مقدمة الترجمة

في عالم بدأ اسم الصين فيه يتردد كثيرا كمنافس رئيسي على زعامة النظام الدولي، اقتصاديا وسياسيا وعسكريا، تزايد اهتمام الصحف والمجلات الغربية بهذا البلد في محاولة لفهم محركاتها وتوجهاتها على المستويات كافة.

وفي هذا الإطار، تأتي المادة المترجمة من مجلة فورين أفيرز لتقدم وجهة نظر غربية عن الصين، عبر النظر في المنطلقات الفكرية التي تشكل تصور رئيسها شي جين بينغ عن العالم، وكيف تؤثر هذه التصورات والمبادئ على الطريقة التي تعمل فيها الصين داخليا وخارجيا.

ويحاول الكاتب في هذه المادة أن يفحص فكر الرئيس الصيني، وينبه السياسيين الأميركيين إلى أهمية النظر والتدقيق في فكر "شي" كمحاولة لصناعة أرضية فهم أكثر دقة تخدم المعارف والسياسة الأميركية.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2إمبراطورية "أبو هلالين".. لماذا يعد الكبتاغون أخطر مخدر وصل إلى العالم العربي؟list 2 of 2الخطة "ميتسوبيشي".. لماذا تسعى اليابان لبناء أقوى مقاتلة جوية في العالم؟end of list نص الترجمة

لم يبخل علينا العالم الغربي في عصر ما بعد الحرب الباردة بنظرياته الكُبرى عن التاريخ والعلاقات الدولية. لربما تغيَّرت الظروف وتغيَّر اللاعبون منذ الحرب الباردة، لكن الدراما الجيوسياسية العالمية لا تزال باقية، إذ تتنافس نظريتا الواقعية والليبرالية في العلاقات الدولية من أجل تفسير سلوك الدول وتوقُّعه، ويتجادل الأساتذة حول ما إن كُنا نشهد نهاية التاريخ أم صراعَ حضارات أم شيئا مختلفا بالكُليَّة. وليست مفاجأة أن السؤال الذي يغوي الجميع بالتحليل هو صعود الصين تحت قيادة الرئيس "شي جين بينغ"، والتحدي الذي تُشكِّله بلاده للقوة الأميركية. بينما نفَّذ شي مناورته السياسية من أجل ترسيخ سلطته أثناء المؤتمر الوطني العام العشرين للحزب الشيوعي الصيني (في أكتوبر/تشرين الأول 2022)، ونجح في تأمين فترة رئاسية ثالثة غير مسبوقة (منذ وفاة الزعيم الصيني "ماو تسي تونغ")، سعى المُحللون الغربيون حثيثا لأجل فهم الرؤية التي تُحرِّك الرجل وطموحاته من أجل الصين.

ومع ذلك، غاب إلى حد كبير عن تلك المساعي الغربية لفهم الرئيس الصيني نوعٌ مهم من الأدبيات، وهي الماركسية-اللينينية (نسبة إلى كارل ماركس وفلاديمير لينين). ويبدو ذلك غريبا لأن الماركسية-اللينينية هي الأيديولوجيا الرسمية في الصين منذ عام 1949، إلا أن تجاهلها مُتفهَّم بالنظر إلى أن مفكري الغرب اعتادوا منذ وقت طويل النظر إلى الشيوعية بوصفها أيديولوجيا مَيِّتة واقعيًّا، حتى في الصين. وكيف لا وقد نحَّى "دِنغ شياوبينغ"، زعيم الحزب الشيوعي السابق، العقيدة الماركسية اللينينية لسلفه ماو في نهاية سبعينيات القرن الماضي، وانحاز إلى ضرب من ضروب رأسمالية الدولة.

لقد لخَّص دِنغ أفكاره حول هذه المسألة بصراحة لافتة أمام الحاضرين في مؤتمر كبير للحزب الشيوعي الصيني عام 1981 قائلا: "دعونا نتخلَّص من النظرية والتنظير". وبعدئذ سار على دربه الرئيسان "جيانغ زَمين" و"هو جينتاو" اللذان خلفاه في المنصب، حيث وسَّع الرجلان بسرعة من دور السوق في الاقتصاد المحلي الصيني، وتبنَّى كلاهما سياسة خارجية عظَّمت مشاركة الصين في النظام الاقتصادي العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة.

لقد كتب شي نهاية مفاجئة لهذا النمط من الحُكم البراغماتي غير الأيديولوجي، واستبدل به شكلا جديدا من الوطنية الماركسية التي ترسم اليوم مضمون وملامح سياسة الصين واقتصادها وسياستها الخارجية. ولا يبني شي محض قلعة نظرية في الهواء من أجل تسويغ القرارات التي يتخذها الحزب الشيوعي الصيني لاعتبارات أخرى أكثر عملية، بل إن الأيديولوجيا في عصر شي هي التي تقود السياسات وليس العكس.

لقد دفع شي بالسياسة نحو اليسار اللينيني، وبالاقتصاد نحو اليسار الماركسي، وبالسياسة الخارجية نحو اليمين القومي، وأعاد التأكيد على نفوذ الحزب الشيوعي الصيني وسيطرته على كل مجالات السياسات العامة والحياة الخاصة، وبثَّ الحياة في الشركات المملوكة للدولة، ووضع قيودا جديدة على القطاع الخاص. وبالتزامن مع ذلك، أذكى شي القومية بانتهاج سياسة خارجية أشد حزما، يدعمها إيمان ماركسي بأن التاريخ منحاز إلى الصين بشكل لا رجعة فيه، وأن عالما مُرتكِزا إلى القوة الصينية يُفضي إلى نظام دولي أكثر عدلا. باختصار، ودون ذرة مبالغة، يُمثِّل صعود شي عودة الإنسان الأيديولوجي.

إن هذه التحوُّلات الأيديولوجية ليست مجرد عودة إلى عصر ماو، إذ أن رؤية شي أكثر تعقيدا من رؤية ماو، فهي تمزج الأيديولوجيا العقائدية القُح بالبراغماتية التكنوقراطية. لعل تصريحات شي عن التاريخ والقوة والعدالة تثير لدى المستمع الغربي شعورا بكونها غير ذات أهمية أو تأثير، ولكن الغرب يُلقي بنفسه في التهلكة إنْ تجاهل رسائل شي الأيديولوجية. فمهما كانت درجة التجريد والغرابة في أفكار الرجل، إلا إنها ذات أثر هائل على مضمون السياسة والدبلوماسية الصينية في أرض الواقع، وبالتبعية على بقية العالم ما دام صعود الصين مُستمرا.

 

رجل الحزب كتابات شي النظرية المنشورة أوسع نطاقا بكثير من كتابات أي زعيم صيني منذ مؤسس الجمهورية ماو. (أسوشيتد برس)

"إن العدالة في صف الحزب الشيوعي الصيني".

شي جين بينغ

مثله مثل كل الماركسيين اللينينيين، يبني شي فكره استنادا على المادية التاريخية (وهي رؤية للتاريخ تُركِّز على حتمية التقدُّم من خلال الصراع الطبقي المستمر) والمادية الجدلية (وهي رؤية للسياسة تُركِّز على طبيعة التغيُّر حين تصطدم قوى عديدة ببعضها حتى تظهر تسوية من ثنايا صراعها). في كتاباته المنشورة، يُطبِّق شي المادية التاريخية كي يصنع للثورة الصينية موقعا من التاريخ العالمي، وذلك في سياق تتحرَّك فيه الصين نحو مرحلة متطورة من الاشتراكية بالتزامن مع تدهور النُظُم الرأسمالية. وعبر منظور مادي جدلي، يُظهِر شي أجندته بوصفها خطوة إلى الأمام في صراع محموم بين الحزب الشيوعي الصيني مع خصومه الرجعيين داخل الصين (وهم القطاع الخاص المُغتَر بنفسه، والمنظمات المدنية المتأثرة بالغرب، والحركات الدينية) وخارج الصين (مُمثلا في الولايات المتحدة وحلفائها).

تبدو تلك المفاهيم غامضة ومُبهَمة لمن هُم خارج الصين، إلا أن نُخَب الحزب الشيوعي وكبار المسؤولين الصينيين يأخذونها على محمل الجد، وكذلك أساتذة العلاقات الدولية الذي يقدمون مشورتهم للحكومة الصينية. إن كتابات شي النظرية المنشورة أوسع نطاقا بكثير من كتابات أي زعيم صيني منذ مؤسس الجمهورية ماو، وفي الوقت نفسه، يعتمد الحزب الشيوعي الصيني على نوعية المشورة الإستراتيجية والاقتصادية التي عادة ما تُوجِّه النظم السياسية الغربية. ولكن في داخل النظام الصيني، لا تزال الماركسية-اللينينية هي المنبع الرئيس لرؤية تضع الصين في كفة التاريخ الراجحة، وتُظهِر الولايات المتحدة بوصفها بلدا يصارع سكرات الموت الحتمي لنظامه الرأسمالي، ويُستنزَف بسبب تناقضاته السياسية الداخلية، ومن ثمَّ يتجه إلى السقوط لا محالة. وهذه -في نظر شي- هي النهاية الحقيقية للتاريخ.

بعد خمسة أشهر فحسب على تعيينه أمينا عاما للحزب الشيوعي، ألقى شي خطابا أمام المؤتمر المركزي للأيديولوجيا والدعاية عام 2013، وهو تجمُّع لكبار قادة الحزب في بكين. ولم يُنشَر محتوى الخطاب في حينه، لكنه سُرِّب بعد ثلاثة أشهر ونشرته صحيفة "تشاينا ديجيتال تايمز". ويقدم لنا الخطاب صورة ناصعة لمعتقدات شي السياسية الدفينة، حيث يستغرق الرجل في الحديث عن مخاطر التدهور الأيديولوجي الذي أدى إلى انهيار الشيوعية السوفيتية، ودور الغرب في إذكاء الانقسامات الأيديولوجية داخل الصين.

"إن تفكُّك أي نظام سياسي يبدأ عادة من الأيديولوجيا. ويُمكن للاضطراب السياسي وتغيُّر النظام أن يحدث في يوم وليلة، لكن التطوُّر الأيديولوجي عملية طويلة الأمد، فما إن تُخترَق المتاريس الأيديولوجية حتى تتهاوى بقية الدفاعات"، هكذا تحدَّث شي مُحذِّرا مُستمعيه، ومُطمئنا إياهم في الوقت ذاته إلى أن "العدالة في صفِّ الحزب الشيوعي الصيني"، قبل أن يحُثَّهم على ألا "يتراجعوا أو يخجلوا، وأن يتكلموا دون مواربة" في التعامل مع الدول الغربية، التي يكمُن هدفها على حد وصفه في "منافستنا في ساحات المعارك من أجل الظفر بقلوب الناس والجماهير، ثم إسقاط قيادة الحزب الشيوعي الصيني والنظام الاشتراكي في الصين".

وقد أكَّد شي أيضا سيطرة الحزب على جيش التحرير الشعبي، والشرطة الشعبية المُسلحة، وجهاز الرقابة والأمن السيبراني المركزي الصيني. وأخيرا، طرح شي عام 2019 حملة تثقيفية داخل الحزب عنوانها "لا تنسَ هدف الحزب الأصلي، وأبقِ المهمة في ذهِنك". ووفقا للوثيقة الرسمية التي أعلنت المبادرة، كان الهدف منها أن "يتحصَّل أعضاء الحزب على تعليم نظري، وأن يُصبَغوا بصبغة الحزب الأيديولوجية والسياسية".

 

الماركسية العُليا يتعهَّد شي بأن الصين يمكن أن تحقق المجد الوطني والمساواة الاقتصادية الأكبر في مستقبل ليس ببعيد، ويتحقق ذلك بالاعتماد على لجان الحزب وزيادة نفوذها على الشركات الخاصة. (رويترز)

على النقيض من تلك التحرُّكات السريعة والمباشرة نحو الانضباط اللينيني في السياسة الداخلية، تبلور التحوُّل نحو الماركسية التقليدية في السياسة الاقتصادية تحت حُكم شي بشكل أكثر تدرُّجا. لطالما كانت الإدارة الاقتصادية من اختصاص التكنوقراطيين الذين يخدمون في مجلس الدولة والحكومة الإدارية في الصين، كما أن اهتمامات شي الشخصية وقعت ضمن تاريخ الحزب والأيديولوجيا السياسية والإستراتيجيات الكُبرى، أكثر منها في تفاصيل الإدارة الاقتصادية والمالية.

ولكن بينما تزايدت سيطرة جهاز الحزب على الملفات الاقتصادية للدولة، فإن السجالات بشأن السياسات الصينية والدور النسبي للدولة والسوق باتت أيديولوجية أكثر من ذي قبل. يُضاف إلى ذلك أن شي فقد ثقته في اقتصاديات السوق بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008، وأزمة الصين المالية الداخلية عام 2015، التي أشعلها انفجار فقاعة سوق العقارات، وأفضت إلى انهيار حوالي 50% من قيمة الأسهم الصينية قبل أن تستقر الأسواق في الأخير عام 2016.

ولذا فإن مسار السياسات الاقتصادية الصينية تحت رئاسة شي، من الإجماع على إصلاحات السوق إلى تبني زيادة تدخُّل الدولة والحزب، أخذ يتبلور بشكل متفاوِت، ومُتنازَع حوله، ومتناقِض في بعض الأحيان. فقبل أقل من ستة أشهر من خطاب شي المذكور سابقا عن الأيديولوجيا والدعاية عام 2013، تبنَّت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي (وتضم بضع مئات من قيادات الحزب العُليا) وثيقة إصلاحية لافتة بخصوص الاقتصاد، وكان عنوانها العجيب هو "القرار".

وقد أوضحت الوثيقة سلسلة من الإجراءات المتعلقة بالسياسات تتيح للسوق أن يلعب "الدور الحاسم" في توزيع الموارد داخل الاقتصاد. غير أن تنفيذ الخطة تباطأ حتى توقف عام 2015، بالتزامن مع حصول الشركات المملوكة للدولة على تريليونات الدولارات في صورة استثمارات من "صناديق توجيه الصناعة" بين عامي 2015 و2021، وهو تدفق نقدي هائل من الدعم الحكومي أعاد الدولة الصينية إلى قلب السياسات الاقتصادية.

أعلن شي في المؤتمر العام التاسع عشر للحزب الشيوعي عام 2017 أن الحزب سيمضي إلى الأمام، وأن التحدي الأيديولوجي الأساسي أمامه هو تصحيح "التنمية غير المناسبة وغير المتوازنة" التي وُلِدَت أثناء فترة "الإصلاح والانفتاح" بعد تغيير السياسات الذي دشَّنه دِنغ في نهاية السبعينيات. وفي خطاب لم يلق الانتباه الكافي، ونشرته دورية الحزب الأيديولوجية عام 2021، تحدَّى شي فعليًّا تعريف دِنغ لما أسماه "المرحلة الابتدائية من الاشتراكية"، وكان اعتقاد دِنغ هو أن الصين تحتاج إلى تحمُّل انعدام المساواة لفترة طويلة قبل أن تحقق الرفاهة للجميع. وعوضا عن ذلك، أعلن شي انتقالا أسرع إلى مرحلة أعلى من الاشتراكية، وقال إنه "بفضل عقود من العمل الدؤوب، فإنها مرحلة تؤسس لنقطة انطلاق جديدة للصينيين".

رفض شي إذن نهج دِنغ المُتدرِّج، ورفض فكرة أن الصين محكوم عليها بأن تواجه مستقبلا ضبابيا عِماده التنمية المنقوصة وانعدام المساواة بين الطبقات. فعن طريق الالتزام الجاد بالمبادئ الماركسية، تعهَّد شي بأن الصين يمكن أن تحقق المجد الوطني والمساواة الاقتصادية الأكبر في مستقبل ليس ببعيد. ويتحقق ذلك بالاعتماد على لجان الحزب وزيادة نفوذها على الشركات الخاصة، بحيث تلعب دورا أكبر في اختيار الإدارات العُليا للشركات واتخاذ القرارات المصيرية لمجالس الإدارات. وبينما تشرع الدولة الصينية في الاستحواذ على أسهم في الشركات الخاصة، فإنها تُشجِّع أيضا رواد الأعمال الناجحين على الاستثمار في الشركات المملوكة للدولة، مازجة بين الدولة والسوق أكثر وأكثر.

من جهتهم، سيتعيَّن على مسؤولي التخطيط الاقتصادي في الحزب الشيوعي الصيني أن يُصمِّموا "اقتصادا مُزدوَج الدماء"، تصبح الصين بموجبه مكتفية ذاتيا في معظم القطاعات الاقتصادية، في حين تصبح اقتصادات العالم أكثر اعتمادا على الصين. وقد أرسى شي نهجا لحل مسألة التفاوت في توزيع الدخول عام 2020 عُرف باسم "أجندة الرخاء المشترك"، بموجبها يصبح لزاما على الأغنياء أن يعيدوا توزيع أموالهم "طواعية" لصالح برامج مدعومة حكوميا من أجل تقليص تفاوت الدخول. بحلول نهاية عام 2021، بدا جليا أن عصر "الإصلاح والانفتاح" الذي دشَّنه دِنغ شارف على الانتهاء، وحلَّت بدلا منه عقيدة اقتصادية جديدة مرتكزة للدولة.

 

أهمية التاريـخ على مدار العقد الماضي، بات مفهوم "الإحياء العظيم للشعب الصيني" في القلب من رؤية شي القومية، ويتلخَّص هدف الرجل في أن تصبح الصين القوة العالمية والآسيوية الأولى بحلول عام 2049.  (رويترز)

"نسيان التاريخ خيانة، فهو موجود في الحقيقة موضوعيًّا، وهو خير كتاب".

شي جين بينغ

صاحبت قفزة شي نحو السياسة اللينينية والاقتصاديات الماركسية تبنِّيه لنسخة أكثر شراسة من القومية، وتعزيز حضور الصين في الخارج بديلا عن الحذر التقليدي وتجنُّب المخاطر الذي انتهجته الصين في السابق وكان عِماد السياسة الخارجية أثناء عصر دِنغ. وقد ظهر تقدير شي لأهمية القومية في وقت مُبكر من مسيرته السياسية، حيث قال في خطاب له عام 2013: "في الغرب، هناك من يقول إن الصين يجب أن تُغيِّر الدعاية التاريخية خاصتها، وألا تنتج دعاية من الأصل عن تاريخ المهانة الوطنية فيها. ولكنني أرى أننا لا يجب أن ننصاع لهذا المطلب، فنسيان التاريخ خيانة. والتاريخ موجود في الحقيقة موضوعيًّا، وهو خير كتاب، والأمة التي لا ذاكرة تاريخية لها لا مستقبل لها".

بعد تعيين شي أمينا عاما للحزب الشيوعي عام 2012 مباشرة، أخذ الرجل اللجنة الدائمة للمكتب السياسي للحزب، المُعيَّنة حديثا حينئذ، في جولة لتفقُّد معرض "الطريق إلى الإحياء" بمتحف الصين الوطني، وهو معرض لتوثيق غدر القوى الإمبريالية الغربية واليابان (أثناء استعمارهم الصين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين)*، والرد البطولي للحزب الشيوعي الصيني أثناء هذه الفترة، التي يُسميها الحزب "قرن المهانة الوطنية" (The Century of National Humiliation).

على مدار العقد الماضي، بات مفهوم "الإحياء العظيم للشعب الصيني" في القلب من رؤية شي القومية، ويتلخَّص هدف الرجل في أن تصبح الصين القوة العالمية والآسيوية الأولى بحلول عام 2049 (بالتزامن مع حلول الذكرى المئوية لتأسيس جمهورية الصين الشعبية)*. وقد حدَّد شي منذ سبع سنوات عددا من المؤشرات الكمِّيَّة التي يجب أن تصل إليها بلاده بحلول عام 2035 في الطريق إلى تحقيق هدفها النهائي، ومنها أن تصبح "اقتصادا متقدما من المستوى المتوسط" (Medium-level Developed Economy)، وأن تكون قد "استكملت تحديث الدفاع الوطني والقوات المسلحة". ومن أجل تعريف رؤيته وصياغتها، طرح شي عددا من المفاهيم الأيديولوجية لاعتماد نهج شامل يجعل الصين قوة جديدة أكثر حزما وتأكيدا على حضورها.

أول هذه المفاهيم هو "القوة الوطنية الشاملة" (Zonghe Guoli)، الذي يستخدمه الحزب الشيوعي الصيني لخلق مؤشرات كمِّية لقوة الصين العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية مُجتَمِعة ونفوذ سياستها الخارجية. ورغم أن المفهوم استُخدِم من قِبَل أسلاف شي، فإن شي كان حاسما بما يكفي للقول بأن قوة الصين نَمَت نُموًّا سريعا إلى درجة وصلت معها البلاد إلى "الصفوف الأولى لقيادة العالم". وقد أكَّد شي أيضا على التحوُّلات السريعة في "موازين القوى الدولية" (Guoji Liliang Duibi)، وهو مفهوم يشير إلى المقارنات التي يستخدمها الحزب الشيوعي لقياس تقدُّم الصين في اللحاق بالولايات المتحدة وحلفائها.

علاوة على ذلك، يتضمَّن خطاب الحزب الشيوعي إشارات "للتعددية القطبية"(Duojihua) المتنامية في النظام الدولي، مع تنامي القوة الصينية بشكل لا رجعة فيه. وأخيرا، أعاد شي استدعاء حكمة من حِكم ماو القديمة عن "صعود الشرق وأفول الغرب" (Dongsheng Xijiang)، وطوَّعها كي تشير إلى تجاوز الصين للولايات المتحدة.

لقد ظهر مديح شي العلني لقوة الصين الوطنية الصاعدة بصورة أوضح وأوسع مقارنة بسابقيه. ففي عام 2013، ألغى الحزب الشيوعي رسميًّا عقيدة "الإرشاد الدبلوماسي" التقليدية، التي ابتكرها دِنغ وتعود إلى عام 1992، والتي نصَّت على أن الصين يجب أن "تُخفي قوتها ولا تتعجَّل ولا تُمسِك زمام القيادة". وقد استخدم شي تقرير المؤتمر العام للحزب عام 2017 لتوصيف كيف روَّجت الصين "لقوتها الوطنية الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية والعسكرية والشاملة"، إلى حد باتت معه في مصاف قادة العالم، وأنه نتيجة قفزة غير مسبوقة في مكانة الصين الدولية، فإن "الشعب الصيني، وبوضعية جديدة كُليًّا، يقف الآن شامخا في الشرق".

 

النظـرية والتطبيـق استطاع شي أن يُرسل إلى حزبه رسالة لا لَبس فيها مفادها أن الصين أقوى بكثير مما كانت عليه في أي وقت مضى، وأنه ينتوي استخدام تلك القوة لتغيير مجرى التاريخ. (رويترز)

إن أكثر ما يشغل المتابعين القلقين لصعود الصين هو الكيفية التي تُرجِمَت بها تلك الديباجات الأيديولوجية إلى ممارسة عملية، فتصريحات شي العقائدية ليست نظرية فحسب، بل تنفيذية أيضا، وقد مهَّدت الطريق لطيف واسع من خطوات السياسة الخارجية التي اتخذتها الصين ولم يكُن يتخيَّلها أحد تحت حُكم أسلاف شي. لقد عكفت الصين على سلسلة من عمليات الاستصلاح البحري للأراضي في بحر جنوب الصين (وهو استرداد أراضي مغمورة بالماء أو ردم جزء منها ثم ادعاء السيادة عليها)*، ثم حوَّلتها إلى حاميات خاصة بها، مُتجاهِلة ضمانات رسمية قدمتها في السابق بأنها لن تفعل.

ويُضاف إلى ذلك ما أجرته البلاد بقيادة شي من ضربات صاروخية بالذخيرة الحية حول الساحل التايواني على نطاق واسع، في محاكاة لعملية فرض حصار بحري وجوي على الجزيرة، وهي خطوة نأى عنها النظام الصيني في السابق رُغم قدرته على القيام بها. كما فاقم شي من صراعات الصين الحدودية مع الهند عبر المواجهات المتكررة على الحدود معها، وكذلك عبر تدشين طُرُق ومطارات جديدة، وغيرها من البنى التحتية ذات الاستخدامات العسكرية قرب الحدود الهندية. وأخيرا، تبنَّت الصين سياسة اقتصادية وتجارية جديدة تمارس فيها الإكراه بحق الدول التي تسيء إلى بكين وتقف عُرضة للضغط الصيني.

وقد أصبحت الصين أكثر شراسة بكثير في ملاحقة نُقَّادِها في الخارج، حيث أعلنت بكين في يوليو/تموز 2021 عقوبات اقتصادية للمرة الأولى ضد أشخاص ومؤسسات في الغرب تجرَّأت على انتقاد الصين. وأتت العقوبات متسقة مع مبدأ "دبلوماسية الذئب المُحارب"، وهو مبدأ يُشجِّع الدبلوماسيين الصينيين على مهاجمة الحكومات المضيفة بصورة علنية ومتكررة، ويُعَد نقلة جذرية في الممارسة الدبلوماسية الصينية لم نشهدها منذ 35 عاما.

بموجب معتقدات شي الأيديولوجية، باتت الصين ملتزمة بهدف بناء نظام دولي أكثر عدلا وإنصافا على حد وصفه، وهو نظام يرتكز على القوة الصينية بدلا من الأميركية، ويعكس قِيَم أكثر اتساقا مع القِيَم الماركسية-اللينينية. ولذا، دفعت بكين من أجل إزالة أي إشارة إلى حقوق الإنسان العالمية في قرارات الأمم المتحدة، ودشَّنت عددا من المؤسسات الدولية ذات الارتكاز الصيني، مثل مبادرة الحزام والطريق، والبنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، ومنظمة شانغهاي للتعاون، وذلك لمنافسة المؤسسات ذات الهيمنة الغربية، واستبدالها في نهاية المطاف.

إن السعي الماركسي-اللينيني لعالم "أكثر عدلا" يرسم ملامح ترويج الصين لنموذج التنمية الوطني خاصتها في دول الجنوب العالمي بوصفه بديلا عن "إجماع واشنطن" الذي يحُث على تبني الحكم الديمقراطي والأسواق الحُرَّة. وقد قدَّمت الصين إمدادات جاهزة من تقنيات الرقابة ودورات التدريب الشُرَطية والتعاون الاستخباراتي لدول شتى، مثل الإكوادور وأوزبكستان وزِمبابوي، والتي تجاوزت نموذج الديمقراطية الليبرالية الغربي الكلاسيكي.

لقد ظهرت بوادر تلك التحوُّلات في السياسات الأمنية والخارجية الصينية بجلاء من ثنايا تحوُّلات مُبكرة في الخط الأيديولوجي لشي جين بينغ. فعن طريق استخدام ما يراه المُتلقي الغربي مُبهَما ومحضَ هُراء نظري، استطاع شي أن يُرسل إلى حزبه رسالة لا لَبس فيها مفادها أن الصين أقوى بكثير مما كانت عليه في أي وقت مضى، وأنه ينتوي استخدام تلك القوة لتغيير مجرى التاريخ.

 

لا نصـر دون قتـال تقنيات الرقابة الحالية تُمكِّن شي من السيطرة على الاحتجاج بطُرُق لم يكن ليتخيَّلها ماو أو الزعيم السوفيتي جوزيف ستالين. (شترستوك)

"الشعب الصيني يقف الآن شامخا في الشرق".

شي جين بينغ

يبلغ شي من العمر 70 عاما، ولا يبدو أنه عازم على التقاعد. وبوصفه ممارسا وتلميذا قديما للسياسة الصينية، فإنه يعلم تمام العِلم أنه إن ترك منصبه، سيكون عُرضة هو وأسرته للملاحقة ممن يخلفه في رئاسة الصين. ولذلك يُرجَّح أن يستمر الرجل في قيادة بلده حتى وفاته، رُغم أن مناصبه الرسمية قد تتغيَّر مع الوقت. وبالنظر إلى أن أمه تبلغ من العمر 96 عاما، وأن أباه عاش حتى بلغ 89 عاما، فإن عمرهما الطويل إن دلَّ على شيء، فإنما يدل على أن الرجل يُنتظر أن يبقى قائد الصين الأعلى حتى نهاية ثلاثينيات القرن الحالي.

ويواجه شي مخاطر ونقاط ضعف سياسية قليلة. صحيح أن عناصر من المجتمع الصيني يُمكِن أن تُبد انزعاجها من الجهاز القمعي الذي بناه وتتزايد قمعيته يوما بعد يوم، ولكن تقنيات الرقابة الحالية تُمكِّن شي من السيطرة على الاحتجاج بطُرُق لم يكن ليتخيَّلها ماو أو الزعيم السوفيتي جوزيف ستالين.

ويُعبِّر شي عن ثقة متزايدة في "الجيل القومي" الصاعد في الصين، لا سيَّما النُخَب التي تلقت تعليمها داخل الصين لا خارجها، وشبَّت عن الطوق تحت قيادته وليس تحت حكم النظم الأكثر ليبرالية لمن سبقوه، وترى في نفسها حامي حمى ثورة شي السياسية. وسيكون من الحماقة بمكان أن نفترض بأن رؤية شي الماركسية-اللينينية ستتحطَّم تحت وطأة تناقضاتها الداخلية على المدى القريب، فالتغيير السياسي إن أتى إلى الصين يوما ما، سيصل إليها على الأرجح بعد وفاة شي وليس قبل ذلك.

بيد أن شي ليس في وضع آمن تماما، وقد يكون الاقتصاد ثغرته ونقطة ضعفه الأبرز. إن رؤية شي الماركسية لتوسيع سيطرة الحزب على القطاع الخاص، والدور المتنامي للشركات المملوكة للدولة والسياسة الصناعية، والبحث عن "رخاء مُشترك" عن طريق إعادة توزيع الثروات، كل ذلك سيؤدي إلى انكماش النمو الاقتصادي بمرور الوقت، لأن تراجع ثقة رجال الأعمال سيؤدي إلى تقلُّص الاستثمار في رأس المال الثابت الخاص ردا على تزايد المخاطر السياسية والتنظيمية، فما تمنحه الدول لهؤلاء يمكن أن تسحبه بسهولة في نهاية المطاف. وينطبق ذلك بالتحديد على قطاعات التكنولوجيا والعقارات والتمويل، التي كانت مُحرك النمو المحلي الأساسي في الصين طيلة العقديْن الماضيَّيْن. أضِف لذلك أن جاذبية الصين للمستثمرين الأجانب قد تراجعت بسبب اضطراب سلاسل الإمداد وتأثير التوجُّهات الاقتصادية الجديدة القائمة على الاكتفاء الذاتي والقومية.

لقد أثارت حملة مكافحة الفساد الفزغ في صفوف نخبة رجال الأعمال داخل الصين، وكذلك الطبيعة الاعتباطية للنظام القضائي الخاضع لسيطرة الحزب، والعدد المتزايد من رُوَّاد قطاع التكنولوجيا الذي أفل نجمه بسبب توتر علاقاته السياسية بالنظام الحاكم. وعلاوة على نقاط الضعف هذه، ثمَّة أنماط بنيوية بعيدة المدى تؤثر على الصين، مثل تعدادها السكاني الذي يتزايد متوسِّط أعماره بسرعة، وحجم القوى العاملة المُنكمِش، ونمو الإنتاجية المنخفض، والمستويات المرتفعة من الديون التي تشترك فيها الدولة مع المؤسسات المالية الخاصة.

وبينما استطاع الحزب الشيوعي في يوم من الأيام بأن يتوقَّع متوسط نمو سنوي يتحرك حول 6% حتى نهاية عشرينيات القرن الجاري قبل أن يتباطأ إلى 4% طيلة الثلاثينيات، فإن بعض المحللين قَلِق الآن حيال غياب أي آلية لتصحيح أخطاء المسار الحالي، وما يستتبعه من اتجاه الاقتصاد إلى الركود في وقت قريب بنمو يبلغ 3% تقريبا في العشرينيات، يقِل بعدها إلى 2% في الثلاثينيات.

نتيجة لذلك، قد تدخل الصين في ثلاثينيات القرن الجاري وهي عالقة فيما يُسمَّى بـ"فخ الدخل المتوسط" (Middle-Income Trap)، مع اقتصاد أصغر أو أكبر قليلا من اقتصاد الولايات المتحدة، وهي نتيجة لها آثار جسيمة بالنسبة لقادة الصين. إذا ما تداعت معدلات التوظيف ونمو الدخول، فإن ميزانية الصين ستعاني ضغوطا كبيرة تُجبر الحزب الشيوعي على الاختيار بين تقديم الرعاية الصحية والاهتمام بكبار السن وصرف المعاشات المُستحَقة من جهة، وبين مواصلة السعي من أجل أهداف الأمن القومي والسياسات الصناعية ومبادرة الحزام والطريق من جهة أخرى.

وفي غضون ذلك، فإن ثقل الصين وقدرتها على جذب بقية الاقتصاد العالمي سيصبح محل شك وتساؤل، ولذا فإن السجال حول ما إن كان العالم قد شهد بالفعل "ذروة الصين" لا يزال في بدايته، أما مصير نمو الصين على المدى البعيد فأمر لا يمكن البتُّ فيه اليوم.

 

الصـراع والأيـديـولـوجيـــا التزام شي بالعقيدة الماركسية-اللينينية ساعده في ترسيخ سلطانه الشخصي، إلا أن هذا الموقف الأيديولوجي نفسه خلق مُعضلات سيجد الحزب الشيوعي صعوبة في حلِّها، خاصة مع تباطؤ النمو الاقتصادي (رويترز)

إن قومية شي الشيوعية خطة أيديولوجية للمستقبل، وهي حقيقة الصين الغائبة عن كثيرين رُغم كونها على مرأى ومسمع الجميع، والحزب الشيوعي تحت قيادة شي يُقيِّم الظروف الدولية من خلال التحليل الجدلي، وهو لا يفعل ذلك بطُرُق مفهومة بالضرورة بالنسبة لمن هم خارج الصين. على سبيل المثال، يرى شي في المؤسسات الغربية الجديدة التي تأسست لموازنة الصين، مثل الرُباعية "Quad" (وهو اتفاق تعاون إستراتيجي بين أستراليا والهند والولايات المتحدة واليابان)، وأوكوس "AUKUS" (وهو اتفاق دفاع مشترك بين أستراليا وبريطانيا والولايات المتحدة)؛ يرى فيها عدوانية إستراتيجية واتجاه أيديولوجي يُمكِن توقُّعه، ومن ثمَّ يحتاج من بكين إلى أشكال جديدة من الكِفاح السياسي والأيديولوجي والعسكري لمجابهته. ووفقا لرؤيته الماركسية-اللينينية، فإن انتصار الصين النهائي مضمون لأن القوى العميقة للحتمية التاريخية في صف الحزب الشيوعي الصيني، في حين يعاني الغرب من تدهور بنيوي. وستؤثر تلك الرؤية لا محالة على احتمالية نشوب صراع في آسيا.

منذ عام 2002 ولغة الحزب الشيوعي حول إيمانه بأن الحرب غير مُرجَّحة تظهر في الشعار الرسمي الذي يقول إن "الصين لم تزل تتمتَّع بفترة فرصة إستراتيجية"، وهو شعار أُريد له آنذاك التعبير عن أن خطر اندلاع صراع (غربي) مع الصين ضئيل في المستقبل القريب، ولذا بوسعها أن تسعى لتحقيق مكتسبات على مستوى الاقتصاد والسياسة الخارجية بينما تنشغل الولايات المتحدة في أماكن أخرى من العالم، وبخاصة في الشرق الأوسط الكبير (وكانت الولايات المتحدة حينها في ذروة انشغالها بحربيْ أفغانستان والعراق بعد غزوهما عاميْ 2001 و2003 على الترتيب).

ولكن بعد أن صنَّفت واشنطن الصين رسميا بوصفها "منافسا إستراتيجيا" عام 2017، وبالتزامن مع الحرب التجارية الدائرة بين البلديْن، وأشكال فك الارتباط الاقتصادي المُتبادَلة بينهما (وإن كانت انتقائية)، وتعزيز التحالفات الأميركية مع أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية وحلف الناتو؛ فمن المُرجَّح أن يُغيِّر الحزب الشيوعي الصيني استنتاجه التحليلي الرسمي حيال البيئة الإستراتيجية المحيطة به.

إن الخطر هنا هو أن المنهجيات الجدلية، والاستنباطات الثنائية التي تتمخَّض عنها، يُمكن أن تؤدي إلى استنتاج خاطئ حين يتم تطبيقها على أرض الواقع في عالم الأمن الدولي. ففي خمسينيات القرن العشرين، رأى الزعيم الصيني ماو إن الولايات المتحدة لا بد وأن تهاجم الصين بموجب تلك الجدلية كي تقضي على الثورة الصينية نيابة عن القوى الرأسمالية والإمبريالية.

ورُغم اندلاع الحرب الكورية وأزمتان في خليج تايوان أثناء ذلك العقد، لم يتبلور بالفعل هجوم أميركي على الصين. بل إن ماو لو لم يتبنَّ تلك الرؤية الأيديولوجية، لربما أمكن للانفتاح في علاقات الصين مع الولايات المتحدة أن يحدث قبل عشر سنوات من موعده (حين فُتِح الباب بالفعل بزيارة الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون إلى الصين عام 1972)، خاصة أن الخلاف الصيني-السوفيتي كان قد بدأ بعد عام 1959.

على نفس المنوال، يرى شي اليوم أخطارا مُحدقة على الجبهات كافة، ولذا يعكف على أمننة كل جوانب السياسات العامة والحياة الخاصة تقريبا في الصين، وما إن تتحوَّل تلك التصوُّرات عن الأخطار التي تحيط بالصين إلى استنتاجات تحليلية ورسمية وتُترجَم إلى داخل بيروقراطيات الحزب الشيوعي الصيني، حتى تبدأ المنظومة الصينية في التصرُّف والعمل وكأن الصراع العسكري قد صار حتميا. إن تصريحات شي الأيديولوجية تُشكِّل الكيفية التي يفهم بها الحزب الشيوعي، وأعضاؤه البالغ عددهم 100 مليون تقريبا، بلدهم ودورها في العالم، وهُم يأخذون تلك النصوص على محمل الجد، ولذا على بقية العالم أن يأخذها على محمل الجد أيضا.

إن تبنِّي شي للعقيدة الماركسية-اللينينية يجب أن يضع حدا لأي أفكار حالمة في الغرب حول إمكانية أن تقوم الصين بتحرير الاقتصاد والسياسة فيها، ويجب أن يوضِّح بشكل لا لَبْس فيه أن نهج الصين للسياسة الخارجية ليس مدفوعا فحسب بحسابات متغيِّرة عن الفرص والمخاطر الإستراتيجية، بل وبإيمان راسخ مفاده أن قوى التغيُّر التاريخي تدفع البلاد إلى الأمام بلا هوادة.

ويجب أن يدفع ذلك بواشنطن وشركائها إلى تقييم إستراتيجياتهم القائمة حيال الصين بشكل متأنٍ، كما يتوجَّب على الولايات المتحدة أن تُدرك أن الصين تُمثِّل اليوم المنافس الأكثر انضباطا سياسيا وأيديولوجيا الذي أمكن لها أن تواجهه طيلة مئة عام من هيمنتها الجيوسياسية، ويتحتَّم على صُناع الإستراتيجية الأميركية أن يتجنَّبوا إسقاط تجارب سابقة على التحدي الصيني، وألا يفترضوا بأن بكين ستتصرَّف بطرق تُعَد عقلانية بالضرورة من المنظور الأميركي أو تخدم المصالح الصينية المباشرة.

لقد ربح الغرب صراعه الأيديولوجي مع الاتحاد السوفيتي في القرن العشرين، ولكن الصين ليست الاتحاد السوفيتي، ويكفي أن اقتصادها اليوم ثاني أكبر اقتصاد في العالم كي نرى الفارق. ورُغم أن شي جين بينغ قد لا يكون نسخة من ستالين، فإنه في الوقت ذاته ليس ميخائيل غورباتشيف (الزعيم السوفيتي الذي وضع حدًّا لنهج ستالين العقائدي وجعل السياسة السوفيتية أكثر براغماتية).

إن التزام شي بالعقيدة الماركسية-اللينينية ساعده في ترسيخ سلطانه الشخصي، إلا أن هذا الموقف الأيديولوجي نفسه خلق مُعضلات سيجد الحزب الشيوعي صعوبة في حلِّها، خاصة مع تباطؤ النمو الاقتصادي، الذي يثير علامات استفهام حول طبيعة العقد الاجتماعي القائم منذ وقت طويل بين الحزب والشعب الصيني.

أيًّا كان ما ستُسفر عنه الأحداث، فإن شي لن يرتدَّ عن أيديولوجيته، فهو عقائدي صميم، وهو أمر يضع الولايات المتحدة وحلفاءها أمام اختبار آخر، إذ أن انتصارهم في تلك الحرب الأيديولوجية التي تتكشَّف فصولها يوما بعد يوم أمام أعينهم، سيتطلَّب منهم العودة الجذرية إلى المبادئ التي تُميِّز النظم السياسية الديمقراطية الليبرالية. إن قادة الغرب بحاجة إلى الدفاع عن تلك المُثُل بالقول والفعل، ولذا يجب أن يصبح كل واحد منهم -مثله مثل شي جين بينغ- عقائديًّا صميما.

_____________________________

ترجمة: نهى خالد

هذه المادة مترجمة عن فورين أفيرز، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الجزيرة نت

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات أبعاد الحزب الشیوعی الصینی السیاسة الخارجیة الولایات المتحدة المملوکة للدولة للحزب الشیوعی شی جین بینغ داخل الصین الحزب على أن الصین فی الصین الرجل فی فی نهایة الصین فی الصین م م الصین رؤیة شی ت الصین من أجل عام 2013 قبل أن التی ت ة التی یجب أن إلا أن التی ی

إقرأ أيضاً:

بعد عامين على طوفان الأقصى…غزة التي غيرت العالم

لم يدر في خلد المتابعين أن ما يشاهدوه من اقتحام عناصر كتائب عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) والمقاومة في قطاع غزة صبيحة يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول عام 2023 سيفتح صفحة جديدة ليس في فلسطين ولا المنطقة العربية بل يمتد ليشمل العالم.

وكما قال الرئيس السابق للمكتب السياسي لحركة حماس الشهيد يحيى السنوار فإن الحركة ستضع العالم في مواجهة إسرائيل للحصول على حقوقنا.

فلأول مرة منذ احتلال فلسطين في العام 1948، اتهمت إسرائيل بارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية، وبات سياسيوها وجنودها مطاردين بسبب ذلك، ليس فقط من قبل الفلسطينيين ومنظمات حقوقية، بل من شخصيات رسمية وهيئات دولية، هذا التغير ضرب السردية الإسرائيلية في الصميم، إذ لم يعد ممكنا تبرير الدمار تحت شعار "الدفاع المشروع عن النفس".

غزة والقضة الفلسطينية

قبل السابع من أكتوبر كانت القضية الفلسطينية قد بدأت بالتواري وانطفاء وهجها خاصة مع استباحة موجة التطبيع في المنطقة العربية وكثرت الحديث عن المنافع الاقتصادية التي ستشهدها المنطقة بعد السلام مع إسرائيل وليس أدل على ذلك من حديث رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، المطلب بتهمة ارتكاب جرائم حرب للمحكمة الجنائية الدولية،  أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة قبل شهر من طوفان الأقصى وما قاله عن أن ليس من حق الفلسطينيين وضع فيتو على أي سلام يقام مع الدول العربية وعرض خريطة، وهو المفتون في استعراض الخرائط، لما سيبدو عليه شكل المنطقة والتعاون الاقتصادي والممرات الاقتصادية التي بشر بها مستمعيه.

وهو ما عبر عنه الكاتب اليساري الإسرائيلي جدعون ليفي في صحيفة هآرتس "أصبحت غزة هيروشيما، لكن روحها لا تزال حية، كانت القضية الفلسطينية قد اختفت تمامًا من الأجندة الدولية …لأصبح الفلسطينيون هم الهنود الحمر في هذه المنطقة، ثم جاءت الحرب ووضعتهم على رأس الأجندة العالمية، العالم يحبهم ويشعر بالأسف لأجلهم".

إعلان

وجاءت موجة الاعترافات بالجدولة الفلسطينية لتظهر أثر الطوفان في وضع القضية الفلسطينية على قمة اعمال العالم ففي مايو/أيار 2024 اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة بأغلبية 143 صوتا قرارا يدعم طلب فلسطين الحصول على عضوية كاملة في الأمم المتحدة، وأوصى مجلس الأمن بإعادة النظر في الطلب.

كما أعلنت النرويج وأيرلندا وإسبانيا اعترافها بالدولة الفلسطينية، وتبعتها سلوفينيا في الشهر التالي، فارتفع عدد الدول المعترفة بها إلى 148 من أصل 193 دولة عضوا في الأمم المتحدة.

وفي الشهر الماضي أعلنت بريطانيا وفرنسا وكندا وأستراليا والبرتغال اعترافها الرسمي بدولة فلسطين، ليصل عدد الدولة التي اعترفت بالدولة الفلسطينية إلى 159 دولة وفقا لوزارة الخارجية الفلسطينية.

البدائية التي هزمت التكنولوجيا

"الهزيمة التي مُنيت بها إسرائيل في 7 أكتوبر هي الأشدّ قسوة وإيلاما وإهانة في تاريخها، حتى في أسوأ كوابيسنا لم نتخيل أن شيئا كهذا يمكن أن يحدث لنا"، هكذا عبر الكاتب الصحفي بن كسبيت بما حدث لإسرائيل قبل عامين في معاريف.

لم يأت اعتراف بس كاسبيت الذي يشاركه فيه العديد من الإسرائيليين من فراغ فطوفان الأقصى كشف الإخفاقات، والتصوّرات الوهمية، والغطرسة التي قادت إلى كارثة 7 أكتوبر، وفقا لرئيس الأركان السابق أفيف كوخافي.

وبحسب كوخافي ان "الهدوء النسبي في الجنوب" كان خادعا، فـحماس لم تتوقف، بل بنت قوتها، وتحصّنت، وأصبحت تهديدًا لم يتخيله أحد.

ويصف ما جرى في ذلك اليوم العميد (احتياط) شموئيل زخاي، القائد السابق لفرقة غزة، بقوله "العدوّ الأكبر للتكنولوجيا هو البدائية، قنبلة يدوية أو طائرة مسيّرة من علي إكسبريس دمّرت منظومة كلها"، مشيفا "التقنيات الفاخرة انهارت أمام وسائل بسيطة ورخيصة".

لم يقف الأمر عند هذا الحد فقد بدء جيش الاحتلال عدوانه على القطاع معتقدا أن القضاء على قوى المقاومة لن تستغرق وقتا طويلا لتفاجئ ومع داعميه العلني ووفي الخفاء أنه وبعد عامين من القتال لا زالت المقاومة صامدة وتقف على قدميها وتكبد الاحتلال مزيدا من الخسائر في الأرواح والعتاد.

جيش الاحتلال صرح من خيال

استمرار الحرب الأطول في تاريخ إسرائيل أدت إلى سقوط أسطورة الجيش كقوة قادرة على اجتراح المعجزات، وبات يعاني من نقص المقاتلين والمعدات. وبالمثل تهاونت مزاعم "الجيش الأكثر أخلاقية في العالم".

ووفقا لأحدث إحصاءات جيش الاحتلال فقد قتل 1152 ضابطا وجنديا منذ 7 أكتوبر 2023 أكثر من 40% منهم تحت 21 عاما. ومنذ شهرين فقط، اعترف قسم إعادة التأهيل لدى وزارة جيش الاحتلال بمعالجة "نحو 80 ألف جنديا من الجيش، منهم 26 ألفا يعانون اضطرابات نفسية".

فيما يرفض ما بين 30% و40% من جنود الاحتياط عن الخدمة لأسباب بينها الإرهاق من طول الحرب، حسب إعلام إسرائيلي.

أدى نقص عدد جنود الاحتلال إلى دفع الجيش إلى اللجوء لتجنيد النساء واليهود من خارج البلاد لسد هذا النقص.

ووفقا لموقع "والا" فقد عمد الجيش إلى تجنيد 5000 امرأة لمهام قتالية خلال العام الماضي، والسعي لتجنيد أشخاص من يهود الخارج بمعدل 700 شخص سنويا.  حيث أظهرت التقديرات جيش الاحتلال وجود "نقص خطير" في القوات يتجاوز 12 ألف جندي.

إعلان

كما بات يشكو من نقص يقدر بـ300 ضابط في مناصب قادة فصائل القوات البرية، كما يواجه جيش الاحتلال صعوبة بإقناع جنوده ممن وصفتهم بذوي الكفاءة بالالتحاق بدورة الضباط.

كما خلقت الحرب أزمة ثقة "خطرة" بين المستوى السياسي والعسكري ولا يمكن الاستمرار بهذه الطريقة كما يرى مسؤول شعبة الدراسات العملياتية في جيش الاحتلال غاي خازوت.

توترات مجتمعية وتدهور اقتصادي

ولا يعتقد أن هوة الخلاف بين الجانبين ستتقلص مع انتهاء الحرب، ومحاولة جيش الاحتلال ترميم قدراته، إذ يعتقد العديد من المراقبين أن هذا الخلافات ستتفاقم وتزيد حدتها في قادم الأيام.

شكل ملف تجنيد اليهود المتدين (الحريديم) أزمة على المستويات العسكرية والسياسية والمجتمعية، وهو ما ينذر ببواد خلافات ستظهر بعد توقف العدوان خاصة على المستوى الاجتماعي.

فمع استمرار الحرب على غزة، تحوَّلت إسرائيل إلى مسرح لفوضى سياسية وأمنية غير مسبوقة، ويرى خبير الشأن الإسرائيلي عماد أبو عواد في حديث للجزيرة، أن نتنياهو سعى للسيطرة على الجيش عبر تعيين مقربين من التيار القومي والديني وإقصاء آخرين، ضمن خطة لتغيير هوية المؤسسة العسكرية بما يوافق أجندة اليمين.

وأشار أبو عواد إلى أن نحو 40% من ضباط الجيش ينتمون للتيار الديني القومي، رغم أن نسبتهم في المجتمع الإسرائيلي لا تتجاوز 12%، لكن القيادة العليا ما زالت تميل إلى التيار الصهيوني الليبرالي التقليدي.

ووصل الانقسام الاجتماعي إلى مستويات دفعت الرئيس الإسرائيلي إسحاق هيرتزوغ للتحذير من مخاطر الحرب الأهلية.

لم يكن الاقتصاد ببعيد عند ارتدادات طوفان الأقصى إذ زاد الإنفاق العسكري الإسرائيلي 65% في عام 2024 إلى 46.5 مليار دولار، بفعل الحرب على غزة وتداعياتها، لتكون هذه الكلفة الحربية هي الأكبر في تاريخ إسرائيل.

الأمر الذي أدى لوقوع الاقتصاد الإسرائيلي تحت ضغوط كبرى أدت لخفض الانفاق على العديد من المجالات التي كانت تغيري بالهجرة والإقامة في إسرائيل حيث دولة الرفاه التي تعتني بمواطنيها.

ووفقا للتقارير الاقتصادية يعتقد أن يتجاوز الدين العام لإسرائيل 70% من الناتج الإجمالي لعام 2025، كما توقع أن يصل عجز الموازنة الحكومية إلى نحو 16% من الناتج المحلي الإجمالي سنويا طوال ما تبقى من هذا العقد.

التردي الاقتصادي تبعه خروج رؤوس الأموال من إسرائيل إذ أشارت معطيات نقلها الإعلام الإسرائيلي إلى أن ما لا يقل عن 1700 مليونير غادروا إسرائيل العام الماضي.

ونقلت ذلك صحيفة يديعوت أحرونوت عن شركة هينلي آند بارتنرز الرائدة عالميا في مجال الهجرة، بالتعاون مع شركة استخبارات البيانات العالمية نيو وورلد ويلث؛ أنه عام 2024، كان هناك 22 ألفا و600 مليونيرا يعيشون في تل أبيب وهرتسليا مقارنة بـ24 ألفا و300 في 2023.

ولفتت الشركة إلى أن هذا يعني أن ما لا يقل عن 1700 مليونير غادروا إسرائيل خلال العام الماضي.

من سيدني إلى لندن

لقد طردتهم لأنهم قتلة أطفال. جيش الجريمة الإسرائيلي ليس جيش الدفاع إنما جيش الجريمة".. هذه الكلمات لخصت صاحبة صالون للحلاقة في العاصمة الأسترالية سيدني سبب طردها لزبون تبين لها أنه إسرائيلي.

موقف تلك السيدة لم يكن منفردا في البلد القارة حيث استمرت المظاهرات تخرج أسبوعيا منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 منددة بالعدوان على غزة وصمت العالم إزاء العدوان.

وفي أغسطس/ آب الماضي شهدت سيدني أكبر مظاهرة دعما لغزة حيث شارك بها نحو 90 ألف شخص وعبرت أشهر جسور العاصمة حيث تسببت بغصب إسرائيلي عارم.

في اليابان كوريا الجنوبية وتايلند والهند وباكستان وأفغانستان وإندونيسيا والفليبين وماليزيا شهدت العديد من مدن تلك الدول مظاهرات منددة بالاحتلال وداعمة لغزة، وتعرض فيها دبلوماسيون وسياح إسرائيليون من الطرد من مطاعم وتجمعات بسبب دعمهم للإبادة وخدمتهم في جيش الاحتلال.

إعلان

لئن كانت اصداء الطوفان وما أحدثه من تغير قد تردد في شوارع آسيا وحرك شعوبا لم تكن على تماس مباشر مع القضية الفلسطينية، فإن صدى الطوفان كان أوقع وأكبر وأقسى في شوارع المدن الأوروبية، حيث بات شعاري "فلسطين حرة من البحر إلى النهر" و"الموت لجيش الدفاع الإسرائيلي" مصاحبا لكافة المظاهرات التي تخرج دعما لغزة.

مراسل صحيفة معاريف الإسرائيلية آفي أشكنازي يصف ما هو واقع "نجحت الحركة (حماس) إلى حد كبير في عدة خطوات اتخذتها. على سبيل المثال، لا يوجد اليوم شارع في أوروبا لا يُرفرف فيه علم فلسطين على واجهة متجر أو يظهر شعار "الحرية لفلسطين"، في كل ساحة في إيطاليا، إسبانيا، إنجلترا، ألمانيا، واليونان، شوهدت مظاهرات لمؤيدي الحركة. هنا، قدّمت الحركة درسًا حقيقيًا للدبلوماسية الإسرائيلية الغائبة".

وقد وثق المركز الأوروبي الفلسطيني للإعلام (إيبال) أكثر من 45 ألف مظاهرة وفعالية في نحو 800 مدينة في 25 دولة أوروبية، وذلك خلال عامين من الإبادة الجماعية التي شنها جيش الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة.

وقال رئيس المركز الأوروبي الفلسطيني للإعلام رائد صلاحات في حديث للجزيرة نت، أن الجمهور الأوروبي يمثل النسبة الأكبر من المشاركين في هذه الفعاليات، ثم الجاليات العربية والإسلامية. وحسب صلاحات فإن ذلك كان له عظيم الأثر في التأثير على السياسيين الأوروبيين لاتخاذ القرارات التي تُوّجت أخيرا باعتراف عدد من الحكومات الأوروبية بالدولة الفلسطينية.

وتعد مظاهرة هولندا التي جرب في الخامس من الشهر الجاري، وشارك فيها ربع مليون شخص، الأكثر أثرا في إدراك التغيير الواقع في أوروبا، فقد اعتبر الباحث في لمجموعة الأزمات الدولية معين رباني الذي ولد وعاش في هولندا أنها كانت بلا شك أكثر دولة أوروبية مؤيدة لإسرائيل. مؤيدة لإسرائيل لدرجة أن الفلسطينيين الزائرين سيقولون إن التفاهم مع الإسرائيليين أسهل من الهولنديين بشأن الشرق الأوسط.

مشيرا إلى أن إسرائيل خسرت الشعب الهولندي خسارة لا رجعة فيها، وستجد الحكومات الهولندية المستقبلية صعوبةً متزايدة في التمسك بموقفها نيابةً عن نظام الفصل العنصري الإبادي، "فنحن نعيش في عالمٍ مختلف، وسيصبح عالمًا أفضل".

لم يكتف الحراك الأوروبي بالمظاهرات والإضرابات، بل تطور لشمل البحر إذ انطلقت عدة رحلات بحرية لكسر الحصار الإسرائيلي المفروض على غزة منذ العام 2018 وكان آخرها أسطول الصمود.

في يوليو/تموز 2025، تشكل الأسطول من 4 كيانات رئيسية هي الحركة العالمية نحو غزة وتحالف أسطول الحرية وأسطول الصمود المغاربي ومبادرة "صمود نوسانتارا" الشرق آسيوية، بهدف كسر الحصار الإسرائيلي غير القانوني المفروض على قطاع غزة.

ورغم تصريحات المسؤولين الإسرائيليين من نجاحهم في أيقاف الأسطول في المياه الدولية إلا أنه زاد من حدة الغضب الشعبي تجاه إسرائيل وسياساتها، خاصة بعد ما تحدث الناشطون المشاركون في الأسطول عن الطريقة التي تعامل معهم الاحتلال فيها وما مارسه ضدهم من أساليب قمعية.

ما وقع في شوارع أوروبا انعكس على أنديتها الرياضة والفعاليات الرياضة، فلم يغب جمهور تلك الأندية عن التنديد بالإبادة والعدوان، كما دعت فرقهم هذا التوجه الأمر الذي دفع للمطالبة من منع إسرائيل من المشاركة في بطولات كرة القدم الأوروبية والدولية.

وليس أدل على أثر ما هو جاري في أوروبا ما نقلته صحيفة معارف عن نتنياهو ووصفت تصريحه بالتصعيد إذ اعتبر أن "أوروبا أصبحت غير ذات صلة واستسلمت للإرهاب الفلسطيني".

فيما أظهر استطلاع جرى في 24 دولة في مارس /آذار الماضي، أن 20 دولة منها عبّر نصف السكان أو أكثر عن موقف سلبي من إسرائيل، وفي دول مثل أستراليا، اليابان، السويد، تركيا، وإندونيسيا، وصلت النسبة إلى 75% أو أكثر، حتى في بريطانيا ارتفعت نسبة غير المؤيدين من 44% عام 2013 إلى 61% عام 2025.

أميركا أفول السردية

على الضفة الأخرى من المحيط، كان تأثير الطوفان أكبر وأعمق فما أن تفاعل طلبة الجامعات مع الحدث وبدأت مطاردة الساحرات لهم في أروقة الجامعات وفي الكونغرس، كان الشارع الأميركي قد خرج في عدة ولايات بمظاهرات حاشدة مطالبة بوقف الإبادة ومطالبة بوقف تسليح الجيش الإسرائيلي والمشاركة في الإبادة.

ولم يكد ساسة واشنطن يفرغوا من طلبة الجامعات وموافقهم الداعم لحرية الشعب الفلسطيني ومنددة بما يجرى في غزة، حتى استفاقوا على سردية مضادة للسردية الإسرائيلية وكان ميدانها هذه المرة تطبيق تيك توك لتبدأ مطاردة أخرى لقمع تلك الرواية والسيطرة عليها فكان أن اشترى لاري إليسون ثاني أثري رجل في العالم التطبيق في الولايات المتحدة للتحكم فيما يبث هناك ووقف التدهور بصورة إسرائيل.

إعلان

الانفتاح على سردية مغايرة للرواية الإسرائيلية في الولايات المتحدة، ظهر في استطلاعات الرأي وكان أحدثها استطلاع صحيفة واشنطن بوست الشهر الجاري حيث أظهر أن العديد من اليهود الأميركيين يظهرون استياء شديدا من سلوك إسرائيل في الحرب على قطاع غزة، مع تزايد أعداد من يعتقدون أن الولايات المتحدة تدعم إسرائيل بشكل مفرط.

فقد اعتبر 61% منهم أن إسرائيل ارتكبت جرائم حرب، بينما يرى حوالي 4 من كل 10 منهم أنها مذنبة بارتكاب إبادة جماعية.

ووفقا لاستطلاع لمركز بيو جرى في مارس/ أذار الماضي، ظهر أن 53% من الأميركيين يحملون مواقف سلبية تجاه إسرائيل، وصلت النسبة إلى نحو 60%، مع بروز قطيعة متزايدة بين الاحتلال والجيل الشاب الأميركي.

ما جرى في أميركا لم يقف عن حدود المظاهرات واحتجاجات الطلبة، فقد بات العديد من الأميركيين مقتنعين أن اللوبي الإسرائيلي يتحكم في سياسية بلادهم وسياسييهم، وبات هذا الموضوع مادة رئيسة للحديث والنقاش سواء كنت من مؤيدي الحزب الديمقراطي أو الجمهوري.

كما تحدث العديد من السياسيين المستقلين والمحللين عن جدوى عدم إسرائيل وما الفائدة التي تجنيها الولايات المتحدة من إسرائيل، الأمر الذي دفع نتنياهو للخروج في عدة منصات حوارية للحديث عن أهيمه إسرائيل للولايات المتحدة، فقد قال ، في حديث مع بن شابيرو أحد أبرز داعمي الرواية الإسرائيلية في أميركا، "نحن نتشارك مع أمريكا في امتلاك أكثر الأسلحة الهجومية تقدمًا على وجه الأرض، أسلحة لا تملكها أي من القوى العظمى، طُوّرت في إسرائيل، وتُشارك مع أميركا".

ولم تكن هوليود بمنأى عن ذلك وهي التي لطالما نظهر إليها أنها أحد وسائل النفوذ الإسرائيلي وأنها معروفة تاريخيا بأنها مؤيدة لإسرائيل، تعهد أكثر من 1300 سينمائي، من بينهم بعض نجوم هوليود البارزين، بعدم العمل مع المؤسسات السينمائية الإسرائيلية المتواطئة في الانتهاكات ضد الفلسطينيين، في الوقت الذي تكثف فيه إسرائيل حربها على غزة.

وهو الأمر الذي بات يقلق ساسة إسرائيل من تعميق خسارتهم لواشنطن خاصة مع أجيال لم تعد ترى أن إسرائيل حليف لهم.

لذا فقد حرص نتانياهو في زيارته الشهر الماضي للولايات المتحدة بالاجتماع مع مؤثرين لتسويق الرسالة الإسرائيلية، حيث دعاهم لاستخدام منصتي "تيك توك" و"إكس" لتعزيز دعم إسرائيل وتحسين صورتها على وسائل التواصل الاجتماعي.

وركز نتنياهو على أهمية استخدام مواقع التواصل الاجتماعي لكونها "أدوات المعركة" في دعم موقف إسرائيل لتنتصر في حربها على غزة، وقال إن منصة مثل "تيك توك هي رقم واحد" في حسم موقفه العالمي، وأشار إلى التعاون مع إيلون ماسك مالك منصة "إكس" ووصفه بالصديق لا العدو.

قد تسريت الأنباء عن أن إسرائيل تدفع لكل مؤثر يدافع عن إسرائيل وينشر روايتها 7 آلاف دولار للمنشور، وهو ما بات مثار سخرية من قبل الأميركيين.

كما دفعت إسرائيل 4.1 مليون دولار لشركة "شو فيث باي ووركس" لاستهداف المسيحيين بدعاية "مؤيدة لإسرائيل ومعادية للفلسطينيين" بشكل صريح، وذلك من خلال دعم الكنائس والقساوسة، وفقا لملفات قانون تسجيل الوكلاء الأجانب التي استعرضتها وكالة الأنباء اليهودية.

صراع السردية انتقل إلى داخل (ماغا) التيار المؤيد والداعم للرئيس دونالد ترامب ، له فوقفا لصحيفة وول ستريت جورنال فقد صعدت لورا لومر خلافاتها داخل التيار المؤيد لترامب الأمر الذي بات مثيرا للقلق في البيت الأبيض.

فقد هاجمت لومر، الصحفية المثيرة للجدل والمقربة من ترامب، بشكل علني شخصيات بارزة في حركة ماغا، منهم المذيع والمعلق السياسي البارز تاكر كارلسون، ووصفته بـ"تاكر قطَرلسون" واتهمته بالتواطؤ مع جماعة الإخوان المسلمين. وذلك بعد انتقاده للسياسة الإسرائيلية وطريقة تعامل نتنياهو مع المسؤولين الأميركيين.

ويتهم البعض لومر بتلقيها أموالا من إسرائيل وهي المعروف عنها دعمها الشديد لإسرائيل، وتتهم بأنها تتعاون مع محلل استخبارات إسرائيلي-أميركي، يعقوب أبيلباوم، في استهداف مسؤولين تعتبرهم "متعاطفين مع المسلمين".

وقد تصاعدت الخلافات داخل ماغا، خاصة بعد أن طرح بعض حلفاء ترامب نظريات مؤامرة ضد إسرائيل، عقب اغتيال الناشط المحافظ تشارلي كيرك.

ويمكن تلخيص المشهد الجاري في العالم الآن بما قاله الصحفي الإسرائيلي بن درور يميني من أن غزة انتصرت على الساحة العالمية عبر الجامعات ووسائل الإعلام ومنصات التواصل والنقابات، وتمكنت حركة حماس من إسرائيل نحو الانهيار الاقتصادي والدبلوماسي.

وخلص يميني إلى أن المهمة المقبلة الأصعب هي إعادة بناء المكانة الدبلوماسية لإسرائيل، وهي مهمة طويلة الأمد.

هكذا كشف طوفان الأقصى وجه إسرائيل من دولة تسعى للاندماج في المنطقة العربية وتسوق رسالتها بأنها محبة للسلام والتعاون إلى دولة منبوذة ويطارد سياسيوها وجنودها في ارجاء العالم بتهمة ارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية.

ولن تقف ارتدادات طوفان الأقصى عند توقف العدوان على القطاع، بل ستستمر في التأثير وبقوة على إسرائيل ومستقبلها.

مقالات مشابهة

  • بعد عامين على طوفان الأقصى…غزة التي غيرت العالم
  • الرئيس السيسي ينعى العالم الجليل أحمد عمر هاشم: رحلة زاخرة بالعطاء وعلْمُه سيظل باقياً وراسخاً
  • المعونة الوطنية: وقف المعونة عن الأسر التي تمتلك أكثر من عقار
  • الرئيس التايواني: سيطرة الصين على بلادنا تهدد المصالح الأمريكية
  • صدمة الإبادة التي تغيّر العالم.. إذا صَمَت الناس فلن يبقى أحد في أمان
  • المشاركة لا المغالبة.. حسام الخولي يكشف إستراتيجية الحزب لانتخابات مجلس النواب
  • "طوفان الأقصى" الذي عرّى الاحتلال
  • الجدة ليو.. أيقونة الحيوية التي كسرت قيود العمر في الصين| تفاصيل
  • الرئيس السيسي: السلام الذي يفرض بالقوة لا يولد إلا الاحتقان
  • الإمارات تقود مستقبل الطاقة النظيفة برؤية إستراتيجية