خطبتا الجمعة من المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف
تاريخ النشر: 14th, June 2024 GMT
مكة المكرمة
أوصى إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور بندر بن عبدالعزيز بليلة المسلمين بتقوى اللهِ عزَّ وجلَّ، فإنَّ من اتّقاهُ وقاهُ، وفرَّجَ همّهُ وكفاهُ، ويسّرَ أمرَهُ وأدناهُ، وبلّغَهُ مُناهُ وحققَ لهُ مُبتغاهُ، وصرفَ عنهُ السُّوءَ، وجنّبهُ خُطاهُ.
وقال فضيلته في خطبة الجمعة التي ألقاها اليوم بالمسجد الحرام: ها قد دارَ الزَّمانُ دَوْرتَهُ، وأظلّتكُمْ فيهِ خيرُ أيّامِ الدُّنيا، أيّامُ عشْرِ ذي الحجّةِ، الَّتي عَظَّمَ اللهُ أمرَها، ورفَع قدرَها، وأعلَى شأْنَها، فنَهَلْتُم مِن مَنبعِها العذبِ، واغترفتُم مِن معِينِها الَّذِي لا ينْضَبُ، أفضْلَ الأعمالِ وأزْكاها، وأجلَّ القُرباتِ وأَسْناها، تَسلَّمها المولى منكُم كما سلَّمَكُم إيّاها، مقبولةً بقَبُولٍ حسَنٍ، مشمُولةً منهُ بالرِّضَى الأتمِّ الـمُستحْسَنِ.
وأضاف لقد آذَنَتْ أيّامُكُم هذهِ بالرَّحيلِ، فلم يبْقَ منها إلّا القليلُ، بقيَ منها الثّلُثُ، والثّلُثُ كثيرٌ، كيف لا؟! وفيهِ يومكُم هذا يومُ التّرويةِ، يومُ سقايةِ الحجيجِ، وقد صادفَ يومَ جمعةٍ، الَّذي قال فيه صلى الله عليه وسلم : « خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ »رواهُ مسلمٌ في صحيحِهِ، يليهِ يومُ عرفةَ، اليومُ الذي أكملَ اللهُ فيهِ الدّينَ، وأتمَّ نعمتَهُ على سيّدِ المرسلينَ عليه الصلاة والسلام ثم اليومُ العاشرُ يومُ النحرِ، وما أدراكُم ما يومُ النحرِ، يومُ الحجِّ الأكبرِ، عنِ ابنِ عمرَ ب أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وقفَ بينَ الجمراتِ يومَ النحرِ في الحجّةِ التي حجَّها، وقال: « هَذَا يَوْمُ الحَجِّ الأَكْبَرِ » أخرجه البخاريُّ في صحيحهِ، وهو أعظمُ الأيامِ عندَ اللهِ جلَّ وعلَا، فعنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: « إِنَّ أَعْظَمَ الأَيَّامِ عِنْدَ اللهِ يَوْمُ النَّحْرِ» أخرجه أبو داودَ في سننِهِ. أقسمَ اللهُ بهِ وبيومِ عرفةَ بعدَ أن أقسمَ بالعشرِ، لـمكانتِهِما وعظِيمِ منزلتِهِما عندَهُ، وإِنَّ العشرَ عَشرُ النَّحرِ، والوَتْرَ يَومُ عَرَفَةَ، وَالشَّفعَ يَومُ النَّحرِ » أخرجهُ الإمامُ أحمدُ في المسندِ والنّسائيُّ في الكبرى.
وأوضح أن حجُّ بيتِ اللهِ الحرامِ، مَنسكٌ عظيمٌ، فيه تتلاشَى النِّزاعاتُ، وتذوبُ الخلافاتُ، وتتهاوَى النَّعراتُ، وتتجهُ النفوسُ إلى ربِّ الأرضِ والسماواتِ، لا مجالَ فيهِ للتّباهِي بالألوانِ والأجناسِ، ولا فضلَ فيه لأحدٍ من النَّاسِ على النَّاسِ إلّا بالتقوى، خيرُ لباسٍ، عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: « إنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّـيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَفَخْرَهَا بِالْآبَاءِ، مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ، وَالنَّاسُ بَنُو آدَمَ، وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ » أخرجهُ الإمامُ أحمدُ في مسندهِ وأبو داودَ في سننِهِ. والعُبِّـيَّةُ: الكِبْرُ والفَخْرُ.
وأكد إمام وخطيب المسجد الحرام أن العبرةُ في هذا الدّينِ العظيمِ بما وَقَرَ في القلبِ وصدَّقهُ العملُ، عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صَلَّى الله عليه وسلم «إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ» أخرجه مسلمٌ، فتزوَّدُوا عبادَ اللهِ، فإنَّ خيرَ الزّادِ التقوى، واستمسِكُوا مِن دينكُم بالعُروةِ الوثقى، وعليكُم بالجماعةِ، فإنَّ يدَ اللهِ مع الجماعةِ، ومَن شذَّ شذَّ في النّارِ عياذًا بالله.
وبين الدكتور بندر بليلة أن كُبْرى القضايا التي قام عليها مَنسكُ الحجِّ العظيمِ، بل وقامَت عليهِ جميعُ الطَّاعاتِ والعِباداتِ: هي تحقيقُ التّوحيدِ، وتجريدُهُ لربِّ العبيدِ، وإظهارُ الاستسلامِ للهِ بالطاعةِ، والانقيادُ لهُ بالعبادةِ، والبراءةُ من الشركِ وأهلهِ يقولُ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ رحمهُ اللهُ: ” التوحيدُ هو أصلُ الدِّينِ الذي لا يقبلُ اللهُ من الأوَّلينَ والآخرين ديناً غيرَهُ، وبه أرسلَ اللهُ الرسلَ وأنزلَ الكُتبَ والتوحيدُ هو الحسنةُ التي لا تعدلُـها حسنةٌ، والقربةُ التي لا تُوازيها قربةٌ، فحسنةُ التّوحيدِ تأتي على السيئاتِ فتمحُوها، وعلى الآثامِ فتجلُوها. عن عبدِ الله بنِ مسعودٍ رضي الله عنه حينما أُسريَ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: « فَأُعْطِيَ رَسُولُ اللهِ عليه الصلاة والسلام ثَلَاثًا: أُعْطِيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وَأُعْطِيَ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَغُفِرَ لِمَنْ لَمْ يُشْرِكْ بِاللهِ مِنْ أُمَّتِهِ شَيْئًا، الْمُقْحِمَاتُ » أخرجهُ مسلمٌ قال أهلُ العلمِ رحمهُم اللهُ: الـمُقْحِماتُ: الذنوبُ العظامُ التي تُقحمُ وتُدخلُ صاحبَها النارَ ـ عياذًا باللهِ ـ.
وشدد إمام وخطيب المسجد الحرام على وجوب تحقيقِ التوحيدِ، والحذر ممّا يُعكّرُ نقاءَهُ، ويَخدِشُ صفاءَهُ، والتمسك بالسنةِ، وجانبُوا أهلَ الأهواءِ والبدعِ المُضلَّةِ، فالعبادةُ لا تُصرفُ إلّا للهِ وحدهُ، لا لملَكٍ مُقرَّبٍ، ولا لنبيٍّ مرسلٍ، فضلًا عمّن دونهُم من الأولياءِ والصالحينَ، ممّن لا يملكُ لنفسهِ نفعًا ولا ضرًّا، ولا موتًا ولا حياةً ولا نُشُوراً.
وفي المدينة المنورة أوصى إمام وخطيب المسجد النبوي فضيلة الشيخ الدكتور عبدالباري الثبيتي المسلمين بتقوى الله تعالى قال جل من قائل ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)) .
وقال فضيلته : في مثل هذه الأيام في موسم الحج؛ تتجدد لدى المسلم بل المسلمين أجمع مواقف تنشرح بها صدورهم، وتهيم بها أرواحهم قبل مشاعرهم، يقلب المرء ناظريه فيرى بأم عينيه مشاهد تثلج الصدر، وتسر الخاطر؛ في ردهات الحرمين وفي صعيد المشاعر المقدسة؛ منظر مهيب حقاً، اجتماع الأمة في ملتقى إيماني روحاني، لباس واحد، نداء واحد، قبلة واحدة، نبي واحد، مقصدهم رضا رب واحد لاشريك له؛ فلا غرو أن أراد الله لهذه الأمة أن تكون عظيمة؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّكم تُتِمُّونَ سبعينَ أُمَّةً، أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللهِ» رواه الترمذي.
وبين فضيلته أن سنة الله وحكمته في هذه العبادات الموسمية، يتجلى فيها التئام شمل الأمة متجردين من الشعارات والنداءات والعصبيات، في ظل أمن وارف، وحشد جبار للجهود، وبذل سخي من قيادة وولاة أمر هذه البلاد خدمةً لوفد الله الحجاج والعمار.
ومضى فضيلته قائلاً: ما أعظم هذه الأمة المحمدية وهي ترفل في أبهى حلتها، وتكتسي أجمل كسوتها، متلبسة بعبادة تتساوى فيها مقامات الناس وطبقاتهم، دون اعتبار للون ولا جنس ولا مرتبة ولا منصب، مشيراً إلى أنها تعلو قيمة المخبر على المظهر، والصدق في القول والفعل على الادعاءات، تجلت هذه المعاني في خطبة الوداع بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أيُّها الناسُ إنَّ ربَّكمْ واحِدٌ ألا لا فضلَ لِعربِيٍّ على عجَمِيٍّ ولا لِعجَمِيٍّ على عربيٍّ ولا لأحمرَ على أسْودَ ولا لأسودَ على أحمرَ إلَّا بالتَّقوَى إِنَّ أَكۡرَمَكُمۡ عِندَ ٱللَّهِ أَتۡقَاكُمۡ).
وأوضح فضيلته أن المشهد الذي نراه اليوم في مناسك الحج يحكي كثيراً من قيم الإسلام؛ المساواة والعدل والألفة والمحبة والتآخي وتحقيق العبودية والتجرد لله والإخلاص والتواضع، وهذا سبب الانجذاب الفطري لمبادئه السامية؛ أحب الناس الإسلام؛ وانتشر وينتشر لأنه واضح المعالم، وحق أبلج، يسعد النفوس، يشرح الصدور، يشبع فراغ القلوب، يهذب حيرة الأرواح، يملأ خواء الفكر، يلبي حاجات النفس ويروي ظمأها، ويمنح الأمن، مستشهداً بقول الله تعالى:(فِطۡرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيۡهَاۚ لَا تَبۡدِيلَ لِخَلۡقِ ٱللَّهِۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُ ).
وأشار إلى أن هذه الجموع الغفيرة والألوف المؤلفة لم تأت إلى الحج بالقوة والقهر؛ بل سبقت أفئدتها أجسادها إلى أروقة الحرمين حبا وشوقا ورغبة، وتكبدت المشاق طلباً لرضا الرحمن، وهذا خير شاهد على أن انتشار الإسلام كان وما زال بالبرهان الساطع والدليل القاطع، والسماحة والقيم والأخلاق؛ حيث قال تعالى: (لَآ إِكۡرَاهَ فِي ٱلدِّينِۖ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّۚ)، وقال: (أَفَأَنتَ تُكۡرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤۡمِنِينَ ).
وأكمل فضيلته بقوله: فلا تعجب أيها المسلم إن اجتمعت هذه الوفود من أقطار الأرض كلها من كل حدب وصوب؛ فإن قيم الإسلام وركائز الإيمان تتجاوز السدود، وتخترق الحدود، وتصل إلى شغاف النفوس في أي بقعة في الأرض؛ فترقيها وتطهرها وتجعلها خلقا آخر؛ قال الله تعالى: (صِبۡغَةَ ٱللَّهِ وَمَنۡ أَحۡسَنُ مِنَ ٱللَّهِ صِبۡغَةٗۖ).
وبين فضيلته أن هذه الجموع أقبلت على الإسلام لأنه دين متوازن متجاوب مع متغيرات الحياة والعصور؛ يستوعب كل أحد، كل زمان، وكل مكان، يجيب عن كل مسألة، ويفكك رموز كل نازلة؛ قال الله تعالى: (ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗاۚ)، مشيراً إلى أن هذه الأمة الإسلامية أحبت دينها لأنه منبع الاستقرار ومصدره، الاستقرار النفسي، الاستقرار الأمني، الاستقرار الاجتماعي؛ يزيل أسباب القلق والتوتر، ويسكب في النفس الراحة والسعادة والطمأنينة؛ قال عز وجل: (فَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يَهۡدِيَهُۥ يَشۡرَحۡ صَدۡرَهُۥ لِلۡإِسۡلَٰمِۖ وَمَن يُرِدۡ أَن يُضِلَّهُۥ يَجۡعَلۡ صَدۡرَهُۥ ضَيِّقًا حَرَجٗا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي ٱلسَّمَآءِۚ).
وذكر فضيلته أن الإسلام قوى رابطة الأمة الإسلامية بتعزيز معاني الأخوة، والارتقاء بمشاعر المسلم ليكون محباً للخير لكل الخلائق؛ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لَا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ، حتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ)، مضيفاً أن أمة الإسلام تقف شامخة بإسلامها، قوية بإيمانها، عزيزة بمبادئها؛ لأنها أمة القيم والمثل والأخلاق، هذا الذي نشاهده اليوم يجسد الأمة الواحدة المتحدة في الشريعة والشعور؛ نعمة عظيمة تستوجب معرفتها واستشعار قيمتها والحفاظ عليها بشكر المنعم، وقد كفل الله ديمومتها بنعمة أخرى عظيمة وهي نعمة كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم؛ الحصن الحصين والحرز المكين، وبقدر تمسك الأمة بها تدوم ألفتها، ويتماسك صفها، ويشتد بنيانها؛ وهذا يقتضي نبذ الفرقة بكل صورها بالقول أو بالفعل أو بحمل السلاح؛ قال تعالى: (وَلَا تَنَٰزَعُواْ فَتَفۡشَلُواْ وَتَذۡهَبَ رِيحُكُمۡۖ ).
ونبه إمام وخطيب المسجد النبوي إلى أن الأمة الإسلامية مطالبة بتحقيق الأمن الشامل الذي يتحقق به أمن الدنيا والآخرة وذلك بتحصين العقيدة من الزيغ والشبهات، وتعزيز الأمن الفكري لشباب الأمة من التطرف والغلو والتحزبات، ومن السقوط في براثن الشبهات ومزالق الشهوات، قال تعالى: (فَأَيُّ ٱلۡفَرِيقَيۡنِ أَحَقُّ بِٱلۡأَمۡنِۖ إِن كُنتُمۡ تَعۡلَمُونَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَلَمۡ يَلۡبِسُوٓاْ إِيمَٰنَهُم بِظُلۡمٍ أُوْلَٰٓئِكَ لَهُمُ ٱلۡأَمۡنُ وَهُم مُّهۡتَدُونَ).
وأشار إلى أن الأمة الإسلامية أمة العلم والعمل؛ تواكب التطور النافع، وتشارك في تنمية الحياة، وتحفز على السعي في مناكب الأرض وبناء الأوطان، وتنأى بنفسها عن الجهل والكسل والتواكل، مع المحافظة على ثوابت الدين وركائز الإسلام والقيم، وفي هذا السياق يتحتم على الأمة إبراز سماحة الإسلام ويسره وعدله وسعة أحكامه، والبعد عن كل ما يشوه صورة الإسلام ونصاعة تشريعاته، مضيفا أن المتدبر في الكتاب والسنة، ومن خلال آيات المناسك وغيرها؛ يرى دعامة ثابتة من دعامات هذا الدين من الحث على التيسير لا التعسير، والتبشير لا التنفير؛ قال تعالى: (يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلۡيُسۡرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ ٱلۡعُسۡرَ)، وقال: (هُوَ ٱجۡتَبَاكُمۡ وَمَا جَعَلَ عَلَيۡكُمۡ فِي ٱلدِّينِ مِنۡ حَرَجٖ ).
وختم إمام وخطيب المسجد النبوي فضيلة الشيخ الدكتور عبدالباري الثبيتي بأن المسلم يعتز بهذه الأمة؛ فهي أكرم الأمم؛ قال تعالى: (كُنتُمۡ خَيۡرَ أُمَّةٍ أُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ)، أمة وسط، لا غلو ولا تنطع ولا تهاون، محفوظة من الهلاك والاستئصال، فلا تهلك بالسنين ولا بالجوع ولا بالغرق، باقية ما بقي الزمان؛ ألا ترون هذه الصفوف التي نصطف بها في الصلاة قد خصت بها هذه الأمة؛ إذ جعل اصطفافها كصفوف الملائكة، والتكريم الأكبر يوم القيامة حين تأتي هذه الأمة غراً محجلين من أثر الوضوء، وهي الصفة التي يعرف النبي صلى الله عليه وسلم بها أمته، ثم تترقى منزلتهم؛ فتكون هذه الأمة أول من يجتاز الصراط وأول من يدخل الجنة .
المصدر: صحيفة صدى
كلمات دلالية: صلى الله علیه وسلم إمام وخطیب المسجد الأمة الإسلامیة ى الله علیه وسلم المسجد الحرام المسجد النبوی أمة الإسلام الله تعالى فضیلته أن هذه الأمة قال تعالى إلى أن
إقرأ أيضاً:
الأوقاف تحدد موضوع خطبة الجمعة القادمة.. «فَظَلِلْتُ أَسْتَغْفِرُ اللهَ مِنْهَا ثَلَاثِينَ سَنَةً»
حددت وزارة الأوقاف موضوع خطبة الجمعة القادمة 19 ديسمبر 2025، الموافق 28 جمادي الثاني 1447 هـ، وهي بعنوان «فَظَلِلْتُ أَسْتَغْفِرُ اللهَ مِنْهَا ثَلَاثِينَ سَنَةً».
كما حددت الأوقاف موضوع الخطبة الثانية، وهي تعالج قضية التفكك الأسري ضمن مبادرة صحح مفاهيمك.
نص موضوع خطبة الجمعة القادمةالحمدُ للهِ الذي يرققُ القلوبَ بلطفهِ، ويربي عبادَهُ على مقامِ الأمانةِ، ويهديهم إلى معارجِ الصفاءِ والإخلاصِ، نحمدُهُ حمدًا يليقُ بجلالِهِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ، وأشهدُ أنَّ سيدَنا محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ، الذي أقامَ الأمةَ على العدلِ والرحمةِ والمواساةِ، اللهمَّ صلِّ وسلمْ وباركْ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ ومنْ سارَ على نهجِهِ إلى يومِ الدينِ. أما بعد:
فيا عبادَ اللهِ، إنَّ في مقاماتِ الإيمانِ لحظاتٍ يرقُّ فيها القلبُ، وتصفو فيها النفسُ، ويستيقظُ ضميرُ المؤمنِ ليحاسبَ نفسَهُ على دقائقَ لا يلتفتُ إليها أهلُ الغفلةِ.
وإذا كان أولئك القومُ يحاسبونَ أنفسَهم على المشاعرِ، فكيفَ بحالِ منْ لا يبالي بآلامِ الناسِ أو حقوقِهِم؟ وكيفَ بمنْ يتغافلُ عن أوجاعِ المجتمعِ، أو يعتدي على مالِ الجماعةِ، وهو منْ أعظمِ الأماناتِ؟
يا عبادَ اللهِ، إنَّ منْ أجلِّ منازلِ السالكينَ إلى اللهِ منزلةً يرقُّ فيها القلبُ، وتخشعُ فيها النفسُ، ويرى العبدُ ذنوبَهُ وإنْ صغرتْ جبالًا توشكُ أنْ تقعَ عليهِ، تلكَ هي منزلةُ المحاسبةِ، المحاسبةُ التي تجعلُ المؤمنَ حيَّ القلبِ، لطيفَ الشعورِ، شديدَ المراقبةِ لنفسِهِ، لا تمرُّ عليهِ اللحظةُ إلَّا وهو يفتشُ فيها عنْ موضعِ رضا ربِّهِ.
وفي هذا المقامِ الجليلِ جاءتْ قصةُ السريِّ السقطيِّ رحمهُ اللهُ، وهي قصةٌ تُكتبُ بماءِ العبرةِ، وتُحكى لتهذيبِ النفوسِ، وقدْ رواها الخطيبُ البغداديُّ في تاريخِ بغدادَ (9/188)، والذهبيُّ في سيرِ أعلامِ النبلاءِ (12/186)، وابنُ كثيرٍ في البدايةِ والنهايةِ (11/18)، كلهم عنْ أبي بكرٍ الحربيِّ قالَ: سمعتُ السريَّ يقولُ: احترقَ السوقُ فقصدتُهُ، فلقيني رجلٌ فقالَ: أبشرْ، فإنَّ دكانَكَ قدْ سَلِمَ، قالَ السريُّ: فقلتُ الحمدُ للهِ، ثمَّ مضيتُ غيرَ بعيدٍ، فوقعَ في قلبي أني فرحتُ لنفسي، ولمْ أواسيِ الناسَ فيما همْ فيهِ، فأنا أستغفرُ اللهَ منْ ذلكَ الحمدِ منذُ ثلاثينَ سنةً.
اللهُ أكبرُ… أيُّ قلبٍ هذا؟ رجلٌ يستغفرُ اللهَ منْ كلمةِ حمدٍ قالَها، لا لأنَّ الحمدَ معصيةٌ حاشا للهِ، بل لأنَّهُ رأى في تلكَ اللحظةِ أنَّهُ انفردَ بالفرحِ وتركَ مواساةَ الناسِ في المصيبةِ، فكانتْ فرحتُهُ ناقصةً في ميزانِ التقوى، لأنَّها فرحةٌ لمْ تمتزجْ برحمةٍ ولا بشعورٍ بالجماعةِ.
أيُّ ورعٍ هذا يا عبادَ اللهِ؟ أيُّ نقاءٍ في السريرةِ؟ أيُّ حساسيةٍ في القلبِ؟ رجلٌ ينظرُ إلى داخلِ نفسِهِ قبلَ أنْ ينظرَ الناسُ إلى ظاهرِ عملِهِ، فيرى في قلبِهِ ما لو رآهُ غيرُهُ لعدَّهُ هينًا، ولكنَّ المؤمنَ ينظرُ بعينِ الحقِّ، بعينِ التقوى، بعينٍ ترى ما لا يراهُ الغافلونَ.
وهذا المعنى الذي عاشَهُ السريُّ يومَ احترقَ السوقُ هو بذاتِهِ معنى منْ معاني حديثِ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ: “لَا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ، حتَّى يُحِبَّ لأخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ“. (متفقٌ عليهِ، البخاري 13، ومسلم 45).
وهذا هو الفرقُ بينَ المؤمنِ والغافلِ، الغافلُ ينظرُ إلى نفسِهِ، والمؤمنُ ينظرُ إلى نفسِهِ وإلى الناسِ معها. الغافلُ إذا نجا فرحَ ولو هلكَ الناسُ، والمؤمنُ إذا نجا خافَ لأنَّ الفرحةَ إذا انفردتْ عنْ مواساةِ الناسِ أصبحَ فيها معنى الأنانيةِ الذي يكرهُهُ اللهُ لعبادِهِ.
ولذلكَ كانَ السلفُ يقولونَ: ربَّ حسنةٍ أورثتْ عُجبًا، فهي عندَ اللهِ سيئةٌ، وربَّ كلمةٍ صالحةٍ لمْ تصحبْها نيةٌ خالصةٌ، فكانتْ على صاحبِها وبالًا. فإذا كانَ هذا في الحسناتِ والكلماتِ، فكيفَ إذا كانَ في المشاعرِ والنياتِ؟
ولذلكَ كانتْ محاسبةُ النفسِ أصلًا منْ أصولِ الإيمانِ، قالَ تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوٰاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ [الشمس: 7-10]. قالَ الطبريُّ في تفسيرِهِ (20/77): “قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خَابَتْ نَفْسٌ أَضَلَّهَا وَأَغْوَاهَا. وَقِيلَ: أَفْلَحَ مَنْ زَكَّى نَفْسَهُ بِطَاعَةِ اللَّهِ، وَصَالِحِ الْأَعْمَالِ، وخاب من دس نفسه في المعاصي، قال قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ. وَأَصْلُ الزَّكَاةِ: النُّمُوُّ وَالزِّيَادَةُ، وَمِنْهُ زَكَا الزَّرْعُ: إِذَا كَثُرَ رِيعُهُ”.
وهذا ما أشارَ إليهِ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ في الحديثِ الذي رواهُ مسلمٌ (2564): “إِنَّ اللهَ تعالى لَا ينظرُ إلى صُوَرِكُمْ وَأمْوالِكُمْ، ولكنْ إِنَّما ينظرُ إلى قلوبِكم وأعمالِكم”. فالقلبُ هو موضعُ نظرِ الربِّ، ومنْ عرفَ هذا استقامَ قلبَهُ قبلَ أنْ يُصلحَ ظاهرَهُ، وراقبَ نيتَهُ قبلَ أنْ يزنَ عملَهُ.
يا عبادَ اللهِ، إنَّ القلبَ الذي لا يلينُ لمصابِ الناسِ قلبٌ قاسٍ، والقلبُ القاسي هو أبعدُ القلوبِ عنْ اللهِ تعالى، وقدْ قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ: “لا تُنْزَعُ الرَّحمةُ إلَّا منْ شقيٍّ”. (أبو داود 4942، والترمذي 1923، وأحمد 8001 صحيح).
رِقَّةُ قَلْبِ الْمُؤْمِنِ وَمَقَامُ مُحَاسَبَةِ النَّفْسِ: يا عبادَ اللهِ، إنَّ أعظمَ ما يميزُ قلوبَ المؤمنينَ هو تلكَ الحياةُ الداخليّةُ التي تحدثُ بينهمْ وبينَ اللهِ في الخلاءِ قبلَ الملإِ، تلكَ الومضةُ التي يجعلُ اللهُ فيها القلبَ حيًّا، فيستيقظُ على معنى لمْ ينتبهْ لهُ غيرُهُ، ويعلمُ أنَّ اللهَ تعالى قالَ: ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ [غافر: 19]. قالَ ابنُ كثيرٍ في تفسيرِهِ (7/137): “لِيَحْذَرْ الناسُ عِلْمَهُ فيهمْ، فيَسْتَحْيُوا منَ اللهِ حقَّ الحياءِ، ويَتَّقُوهُ حقَّ تُقَاتِهِ، ويُراقِبُوهُ مُراقَبَةَ مَنْ يَعْلَمُ أنَّهُ يَراهُ، فإنَّهُ تعالى يَعْلَمُ العَيْنَ الخائنةَ وإنْ أَبْدَتْ أمانةً، ويَعْلَمُ ما تَنْطَوِي عليهِ خبايا الصدورِ منَ الضمائرِ والسرائرِ.
قالَ الحسنُ البصريُّ رحمهُ اللهُ: إِنَّ المُؤْمِنَ قَوَّامٌ على نَفْسِهِ يَحاسِبُ نَفْسَهُ للهِ، وَإِنَّما خَفَّ الحِسابُ يَوْمَ القِيامَةِ على قَوْمٍ حاسَبُوا أَنْفُسَهُمْ في الدُّنْيا، وَإِنَّما شَقَّ الحِسابُ يَوْمَ القِيامَةِ على قَوْمٍ أَخَذُوا هذا الأَمْرَ على غَيْرِ مُحاسَبَةٍ. المصنف لابن أبي شيبة ج8، ص257.
وقدْ قالَ ابنُ مسعودٍ رضيَ اللهُ عنهُ: إنَّ المؤمنَ يرَى ذنوبَه كأنه في أصلِ جبلٍ يخافُ أنْ يقعَ عليه وإنَّ الفاجرَ يرَى ذنوبَه كذبابٍ وقع على أنفِه قال به هكذا، فطار (البخاري 6308).
يا عبادَ اللهِ، لقدْ كانَ السلفُ يرونَ أنَّ رحمةَ الناسِ جزءٌ منْ رحمةِ اللهِ لعبادِهِ. أخرج أبو داود (4941)، والترمذي (1924)، وأحمد (6494) في الحديث الصحيح: عنْ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ أنَّهُ قالَ: “الراحمونَ يرحمُهُمُ الرحمنُ، ارحموا منْ في الأرضِ يرحمْكمْ منْ في السماءِ”. فكيفَ برحمةِ الناسِ عندَ الشدائدِ والمصائبِ؟ وكيفَ برحمةِ أهلِ السوقِ يومَ احترقتْ أموالُهمْ وضاعتْ أرزاقُهمْ؟
يا عبادَ اللهِ، إنَّ اللهَ تعالى حين وصفَ المؤمنين وصفهم بصفةٍ جامعةٍ مانعةٍ فقال: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: 10]، وهذه الآية كما قال السعدي (ص800): “هذا عقدٌ، عقدَهُ اللهُ بينَ المؤمنينَ، أنَّهُ إذا وجدَ منْ أيِّ شخصٍ كانَ، في مَشرقِ الأرضِ ومَغربِها، الإيمانَ باللهِ، وملائكتِهِ، وكُتبِهِ، ورُسُلِهِ، واليومِ الآخرِ، فإنَّهُ أخٌ للمؤمنينَ، أُخوَّةً توجبُ أنْ يحبَّ لهُ المؤمنونَ ما يحبُّونَ لأنفسِهمْ، ويكرهونَ لهُ ما يكرهونَ لأنفسِهمْ”.
وقد أثبت هذا المعنى رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم في الحديثِ الصحيحِ الذي رواه البخاري (6011) ومسلمٌ (2586): «مثلُ المؤمنين في تَوادِّهم، وتَرَاحُمِهِم، وتعاطُفِهِمْ. مثلُ الجسَدِ إذا اشتكَى منْهُ عضوٌ تدَاعَى لَهُ سائِرُ الجسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى». وهذا التشبيه من أبلغِ تشبيهاتِ السنة، لأنه يبيِّن أنَّ مشاعرَ المؤمنين ليست منفصلةً، بل متصلةٌ كاتصالِ أعضاءِ الجسد، فإذا مرض عضوٌ واحدٌ لم تستقرَّ بقيةُ الأعضاءِ حتى يشفى.
وهكذا كان السلف، يرون أنَّ الأمةَ جسدٌ واحدٌ، وأنَّ الرحمةَ ركنٌ من أركانِ الإيمان. روى البخاريُّ (13) ومسلمٌ (45) عن رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم أنه قال: «والذي نفسُ مُحَمَّدٍ بيدِهِ لا يُؤْمِنُ أحدُكُم حتى يُحِبَّ لِأَخِيهِ ما يُحِبُّ لنفسِهِ من الخيرِ». قالَ ابنُ بطّالٍ: “لأنَّ الإنسانَ يحبُّ أنْ يكونَ أفضلَ الناسِ، فإذا أحبَّ لأخيهِ مثلَهُ، فقدْ دخلَ هو في جملةِ المفضولينَ، ألا ترى أنَّ الإنسانَ يجبُ أنْ ينتصفَ منْ حقِّهِ ومظلمتِهِ، فإذا كملَ إيمانُهُ وكانتْ لأخيهِ عندَهُ مظلمةٌ أو حقٌّ، بادرَ إلى إنصافِهِ منْ نفسِهِ، وآثرَ الحقَّ، وإنْ كانَ عليهِ فيهِ بعضُ المشقةِ”. (شرحُ صحيحِ البخاريِّ لابنِ بطّالٍ، ج1، ص45).
يا عبادَ اللهِ، لقد فهم الصحابةُ هذا المعنى فهمًا عميقًا، وتحول عندهم من شعارٍ إلى واقع. ففي الصحيحين: “أنَّ رَجُلًا أتَى النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَبَعَثَ إلى نِسَائِهِ، فَقُلْنَ: ما معنَا إلَّا المَاءُ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: مَن يَضُمُّ -أوْ يُضِيفُ- هذا؟ فَقالَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ: أنَا، فَانْطَلَقَ به إلى امْرَأَتِهِ، فَقالَ: أكْرِمِي ضَيْفَ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقالَتْ: ما عِنْدَنَا إلَّا قُوتُ صِبْيَانِي، فَقالَ: هَيِّئِي طَعَامَكِ، وأَصْبِحِي سِرَاجَكِ، ونَوِّمِي صِبْيَانَكِ إذَا أرَادُوا عَشَاءً، فَهَيَّأَتْ طَعَامَهَا، وأَصْبَحَتْ سِرَاجَهَا، ونَوَّمَتْ صِبْيَانَهَا، ثُمَّ قَامَتْ كَأنَّهَا تُصْلِحُ سِرَاجَهَا فأطْفَأَتْهُ، فَجَعَلَا يُرِيَانِهِ أنَّهُما يَأْكُلَانِ، فَبَاتَا طَاوِيَيْنِ، فَلَمَّا أصْبَحَ غَدَا إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقالَ: ضَحِكَ اللَّهُ اللَّيْلَةَ -أوْ عَجِبَ- مِن فَعَالِكُما. فأنْزَلَ اللَّهُ: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} الحشر 9. (البخاري 3798 واللفظ له، ومسلم 2054).
اللهُ أكبر… رفقةٌ ورحمةٌ، ومواساةٌ وبذلٌ، حتى آثروا الضيفَ على أنفسهم. لقد قاموا بشرحِ معنى الآيةِ التي قال فيها اللهُ تعالى: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلٰى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ [الحشر: 9]. قالَ القُرطبيُّ (ج18، ص26): “الإيثارُ: هو تقديمُ الغيرِ على النفسِ وحظوظِها الدنيويّةِ، ورغبةٌ في الحظوظِ الدينيّةِ. وذلكَ ينشأُ عن قوّةِ اليقينِ، وتأكيدِ المحبّةِ، والصبرِ على المشقّةِ”. (تفسير القرطبي ج18، ص26). وأضاف (ج18، ص26): ” أَلَا تَرَى أَنَّ امْرَأَةَ الْعَزِيزِ لَمَّا تَنَاهَتْ فِي حُبِّهَا لِيُوسُفَ عليه السلام، آثَرَتْهُ عَلَى نَفْسِهَا فَقَالَتْ: أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ”.
يا عبادَ اللهِ، إنَّ من أعظمِ ما يُظهرُ وحدةَ الأمة أن يعيشَ كلُّ واحدٍ منا بضميرِ الجماعة، لا بضميرِ الفردِ المنعزل، ينظرُ ماذا تحتاجُ الأمة، لا ماذا يكسبُ هو فقط، ويتألمُ لما يصيبُ غيرَه، لا لما يسلمُ منه وحده.
أيها الأحبة، إنَّ المؤمنَ الحقَّ هو الذي يخرجُ من حدودِ نفسِه إلى حدودِ الأمة، يسمعُ أنينَها، ويرى حاجتَها، ويعيشُ همَّها، لأنه جزءٌ من جسدٍ واحد.
ولذلك كان العلماءُ يقولون: إذا صلحتِ القلوبُ صلحتِ الأمة. وإذا صلحتْ علاقةُ الناسِ ببعضِهم صلحتْ أخلاقُهم، وصلحتْ أسواقُهم، وصلحتْ مصالحُهم، وصلحتْ إدارةُ مالِهم العام، لأنَّ من يعطي الناسَ من قلبِه لا يأخذُ منهم ظلمًا بيده.
وهذا يا عبادَ اللهِ هو البابُ الذي ننتقلُ منه إلى معنى عظيمٍ من معاني دينِ اللهِ، ألا وهو: أنَّ قلبَ المؤمنِ إذا رقَّ لا يمكنُ أن يظلمَ الناسَ في أموالِهم، ولا أن يعتديَ على حقٍّ من حقوقِ الجماعة، لأنَّ قلبًا يرحمُ الفردَ لا يمكنُ أن يخونَ الأمة.
الخطبةُ الثانيةُالحمدُ للهِ حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيهِ كما يحبُّ ربُّنا ويرضى، نحمدُهُ على نعمِهِ الظاهرةِ والباطنةِ، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ سيدَنا محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ، اللهمَّ صلِّ وسلمْ وباركْ عليهِ وعلى آلهِ وصحبِهِ أجمعينَ. أما بعدُ فيا عبادَ اللهِ، اتقوا اللهَ تعالى حقَّ التقوى، واعلموا أنَّ الإيمانَ ليسَ صلاةً فقط، ولا ذكرًا فقط، بلْ أمانةٌ تُحمَلُ، وحقوقٌ تُصانُ، ومصالحُ تُحفَظُ، ومنْ أعظمِ هذهِ الحقوقِ: حقُّ الجماعةِ، ومالُ الأمةِ، وما استرعانا اللهُ عليهِ منْ مصالحٍ عامةٍ تُبنى بها البلادُ وتقامُ بها المجتمعاتُ.
يا عبادَ اللهِ، إذا كانَ السريُّ السقطيُّ قدْ استغفرَ ثلاثينَ سنةً منْ كلمةٍ قالها فرحًا بسلامةِ دكانِهِ، لأنهُ رأى فيها غفلةً عنْ مواساةِ الناسِ، فكيفَ يكونُ حالُ منْ يعتدي على مالِ الجماعةِ؟ أو يستبيحُ حقًّا ليسَ لهُ؟ أو يستهينُ بأمانةٍ وضعتها الأمةُ بينَ يديهِ؟
وهكذا نفتحُ اليومَ بابًا منْ أبوابِ الشريعةِ العظيمةِ: بابَ حفظِ المالِ العامِّ، وهو بابٌ لا يقومُ إلا على رقّةِ قلوبٍ، وإيمانِ جماعةٍ، وتعظيمِ الأمانةِ كما أمرَ اللهُ تعالى.
يا عبادَ اللهِ، إنَّ المالَ العامَّ ليسَ كغيرهِ منَ الأموالِ، لأنَّهُ مالُ الأمةِ كلِّها، مالُ الضعيفِ قبلَ القويِّ، وحقُّ الأرملةِ واليتيمِ، وثمرةُ عملِ الشعبِ، وسرُّ قوةِ الدولةِ. وقدْ سماهُ العلماءُ مالَ اللهِ، لأنَّهُ يعودُ نفعُهُ على عبادِ اللهِ جميعًا.
قالَ تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ [البقرة: 188]. ودخلَ في الآيةِ مالُ الفردِ ومالُ الجماعةِ، لأنَّ الاعتداءَ على المالِ العامِّ ظلمٌ لجميعِ الناسِ. وقالَ تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلٰى أَهْلِهَا﴾ [النساء: 58]. قالَ الطبريُّ (8/251): كلُّ ما استُودِعَ العبدُ حفظَهُ فهو أمانةٌ، ومالُ الأمةِ أمانةٌ في يدِ منْ وليَهُ.
حديثُ الغلولِ - أعظمُ بيانٍ في حُرمةِ المالِ العامِّ: عنْ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ أنَّهُ قالَ: “إنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ في مَالِ اللَّهِ بغيرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النَّارُ يَومَ القِيَامَةِ“. البخاري (3118).
قالَ ابنُ حجرٍ في فتح الباري (6/252): (يتخَوَّضونَ في مالِ اللهِ بغيرِ حقٍّ)، أيْ يتصرَّفونَ في مالِ المسلمينَ بالباطلِ.
فمنْ أخذَ مالًا ليسَ لهُ، منْ وظيفةٍ، أو عهدةٍ، أو إدارةٍ، أو منصبٍ، فقدْ حملَ على ظهرهِ وزرًا ثقيلًا يراهُ الناسُ يومَ القيامةِ. قال تعالي: ﴿وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾. آل عمران 161. قال القرطبي (4/256): “أَيْ يَأْتِي بِهِ حَامِلًا لَهُ عَلَى ظَهْرِهِ وَرَقَبَتِهِ، مُعَذَّبًا بِحَمْلِهِ وَثِقَلِهِ، وَمَرْعُوبًا بِصَوْتِهِ، وَمُوَبَّخًا بِإِظْهَارِ خِيَانَتِهِ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ”.
“اسْتَعْمَلَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ رَجُلًا مِنَ الأسْدِ، يُقَالُ له: ابنُ اللُّتْبِيَّةِ، قالَ عَمْرٌو: وَابنُ أَبِي عُمَرَ، علَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ قالَ: هذا لَكُمْ، وَهذا لِي، أُهْدِيَ لِي، قالَ: فَقَامَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ علَى المِنْبَرِ، فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عليه، وَقالَ: ما بَالُ عَامِلٍ أَبْعَثُهُ، فيَقولُ: هذا لَكُمْ، وَهذا أُهْدِيَ لِي، أَفلا قَعَدَ في بَيْتِ أَبِيهِ، أَوْ في بَيْتِ أُمِّهِ، حتَّى يَنْظُرَ أَيُهْدَى إلَيْهِ أَمْ لَا؟ وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِهِ، لا يَنَالُ أَحَدٌ مِنكُم منها شيئًا إلَّا جَاءَ به يَومَ القِيَامَةِ يَحْمِلُهُ علَى عُنُقِهِ بَعِيرٌ له رُغَاءٌ، أَوْ بَقَرَةٌ لَهَا خُوَارٌ، أَوْ شَاةٌ تَيْعِرُ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حتَّى رَأَيْنَا عُفْرَتَيْ إبْطَيْهِ، ثُمَّ قالَ: اللَّهُمَّ، هلْ بَلَّغْتُ؟ مَرَّتَيْنِ“. البخاري (3798).
قصةُ عمرَ بنِ الخطابِ والسراج: روى ابنُ سعدٍ في الطبقاتِ (3/283) انَّ عمرَ رضيَ اللهُ عنهُ كانَ إذا اشتغلَ في مصالحِ المسلمينَ أشعلَ سراجًا منْ بيتِ المالِ، فإذا جاءَهُ ضيفٌ أو أرادَ شأنًا خاصًّا أطفأَهُ وقالَ: “هذا منْ مالِ المسلمينَ، وهذا منْ مالي”. أيُّ ورعٍ هذا؟ أيُّ أمانةٍ؟ ورقةُ زيتٍ يخشى أنْ يحاسبَهُ اللهُ عليها.
قصةُ عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ - رسالةُ ابنهِ: روى ابن عبد الحكم الفقيه في سيرة عمر بن عبد العزيز ص200 وابنُ الجوزيِّ في المنتظمِ: “طلب ابْن لعمر بن عبد الْعَزِيز إِلَى أَبِيه أَن يُزَوجهُ وَأَن يصدق عَنهُ من بَيت المَال وَكَانَ لِابْنِهِ ذَلِك امْرَأَة فَغَضب لذَلِك عمر بن عبد الْعَزِيز وَكتب إِلَيْهِ لعمر الله لقد أَتَانِي كتابك تَسْأَلنِي أَن أجمع لَك بَين الضرائر من بَيت مَال الْمُسلمين وَأَبْنَاء الْمُهَاجِرين لَا يجد أحدهم امْرَأَة يستعف بهَا فَلَا أَعرفن مَا كتبت بِمثل هَذَا ثمَّ كتب إِلَيْهِ أَن انْظُر إِلَى مَا قبلك من نحاسنا ومتاعنا فبعه واستعن بِثمنِهِ”. وكانَ يعيشُ بأقلَّ مما يعيشُ بهِ أفقرُ الناسِ.
يا عبادَ اللهِ… هؤلاءِ رجالٌ أقاموا الدنيا بالأمانةِ، وصانوا الأمةَ بالصدقِ، وحفظوا المالَ العامَّ بالورعِ والخوفِ منَ اللهِ.
صورٌ معاصرةٌ لحفظِ الأمانةِ: الموظفُ الذي يعملُ بضميرٍ، فيعتبرُ الوقتَ مالًا عامًا، المديرُ الذي لا يعطي توقيعًا إلا بحقٍّ، العاملُ الذي لا يستهلكُ أدواتَ المؤسسةِ فيما لا يفيدُ الأمةَ، المسؤولُ الذي لا يجعلُ المنصبَ طريقًا للثراءِ.
يا عبادَ اللهِ… رجلٌ استغفرَ ثلاثينَ سنةً منْ كلمةٍ… لأنهُ لمْ يواسي الناسَ. فكيفَ بمنْ لمْ يرحمْ الناسَ؟ فكيفَ بمنْ ضيّعَ حقوقَهمْ؟ فكيفَ بمنْ مدَّ يدَهُ إلى مالِ الأمةِ؟
إنَّ الذي رقَّ قلبُهُ في قصةِ السريِّ هو الذي يحفظُ مالَ الناسِ، ويعظّمُ المالَ العامَّ، ويعلمُ أنَّ يدَهُ ليستْ ملكًا لهُ، بلْ هي أمانةٌ عندَ اللهِ.
الخاتمةُ: يا عبادَ اللهِ، لقدْ رأينا في قصةِ السريِّ السقطيِّ قلبًا رقَّ منْ كلمةٍ قالها، واستغفرَ منها ثلاثينَ سنةً، لأنها لمْ تُخالِطْ مواساةَ الناسِ، ولا شعورًا بجراحِ الأمةِ. فكيفَ يكونُ حالُ منْ يمدُّ يدَهُ إلى مالِ الأمةِ؟ أو يستهينُ بحقوقِ الناسِ؟ أو يفرحُ بنعمةٍ على حسابِ مصائبِ غيرِهِ؟
إنَّ اللهَ تعالى يقولُ: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ﴾ [إبراهيم: 42]، وقالَ سبحانهُ: ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ﴾ [الصافات: 24]. وكلُّ منْ كانَ في يدِهِ حقٌّ للناسِ فهو مسؤولٌ عنهُ، صغيرًا كانَ أو كبيرًا، ظاهرًا أو خفيًّا، قالَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ: كلكمْ راعٍ وكلكمْ مسؤولٌ عنْ رعيتِهِ (متفقٌ عليهِ البخاري 2554، مسلم 1829).
يا عبادَ اللهِ، إنَّ الأمانةَ ليستْ كلمةً تُقالُ، بلْ دمعةٌ تُخفيها القلوبُ منْ خوفِ التقصيرِ، وانكسارٌ بينَ يدي اللهِ خشيةً منْ يومٍ لا ينفعُ فيهِ مالٌ ولا بنونَ، وحذرٌ منْ سؤالِ ربٍّ عدلٍ لا تخفى عليهِ خافيةٌ، قالَ تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة: 7-8].
اللهمَّ احفظْ بلادَنا مصر وأموالَنا وأعراضَنا، وباركْ في أرزاقِ الناسِ، وادفعْ عنا الفتنَ ما ظهرَ منها وما بطنَ.
اقرأ أيضاًالأوقاف تحدد موضوع خطبة الجمعة المقبلة.. «التطرف ليس في التدين فقط»
نص موضوع خطبة الجمعة 5 ديسمبر 2025.. «العقول المحمدية»
«توقير كبار السن وإكرامهم».. نص خطبة الجمعة المقبلة 28 نوفمبر 2025