من طوفان الأقصى إلى “عملية يوم الأربعين”
تاريخ النشر: 31st, August 2024 GMT
بعد “عملية يوم الأربعين” مباشرة، وكما عند كل محطة مفصلية، يطلق الإسرائيليون ترسانتهم الإعلامية في كل اتجاه. تتجند وسائل الإعلام الإسرائيلية والغربية، ومعها بعض الإعلام العربي، من أجل ترويج السردية الإسرائيلية ونشرها على أكبر نطاق ممكن.
في المقابل، تتصدى الجبهة المقابلة لهذه المحاولات، مستفيدة من الحقائق ومن موازين القوى الجديدة التي تؤكد أن “إسرائيل” لم تعد قادرة على فرض أجندتها السياسية والعسكرية، وكذلك الإعلامية، بأريحية واطمئنان، إلا أن الملاحظ أن إحدى أبرز أدوات هذه الترسانة لا تحظى بالاهتمام اللازم ولا يتم الالتفات إلى دورها الأساسي في التضليل وخلق السرديات.
إنها مراكز الدراسات والتفكير الاستراتيجي والسياسي الغربية، وخصوصاً الأمريكية، التي تقدم نفسها كمؤسسات بحثية تتقصى الحقيقة وتسعى لإنتاج التفكير الاستراتيجي العلمي والموضوعي، إلا أن الوقائع تؤكد أنها تعمل على العصف بالعقول والتلاعب بها وعلى إنتاج السرديات والتأثير في مواقع القرار، فضلاً عن دور استخباراتي غير بسيط خدمة لأجندات الجهات الممولة التي تمثل المصالح الاقتصادية والسياسية لمنظومة الهيمنة الأمريكية.
وقد أوجدت هذه المؤسسات مكاناً لباحثين وصحافيين ومتخصصين، إضافة إلى شخصيات بارزة أدت في ما بعد أدواراً مهمة في دوائر صناعة القرار الأمريكي، مثل روبرت ماكنمارا وهنري كيسنجر وكوندوليزا رايس ورامسفيلد وريتشارد بيرل وديك تشيني وزوجته.
كل هؤلاء كانت لهم أدوار كبيرة في العالم، وفي منطقتنا تحديداً، ودعوا كل من موقعه إلى إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط وفق المصالح الأمريكية والإسرائيلية.
خطورة دور مراكز الدراسات هذا دفعت إلى تسميتها بدبابات الأفكار.
كما هو معلوم، فإن هذه المؤسسات تسمى في الولايات المتحدة الأمريكية think tank، والترجمة الحرفية للمصطلح تعطينا أكثر من مرادف. هي تعني وعاء الأفكار، ولكن في الوقت نفسه تعني “دبابة الافكار”.
المعنى الثاني تبنته مجلة الإيكونومست في إحدى افتتاحياتها التي عنونتها بـ”هجمة دبابات الفكر”.
جاء في المقالة التي نشرت منذ سنوات، والتي لا يزال ما ورد فيها صالحاً حتى اليوم، “أن أمريكا أصبح لديها جيش خطر من المفكرين الذين احترفوا تهييج القوة الأمريكية واستثارتها، وهي تندفع أبعد كل يوم على طريق الحرب”. وتشير الصحيفة إلى دور هذه المراكز في تحديد ما يجب فعله وما لا يجب، وتذهب إلى حد الكلام عن أن العاملين في المراكز البحثية يساهمون في وضع جدول أعمال للإدارة الأمريكية.
وعندما تتحول الأفكار إلى استراتيجيات وخطط، ومن ثم إلى أمر واقع، “يكون مطلوباً من العالم أن يصفق لهذا الجنوح الأمريكي المجنون المتحصن في دبابات الفكر الجديدة”، وتتابع الإيكونوميست: “إن هذه المؤسسات من نوع مؤسسة التراث ومركز منهاتن للدراسات والمشروع الأمريكي ومركز هوفر أصبحت كلها تمارس نفوذاً تعدى دائرة الفكر ووصل إلى دائرة رسم السياسات وصنع القرارات”.
وتذهب المجلة إلى حد الكلام عن “أن الأفكار المحركة للقرار الأمريكي هي ذلك السيل المتدفق من مؤسسات ومراكز الدراسات الاستراتيجية. على سبيل المثال، فإن أحد هذه المراكز، وهو مركز دراسات المشروع الأمريكي، هو الذي صك وأشاع للتداول تعبير الدقة، وهو تعبير أدبي لم يلبث أن تحول إلى استراتيجية حرب”.
ليس هذا فقط؛ فقد تحولت هذه المؤسسات، وفق الإيكونوميست، إلى “حكومة الظل الخفية والحقيقية التي تصوغ القرار السياسي الأمريكي: أما الرئيس فتبقى له مهمة التوقيع”.
الوصول إلى هذا المستوى من النفوذ والتحكم بدأ العمل عليه بشكل جدي ومدروس منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. في تلك المرحلة، انتشرت مراكز الدراسات بشكل كبير بهدف استيعاب المفكرين والباحثين الأمريكيين ضمن أطر تعمل على خدمة التوجهات الأمريكية الرسمية.
وكما هو معلوم، فإن للرأسمالية الأمريكية دوراً كبيراً في هذا الاستثمار من خلال التمويل والدعم، فقد قامت الشركات الكبرى، مثل روكفلر وفورد وكارنيغي وراند، بإنشاء مؤسسات للتفكير والبحث.
مع الوقت، تبلورت الأدوار وتوسعت، وسرعان ما ظهر دور لا يقل خطورة عما سبق ذكره، وهو الدور الاستخباراتي. وقد كان لمنطقتنا حصة وازنة على هذا الصعيد، وخصوصاً خلال المفاوضات العربية الإسرائيلية في مختلف مراحلها. هذه “المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل”.
ذكر هيكل أن العاملين في مراكز الدراسات والتفكير الأمريكية كانوا يبعثون رسائل معينة أو دعوات محددة لأطراف عربية معنية بالمفاوضات، مشيراً إلى أن هؤلاء الباحثين “يعملون داخل مؤسسات سياسية واستراتيجية تهتم بكتابه الأوراق في الظاهر، لكنها في واقع الأمر غارقة حتى الآذان في نقل المعلومات والتوجيهات، وحتى الصياغة، من هنا إلى هناك ومن هناك إلى هنا”.
يلفت هيكل أيضاً إلى أن مراكز الدراسات الغربية تتميز بحضور ونفاذ صهيوني إسرائيلي، ويلاحِظ وجوداً كثيفاً فيها لغلاة المتعصبين للمشروع الصهيوني ولأولوية أمن “إسرائيل”.
ويتحدث عن مسألة عملت عليها هذه المؤسسات وبشكل موازٍ لدورها الاستخباراتي، تتمثل بتطويع العقل العربي في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي من خلال “إعادة صياغة عقل العديد من المفكرين العرب الذين تعطيهم هذه المراكز الإحساس الزائف بأنهم أطراف في صناعة فكر سياسي جديد”.
ويبدو، وبكل أسف، أن ما بدأ في تلك المرحلة استمر حتى يومنا هذا. تؤكد الوقائع أن الاستثمار الأمريكي والصهيوني في هذا المجال نجح بنسبة غير قليلة بدليل جيش الصحافيين والناشطين، وأيضاً من يعرفون أنفسهم بالمفكرين والباحثين العرب الذين احتلوا منذ عملية طوفان الأقصى إلى عملية يوم الأربعين عدداً من الشاشات والمنصات الإعلامية، ولم يترددوا بتبني السردية الإسرائيلية على الرغم من هشاشتها وتفاهتها وكذبها المفضوح.
إعلامية لبنانية
المصدر: الثورة نت
كلمات دلالية: مراکز الدراسات هذه المؤسسات
إقرأ أيضاً:
عاد الحديث عنها بعد طوفان الأقصى.. ما حل الدولتين؟ وهل هو ممكن؟
تراجع الحديث عن قيام دولة فلسطينية وأخرى إسرائيلية وفق حل الدولتين قبل طوفان الأقصى في أكتوبر/تشرين الأول 2023، ولكن مع اشتداد العدوان على قطاع غزة وقيام إسرائيل بجرائم حرب خلال عدوانها تزايد الحديث عن حل الدولتين.
وباتت عدة دول تهدد بالاعتراف بالدولة الفلسطينية في مسعى منها لإجبار إسرائيل على وقف عدوانها على غزة.
طوفان الأقصى وحل الدولتينوكانت آخر هذه الدول بريطانيا التي أعلنت -أمس الثلاثاء- أنها ستعترف بدولة فلسطينية في سبتمبر/أيلول القادم ما لم تتخذ إسرائيل خطوات منها تخفيف الوضع الإنساني المتردي في قطاع غزة والالتزام بعملية سلام طويلة الأمد تُفضي إلى حل الدولتين.
جاء الإعلان، عقب إعلان فرنسا أنها ستعترف بدولة فلسطينية في سبتمبر/أيلول، ليُعاد التركيز على حل الدولتين.
وتعترف نحو 144 دولة من أصل 193 في الأمم المتحدة بفلسطين دولة، بما في ذلك معظم دول الجنوب بالإضافة إلى روسيا والصين والهند. لكن لا يعترف بذلك من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، الذي يضم 27 دولة، إلا قلة قليلة معظمها دول شيوعية سابقة بالإضافة إلى السويد وقبرص.
وحل الدولتين هو مشروع أممي قديم وصدر بحقه قرارات دولية لم تنفذها إسرائيل ولم تلتزم بتنفيذها.
جذور حل الدولتين
بعد رفض قرار تقسيم فلسطين عام 1947، وإعلان قيام إسرائيل في 1948 وسيطرتها على 77% من أراضي فلسطين التاريخية.
وتهجير الفلسطينيين بعد عدة مجازر قامت بها العصابات الإسرائيلية وتدمير القرى الفلسطينية حيث تم تهجير نحو 700 ألف فلسطيني، وانتهى بهم المطاف لاجئين في الأردن ولبنان وسوريا وأيضا في غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية.
وفي حرب 1967، استولت إسرائيل على الضفة الغربية والقدس الشرقية من الأردن وعلى غزة من مصر لتحقق سيطرتها على كل الأراضي من البحر المتوسط إلى غور الأردن.
ورغم اعتراف 147 من أصل 193 بلدا عضوا في الأمم المتحدة بفلسطين كدولة، فهي ليست عضوا فيها، مما يعني أن المنظمة لا تعترف بمعظم الفلسطينيين كمواطنين لأي دولة.
إعلانيعيش نحو 3.5 ملايين فلسطيني لاجئين في سوريا ولبنان والأردن، في حين يعيش 5.5 ملايين فلسطيني في الأراضي التي احتلتها إسرائيل عام 1967. ويعيش مليونان آخران في إسرائيل كمواطنين إسرائيليين.
أوسلو حجر الأساس
كان حل الدولتين حجر الأساس لعملية السلام المدعومة من الولايات المتحدة التي دشنتها اتفاق أوسلو عام 1993 والتي وقعها الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير ورئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل إسحاق رابين. وأدت الاتفاقات إلى اعتراف منظمة التحرير بحق إسرائيل في الوجود ونبذ العنف وإنشاء السلطة الفلسطينية.
لكن الاتفاق لم يتم تنفيذه نظرا لمماطلة إسرائيل وتنصلها مما تم التوقيع عليه، وفي عام 1995، اغتيل رابين على يد يهودي متطرف، حيث كان يعتبره عرفات والعرب شريكا في السلام.
وبقي الوضع على ما هو عليه ولم يتم إحراز أي تقدم في أي مفاوضات عدة بين السلطة الفلسطينة وإسرائيل لتتوقف كافة المفاوضات في العام 2014.
التصور المتخيل للدولة الفلسطينيةيتصور المدافعون عن حل الدولتين وجود فلسطين في قطاع غزة والضفة الغربية يربطها ممر عبر الأراضي المحتلة.
ووفقا لتصور أوّلي وضعه مفاوضون فلسطينيون وإسرائيليون تمنح إسرائيل المستوطنات الكبرى في الضفة المحتلة مقابل تنازل إسرائيل عن أراضي لم تحدد للفلسطينيين.
كما يتضمن التصور الذي عرف بمبادرة جنيف أو وثيقة جنيف، الاعتراف بالأحياء العربية عاصمة لفلسطين، وبدولة فلسطينية منزوعة السلاح، مقابل الاعتراف بالأحياء اليهودية في القدس عاصمة لإسرائيل.
تدير السلطة الفلسطينية بقيادة محمود عباس جزرا منعزلة في أراضي الضفة الغربية المحتلة وتحيط بها مناطق تحت السيطرة الإسرائيلية تشكل 60% من أراضي الضفة.
وفقا لمنظمة السلام الآن الإسرائيلية فإن عدد سكان المستوطنات ارتفع من 250 ألفا في عام 1993 إلى 700 ألف بعد 3 عقود.
كما تسارعت وتيرة الاستيطان اليهودي في الضفة الغربية المحتلة منذ العام 2023.
وترى الحكومة الإسرائيلية برئاسة بنيامين نتنياهو، المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية بتهم جرائم حرب، ويؤيده بذلك العديد من رؤساء الأحزاب الإسرائيلية، أن أي دولة فلسطينية مستقلة ستكون منصة محتملة لتدمير إسرائيل، وتؤكد الحكومة على أن السيطرة على الأمن يجب أن تبقى في يد إسرائيل.