والذاكرة.
صادق جلال العظم في مرآة الزمن.. وعلى عتبة طيب تيزيني
ربما كان صادق جلال العظم، لو امتد به العمر، ليتأمل بدهشة لا تخلو من المفارقة أن دمشق، المدينة التي شهدت ولادة أطروحته الجذرية "نقد الفكر الديني"، تُدار اليوم في سياق إعادة بناء الدولة من قبل تيار ديني يُعرف بمرجعيته المحافظة، بعد عقود من هيمنة البعث، الذي وفّر ـ رغم تضييقه ـ فضاءً لطباعة أفكاره وتداولها.
لكن العظم، المفكر الجذري، لم يكن معنيًا بالأشكال الظاهرة للسلطة، بقدر ما كان مهجوسًا ببنية التفكير العميقة التي تُنتج الخضوع، سواء ارتدت ثوب القومية أو العباءة الدينية. وما نراه اليوم ليس مناسبة لإصدار حكم مسبق، بقدر ما هو لحظة تأمل في تعقيدات الانتقال العربي، حيث تتبدل القوى، دون أن يعني ذلك بالضرورة ولادة جديدة للعقل.
وفي هذا المنعطف، لا يبدو صادق العظم نهاية لمسار النقد، بل حلقة ضمن تيار أوسع، تتجاوب فيه الأصوات وتتعدد فيه الزوايا. هنا بالتحديد، يظهر طيب تيزيني، المفكر السوري الآخر، الذي انطلق من مرجعية مادية ـ تاريخية، وحاول بناء مشروع نهضوي شامل، يربط بين تفكيك التراث وإعادة تأويله في أفق التحرر.
سنقف في الحلقة القادمة عند هذا المشروع، لنفهم كيف يمكن أن يكون نقد التراث لا مجرد تفكيك، بل عملًا تأسيسيًا جديدًا، يزرع أسئلة المستقبل في تربة الماضي.
في سويداء الحجارة السوداء، كما في جولان الزيتون المقاوم، تتجلى الأصالة لا كحنينٍ إلى ما مضى، بل كقدرةٍ على البقاء عبر المقاومة والتفكير الحر. ومن هذه الأرض التي لم تنكسر تحت الاحتلال، ولا انغلقت على نفسها، خرج صادق جلال العظم، لا ليحتفي بالموروث، بل ليسائله، ويفكك بنيته اللاهوتية الراسخة، ويفتح للعقل بابًا نحو التحرر من الطاعة العقائدية والخضوع الرمزي. لم يكن العظم مفكرًا على هامش قضايا أمته، بل في قلب صراعها الثقافي والسياسي، حادًّا في نقده، جذريًّا في أطروحاته، سوريًّا في انتمائه العميق إلى تربة تصوغ أبناءها بقدر ما تفتح لهم أفق مساءلتها.