آخر تحديث: 4 يوليوز 2024 - 9:37 صمحمد صابر عبيد ينطوي مفهوم الاحتراف على أعلى درجات العناية المهنيّة والفكرية والثقافيّة وأبلغها؛ في أي عمل يحترفه المرء ويوقف حياته كلّها استجابة لمتطلباته وكيفيّاته وضروراته ونتائجه، إذ يتحول العمل المهنيّ الاحترافيّ -على صعيد الممارسة- إلى نوع من الكثافة والعمق والقصد؛ تجعل إمكانات الموهبة والاستعداد كلها جاهزة في مقامٍ قابلٍ للعمل تحت أي ظرف.
فحين تتكشّف القيمة الاحترافيّة عن طاقة استثنائيّة تستجيب للحظة الإنجاز فهي تتفوّق وتنجز ما يجب إنجازه؛ خارج إطار المزاج والرغبة والوعي المرتبط بلحظة معيّنة قد تكون عابرة، تفرض على المحترف إنجازاً ما لا يمكن تفاديه استجابة لحالة آنيّة شديدة الضرورة، وهو ما يقتضي -احترافيّاً- التوحّد بين أطراف العمليّة الاحترافيّة من أوّل عتبة إلى آخر عتبة.
ينبغي أن يتوفّر فعل الاحتراف في أوّل خطوة من خطواته على “القصديّة” المُحمّلة بمعاني التخطيط والإحاطة والمعرفة والهدف، فضلاً عن الإيمان العميق بجدوى هذه الممارسة العالية النوعيّة والخصوصيّة؛ وهي تقوم أساساً على إدراك الموهبة والاستعداد والصبر والتضحية، والذهاب بأقصى ما يمكن نحو هذا الفضاء والعمل الجديّ فيه؛ للوصول إلى لحظة الاستحصال المركّز للخبرة بما تحويه من ممكنات وكنوز معرفيّة مضيئة، وهو ما يحتاج فعلاً إلى إتقان الأدوات بأعلى وأندر كفاءة ممكنة؛ تسهّل فعاليّات الممارسة الاحترافيّة على أمثل ما يكون وأصدق ما يكون وأرقى ما يكون، بحيث تصل الفكرة الاحترافيّة إلى معنى الجودة القصوى في التحضير والأداء والإنتاج ومن ثمّ التسويق والتداول.
يقتضي السلوكُ الاحترافيّ ذكاءَ التعامل الصارم مع مفردات الزمن وتفاصيله ووحداته وأسراره؛ وضبط حركته بما لا يسمح للمحترف بهدرِ أيّ دقيقة ممّا هو متاح له من وقتٍ للعمل، فالزمن على هذا النحو محسوب ومقنّن بدقّة كبيرة، وضياع الدقيقة قد يكلّف كثيراً في سياق التلاؤم العالي بين الوحدة الزمنيّة وما تنتجه من أداء؛ ويُحدِث على أساس هذا التضييع لهذه الوحدة خللاً في فكرة الاحتراف وقوانينها الدقيقة والجادّة، بما يؤثّر على فعاليّة منظومتها العاملة في أكثر من سياق، إذ لكلّ دقيقة من العمل الاحترافيّ معنى وقيمة وحدود إجرائيّة قاسية؛ وقصديّة عالية تؤدّي فعاليّة معيّنة لا سبيل إلى التلاعب بجوهرها لتُنتِجَ نتيجة محدّدة.
يظلّ الزمن امتحاناً عسيراً واختباراً قاسياً للمحترف؛ ربّما يعاينه بوصفه الأكثر أهميّة وخطورة في الميدان، ومع مضاعفة الخبرة والتجربة تكون صورة الزمن الاحترافيّ قد بلغت أوجها؛ في السبيل نحو استثمار التفاصيل الزمنيّة بطريقة ذكيّة وعارِفة لتحقيق أفضل إنجاز ممكن، يبقى حاضراً ومؤثّراً داخل مديات زمنيّة لا حدود لها، وهذه اللعبة الزمنيّة داخل دائرة الاحتراف لا بدّ أن تكون من أولى أولويّات العمل الاحترافيّ، بحيث تكتسب وجوداً أصيلاً قائماً على النظر إلى عامل الزمن بوصفه العامل الأهمّ داخل منظومة العمل الاحترافيّ بأسرها.
لا بدّ للاحتراف- في آليّة مركزيّة من آليّات تشكّله- أن يذهب باتجاه تجفيف منابع الحسّ العاطفيّ؛ إلى درجة واضحة لا تصل في نهاية المطاف إلى طبقة الإلغاء التامّ لأطياف هذا الحسّ، لكنّها تُقنّنه إلى مستوى يكفّ فيه عن المبادرة والحريّة المطلقة في الحضور والتأثير وتغيير المسارات، بما يسمح بأكبر قدر من التجويد المستمرّ لجوهر العمل الاحترافيّ في حراك إنتاجيّ لا يتوقّف، وبأقصى حالات التلاؤم والانسجام والفاعليّة القادرة على بلوغ النتائج المخطَّط لها على نحو دقيق ومبدع، ضمن فضاء عام تتوازى فيه الأشياء وتتّحد وتشتبك؛ لأجل الحصول على النتائج المطلوبة بأقلّ ما يمكن من الهفوات والأخطاء والسلبيّات.
تحمل فلسفة الاحتراف مجموعة كبيرة من القضايا والأولويّات والمنطلقات والمرجعيّات والأسس، تسهم كلّها مجتمعةً في تطوير شكل “الشخصيّة الاحترافيّة” ومضمونها؛ بما يستجيب لمفهوم الاحتراف على المستوى النظريّ والإجرائيّ والتداوليّ معاً، لأنّ هذه الشخصيّة في النهاية هي العنصر الحاسم في عمليّة الإنجاز بالمستويات والطبقات كلّها، ومن غير النجاح الأكيد والواضح في تكوينها وبناء طبقاتها بدرجة أصيلة وكثيفة وعميقة من القوّة والمعرفة والثقة والخبرة، لا يمكن وضع اليد على المفاتيح السريّة للعمل الاحترافيّ في قدرتها على فتح مغاليق الموضوعات والأفكار المؤهّلة للكشف والاكتشاف.
تتقصّد الشخصيّة الاحترافيّة- وهي تخوض عملها الاحترافيّ في تدرّجاته ومستوياته ومراحله- إحاطةَ ميدان العمل والإنتاج بدرجة عالية من السريّة، وعدم كشف آليّاته الفاعلة مهما كانت الأسباب والمبرّرات، فالسريّة في هذا الإطار تضمن حريّة العمل ورحابة التجريب المستمرّ للانتقال الدائم من مسار إلى مسار آخر أكثر جدوى، فالذي يهمّ “الآخر” هو المنتج الأدبيّ الإبداعيّ الخاصّ بالمبدع المحترف؛ وما يتحلّى به من قيمة وجوهر وتأثير وجماليّة وحساسيّة نوعية؛ بوسعها إثارة مجتمع التلقّي وتحريضه على استنهاض طاقات الاستقبال الكاملة لديه.
تتشكّل ظروف ولادة الاحتراف بعد أن تتجاوز الموهبة أعرافها التقليديّة وتغتني بكثير من الإنجازات المبدِعة، وتصل عندها هذه الموهبة إلى طريق شبه مسدود خوفاً من التكرار الذي يخفق في فتح مجالات جديدة؛ ممّا يستوجب الانتقال نحو فضاء الاحتراف على نحو يجعل من الموهبة بعد العمل على وصلها بالاحتراف أداة ذات طاقة كبيرة؛ لأجل إنجازٍ أوسع وأكبر وأعمق وأشمل وأكثر دواماً واستمراراً وتطلّعاً.
إنّ الموهبة مهما كانت كبيرة وكثيفة وعظيمة تظلّ محدودة الإنجاز؛ إذا ما اكتفى صاحبها بما تمنحه إياه من منجزات لها حتماً عمر محدود، غير أنّها أذا ما انتقلت إلى منطقة الاحتراف على وفق أسس متينة وصحيحة وجوهريّة؛ فإنّها تنفتح على مجالات شاسعة بحيث يكون لها القدرة على تجديد نفسها بنفسها، لفرط ما تقتضيه عمليّة الاحتراف من أساليب ومساحات عمل تذهب باتجاه الاكتساب والإضافة والتحديث المستمرّ.
يُعدّ الاحتراف الأدبيّ عندنا أعقد أنواع الاحتراف بسبب أنّ مساحة العمل الأدبيّ الاحترافيّ في المجتمع العربيّ ضيّقة، لأنّ النظرة المتخلّفة إلى هذا العمل بوصفه نوعاً من الترف -الذي لا يمكن أن يؤدّي وظائف ترتفع إلى مرتبة الاحتراف- تعيق فعاليّة الاحتراف التي تحتاج إلى وسائل وآليّات وقضايا ترتفع بفكرة الاحتراف الأدبيّ إلى مقام عالٍ، في حين يحظى هذا الاحتراف في الثقافة الغربيّة بعناية بالغة تتفوّق على كثير من أشكال الاحتراف الأخرى، لأنّ نظريّة استثمار الثقافة والفكر والمعرفة لا تحظى بأهميّة تُذكَر في ثقافتنا العربيّة على الإطلاق، كما هي الحال في الثقافة الغربيّة وهي تعدّ هذا النوع من الاستثمار أعلى وأهمّ وأخطر أنواع الاستثمارات، وتسخّر له كثيراً من العناية على المستويات الإنسانيّة والماديّة والعمليّة كافّة.
المصدر: شبكة اخبار العراق
كلمات دلالية: ة الاحترافی ة الاحتراف على ة الاحتراف
إقرأ أيضاً:
كيف يمكن محاسبة مجرمي سوريا؟ درس من فرانكفورت
تُعدّ إدانةُ الطبيب السوري علاء م. من قبل المحكمة الإقليمية العليا في فرانكفورت أكثر من مجرد حالة استثنائية للمساءلة عن جرائم فظيعة؛ فهي تمثل إنجازًا قضائيًا بالغ الأهمية يتجاوز حدود القضية الفردية.
فبعد ثلاثِ سنوات ونصفٍ من الإجراءات، اختُتمت بالحكم عليه بالسجن المؤبد لارتكابه جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، باتت هذه المحاكمة علامة فارقة في مسار العدالة، لا من حيث عقوبتها فقط، بل لِما تتيحه من إمكانات لتشكيل بنية العدالة الانتقالية في سوريا بعد زوال نظام الأسد.
يُوفر التزامن بين هذا الحكم والتحولات السياسية المتوقعة في سوريا فرصة فريدة لنقل الخبرات القانونية وتوطينها. فرغم أن محاكمات الولاية القضائية العالمية كانت، حتى وقت قريب، السبيلَ الوحيد لمحاسبة المتورطين في الجرائم التي ارتكبها نظام الأسد، فإنها باتت اليوم تُشكّل نماذج يمكن الاسترشاد بها لبناء آليات محلية للمساءلة.
لقد أرست محكمة فرانكفورت من خلال بنائها ملفات عن التعذيب المنهجي في المستشفيات العسكرية، وإنشائها هياكل القيادة، وتحديدها الجرائم ضد الإنسانية في السياق السوري، أسسًا فقهية مهمة للمحاكم السورية المستقبلية.
يتناول هذا المقال الكيفية التي يمكن من خلالها توظيف الأبعاد الإجرائية والإثباتية والموضوعية لمحاكمة علاء م. في دعم الانتقال السوري من آليات العدالة الخارجية إلى مسارات عدالة داخلية.
ثانيًا: الولاية القضائية العالمية كجسر نحو المساءلة الوطنيةيشكّل مبدأ الولاية القضائية العالمية، الذي استندت إليه محكمة فرانكفورت في محاكمة علاء م.، أداة وقتية للعدالة لا تنفي السيادة السورية، فوفق مبدأ التكامل، الذي يُعد حجر الزاوية في القانون الجنائي الدولي، تُمنح المحاكم الوطنية الأولوية في الملاحقات القضائية، ولا تتدخل الآليات الدولية أو خارج الإقليم إلا عند عجز الدول أو امتناعها عن القيام بذلك.
إعلانوفي الحالة السورية، حال الطابع المنهجي للعنف الذي مارسه نظام الأسد دون تحقيق أي عدالة داخلية، مما استوجب اللجوء إلى الآليات القضائية العالمية.
لكن هذه المحاكمات العابرة للحدود لا تُعنى فقط بالمساءلة المباشرة، بل تؤدي دورًا مهمًا في حفظ الأدلة وبناء الأطر القانونية للمستقبل. فقد وثّقت محكمة فرانكفورت، من خلال شهادات أكثر من خمسين شاهدًا وتحليلات خبراء في منهجيات التعذيب وهياكل القيادة، أرشيفًا دقيقًا كان يمكن أن يتعرض للفقد أو الإتلاف في بيئة غير مستقرة.
كما أن خلاصاتها بشأن تحويل المستشفيات العسكرية إلى مواقع تعذيب، والطابع المنظم للهجمات على المدنيين، ودور الأجهزة الأمنية، تُعدّ بمثابة روايات قضائية يمكن اعتمادها لاحقًا من قبل القضاء السوري عبر الإشعارات أو المراجع القانونية.
إن الانتقال من نظامٍ استبدادي يتعذّر معه تحقيق العدالة إلى سياق ما بعد النزاع، يتطلّب تحوّلًا ممنهجًا من الاعتماد على العدالة الخارجية نحو تأسيس مسارات وطنية قائمة على سيادة القانون.
ولا ينبغي النظر إلى أحكام الولاية القضائية العالمية كفرضٍ قانوني خارجي، بل كسوابق تأسيسية يمكن الاستفادة منها في صوغ منهجيات محلية للمقاضاة، وتحديد معايير الإثبات، وتطوير فهم قانوني متخصص لجرائم الفظائع. وتُشكّل محاكمة فرانكفورت نموذجًا لتحليل الجرائم الجماعية وتفكيكها إلى أفعال فردية قابلة للتقاضي، بما يحافظ على تميّزها المنهجي.
هذا التحول لا يعني نقل الأحكام الأجنبية بحَرفيتها، بل يتطلب دمجها في إطار سيادي يعكس الخصوصيات القانونية السورية ويُراعي المعايير الدولية.
وبهذا المعنى، فإن قضايا الولاية القضائية العالمية تؤدي وظيفة الجسر المؤقت، الذي يربط بين واقع العجز المؤسسي ومآل السيادة القضائية، مانحةً سوريا أدوات ومناهج لإعادة العدالة إلى الداخل.
ثالثًا: معايير الإثبات ومنهجيات التوثيق القضائيتُجسّد محاكمة فرانكفورت، التي امتدت على مدار 186 يومًا، مستوًى عاليًا من الدقة في التوثيق المطلوب لمقاضاة جرائم الفظائع الجماعية، واضعةً بذلك معايير إثبات تتجاوز الممارسات الجنائية التقليدية.
أتاح هذا الإطار الزمني الممتد تجميعًا منهجيًا لمصادر أدلة متنوعة، ما أدى إلى تكوين مصفوفة وقائعية تُوثّق الأفعال الإجرامية الفردية في سياقها النظامي. ولا تُعبّر مدة الإجراءات عن بطء بيروقراطي، بل عن تعقيد المهمة المتمثلة في إثبات المسؤولية الجنائية ضمن نمط منظم من العنف ترعاه الدولة، يتطلب مواءمة الوقائع الفردية مع الهجمات الواسعة ضد المدنيين.
عكس استخدام المحكمة أساليبَ إثبات متعددة الطبيعةَ المركبة لملاحقة مرتكبي الجرائم الفظيعة. فقد أدلى أكثر من خمسين شاهدًا بروايات مباشرة عن التعذيب، والعنف الجنسي، والقتل في المستشفيات العسكرية، بينما وضع الخبراء هذه الشهادات في سياقها ضمن منظومة الاستخبارات والقيادة العسكرية السورية.
أسهم دمج شهادات الناجين مع التحليل الجنائي والوثائق المكتوبة في صياغة أنماط قانونية متماسكة من تجارب فردية متناثرة. وتزداد أهمية هذا التثليث المنهجي في مواجهة جرائم صُممت لتمحى آثارها، حيث يتعمد الجناة إتلاف الوثائق وترهيب الشهود.
إعلانتطلّب الكشف عن سلاسل القيادة في هياكل أمنية مغلقة، اعتمادَ مناهج مبتكرة للتعامل مع الأدلة الظرفية، والتعرف على الأنماط المتكررة.
وقد أظهرت المحكمة قدرة على الربط بين أفعال علاء م. والسياسات المؤسسية الأشمل، ما أتاح إثبات مسؤوليته ضمن إطار عنف منظم. ومن خلال رسم خرائط للهياكل التشغيلية للمستشفيين العسكريين 601 و608، والقسم 261 التابع لمديرية الاستخبارات العسكرية، كشفت المحاكمة كيف أعيد توظيف المؤسسات الطبية بشكل منهجي كمراكز للتعذيب، محوّلةً بذلك أماكن الاستشفاء إلى أدوات عنف ممنهج.
لعبت الشبكة السورية لحقوق الإنسان، والمركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان دورًا مهمًا في ربط مسارح الجريمة بقاعات المحاكم.
وقد تجسّدت مساهماتهما في تقديم الوثائق، وتحديد الشهود، وتوفير تحليلات سياقية دعمت عمل الادعاء العام، مؤكدةً الدور المحوري لمنظمات المجتمع المدني كوسطاء في عمليات المحاسبة.
ساهم التوثيق المنتظم الذي أجرته الشبكة على مدى أربعة عشر عامًا في توفير استمرارية زمنية لحفظ الأدلة، بينما حوّلت خبرة المركز الأوروبي الوثائق الخام إلى ملفات قابلة للتقاضي.
ويُقدّم هذا النموذج التعاوني، الذي تعمل فيه منظمات حقوق الإنسان كأمناء على الأدلة وميسّرين قانونيين، نموذجًا قابلًا للتكرار يمكن اعتماده في الإجراءات القضائية السورية المستقبلية.
رابعًا: الإصلاح المؤسسي استنادًا إلى السوابق القانونيةيمثّل إدماج الجرائم الدولية في القانون المحلي السوري تحديًا عميقًا يتجاوز مجرد التعديل التشريعي. وقد وفّرت محكمة فرانكفورت، من خلال تعريفها الدقيق للجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب في قضية علاء م.، نموذجًا فقهيًا يُمكن البناء عليه، غير أن إصلاح المنظومة القانونية السورية يتطلّب تجاوز الفجوة القائمة بين التعريفات الدولية والتقاليد القضائية الوطنية.
ويُظهر قصور قانون العقوبات السوري الحالي في التعامل مع العنف المنهجي الذي ترعاه الدولة الحاجة إلى مراجعة شاملة، تعتمد إما صياغة تشريعات جديدة أو تطوير أطر قانونية انتقالية تُجرّم صراحةً الجرائم الدولية، وَفقًا للمعايير العرفية المعتمدة دوليًا.
ويتصدّر استقلال القضاء الشروط الأساسية لإجراء محاكمات ذات مصداقية لمن ارتكبوا الجرائم الجسيمة، وهو ما يستدعي إصلاحات بنيوية تتجاوز المظاهر الشكلية للمؤسسات القضائية.
فالإصلاح القضائي السوري يجب أن يعالج بُعدين متكاملين: الاستقلال الشكلي عبر الضمانات الدستورية، واستقرار الوظيفة القضائية، وتوفير الموارد، إلى جانب الاستقلال الجوهري من خلال تعزيز ثقافة قضائية تقاوم التدخلات السياسية وتتمسك بالنزاهة القانونية.
ولا يُمكن تصور محاسبة فعلية لمجرمي الدولة دون قضاء حر قادر على مساءلة البنى الأمنية والعسكرية التي طالما تمتعت بالحصانة في عهد الأسد.
كما يُعدّ إصلاح القطاع الأمني، المُرتكز إلى مبادئ المساءلة، خطوة جوهرية في هندسة العدالة الانتقالية. ولا ينبغي أن يُنظر إلى الأجهزة الأمنية كأدوات لإعادة الهيكلة فقط، بل كمواقع يجب إخضاعها للمحاسبة والمشاركة في كشف الحقيقة.
ويُبرز ما كشفته قضية علاء م. من تحويل المستشفيات العسكرية إلى مراكز للتعذيب، الحاجة إلى تفكيك الثقافة المؤسسية التي شرعنت العنف. فالإصلاح يجب ألا يقتصر على تبديل الأفراد أو إعادة رسم الهياكل، بل يتطلّب ترسيخ أطر عقائدية جديدة تدمج مبادئ حقوق الإنسان ضمن الممارسات التشغيلية اليومية.
ويتجسّد هذا النهج العملي في إنشاء آليات داخلية فعّالة للمساءلة، مثل مكاتب المفتش العام المزودة بصلاحيات تحقيق حقيقية، والتدريب الإلزامي على حقوق الإنسان ضمن برامج التطوير المهني، واعتماد معايير واضحة لمساءلة القادة عن الانتهاكات التي تقع ضمن نطاق سلطتهم.
إعلانويُدرك هذا النموذج أن الإصلاح الجذري لا يتحقق فقط من خلال الرقابة الخارجية، بل من خلال غرس ثقافة المساءلة داخل المؤسسات التي تأسست على منطق القمع.
وتُرسّخ محاسبة المهنيين الطبيين على انتهاك واجباتهم الأخلاقية مبدأً مفصليًا: أن الالتزامات المهنية لا يمكن إخضاعها لضرورات الدولة الأمنية، وهو ما يجب أن يسري على كافة القطاعات المنخرطة في منظومة العنف المنهجي.
خامسًا: تأسيس بنية للعدالة الانتقاليةتتطلب العدالة الانتقالية في السياق السوري تحولًا من المقاربات الارتجالية للمحاسبة إلى بناء منظومة متكاملة تعالج البنى التي أنتجت الفظائع، لا مجرد معاقبة الجناة الأفراد.
فنتائج محكمة فرانكفورت، التي كشفت عن التحويل المنهجي للمرافق الطبية إلى مراكز للتعذيب، تُظهر مدى تورط أطر مؤسسية كاملة في ممارسة العنف، مما يستوجب آليات مساءلة تعالج هذه البنى الهيكلية، مع الحفاظ على دقة المسؤولية الجنائية الفردية.
ومن هنا، ينبغي أن تطوّر العدالة الانتقالية السورية إستراتيجيات تربط بين القضايا الفردية والأنماط الجماعية، بما يرسّخ سرديات قانونية تعكس الطابع المنهجي للجريمة دون أن تُفرغ المسؤولية الفردية من معناها.
وتُعدّ آليات تقصي الحقائق ركيزة أساسية مكملة للمحاكمات الجنائية، إذ تسمح بفهم الأبعاد الاجتماعية والسياسية التي مهّدت لوقوع الجرائم. وبينما تركّز الإجراءات القضائية على تحديد المسؤوليات الفردية ضمن إطار قانوني، تتيح لجان الحقيقة استكشاف السياقات الأوسع، بما في ذلك الأطر الأيديولوجية التي شرّعت العنف، والبنى البيروقراطية التي مأسسته.
ويؤدي هذا التكامل بين المسارين وظائف متمايزة، ولكن متكاملة: فالقضاء يُرسي المساءلة القانونية، فيما تعيد تقصي الحقائق بناء السرديات التاريخية وتُمهّد الطريق للإصلاح المؤسسي طويل الأمد.
ومن جهة أخرى، تتطلب العدالة الانتقالية مقاربة تتمحور حول الضحايا، تتجاوز النماذج الانتقامية التقليدية نحو نموذج يُقرّ بحقوق الضحايا كمشاركين فعليين في تصميم العدالة.
وقد أبرزت تجربة المدعين المشتركين في قضية علاء م.- ممثلين عبر الآليات القضائية الأوروبية- إمكانات مشاركة الضحايا وتحدياتها. ولضمان شمولية هذه المشاركة، يجب الاعتراف بالضحايا كأصحاب حقوق، يطالبون بالتعويض، والمشاركة، وتخليد الذاكرة، لا كشهود فقط.
ويستدعي ذلك تأسيس بنى مؤسسية تُتيح للضحايا التعبير عن مطالبهم، والمساهمة في تصميم آليات المساءلة، ووضع برامج تعويض تُعالج الأضرار المادية والمعنوية على حد سواء.
كما ينبغي أن تُسهم إجراءات العدالة في إعادة تأهيل الناجين، لا في إعادة تفعيل صدماتهم. ويبقى التحدي في تحقيق توازن دقيق بين الاستجابات الفردية للاعتداءات، والاعتراف بالجراح الجماعية التي خلّفها العنف المنهجي.
ولتحقيق ذلك، لا بد من تبنّي ابتكارات مؤسسية مثل وحدات دعم الضحايا داخل النيابات العامة، وبرامج الدعم النفسي والاجتماعي المرافقة للمسارات القانونية، وآليات تشاركية تمكّن الضحايا من صياغة أجندة العدالة الانتقالية، متجاوزين دورهم كمقدّمي أدلة فقط.
سادسًا: التكامل القانوني الدولي وبناء القدرات القضائيةتُعد عضوية سوريا في نظام روما الأساسي بعد المرحلة الانتقالية خطوة إستراتيجية نحو ترسيخ الشرعية القضائية وبناء القدرات المؤسسية. إذ يُتيح هذا الانضمام الوصول إلى فقه المحكمة الجنائية الدولية، والمبادئ التوجيهية الإجرائية، وبرامج التدريب وبناء القدرات، إلى جانب ترسيخ الالتزام بالمعايير القانونية الدولية.
وقد أرست محاكمة فرانكفورت ضد علاء م. معايير إثبات وإجراءات تُعد مرجعية لما ينبغي أن تبلغه المحاكم السورية من مستوى لتلبية متطلبات التكامل، بما يمنع تدخل المحكمة الجنائية الدولية، مع الاستفادة من خبراتها المؤسسية.
لكن تفعيل الفقه الدولي يتطلب ترجمة مدروسة بين الأطر القانونية والسياقات السياسية والاجتماعية المحلية. ويوفّر الحكم في قضية علاء م.، إلى جانب قضايا أخرى نُظرت بموجب الولاية القضائية العالمية، سوابق فقهية يمكن الاستناد إليها لتفسير الجرائم ضد الإنسانية في السياق السوري.
غير أن الاعتماد غير النقدي على الأحكام الأجنبية قد يؤدي إلى تناقضات قانونية أو رفض شعبي وسياسي. ولهذا، ينبغي للفقهاء السوريين أن يطوّروا منهجيات انتقائية تستند إلى القيمة الإقناعية للسوابق الدولية، مع استخلاص المبادئ التي يمكن تكييفها محليًا.
إعلانويتطلب ذلك دراسة كيفية تعامل المحاكم الدولية مع قضايا مشابهة، مثل إثبات الطابع المنهجي للهجمات على المدنيين، أو مسؤولية القيادة في أجهزة أمنية مغلقة، أو التمييز بين العمليات العسكرية المشروعة وأفعال العنف الإجرامي.
ويفرض بناء الخبرات القضائية والادعائية الحاجةَ إلى آليات منظمة لنقل المعرفة، تتجاوز النماذج التدريبية التقليدية. فقد كشفت محاكمة فرانكفورت عن تعقيد الملاحقات القضائية للفظائع، ومن ثم، ينبغي أن يشمل بناء القدرات محاور متعددة: فقه الجرائم الدولية، إدارة المحاكمات المعقدة، حماية الشهود، والمهارات الجنائية والطب الشرعي.
ويمكن لبرامج التبادل التي تتيح للمهنيين السوريين مراقبة المحاكمات الدولية، والعلاقات الإرشادية مع خبراء الادعاء الدوليين، وتمارين بناء القضايا المشتركة، أن تُسرّع وتيرة تطوير الكفاءة القضائية.
وتبرهن تجربة الشبكة السورية لحقوق الإنسان، والمركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان في قضية علاء م. على إمكانية عمل منظمات المجتمع المدني كجسور معرفية، تربط بين المعايير الدولية والسياق السوري، وتُقدّم منهجيات يمكن استيعابها وتوطينها ضمن المؤسسات السورية.
خاتمةيُمثل الحكم الصادر ضد علاء م. ثمرةً لجهود متواصلة بذلها الناجون ومنظمات حقوق الإنسان والآليات القانونية الدولية، لكسر جدار الإفلات من العقاب الذي طالما رافق العنف الذي مارسه نظام الأسد.
كما يُشكّل هذا الحكم أرضية قانونية صلبة يمكن لسوريا البناء عليها لتأسيس منظومة مساءلة وطنية، تُحوّل الاعتماد على المحاكم الأجنبية إلى قدرة ذاتية قائمة على السيادة والعدالة.
لكن هذا الانتقال من آليات العدالة الخارجية إلى آليات داخلية لا يتحقق بإعادة هيكلة المؤسسات فحسب، بل يتطلّب إعادة تعريف العلاقة بين سلطة الدولة وحكم القانون.
وقد أظهرت محاكمة فرانكفورت أن العنف الممنهج قابل للتفكيك إلى أفعال قابلة للمحاسبة، وأن الأطباء وغيرهم من الفاعلين لا يمكنهم التذرع بالأوامر العليا لتبرير انتهاكهم الواجبات المهنية، وأن توثيق الأدلة يمكن أن يصمد أمام محاولات المحو المتعمدة.
إن المعايير الإثباتية والإجرائية التي أرستها محكمة فرانكفورت، والشراكات التي تشكّلت بين المجتمع المدني والمؤسسات القضائية، والمقاربات التي تتمحور حول الضحايا، توفر جميعها أدوات مجرّبة يُمكن تكييفها في السياق السوري، ولتُصاغ داخل المؤسسات السورية، وبأيادي قانونييها، ومن أجل تعافي مجتمعها.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outline