سلاح الأنفاق وحرب الطائرات.. كيف نفهم صراع الجوف والجو في غزة؟
تاريخ النشر: 17th, August 2024 GMT
في اليوم الـ299 من العدوان الإسرائيلي على غزة، أعلنت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في بيان اغتيال رئيس مكتبها السياسي إسماعيل هنية في العاصمة الإيرانية طهران. وفي نهاية اليوم نفسه، الموافق 31 من يوليو/تموز 2024، اغتالت إسرائيل مراسل الجزيرة إسماعيل الغول ومرافقه المصور رامي الريفي بقطاع غزة، وقبل ذلك بيوم واحد فقط اغتالت دولة الاحتلال فؤاد شكر القيادي في حزب الله اللبناني بقصف جوي لمبنى في حارة حريك بالضاحية الجنوبية لبيروت.
تعد سياسة الاغتيالات تلك أحد وجوه الإستراتيجية الإسرائيلية التي تسعى لحسم الحرب "عن بعد" أو "عبر الجو" مع أقصى قدر ممكن من التورط في الاشتباكات البرية التي أثبتت أنها مكلفة، بل وفاضحة للغاية. لذلك فإن رهان إسرائيل على قدرة الاغتيالات على تغيير المشهد الميداني لا يختلف كثيرا عن رهانها على إمكانية حسم الحرب وتحقيق النصر عبر القصف العشوائي للشعب الفلسطيني في غزة.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2"خاوة".. العالم كما يراه يحيى السنوارlist 2 of 2هكذا فعلها الفيتناميون.. كيف نفهم النصر والهزيمة في حرب غزة؟end of listلكن هذا الرهان يتجاهل حقيقة واضحة، هي أنه على مدار التاريخ، نادرا ما نجح القصف العشوائي للمدن في كسر معنويات الشعوب ودفعها إلى التخلي عن مقاومة المعتدين، أو دفعها نحو الهزيمة. غير أن إسرائيل لا تزال تراهن على ما ثبت فشله مرارا، بل تراهن ضد تاريخها القريب نفسه، فمنذ انسحاب إسرائيل من قطاع غزة قبل عقدين، شنت دولة الاحتلال حروبًا جوية على القطاع غير ما مرة، ورغم ذلك بقيت المقاومة الفلسطينية وأنفاقها عصية على الانكسار والهزيمة، وهو ما يدفعنا إلى التساؤل: لماذا تفشل الحروب الجوية وحدها في تحقيق النصر؟ وما سر صمود المقاومة الفلسطينية تحديدا أمام أشهر من القصف الوحشي العنيف؟
الاستعمار المحمول جوامنذ أن اكتمل انسحاب جيش الاحتلال الإسرائيلي من قطاع غزة عام 2005، تحولت نقاط ارتكاز الاحتلال من الأرض إلى المجال الجوي فوق القطاع، وإلى المياه الإقليمية قبالة سواحله، وإلى المحطات الحدودية على طول الأسيجة التي تفصل القطاع عن بقية العالم. وذلك بعدما اعتمدت إستراتيجية الانسحاب من قطاع غزة التي نفذتها حكومة أرييل شارون من جانب واحد، على قاعدة "التكنولوجيا بدلا من الاحتلال"، حيث كانت الخطة هي إخلاء المجال الأرضي لقطاع غزة وأجزاء من الضفة الغربية، لصالح احتلال للمجال الجوي، أو ما يسمى “الاحتلال المستتر" أو "الاحتلال المحمول جوا".
تقتضي هذه الخطة فرض السيطرة الإسرائيلية الكاملة على المجال الجوي للقطاع والضفة، بحيث يحتفظ سلاح الجو الإسرائيلي بقدرته على "الرقابة وإلحاق الضربات" بصورة مطلقة ومنتظمة فوق كل الأراضي الفلسطينية، وفي ضوء هذه الإستراتيجية تحديدا، أقال شارون رئيس أركان جيشه موشيه يعالون وعيَّن مكانه قائد سلاح الجو الطيار السابق دان حالوتس قبل بضعة أشهر من الانسحاب من غزة.
لقد اعتقد جيش الاحتلال الإسرائيلي على ضوء إيمانه الجديد بإستراتيجية "الاحتلال المحمول جوا" إمكانية استبدال شبكة نقاط المراقبة المنتشرة عبر التضاريس الأرضية التي طالما شكلت مرتكزا للسياسات الأمنية لدولة الاحتلال في الأراضي الفلسطينية، والاعتماد على وسائل جديدة مثل: "السماوات المكشوفة"، "الاستطلاع الجوي"، "الإغلاق المطبق جوا"، و"الرادار البانورامي"، وغيرها من المفاهيم التي تنبع من الإيمان بإمكانية الاعتماد كليا على سلاح الجو المدعوم بالتكنولوجيا، والمصحوب بجهود محمومة لجمع المعلومات الاستخبارية وفق منهج "المكنسة الكهربائية"، الذي يعني سحب جميع المعلومات المتوفرة عن محيط أرضي معين بكافة وسائل وأدوات وأسلحة جمع المعلومات عبر الجو مثل أجهزة الاستشعار في الطائرات المسيّرة، وطائرات الاستطلاع الجوي، والحوامات الهجومية، وبالونات المراقبة، وطائرات هوك ـ آي للإنذار المبكر، والأقمار الاصطناعية العسكرية، التي تقبض على معظم الإشارات المبثوثة في الفضاء الفلسطيني.
لذلك، أنفق سلاح الجو مئات الآلاف من ساعات الطيران، لحصد المعلومات المتدفقة عبر شبكة منصات الدفاع الجوي، وهي معلومات وضعت لاحقا رهن إشارة وكالات الاستخبارات المختلفة وغرف القيادة والتحكم في إسرائيل. وبدلا من وضع نقاط التفتيش على الطرق الحيوية، أو تطويق المناطق بالمتاريس، كان الاحتلال الجوي يقوم بإغلاق تلك المناطق عبر إلقاء المنشورات على القرى ومخيمات اللاجئين، معلنا أنها منطقة مغلقة، ثم يعمد من الجو إلى استهداف كل من يحاول دخولها.
ومع تزايد القيود التي تحد من إمكانية الحضور الدائم لقوات الاحتلال الإسرائيلي على الأرض في المناطق الفلسطينية، خاصة المناطق الملتهبة مثل المخيمات منذ اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000، شرعت إسرائيل في اعتماد "منطق عسكري" جديد يسعى لتقويض المقاومة الفلسطينية السياسية والمسلحة من خلال الاغتيالات. وهكذا، انصبت جهود جيش الاحتلال على تطوير وإتقان تكتيكات الاغتيالات الموجهة من الجو، حتى أضحت هذه الاغتيالات هي الشكل الأكثر شيوعا لهجمات سلاح الجو الإسرائيلي، بل أصبحت هذه الاغتيالات الموجهة جوا هي جوهر الحرب بالنسبة لجيش الاحتلال، بمعنى أن تكتيكات هذه التصفيات أصبحت المكون العملياتي الرئيسي في الجيش، وصارت التكتيكات الأمنية والحربية الأخرى منصبة على خدمة هذا المكون العملياتي.
منذ انتفاضة الأقصى، تواترت الاغتيالات العسكرية عن طريق الغارات الجوية، ثم زادت تلك الغارات الجوية التي استهدفت "أفرادا بأعينهم" بشكل ملحوظ منذ انسحاب الجيش الإسرائيلي من غزة، حتى بلغ عدد الشهداء الذين قتلتهم إسرائيل بغارات جوية بين عامي 2000 و2006 نحو 339 شهيدا فلسطينيا، كان بينهم 210 فقط استهدفتهم إسرائيل بشكل مباشر، وكانت البقية مجرد "آثار جانبية" للغارات، وبينهم 45 طفلا، ثم تضاعفت هذه الأرقام عدة مرات خلال السنوات العشر السابقة، ثم في الحرب الجارية منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 مع زيادة اعتماد الاحتلال على الغارات الجوية بوصفها طريقا "غير مكلف" لخوض الحرب.
الاغتيالات الجوية.. تهيئة مسرح الهيمنة
ورغم أن الاغتيالات الإسرائيلية الجوية تكثفت وتحولت إلى إستراتيجية مكتملة الأركان بعد انتفاضة الأقصى، فإن جذورها الأولى تعود إلى ما قبل ذلك بعقدين وفق كلام المعماري والكاتب الإسرائيلي إيال وايزمان في كتابه "أرض جوفاء.. الهندسة المعمارية للاحتلال الإسرائيلي". ويُعتقد أن جيش الاحتلال بدأ تطوير التكتيكات العملياتية للاغتيالات الموجهة من الجو إبان حرب لبنان في الثمانينيات، وبحلول مطلع التسعينيات، تحديدا في شباط/فبراير 1992، وقعت أولى عمليات الاغتيال عبر الغارات الجوية باغتيال الأمين العام السابق لحزب الله اللبناني عباس الموسوي، بعدما حلقت مجموعة من الحوامات الإسرائيلية داخل الأراضي اللبنانية قادمة من جهة البحر المتوسط لتهاجم موكبه وتقتله وأفراد عائلته.
لاحقا مع بداية القرن الجديد، وقعت أولى عمليات الاغتيال الموجهة من الجو في المناطق الفلسطينية، وتحديدا في التاسع من نوفمبر/تشرين الثاني عام 2000، حينما أطلق قائد حوامة أباتشي إسرائيلية صاروخا أميركي الصنع من نوع "نار الجحيم" المضاد للدروع على سيارة حسين محمد عبيات القيادي في حركة فتح في منطقة بيت ساحور قرب بيت لحم، متسببا في مقتله ومقتل امرأتين كانتا تمشيان بالقرب من السيارة عندما انفجرت في منتصف الشارع.
كانت هذه العملية تحديدا بمثابة التدشين الحقيقي لسياسة الاغتيالات الموجهة جوا، ومنذ ذلك الاغتيال أضحت الضفة وغزة أكبر مختبر في العالم لتجارب الاغتيالات المنفذة من الجو. فكل اغتيال موجه كان عبارة عن عملية واسعة النطاق ينخرط فيها مئات الاختصاصيين من مختلف الفروع العسكرية والأجهزة الأمنية، وتستند إلى معلومات استخبارية تُحدَّث لحظيا ويتم تبادلها بين مختلف العملاء، والقادة، والجنود، والطائرات العسكرية بغية تنفيذ العملية بكفاءة عالية.
تبدأ متسلسلة الدماء هذه بوضع فلسطيني بعينه على "قوائم الموت"، بعدها يجري تعقبه على مدى أسابيع بواسطة أسراب من الطائرات المسيّرة التي تحافظ على نوع من التماس البصري المستمر معه حتى وقت اغتياله. إذ تستطيع تلك الطائرات البقاء في الجو ثلاثين ساعة متواصلة، كما تحوم تشكيلاتها في مساحات صغيرة نسبيا، وتوفر في الوقت نفسه عددا كبيرا وتنوعا واضحا من زوايا الرؤية. فقد صممت بعض هذه الطائرات لرؤية التضاريس رأسيا باتجاه الأسفل لتحديد الإحداثيات الرقمية للشخص المستهدف، في حين تؤمن أخرى رؤية قطرية مائلة لتوضيح ملامح الوجه، أو التعرف على لوحة السيارة. إضافة إلى ذلك، صُمّم بعض هذه الطائرات لاعتراض الإشارات اللاسلكية وإشارات الهواتف المحمولة، وبعضها لحمل الصواريخ وإطلاقها.
تعمل هذه المصفوفة المعقدة والمترابطة من التكتيكات العملياتية ومنظومة تبادل المعلومات على تهيئة "مسرح العملية" للحظة الحاسمة التي سيُطلق فيها صاروخ الاغتيال، بصورة تشبه إلى حد بعيد المسارح الرومانية القديمة، حيث يحتل الإمبراطور وحاشيته الرؤية الرأسية كلها كأنه إله مطلق القوة، وينطلق جنوده ووحوشه الضارية يقتلون الضحايا، وسط مراقبة نظامه العسكري الذي يراقب العملية كلها عن كثب في نفس الوقت، من دون تدخل جسدي.
يتحقق ذلك من خلال منظومة عمل المسيّرات التي تعمل على تذويب المناطق الجغرافية التي توجد فيها المقاومة، وتهيئة مسرح العمليات بإخراس الجغرافيا وطمسها كليا، عبر تقليل الزمان وتحييد المكان، وإلغاء أي نوع من "المسافة" وفق الباحث عبد الله البياري في دراسته "النظر من أعلى: محاولة معمارية لتفكيك مباني الهيمنة الحربية الإسرائيلية" التي نشرتها مجلة الدراسات الفلسطينية. وخلال تلك العملية الهجينة من "التذويب والإخراس والإلغاء"، تقوم المسيرات -ببساطة- بتعرية الذوات عن الجغرافيا المحيطة بها وعزلها، ومن ثم إخضاعها لعملية مراقبة قسرية ثم موت حتمي بواسطة قوة قاهرة فائقة مميتة.
داخل تلك العملية المعقدة يتكثف نوع من التواطؤ التقني بين الإجرام الإسرائيلي وبين الشبكة الاستعمارية الغربية، من خلال إبراز السيادة والسلطة التكنولوجية الإسرائيلية على الجغرافيا الاجتماعية الفلسطينية، بتعاون ومساهمة استخبارية وعسكرية من الدول الغربية، تجلت أوضح صورها خلال الحرب المستمرة منذ طوفان الأقصى. وتتحقق داخلها -كذلك- كل الاستدعاءات الغربية الاستعمارية العنصرية بشأن "الآخر" الشرقي "غير المتحضر"، الأمر الذي وصفه المعماري إيال وايزمان في كتابه "أرض جوفاء" بـ"الاستعمار الرأسي"، وتجلى في وصف وزير الإبادة الجماعية، يوآف غالانت، أهل غزة بأنهم "حيوانات بشرية". يخضع هذا الآخر، أو هؤلاء "الحيوانات" وفق استعارة غالانت القبيحة لنوع من "الطغيان الرأسي للحضارة الغربية المحمولة جوًّا، التي تدير عن بُعد، عبر منصاتها التكنولوجية وأجهزة الاستشعار والذخائر الأكثر تطورًا وتقدمًا" عملية إبادة الفلسطينيين.
أما على المستوى السياسي، فتهدف إستراتيجية الاغتيالات -التي شارك في تطويرها أعضاء سابقون في وحدة استطلاع هيئة الأركان العامة الإسرائيلية "ساييرت ماتكال" (Matkal sayert) وهي وحدة اغتيال من نخبة القوات الخاصة العسكرية- إلى تخريب البنية الداخلية للمقاومة الفلسطينية، عن طريق إيجاد نوع من الفوضى الداخلية يؤدي إلى سلسلة من الإخفاقات تعطل منظومة اتخاذ القرار داخل المقاومة أو تتلاعب بالمشهد السياسي الفلسطيني وهو أمر يمكن استقراؤه بسهولة من خلال تتبع الظروف التي وقعت فيها معظم الاغتيالات الإسرائيلية، والأجواء السياسية السائدة في تلك الفترات.
التخريب السياسي عبر الاغتيالات
يعلم قادة جيش الاحتلال أن تنظيمات المقاومة الفلسطينية، خلافا للجيوش النظامية التي يعتمد جزء كبير من قوتها على بنية تحتية وتجهيزات مادية محسوسة، تستند فاعليتها على مجموعة من الدوائر الاجتماعية التي تتكون من زعماء دينيين وسياسيين، ومتحدثين وقادة، ومقاتلين مخضرمين، ومهندسين تقنيين، ومتطوعين استشهاديين. ولذلك، يعتقد الاحتلال الإسرائيلي أن قتل أحد الأفراد الرئيسين في تلك الدوائر يعني إحداث "صدمة عملياتية"، من خلال هدم أحد مراكز القيادة والسيطرة أو تقويض أحد الجسور التي تربط بين الدوائر وبعضها داخل التنظيم، أو إزالة أحد عقوله المدبرة؛ مما قد يسبب تراجعا إلى الوراء مدة من الزمن.
ومن خلال الاغتيالات أيضا، تنفصل دوائر اجتماعية كاملة عن التنظيم المقاوم، ويؤدي ذلك إلى نوع من الخلل الذي يجعل جماعة المقاومة أكثر قابلية للتأثر بالهجمات العسكرية وفق الرؤية الإسرائيلية، كما يؤدي إلى نوع من الفوضى التنظيمية تجعل التنظيم أكثر هشاشة في مواجهة ضربات الاحتلال، كما تجعل تعافيه منها أكثر صعوبة وأطول زمنا.
لذلك، سعى التخطيط العملياتي العسكري في جيش الاحتلال لوضع القادة السياسيين الفلسطينيين على قائمة الاغتيال منذ بداية الانتفاضة الثانية؛ وفي نهاية أغسطس/آب عام 2003 صدر تفويض من الحكومة الإسرائيلية للجيش بقتل القيادة السياسية لحركة حماس بأكملها من دون إنذار، فكان أول المستهدفين هو الشهيد إسماعيل أبو شنب، القيادي في الحركة الذي استشهد يوم 21 أغسطس/آب 2003، ثم في 22 مارس/آذار 2004، اغتالت إسرائيل الشيخ أحمد ياسين مؤسس الحركة، ثم في 17 أبريل/نيسان استشهد خليفته، الدكتور عبد العزيز الرنتيسي بضربة أباتشي قادمة من الجو.
ولكن فضلًا عن الأهداف المباشرة للاغتيالات المرتبطة بمحاولة تقويض المقاومة وإضعافها من الداخل، كانت هذه السياسية في جوهرها أيضا نوعا من إعادة "الهندسة السياسية" للمشهد الفلسطيني. وقد أوضح آفي دختر، وزير الأمن الإسرائيلي ووزير الشاباك الأسبق، أن هدف الاغتيالات في حقبة ما بعد الانتفاضة مثلا كان تدعيم موقف رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس وحركة فتح في الشارع الفلسطيني على حساب حماس التي كانت تزداد شعبيتها مع الوقت.
في غضون ذلك، أدّت الاغتيالات دورا سياسيا آخر هو تدمير أي بادرة سياسية تلوح في الأفق، وهكذا كلما لاحت بالأفق مبادرة سياسية محلية أو دولية تهدد بإعادة الأطراف إلى طاولة المفاوضات تلاها على الفور اغتيال يعرقلها، تماما كما يحدث الآن؛ فقد اغتالت إسرائيل الشهيد إسماعيل هنية المفاوض الرئيسي في الجهود الجارية لإنهاء الحرب، كما فعلت في 31 يوليو/تموز 2001، حين نسف سلاح الجو الإسرائيلي مبنى سكنيا في نابلس، ضم مكتبا لحماس، وقُتل في الحادثة اثنان من قادة حركة حماس، هما جمال منصور وجمال سليم، ومعهما طفلان؛ مما تسبب في دفع حماس إلى إنهاء اتفاقية لوقف إطلاق النار كان قد مضى عليها شهران فقط.
لاحقا عندما دخل وقف إطلاق النار حيز التنفيذ مرة أخرى في ديسمبر/كانون الأول 2001، أعطى الشين بيت أوامر باغتيال رائد كرمي، القيادي بتنظيم كتائب شهداء الأقصى في يناير/كانون الثاني 2022؛ مما تسبب في انهيار الاتفاق في مارس/آذار من العام نفسه. وبحلول 23 يوليو/تموز 2002، وقبل يوم واحد من دخول وقف إطلاق نار جديد حيز التنفيذ، اغتيل القيادي في حركة حماس صلاح شحادة بقنبلة أُلقيت من الجو عبر طائرة من طراز "إف – 16".
بعد ذلك بعام تقريبا، تحديدا في أوائل صيف 2003، أُعلن عن هدنة أخرى بمبادرة أميركية، لكن في العاشر من يونيو/حزيران وبينما كانت المبادرة في طور الصياغة، حاول الاحتلال الإسرائيلي اغتيال الدكتور عبد العزيز الرنتيسي عبر صاروخ، وعندما فشل الاغتيال وقتها، استهدفت إسرائيل محمود شاور أحد أبرز مناضلي المقاومة الفلسطينية في منطقة قلقيلية، لتتعطل المبادرة كلّيًّا.
ثم في الأول من ديسمبر/كانون الأول من العام نفسه (2003) وفي اليوم نفسه الذي انطلقت فيه مبادرة جنيف، قاد جيش الاحتلال هجوما واسعا لمحاولة اغتيال الشيخ إبراهيم حامد قائد حركة حماس في رام الله، وفي يونيو/حزيران 2006، حينما كان محمود عباس على وشك إعلان استفتاء للتصويت على مبادرة سياسية لملف "المعتقلين"، استهدفت إسرائيل جمال أبو سمهدانة قائد لجان المقاومة الشعبية في غزة، فأُرجِئ الاستفتاء.
ليست هذه كل الأمثلة التي يمكن سردها حول "الإجرام الإسرائيلي" بحق قيادات الفصائل الفلسطينية، ولا هي كل الأمثلة التي توضح الطريقة التي وُظِّف بها سلاح الاغتيالات لتدمير أي مبادرة سياسية، بل هي مجرد نماذج توضح كيف لعبت إسرائيل بسلاح الاغتيالات لإيجاد نوع من الفوضى التي يمكن التحكم فيها، فإذا لاحت بالأفق مبادرة سياسية، قامت باغتيال القادة "السياسيين" أو "البراغماتيين" لإفساح المجال أمام المواجهة المباشرة، وإذا زادت شعبية المقاومة، تقوم باغتيال القادة "العسكريين" بغية الدفع بصيغة سياسية أكثر "براغماتية".
بعيدا عن هذه الأهداف، كثيرا ما نفذت إسرائيل الاغتيالات فقط لأنها ببساطة ممكنة التنفيذ، أو لأن أموالا كثيرة استثمرت في المطاردات المنظمة، أو لأن العسكريين الصهاينة يستمتعون بالإثارة، وأرادوا إثارة إعجاب المراقبين الأجانب، واستعراض قدرات التكنولوجيا العسكرية أمامهم، أو للحصول على ترقيات، أو لحيازة رصيد سياسي أو الحصول على ترخيص بمزيد من الهجمات. وفي كل الحالات، كان دم الفلسطيني هو الحل المُختار لمواجهة المشكلات الأمنية والسياسية التي تواجه حكومات إسرائيل، غير أن هذا المنطق الأمني قد احتوى على ثغرة خطيرة، شكلت حتى اليوم نقطة ضعف لا يمكن تفاديها، وهي أن قرارات عمليات الاغتيال التي تصدر من وكالات الاستخبارات الإسرائيلية، تقوم كلها على نوع من التنميط النفسي المعيب للشخصية الفلسطينية المقاومة.
فطالما رأت وكالات الاستخبارات الإسرائيلية والأجهزة الأمنية في دولة الاحتلال -وفي تقليد استشراقي عتيق- الشخصية الفلسطينية خاصة لدى المقاومين، شخصية غير عقلانية، تملؤها خصال غريبة، وتناقضات عجيبة، وبالتالي فعند قتل هؤلاء المقاومين ستختفي الأسباب الكامنة وراء المعضلة السياسية أو الأمنية أو العسكرية، وهو ما لم يحدث طوال سنوات الصراع. فلم تنجح الاغتيالات في أي وقت في إضعاف الحافز الفلسطيني للمقاومة أو الانتقاص من موقفها السياسي أو حتى تدعيم موقف السلطة الفلسطينية كما أرادت إسرائيل، كما لم تتمكن عمليات القتل من معالجة "مشكلة الوعي الفلسطيني" عبر "الكي" أو الصدمة لحملهم على الاعتقاد باستحالة المقاومة أو عدم جدواها، بل على العكس من ذلك، قامت الاغتيالات بتغذية الصراع عبر ضخ دوافع أكبر للمقاومين، وتغذية الدعم الشعبي للمقاومة المسلحة.
سلاح الأنفاق.. التمدد الجوفي المضاد للكولونياليةقبل انسحابه من شبه جزيرة سيناء المصرية عام 1982، شق جيش الاحتلال الإسرائيلي ممرا أمنيا أطلق عليه اسم "ممر فيلادلفيا" بطول 10 كم وبعرض بضع عشرات الأمتار، وهو ممر يمتد عبر النسيج العمراني لمدينة رفح الحدودية، ليقسم المدينة إلى قسمين: فلسطيني ومصري. ومنذ إنشاء هذا الحاجز، حُفرت مئات الأنفاق في باطن الأرض بهدف إحداث نوع من الاتصال الاجتماعي بين شطري المدينة اللذين فُصل بعضهما عن بعض عنوة، وتجاوز التحصينات الإسرائيلية التي تعوق التواصل بينهما.
استخدمت العائلات التي تفرق شملها على جانبي الحدود تلك الأنفاق في التواصل فيما بينها، ثم في عمليات التهريب، بداية من اللوازم المنزلية، وحتى السلع الأساسية كاللحوم والدواجن وقطع الغيار، وصولا لتهريب التبغ المصري الرخيص. وفي وقت لاحق، شكلت تلك الأنفاق طريق الإمداد الرئيسي للأسلحة والمتفجرات وسائر المواد لدعم المقاومة المسلحة.
ومع تزايد الحصار الخانق على قطاع غزة خاصة بعد الانتفاضة الفلسطينية الثانية، ثم بعد فوز حماس بالانتخابات عام 2006 وسيطرتها على القطاع في العام التالي، تعاظم اعتماد الفلسطينيين في القطاع على الأنفاق، بعدما حاصرت إسرائيل غزة كلّيًّا وعزلتها تماما عن العالم الخارجي. وتجنبا لانكشافها، وُضعت مداخل الأنفاق ومخارجها داخل أبنية على جانبي الحدود، كما بُنيت لمعظم الأنفاق مسارات ونقاط دخول وخروج متعددة، تبدأ من عدة منازل أو حظائر دجاج، وتلتقي معا في المسار الرئيسي ثم تتفرع مجددا إلى عدة ممرات منفصلة تفضي إلى أبنية في الجانب الآخر.
وبسبب تزايد الاعتماد على الأنفاق واشتداد الحصار، ظهرت مجموعة من المقاولين الذي يتولون عملية بناء وإدارة الأنفاق وتوظيف المهندسين وعمال الحفر التابعين لهم، ثم تأجير تلك الأنفاق للجهات التي تستخدمها سواء لأغراض تجارية أو عسكرية. ومع الانهيار الكامل للوضع الاقتصادي في غزة، أصبح حفر الأنفاق عملا مربحا للغاية، والمورد الرئيس للدخل بالنسبة إلى العديد من العاملين ضمن هذه المنطقة الحدودية، وفق حديث وايزمان في كتابه "أرض جوفاء".
ومع كونها مربحة نسبيا، كانت عملية حفر الأنفاق خطيرة للغاية، إذ كان المقاول يقوم باستئجار عدة غرف في بيوت مأهولة بالعائلات لاستخدامها، مع ضرورة بقاء أهل المنزل قاطنين فيه طوال عملية إنشاء النفق منعا لإثارة الشبهات، ثم يجري تخزين نفايات الحفر في الغرف أو تجمع في أكياس لتنقل لاحقا إلى مواقع بعيدة، في ظل وجود المسيرات الإسرائيلية التي تُبقي المنطقة تحت الرقابة على مدار الساعة. الأخطر أن الحركة داخل الأنفاق ظلت تعتمد على البوصلات وشرائط القياس، مدعومة بخرائط مرسومة يدويا أو علامات موضوعة على صور أقمار صناعية محملة من الإنترنت، خاصة أن عمق تلك الأنفاق يجب ألا يقل عن 15 مترا تحت سطح الأرض، في حين أن تربة غزة ذات طبيعة رملية، سهلة الحفر والانهيار؛ مما تطلب تدعيم الأنفاق بـ"ألواح استنادية".
وبسبب هذا العمق الكبير، يجري ضخ الهواء في النفق أثناء عملية الحفر باستخدام مكانس كهربائية أو مراوح لسحب الهواء الفاسد وإدخال غيره نقيا. لاحقا، تُصنع عملية التهوية غالبا من خراطيم بلاستيكية مرنة تمتد عبر جانبي النفق مرورا بمحور فيلادلفيا/صلاح الدين، وهو الجزء الأكثر ضعفا وخطورة في الأنفاق، كما يجب على الحفارين حساب مسار النفق وعمقه بدقة لتفادي مخزونات المياه الجوفية، وأساسات الجدران الإسرائيلية العميقة والحساسة للمس، والرادارات الخارقة للأرض.
رغم كل الأخطار، التي تشمل احتمال وقوع انهيارات جوفية تؤدي إلى موت الحفارين بالغرق في الرمال أو الاختناق، أو اكتشاف الأنفاق عبر أحد المداخل أو فتحات التهوية التي كان الجنود الإسرائيليون يلقون قنابل الدخان والغاز عبرها، استمر حفر الفلسطينيين للأنفاق، ومصداقا لمقولة المؤرخ أرنولد توينبي حول التحدي الذي يولد الاستجابة، تكيّف الفلسطينيون مع الحصار والقصف عبر حفر مزيد من الأنفاق، حيث استخدموا مخلفات القصف الجوي في عمليات الحفر ووظفوها لإخفاء آثاره عن أعين المسيّرات الإسرائيلية التي تسدّ السماء.
بالتزامن مع ذلك، وخلال عقدين من الزمان، وعدة حروب، أجبر القصف الجوّي الإسرائيلي لغزة المقاومة الفلسطينية على نقل مخازن وورش أسلحتها ومستودعات الذخيرة إلى أقبية تحت الأرض حُفرت تحت المدن ومخيمات اللاجئين، وتعلمت المقاومة كيف تحفر أنفاقها الخاصة وتستخدمها في عمليات هجومية على جيش الاحتلال، فوقعت أولى هذه الهجمات في يوم 26 سبتمبر/أيلول 2001، حين قام الفلسطينيون بتفجير قنبلة تزن 200 كغم داخل نفق يقع تحت أحد مراكز جيش الاحتلال الحدودية في ممر فيلادلفيا، فأدت إلى تدميره بالكامل.
وعندما تكررت تلك العمليات مسببة خسائر فادحة للاحتلال الإسرائيلي، أدرك جيش الاحتلال شيئا فشيئا حقيقة أن الحدود التي أثقل كاهله بإقامتها على امتداد التضاريس الأرضية ليست هي مكامن الهشاشة الرئيسية، وأن الخطر أصبح يأتيه من جوف الأرض الذي أصبح خارجا عن السيطرة. ساعتها بدأ الاحتلال حربه على الأنفاق عبر هدم 1800 منزل خلال انتفاضة الأقصى في منطقة رفح وحدها، وجدير بالذكر أن الناشطة الأميركية راشيل كوري قد دهستها جرافة إسرائيلية في تلك الفترة وهي تحاول إعاقة هدم أحد المنازل يوم 16 مارس/آذار 2003.
ومنذ انسحاب جيش الاحتلال الإسرائيلي من غزة في 2005، قام المسؤولون الإسرائيليون بالتنسيق مع نظام مبارك في مصر، لمحاولة تدمير تلك الأنفاق، بصب مياه المجاري في الأنفاق، كي تنبعث منها الأبخرة السامة باستمرار. كما قام الجيش المصري آنذاك بصب الخرسانة داخل فتحات الأنفاق بهدف إغلاقها. رغم تلك الجهود، فوجئ الاحتلال الصهيوني في 25 يونيو/حزيران من عام 2006 باختفاء مجند من قوة إسرائيلية مدرعة من لواء جفعاتي كانت ترابط ليلا في موقع كيريم شالوم العسكري على الحدود بين مدينة رفح الفلسطينية والأراضي المحتلة. ما حدث هو أن مجموعة من المقاومين الفلسطينيين تسللوا عبر نفق طوله 650 مترا حُفر تحت الأسوار المحيطة بغزة، متخذا مساره تحت مطار الدهنية الدولي الفلسطيني الذي قُصف في وقت سابق، وقاموا بخطف الجندي والعودة به سريعا إلى عمق غزة.
في تلك اللحظة، أدرك جيش الاحتلال أن وهم "الإغلاق المحكم" الذي كلف 3 مليارات دولار أصبح من الماضي، وأن السيطرة الجوية التامة، أصبح المقاومون يستطيعون مواجهتها بسيطرة جوفية تامة. لقد وجد المقاومون ضالتهم في الأنفاق، وواجهوا التمدد الاستعماري المحمول جوًّا بتمدد جوفي يسيطر على باطن الأرض يسمح لهم بالانتقال إلى أي موقع قريب من التحصينات الإسرائيلية وضربها ثم الاختفاء، تماما كما يفعل سلاح الطيران.
الطيران في مواجهة الأنفاقيُطلق جيش الاحتلال الإسرائيلي على أنفاق غزة تسمية "مترو غزة". ورغم القصف العنيف لغزة في حرب سنة 2021، أعلن القيادي في حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، يحيى السنوار، الذي اختير مؤخرا رئيسا لمكتبها السياسي خلفًا للراحل إسماعيل هنية، أن إسرائيل لم تدمّر سوى أقل من 3% من هذه الأنفاق.
أما في الحرب الجارية، التي قُصفت خلالها غزة بما يفوق ما قُصفت به اليابان في الحرب العالمية الثانية، فلا تزال منظومة الأنفاق فاعلة، بل إن المقاومين يواصلون حفر أنفاق هجومية جديدة تحت وطأة القصف، وهو ما يسبب ذهولا في تل أبيب، بل وفي واشنطن نفسها. فلم يسبق في أي مكان أن استخدم فصيل عسكري الأنفاق بمثل تلك الكفاءة التي توظفها بها المقاومة الفلسطينية رغم وجود تجارب سابقة أقل تطورا في فيتنام وأفغانستان. لا عجب إذن في أن إصدارات وزارة الدفاع الأميركية بشأن الحروب في المدن (urban warfare) تكاد تخلو من أي تصور مكتمل للطريقة التي تعمل بها الأنفاق الفلسطينية فضلا عن الطرق المثلى لمجابهتها.
لا تزال عملية التعامل مع الأنفاق في طور جمع المعلومات. وفي الوقت الراهن، تعرف قيادة جيش الاحتلال أن الأنفاق في غزة تنقسم إلى قسمين: أنفاق عملياتية وأنفاق إستراتيجية. وبدورها تنقسم الأنفاق العملياتية إلى أنفاق دفاعية وأخرى هجومية، وهذه الأنفاق السريعة الحفر والإنشاء، السريعة الهدم، غير الثابتة في الشكل أو الطول أو الحجم، قد تستخدم مرة واحدة أو عدة مرات قبل أن يتم التخلص منها.
أما الأنفاق الإستراتيجية، فهي أنفاق عميقة وثابتة، مزودة بغرف للإقامة ومتصلة بأقبية مستودعات الذخائر، وورش السلاح، وغرف القيادة والتخطيط وإدارة مسرح العمليات فوق سطح الأرض. يعرف الجيش الصهيوني ذلك، لكنه لا يعرف كيف تتصل تلك الأنفاق ولا كيف تسير ممراتها وتتقاطع، ولا ما هي العلاقة بين الأنفاق العملياتية والإستراتيجية، فضلًا عن أن تلك الأنفاق تتصل بنظام اتصال سلكي، عجز الجيش الصهيوني عن اختراقه، رغم ما يتمتع به من تكنولوجيا فائقة.
ولفهم لماذا لم يستطع القصف الجوي التغلب على منظومة الأنفاق أو اختراقها، رغم القصف العنيف والقنابل المزلزلة، مثلما لم تستطع الاغتيالات الموجهة من الجو تدمير هيكل المقاومة أو إضعافها، علينا العودة للنظر إلى الأنفاق الغزية الأولى التي حُفرت بين رفح المصرية ونظيرتها الفلسطينية، إذ كانت تلك الأنفاق -كما ذكرنا- في تكوينها وتصورها وسبب وجودها الأساسي تطورا اجتماعيا بالأساس، يتعلق أولا بصلات القرابة والعلاقات الاجتماعية التي شقها الاحتلال إلى نصفين بين غزة ومصر، ثم تعلقت بوجود الفلسطينيين أنفسهم وطريقة إدارتهم لحياتهم تحت الحصار.
يعني ذلك أن نموذج الأنفاق في بنيته الأساسية وتصوره في العقل الفلسطيني ليس سلاحا عسكريا، بقدر ما هو ممرات تسهل وتربط شبكة علاقاته ببعضها لتقوية علاقات المصاهرة والعشيرة والعائلة في وجه سلطات الاحتلال التي تعمل على تمزيق هذه الروابط. وهكذا مثلما يحتمي الفرد بالعائلة والعشيرة والقبيلة في وجه أي سلطة خارجية أو قوة معتدية، يحتمي الفلسطيني بالأنفاق التي تحولت إلى شكل من أشكال الحماية الاجتماعية؛ ولذلك تعكس بنية الأنفاق في غزة أكثر من مجرد إستراتيجية عسكرية للمقاومة وصولا إلى كونها بنى اجتماعية كاملة تضاد الاحتلال بوصفه بنية حداثية تعتمد على إخراس الجغرافيا وطمس معالمها.
بذلك، يستطيع الغزيّون حفر الأنفاق وهدمها، وإنشاءها وتفجيرها، كما ينتجون أفعالهم الفردية الإنسانية، التي تظهر وتدوم أو تتفكك وتذوب، ويبقى الإنسان قادرا على تجديدها أو تغييرها بمنتهى المرونة، فتستطيع أن تراوغ الآلة العسكرية الإسرائيلية الثقيلة الصلبة التي لا تستطيع أن تتفكك إلى أجزاء أو تتمتع بنفس المرونة الإنسانية التي لدى المقاومة.
بمعنى آخر، تعكس بنية الأنفاق ومشاهد المقاومين الذين يخرجون منها بهيئاتهم وملابسهم العادية وحتى بدون أحذية، الحياة الحقيقية والبسيطة الذي يعيشها الغزي، فاستخدام الأنفاق بالنسبة للمقاوم في غزة ليس عملا عسكريا، بل عملا اجتماعيا، ببساطة هذه هي حياته اليومية، يعيش في الأنفاق، يتحرك بين ركام الأنقاض، يقفز من منزل إلى آخر.
وهذه الحياة بحد ذاتها تمثل نموذجًا عصيًّا على الفهم بالنسبة إلى المعرفة المعمارية والمكانية للاحتلال الإسرائيلي. فالأنفاق هي التقنية التي مكَّنت المقاومة من تحطيم مفهوم الرؤية الإسرائيلية وهدم مسرح عملياتها (الروماني) على مستويين: الأول، هو الرؤية داخل القطاع، أي أن يكون الفلسطيني مرئيًّا كذات مستعمرة ومادة للحرب داخل المسرح/ القطاع طوال الوقت، بمعنى أن يكون عدوًّا مرئيًّا أمام آلة عسكرية لديها القدرة على ردعه أو إفنائه، كما يشير البياري في دراسته السابقة الإشارة إليها.
أما المستوى الثاني فهو الرؤية باعتبارها تحقيقًا لمقولات خطابية حداثية عن "التحديق الكولونيالي"، بمعنى أن النموذج التفسيري للجيوش الحديثة لا يستطيع تفسير شكل ومسرح المواجهة مع المقاومة، وحتى لو استخدم تعبير "الحرب غير المتناظرة" (asymmetrical war)، فلا يستطيع وضع منهج وتكتيكات ثابتة للمواجهة، وحتى لو استطاع فإنه يحمل ضمنيًّا تصنيفًا خطابيًّا متحيزًا ضد فعل المقاومة باعتباره فعلًا مضادًّا للحداثة.
وفقا للبياري، عطلت الأنفاق مفهوم "الاستشراق" و"الاحتلال المحمول جوا" الذي يعتمد بشكل أساسي على "الرؤية" التي تعتمد بدورها على التكنولوجيا الحديثة بما فيها من أدوات مراقبة وضبط وسيطرة على الذوات، تشكل كلها المجال الأساسي والحيوي للدولة الحديثة. وبذلك "تكسر إستراتيجية الأنفاق مقولات الدولة الحديثة ومخيالها كله، بشأن مجال سلطة الدولة فوق سطح الأرض وتحته، وتطرح شكلا جديدا لإمكانية إنتاج الجماعة البشرية لذاتها وهويتها وفعلها البشري، بجانب بنيتها التحتية وعلاقتها الاجتماعية في ظل ممارسات انعدام الرؤية، الأمر الذي يطرح شكلا جديدا من أشكال السيادة البصرية".
فبقدر ما يرتبط "انعدام الرؤية" عادة بالعنف والقلق والجريمة، في خطاب الحداثة وعقلها، فإنه مرتبط أيضًا بكل ما هو مقدس وغير مقاس ولا معرّف باللغة. وبالتالي، فإن الأنفاق أنتجت حالات من "التدريع" حمت أجساد وذوات وهويات أهل غزة الحقيقية نسبيا من التحول إلى موضوع للاحتلال ومجال لرؤيته.
في ظل هذا النموذج الذي يفسر فاعلية الأنفاق، يمكن أيضا أن نفهم لماذا لا تؤثر الاغتيالات في هيكل المقاومة، فالاغتيال الذي يقوم بقتل شخصية أو قيادي في المقاومة، يفنى جسده، لكنه يتحول إلى قصة أو سردية تسري داخل نفس البناء المعقد للمقاومة وشبكاته الاجتماعية؛ مما يغذي الروح التي تسري في المقاومة ويمدها بدماء جديدة، تدفعها نحو مزيد من البقاء والاستمرار والفعالية.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات أبعاد جیش الاحتلال الإسرائیلی للاحتلال الإسرائیلی المقاومة الفلسطینیة الإسرائیلیة التی ت القیادی فی حرکة الغارات الجویة الإسرائیلی على دولة الاحتلال الاغتیالات فی مبادرة سیاسیة ت الاغتیالات تلک الأنفاق الأنفاق فی فی الأنفاق مجموعة من سلاح الجو حرکة حماس قطاع غزة من خلال فی تلک فی غزة نوع من
إقرأ أيضاً:
ألغاز الاغتيالات السياسية
من الناحية السياسية، تبدو الاغتيالات أقرب إلى الكوارث الطبيعية منها إلى انفجاراتٍ مُحكمة، فهي تُحدث فوضى، وقد تغيّر مسار التاريخ. غير أن منفّذيها لا يمكن أن يعرفوا مُسبقًا الاتجاه الذي ستأخذه الأحداث بعدها، حين أطلق غافريلو برينسيب الرصاصة التي قتلت الأرشيدوق فرانز فرديناند عام 1914، كان هدفه انتزاع استقلال السّلاف الجنوبيين من الإمبراطورية النمساوية - المجرية؛ لكن ما نتج عن فعلته كان اندلاع الحرب العالمية الأولى ومقتل ملايين البشر.
وعلى الضفّة الأخرى، عندما اغتال متطرّف يميني رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين عام 1995 خلال تجمع مؤيّد لاتفاقات أوسلو، يمكن القول إنه حقق هدفه كاملًا، وهو القضاء المستمر على مسار السلام. لهذا يُشار إلى اغتيال رابين أحيانًا بوصفه «أنجح» عملية اغتيال في التاريخ الحديث.
تبدو الحادثتان مختلفتين جذريًّا، لكنّهما، وفق معيار المؤرخ سايمون بول في كتابه «موتٌ تحت الطلب: تاريخٌ حديث لعمليات الاغتيال»، تشترك الواقعتان في سمات أساسية. يكتب بول: «قبل عام 1914، كان الاغتيال حكرًا على أفراد ساخطين، أو المتآمرين في بلاطات الملوك، أو جماعات صغيرة من المتحمسين لقضايا خاسرة». غير أنّ برينسيب دشّن نموذجًا جديدًا، فحتى لو كانت نتائج الاغتيال فوضوية، فإن دوافعه أصبحت واضحة. صار القاتل السياسي شخصية «عقلانية»، دقيقة في اختيار هدفها، ذات دوافع قابلة للقراءة، وفي كثير من الأحيان جزءًا من حركة أوسع أو مؤامرة تستهدف إسقاط السلطة.
وعلى الرغم من أنّنا نسمع غالبًا عن برينسيب وحده، فإنه كان جزءًا من خلية اغتيال تضم سبعة رجال، مرتبطة بشبكة سرية أكبر بكثير. أما قاتل رابين، فكان ينتمي إلى حركة آخذة في الاتساع، ضمّت في صفوفها إيتمار بن غفير، السياسي الذي هدّد رابين مباشرة على الهواء قبل اغتياله، والذي يشغل اليوم منصب وزير الأمن القومي في إسرائيل.
يلاحظ بول تاريخيًّا أنّ «النتائج المباشرة للاغتيالات خيّبت آمال منفذيها في معظم الأحيان»، ما عدا اغتيال رابين، فهي واحدة من الاستثناءات النادرة. مثال آخر محتمل هو ما جرى عام 1942، حين نفّذ عملاء بريطانيون ومقاتلون من المقاومة التشيكية عملية مشتركة لقتل راينهارد هايدريخ، أحد أكثر قادة النازية وحشية، وأحد مهندسي «الحل النهائي». كانت دوافع العملية واضحة تمامًا، وأصبحت، كما يكتب بول، «نموذجًا للاغتيال الشريف الذي ينفّذه ديمقراطيون يتصرّفون بضمير». لكن النتائج الأخرى كانت كارثية، فقد أغار النازيون على قرية ليديتسه التي آوت يومًا أحد مشغّلي الراديو البريطانيين، فقتلوا رجالها، وزجّوا بنسائها في معسكرات الاعتقال، وأخذوا الأطفال «الآريين» لتربيتهم في أسر ألمانية، بينما ذبحوا بقيتهم.
ويختصر بول ما خلص إليه التقرير البريطاني حول اغتيال هايدريخ بقوله: «كان نجاحا تقنيّا... وكارثة عمليّاتية».
يُعد كتاب «موتٌ تحت الطلب: تاريخٌ حديث لعمليات الاغتيال» عملًا متينًا ومشحونًا بالتفاصيل، وأحيانًا جافًا، ولا يبدو أنه سيُلهب خيال أصحاب نظريات المؤامرة، أو أي قارئ آخر، لكنه يظل كتابًا مفيدًا بفضل شموله الدولي ودقّة توثيقه. والأهم أنّه لا يُهمل عمليات الاغتيال التي ترعاها الدول، خصوصًا تلك التي خطّطت لها وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية خلال الحرب الباردة. ويبدي بول مزيجًا من السخرية والذهول وهو يقتبس من دليل تدريبي للوكالة حول الاغتيالات، فمع أن «القتل لا يمكن تبريره»، كما ينصح الدليل، فإن التخلّص من زعيم سياسي يشكّل صعوده خطرًا مباشرًا على قضية الحرية قد يُعد أمرًا ضروريًا»، ما يعني، بحسب الدليل، أن «الأشخاص الذين يشعرون بالاشمئزاز الأخلاقي لا ينبغي لهم محاولة تنفيذ الاغتيال». أما لمن يتجاوزون تلك الحساسيات، فيوصي الدليل بـ«الطريقة الأكثر فعالية»، وهي إسقاط الهدف من ارتفاع لا يقل عن خمسة وسبعين قدمًا على سطح صلب. ويُفضَّل تجنّب المسدسات، فيما يُقبل باستخدام البنادق، التي أصبحت في القرن الحادي والعشرين السلاح الأكثر شيوعًا في عمليات الاغتيال.
ماذا يريد القتلة السياسيون اليوم؟ سؤال يعتمد جوابه على كل حالة، لكنه سؤال تستدعيه الظروف، خاصةً مع بروز مؤشرات على تصاعد العنف السياسي في الولايات المتحدة. ومن أبرز الأمثلة الحديثة محاولتا اغتيال الرئيس دونالد ترامب، إحداهما في بنسلفانيا عام 2024 حين أصابته رصاصة أثناء إلقائه خطابًا انتخابيًّا. وهناك محاولة إحراق منزل حاكم ولاية بنسلفانيا جوش شابيرو في أبريل بينما كان مع أسرته بداخله، إضافة إلى مقتل النائبة في برلمان ولاية مينيسوتا ميليسا هورتمن وزوجها مارك في يونيو، واغتيال الناشط اليميني تشارلي كيرك في سبتمبر. وبعد أسبوعين فقط من مقتل كيرك، أطلق رجل النار في مركز احتجاز للهجرة في دالاس، لكنه قتل اثنين من المحتجزين بدلًا من الضباط الذين كان يستهدفهم، بعدما استبدّ به - وفقًا لوالديه - خوفٌ هوسي من إصابته بمرض إشعاعي.
استقراء سريع لهذه الحوادث يوحي بأن عصر برينسيب قد انتهى. فقد عاد المشهد إلى زمن المتآمرين الغاضبين والمنعزلين، وإلى رجال ــ فما زال معظم القتلة من الرجال ــ تحرّكهم دوافع ضبابية تتكوّن من مظالم شخصية واضطرابات نفسية ورحلات عبثية عبر الإنترنت. توماس ماثيو كروكس، الشاب العشريني الذي حاول قتل ترامب في بنسلفانيا، كان جمهوريًا مسجّلًا، لكنه ذو ميول متشابكة، ويبدو أنه كان يفاضل بين عدة أهداف بارزة، من بينها جو بايدن وترامب، قبل الحادثة بأسابيع.
ولا نعرف بعد ما الذي كان يأمل تايلر جيمس روبنسون، الشاب من ولاية يوتا المتهم بقتل تشارلي كيرك، في تحقيقه. (لم يُقدّم روبنسون حتى الآن أيّ دفوع.) المدّعي العام جيف غراي رسم سيناريو مفاده أن روبنسون، الذي نشأ في عائلة جمهورية، كان قد اتجه مؤخرًا نحو اليسار وأصبح ــ كما أخبرت والدته الشرطة ــ «أكثر ميلا للدفاع عن حقوق المثليين والمتحولين». وبحسب غراي، كان شريك روبنسون في السكن ــ وهو شريك عاطفي كذلك. وفي تبادل رسائل بعد مقتل كيرك، سأله شريكه: «لماذا فعلت ذلك؟» فأجاب روبنسون: «لقد اكتفيتُ من كراهيته. بعض أشكال الكراهية لا يمكن التعايش معها».
مهما كان روبنسون يظنّ أنه سيحققه، فإن نتائج اغتيال كيرك جاءت عكس ما قد يتخيّله، فهناك الآن تشديد فيدرالي ومحلي على حرية التعبير، وصعود متزايد لشخصية المتطرف الأبيض نك فوينتس الذي يسعى لملء الفراغ الذي تركه كيرك. وكفعلٍ يُفترض أنه تضامن مع المتحوّلين ــ إن كان ذلك ما قصده ــ فقد ترك شريكه، وربما مجتمع المتحوّلين عمومًا، في وضع أكثر هشاشة.
في العقود الماضية، كان العنف السياسي في الولايات المتحدة غالبًا ما يُنفَّذ من قِبل جماعات منظَّمة مثل «الطقس تحت الأرض» اليسارية في سبعينيات القرن الماضي، والميليشيات اليمينية وحركات مناهضة الإجهاض في الثمانينيات والتسعينيات. أمّا اليوم، فأغلب هذه الأعمال يرتكبه أفراد لا ينتمون إلى أي تنظيم. وكما كتبت رايتشل كلاينفيلد، الزميلة البارزة في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، فإن هناك «تيارًا أعمق، وهو تفكّك العنف السياسي وخروجه من إطار الجماعات، بينما يتطرّف الأفراد ذاتيًا عبر التفاعل على الإنترنت».
و«أنتيفا» التي يلوّح بها ترامب دائمًا كفزّاعة جاهزة ــ شبكة قاتلة ومنظمة تشبه الجيش الجمهوري الإيرلندي ــ لا وجود لها أصلًا. في الواقع، نحن أمام أفراد يقدمون على أفعال مباغتة ومبهمة لا تبدو جزءًا من أي حملة واضحة المعالم. وحتى حين يخلّفون وراءهم «رسالة» ــ بيانات مبتورة، أو سلسلة منشورات على مواقع التواصل، أو كلمات منقوشة على أغلفة الرصاص ــ فإن الوضوح يظل عصيًّا. نحن نقرأ آثارًا باهتة لأفكار لم تتماسك لتصبح أيديولوجيا.
وفي تعليقها على محاولة اغتيال ترامب، قالت كاثرين كينِيلي، الخبيرة في تقييم التهديدات، لصحيفة «نيويورك تايمز»: «مثل هذه الحوادث التي نعجز عن فهم دوافعها أصبحت أكثر شيوعًا».
لكن ذلك لا يمنع السياسيين والناس من فرض تفسيراتهم الخاصة بعد وقوع الأحداث. ففي أكتوبر الماضي، سُئل مايك جونسون، رئيس مجلس النواب، عن تهديدات بالقتل وُجهت لهَكيم جيفريز، زعيم الديمقراطيين في المجلس، من رجل شارك في اقتحام الكونغرس في السادس من يناير، ثم سُجن ثم نال عفوًا من ترامب. فأجاب جونسون بالإشارة إلى ما سمّاه «ثقافة الاغتيال» التي ــ حسب زعمه ــ تغذيها اليسار، مضيفًا، بسخافة واضحة: «فلنحرص على ألا نحولها إلى قضية حزبية».
كان ذلك تفسيرًا متعسّفًا، لكن الواقع أن الجمهور المتلقي للعنف السياسي بات هو الذي يركّب المعنى ويرسم الرواية. وحين لا نجد مؤامرة، نخترع واحدة.
ومن بين جميع حوادث الاغتيال التي شهدتها الولايات المتحدة مؤخرًا، يبدو أن الحادثة التي تمتلك «أوضح سردية»، أو على الأقل أكبر جمهور وجد نفسه قادرًا على تبنّي تفسير لها، هي مقتل الرئيس التنفيذي لشركة «يونايتد هيلثكير» براين تومبسون، في ديسمبر 2024.
قُتل تومبسون بالرصاص خارج أحد فنادق وسط مانهاتن بينما كان يحضر اجتماعًا لفعالية الشركة السنوية مع المستثمرين. وفي قطاع يُعرف أصلًا بسمعته السيئة في رفض المطالبات وتحميل المرضى ديونًا طبية ضخمة، كانت شركة «يونايتد هيلثكير» سيئة السمعة أكثر من غيرها. وخلال فترة إدارة تومبسون، ارتفعت أرباح الشركة من 12 مليار دولار في سنة 2021 إلى 16 مليار دولار في سنة 2023.
وعندما اتضح أن المتهم هو لويجي مانِيوني، شاب وسيم في السادسة والعشرين، خريج جامعة بنسلفانيا، ويبدو أنه اختار هدفه بعناية، تحوّل بسرعة إلى بطل شعبي لدى كثير من الأمريكيين ــ روبن هود بقلنسوة، المنتقِم الذي أطلق آلاف النكات والصور الساخرة.
وقد كتب مانِيوني في دفتر بسلك حلزوني صادَرته الشرطة: «مشكلة أغلب الأعمال الثورية أن رسالتها تضيع على الناس العاديين.» وكتب أيضًا: «مؤتمر المستثمرين فرصة ذهبية. إنه يجسّد كل ما هو خاطئ في نظامنا الصحي. ماذا تفعل؟ تقضي على المدير التنفيذي في مؤتمر المحاسبين الطفيليين. إنه عملٌ موجَّه ودقيق ولا يعرّض الأبرياء للخطر. والأهم من ذلك ــ الرسالة تفسّر نفسها بنفسها.»
لكن ــ وكما يشير الصحفي جون هـ. ريتشاردسون في كتابه الجديد «شخصية لويجي: كيف تشكّلت وما الذي يعنيه الاغتيال؟»، لم تكن الرسالة واضحة بالقدر الذي ظنّه مانِيوني. يقول ريتشاردسون متسائلًا: «ماذا كان يُفترض أن يحققه هذا الاغتيال الرمزي؟ سلسلة هجمات على رؤساء الشركات؟ انهيار المجتمع التكنولوجي؟ ثورة؟ أم نظام رعاية صحية أفضل؟».
ريتـشاردسون ــ وهو صحفي بارع واسع الاطلاع ــ لا يجد إجابات مقنعة عن هذه الأسئلة. فهو لم يُجرِ مقابلة مع مانِيوني ولا مع أي شخص مقرّب منه. كما أن القضية لم تعد إلى المحكمة بعد، ومن ثمّ لم تتضح ملامح دفاعه القانوني بالكامل. (مانِيوني دفع ببراءته من تهم القتل والملاحقة).
حاول ريتشاردسون أن يقتفي أثر ما تبقى من حضور مانِيوني على الإنترنت، تتبع منشوراته على «ريديت»، والحسابات التي كان يتابعها على «إكس»، وقوائم الكتب التي راجعها أو دوّنها على «غودريدز». ما وجدَه كان صورة لشاب يميل إلى كتب التطوير الذاتي وتعليقات اجتماعية شائعة، ويقدّم نصائح لطيفة للآخرين حول آلام الظهر ــ وهو أمر عانى منه بنفسه قبل خضوعه لعملية ناجحة ــ ولا يبدو أنه كان غارقًا في نقاشات متعلقة بالسياسات الصحيّة الأمريكية. كانت أفكاره حول ما هو «خاطئ» في العالم، مثل كثير من الناس، صادقة لكنها غير مكتملة، ولا تنتمي بوضوح إلى اليمين ولا اليسار.
يكتب ريتشاردسون: «نظرة إلى حسابات لويجي وهو يدخل عالم الكبار تكشف أنماطًا ثابتة تتمثل في اهتمامه بالصحة، والذكاء الاصطناعي، والمواد المخدرة المهلوسة، وتغيّر المناخ، والطاقة النووية، واللحوم المنتَجة في المختبرات، والتطور، وصغار الغوريلا... إلى جانب انجراف تدريجي نحو ما يُسمى «المانوسفير»؛ أي دائرة المؤثّرين الذكور ذوي الميول اليمينية».
ولفهم مانِيوني أكثر، عاد ريتشاردسون إلى تقاريره السابقة عن ناشطي «الإرهاب البيئي»، وعن «التسريعيين» ــ وهم الذين يعتقدون أن تسريع التغير التكنولوجي سيُسهم في إسقاط النظام القائم ــ وعن الشباب الذين تأثروا بأفكار تيد كاتشينسكي، «مفجّر الجامعات والطائرات» المعروف بـ«يونيبومبر». كما اعتمد على مراسلات سابقة مع كاتشينسكي نفسه. هذه المقارنات مفيدة بحد ذاتها، لكنها لا تسلط الكثير من الضوء على مانِيوني، الذي يبدو أنه لم يتعمّق في تلك الأفكار إلا هامشيًا. بل ويمكن القول إن قصة كاتشينسكي نقيض قصة مانِيوني تقريبًا، فالأول كتب بيانًا طويلًا ومعقّدًا ضد المجتمع التكنولوجي الحديث، وشنّ حملة تفجيرات قتلت ثلاثة أشخاص وأصابت ثلاثة وعشرين، كثير منهم أبرياء لا علاقة لهم بصراعاته الفكرية. أمّا مانِيوني، فقد كانت حجّته ضد شركات التأمين موجزة وحديثة العهد، وتركّزت على هدف واحد مختار بعناية.
صحيح أن مانِيوني قرأ بيان «يونيبومبر» وراجعه، لكنه عبّر بوضوح عن رفضه لطرقه: «تيد كاتشينسكي يطرح نقاطًا مهمة بشأن مستقبل الإنسانية، لكنه لإثبات وجهة نظره يرسل قنابل إلى الأبرياء بلا تمييز.»
لكن الفعل يصبح مفهومًا ــ وأكثر من ذلك، لا يُمحى ــ عند النظر إلى ردود الفعل عليه. نعم، كان جزء من التمجيد الساخر لمانِيوني والشماتة في موت تومبسون مجرد هراء بارد المشاعر على الإنترنت. لكن جزءًا كبيرًا منه عبّر عن ألم حقيقي وغضب مشروع حيال نظام الرعاية الصحية القائم ــ النظام الذي يعيش الناس ويموتون تحته.
تستشهد تالبت بمعلق على «فيسبوك» اقتبسَ ريتشاردسون كلامه: «بعيدًا عن المزاح، لا أحد هنا مخوّل أن يقرر من يستحق الحياة أو الموت. هذا عمل خوارزمية الذكاء الاصطناعي التي صممتها شركات التأمين لتعظيم أرباحها من صحتك».
بالنسبة لبعض الناس، بدا مقتل تومبسون أشبه بعملية اغتيال «مشروعة» على غرار اغتيال هايدريش النازي. وفي استطلاع أجرته جامعة شيكاغو بعد الحادثة، قال سبعة من كل عشرة أمريكيين إن قطاعي التأمين والرعاية الصحية يتحمّلان «قدرًا متوسطًا» على الأقل من المسؤولية عنه.
بعد ما يقارب عامًا على الحادثة، جمع صندوق الدفاع القانوني لمانِيوني أكثر من مليون دولار. وبحسب الصفحة المخصّصة للأسئلة الشائعة، يتلقى مانِيوني ما بين عشر رسائل ومئة وخمس عشرة رسالة يوميًا، يسجّلها جميعًا ويرد على كثير منها. أما الصور التي تُرسل إليه، فبلغت حدًا جعله «يرجو بلطف» ألا يرسل الناس أكثر من خمس صور دفعة واحدة.
يقترح ريتشاردسون أن «النتائج البعيدة المدى لاغتيال براين تومبسون» قد تدفع في اتجاه تحقيق نظام رعاية صحية شامل يطالب به ملايين الأمريكيين. لكن ما يتطلّبه هذا الهدف فعلًا هو حركة اجتماعية وإرادة سياسية راسخة. وما لدينا حتى الآن ليس سوى «عبادة شخصية» تحيط بشاب في السجن، وتلال من رسائل المعجبين.