سنوات طويلة وهو يدافع عن قناعاته ببسالة موقتًا أن فرص الحصول على الوظائف أيًا كانت متساوية والذي يتحكم في ذلك إنما هو المؤهل الدراسي والإمكانات الفردية الذهنية أو الجسدية والمهارات ولا يوجد شيء اسمه «لعب من تحت الطاولة» وإن وُجد يكون في نطاق ضيق.
هذه القناعة ما لبثت وأن سقطت بمجرد أن كبُر ابنه وقُيد اسمه كباحث عن عمل منذ أربع سنوات.
اكتشف أنه كان ساذجًا فعدم اختيار ابنه للوظائف التي تقدم لها لا يعود إلى سوء أدائه إنما افتقاره إلى «ركن شديد» يأوي إليه و«ظهر قوي» يستند عليه.. إلى «مسؤول واصل يأخذ بيده يزرعه في الوظيفة زرعًا.. يحتاج إلى «شخص يضبطُه» بالمحلية الدارجة.
«التضبيط» وما أدراك ما التضبيط هذه الوسيلة الخارقة لبلوغ الغاية بأقل جهد ممكن.. لا يحتاج التضبيط سوى مكالمة هاتفية من قريب أو حبيب أو عزيز أو زيارة خاطفة تُذكِر بالوِد القديم أو هدية متواضعة أو علاقة خاصة ومن يجادل في نجاعة هذه الآلية فليتتبع أسماء أقارب المقبولين الجُدد وقرابتهم من المسؤولين في الجهة التي عُينوا فيها أو طبيعة علاقتهم بهؤلاء المسؤولين ونوعيتها.
«يضبط» الشخص «الواصل» لابنه والمقربين ومن يأتي من قِبل من «لا يُرد له طلب» ودليل ذلك الوظائف التي تتناوب على شغلها أُسر بالوراثة في جهات متعددة والوظائف التي تبدأ «بالعقود المؤقتة» لتكون لاحقًا ثابتة تلك التي لا يعرف المواطن البسيط آلية التعيين فيها.
آلية «التضبيط» الحاسمة لا تعترف باشتراطات القبول للوظيفة المُعلنة للعامة ولا بالمهارات الفردية والمُمكِنات العلمية ولا تخضع للمعايير المهنية بل تتنافى وكل ذلك.. تتقاطع مع الإخلاص للوطن ورؤية سلطان الوطن «حفظه الله ورعاه» وهذا يطرح سؤالًا مهمًا للغاية وهو: ما مصير من لا ظهر له ولا «مُضبط» ولا معرفة عنه؟.
لا شك أن الجواب سيكون الضرر البالغ.. سيلحق الضرر بمن لا علاقات «نوعية» ومؤثرة له ونتيجة ذلك لن يحصل على وظيفة يستحقها تُطور من مواهبه وتستفيد منها. من بين الضرر البعيد الأثر أيضًا ستسود حالة الإحباط شريحة كبيرة من المجتمع عندما تقتنع بأن التجاوز للقوانين والقواعد الأخلاقية هو جزء من الواقع و«لعبة شطارة» يجب تعلمها.
إن استغلال البعض لمناصبهم بوضع «الشخص غير المناسب في المكان غير المناسب» هو فساد لا مبرر له سينتج عنه حرمان الوطن من أبنائه فائقي الوعي والقدرات والمهارات ليحل مكانهم آخرون بقدرات محدودة يمكن الإفادة منهم في مواقع أُخرى تناسب إمكاناتهم.
أخيرًا.. لن أكون مبالغًا إذا قلت أنه بات من الأهمية إنشاء جهة مستقلة تقوم على مراقبة إجراءات التوظيف في الجهات الحكومية تستعين بالتكنولوجيا المتقدمة لضمان الموضوعية وتحقيق العدالة لجميع المواطنين وجعل مصلحة الوطن فوق كل اعتبار والبحث عن حل حاسم لما يحصل في تمثيلية «المقابلة» التي سرقت أحلام شباب كُثر في عِز النهار.
النقطة الأخيرة..
«الإخلاص فعل خفي لا رقيب له إلا الضمير»
سقراط
عُمر العبري كاتب عماني
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
عبدالفتاح باشا يحيى إبراهيم.. بين السياسة والوفاء لمصر
عبدالفتاح باشا يحيى إبراهيم، اسم يرن في تاريخ مصر السياسي والدبلوماسي كرمز للنزاهة والجدية والتفاني في خدمة الوطن. ولد في مدينة الإسكندرية عام 1876، في بيت معروف بالتجارة والثقافة، حيث كان والده أحمد يحيي من كبار تجار القطن، ينتمي منذ بداياته إلى حزب الوفد، وكان له موقف راسخ في خدمة وطنه.
عبدالفتاح يحيى نشأ في بيئة تجمع بين العمل التجاري والاجتماعي، ما أكسبه فهما عميقا للاقتصاد والمجتمع المصري، كما ورث عنه حب الوطن والانتماء الوطني الذي سيصنع لاحقا مسارا سياسيا غنيا بالعطاء والإنجازات.
في حياته العملية، تجسد دور عبدالفتاح باشا في شتى مناحي السياسة والدبلوماسية، فقد تقلد مناصب عديدة بداية من وزارة العدل، مرورا بمجلس الشوري، وصولا إلى رئاسة وزراء مصر.
لم يكن مجرد سياسي تقليدي؛ بل كان رجلا يرى في السياسة وسيلة لخدمة المواطنين وتحقيق العدالة، خلال توليه وزارة العدل، حرص على تطوير النظام القضائي وتعزيز استخدام اللغة العربية في المحاكم المختلطة، مؤمنا أن اللغة ليست وسيلة للتواصل فحسب، بل هوية وطنية يجب الحفاظ عليها ودعمها.
وقد برز اسمه بشكل أكبر عندما تولى رئاسة مجلس الوزراء بين عامي 1933 و1934، حيث شكل حكومة كان هدفها خدمة الشعب المصري وتعزيز الاستقلال السياسي للبلاد.
كان في هذه المرحلة محوريا في سن نظام أداء اليمين القانونية للوزراء أمام الملك، خطوة رائدة عززت من شفافية العمل الحكومي ونظام المساءلة داخل الدولة.
لم يقتصر دوره على الجانب السياسي الداخلي، بل امتدت بصماته إلى السياسة الخارجية، حيث احتفظ أثناء رئاسته للوزارة بمنصب وزير الخارجية، ما أتاح له أن يمثل مصر في المحافل الدولية ويثبت مكانتها بين الأمم.
عبدالفتاح باشا لم يكن بعيدا عن هموم المواطن البسيط، فقد أصدر قرارا بتخفيض إيجار الأطيان الزراعية عام 1932 بمقدار ثلاثة أعشار قيمتها، وهو قرار يعكس اهتمامه المباشر بمصالح الفلاحين والطبقة العاملة في الريف، ويبرهن على حبه لبلده وحرصه على العدالة الاجتماعية.
كما كان له موقف حاسم من مؤسسات الإدارة المحلية التي لم تكن تعكس تطلعات المصريين، حيث قام بحل مجلس بلدي الإسكندرية الذي كان ذا صبغة دولية وأعضاؤه أجانب، مؤكدا أن مصر للأهالي وأن قراراتها يجب أن تخدم مصالح الشعب المصري أولا.
إضافة إلى ذلك، عمل على تنظيم وزارة الخارجية بشكل دقيق، محددا اختصاصات إداراتها، وهو ما ساعد على تعزيز كفاءة العمل الدبلوماسي، وفتح الطريق أمام جيل من الدبلوماسيين الذين يتطلعون لبناء مصر على أسس متينة.
كل هذه الإنجازات لم تأت من فراغ، بل جاءت نتيجة لرؤية وطنية واضحة وإيمان راسخ بأن مصر تستحق قيادة واعية ومخلصة تعمل بلا كلل من أجلها.
حين نتحدث عن عبدالفتاح باشا يحيى إبراهيم، نتحدث عن رجل جمع بين الصرامة والنزاهة والحكمة والإنسانية، رجل لم ينس جذوره ولم يبتعد عن هموم شعبه، رجل جعل من السياسة أداة لخدمة الوطن والناس على حد سواء.
إن تاريخه يذكرنا بأن القيادة الحقيقية ليست مجرد منصب، بل مسؤولية تجاه الوطن والمواطن، وأن الحب الحقيقي لمصر يظهر في القرارات الصغيرة والكبيرة، في العدالة الاجتماعية، وفي الدفاع عن هوية البلاد ومصالحها.
عبدالفتاح باشا ترك إرثا عميقا في الذاكرة المصرية، ليس فقط كسياسي ودبلوماسي، بل كمواطن عاش وحلم وعمل من أجل مصر، وعلمنا أن الوطنية ليست شعارات ترفع، بل أفعال تمارس يوميا، وأن الالتزام بحقوق الناس هو السبيل لبناء وطن قوي وكريم.
وبالرغم من مرور السنوات، يظل اسمه محفورا في صفحات التاريخ، مثالا للنزاهة، للحكمة، وللإخلاص، وللحب الحقيقي لمصر، حب يتجاوز الكلمات ويصل إلى الأفعال، لتبقى مصر دائما في المقدمة، ولتبقى ذكراه مصدر إلهام لكل من يحب وطنه ويعمل من أجل رفعتها.