سودانايل:
2025-10-13@18:36:57 GMT

مذكرات مغترب في دول الخليج العربي ( ٥ )

تاريخ النشر: 3rd, September 2024 GMT

كانَ الوقتُ لَيلاً عِندَما وصْلتُ إلى تثليث بِصُحْبَة ساعي البَريد في أوَّلِ قُدُومٍ لها . ولمْ أعْرِفْ فيها " صَرْفاً ولا عَدْلاً " ،
إذْ لمْ تكُن بها كَهرُباء غَيرَ أنَّ السَّائقَ أوصَلَني إلى سَكَنِ أحَدِ السُّودانيين المَعرُوفِين في البَلدةِ ، وقدْ كانَ مِيكانيكياً مِن جِهة الدَمازِين وقد اشْتُهِر في أوسِاطِ السودانيين ب " حمد ود الطَّاهِر " .

قضَيتُ مَعَه الليلةَ الأولَى في تثليث نائماً مِثل طُوبةٍ داخِلَ حَوشٍ كَبير مِن شِدَّة الإرْهَاق . اسْتَفَقتُ في الصَّباحِ على أشِعَّة الشَّمس الحَارِقةِ ، فَرَكْتُ عَينيَّ وتَمَطَّيتُ في السَّرير بالأيدي والأرجُل . ثمَّ توكَّلتُ على الله وسَحبتُ نفسي واقِفاً . تأمَّلتُ الدَّارَ التي أنا بِداخٍلها أوَّلاً ، ثمَّ طُفتُ في وقفتي تلك بِناظَرَي على الجِوار فوَجَدْتُ كُلَّ البُيُوتِ قَدِيمةً قِدَمَ التَّاريخ ومَبْنِيَّة باللَبِن ( الطَّين الأصْفَر المائِل للحُمرة ) ، وطِينُها يُشْبِه الطِّين الذي بُنيَتْ به طابِيةُ أم درمان ( طين بحر ) . وهذه المباني قويةٌ وتَحْمِلُ طابِقين - يا سُبحَان الله - بِالرَّغم مِن قِدَمِهَا .
في أوَّلِ النَّهار - وقد تَرَكني صاحبُ البيتِ وذَهَبَ إلى عَملهِ - لم يهنأ لي بالٌ ولم يهدأ لي خاطِر ! فقد وجدتُ أربعةَ عقارِب كبيرةٍ سوداءَ الواحدِةُ منها مِثلَ ظاهِر الكَفِّ في حجمِها - واللهُ على ما أقولُ شهِيد - وجَدتُها في زوايا الغُرفةِ وواحدةً على رِجْل السَّرير !!! ( يا نهار زي بعضُه ) ( كما يقول المصريون ) ! حلَّ المسَاءُ ولمْ تكنْ هُنالك كهرباء . كانتْ البُيوت تُضَاءُ بِمصابيحَ الواحدُ منها يُسمَّى " اللَتْرِيك " وتعملُ بالغاز وتُشبِه " الرتاين" عندنا إلى حدٍّ ما . حملتُ اللتريك بعد المَغرِب وطُفتُ بأرجاءِ الحُوش خوفاً من مزيدٍ من العقاربِ تُباغِتُنا ونحنُ نِيام - أي والله لهذه الدرجة !!! فَطَمأنني ود الطاهر أنها ليستْ كثيرة ! شَكرتُه على الاستضافةِ ورحلتُ عنه بعدَ يومين إلى بيتٍ آخَر مع مجموعةٍ من الشَّبابِ السُّودانيين .
تثليث قريةٌ كبيرةٌ
تتألفُ مِن عِدة أحْياء تتناثرُ حول وادٍ ضَخمٍ يَجرِفُ معه وأمامَه كُلَّ شئٍ مهما كَبُر حَجمُه وذلك حين هُطُولِ الأمطارِ في أعالي أبْهَا البَهِيَّة - كما يُسمُّونها . وكذلك تتناثرُ الأحياءُ السَكنِّية أسفلَ الجِبال الصَّغيرةِ المُخْضَرَّة بعيداً عن مَجرَى السَّيل وتُسْفِرُ البَلدةُ عنْ جَمالِها حين تهدأُ ثورةُ الوادي وتنحَسِر المِياه عن جانِبيه . بالبلدةِ عددٌ مِن مزارعِ النَّخيل والخُضَر والفواكِه التي تنتشرُ كذلك هنا وهناك . لم يكُن بالبلدةِ مَخبزٌ وكانَ الناسُ يَجلبونَ خُبزَهم من مناطقَ أُخرى بعيدةٍ بِكمياتٍ وفيرةٍ تُوفّر عليهم جُهد المِشوار أكثرَ من مَرةٍ في الأسْبوع . وكانتْ مياهُها مالِحةٌ مُلُوحةً شديدةً وكُنَّا نشتري " وايت " الماءِ العذبِ " tank " الصغير بِثمانين ريالا والكبير بمائة ريال . وكانت خزاناتُ المياهِ أرضيةً تُحفَر عميقةً مُستطيلةٌ وتُمسَحُ وتُبلّطُ وتُغطَّى بغِطاءٍ أسمنتي لِحفظِ المياه العذبة بِداخلها .
سُكانُ تثليث جُلُّهم قَحْطانِيون يُقالُ ( قحاطين ) وهم كُرماءٌ نَشامَى ( مفردها نشمي وهو الشُّجاع المِقدام ) . ونساؤهم صَبايا في غايةِ الجَمالِ وعُيونُ المَها فيهِن حقيقةٌ وليستْ خَطرَفةَ شاعرٍ مُلتاع ، وكُنَّ - كُلُّهن - يرتدِين ال " ماكسي" ( فستان طويل ) بألوانٍ زاهيةٍ ويُغطِّي البُرقعُ الرأسَ والوَجه إلا أنّه خفيفٌ وشفيفٌ على الوجهِ وتَبدُو معه المَلامِحُ واضِحةً جلِّية . وإذا أردتَ أنْ تَعرِفَ جَمالَ البَدويَّات عند آل قحطان فعليك بِسوقِ الاثنين والذي يَجمعُ العالَمِينَ مِن كُلِّ حَدبٍ ينْسِلون. وهذا السُّوق عِبارةٌ عن منطقةٍ فسيحةٍ مفتوحةٍ مُسفلتةٍ خاليةٍ إلا مِن "الصيوانات " التي تُنصَبُ في يومِ السوق لِعرضِ البِضاعةِ المُتَنوِّعَة والشَّاملة لِكُلٍّ شئ بما فيها الأدواتِ المنزلية. وبالبلدةِ مركزٌ للشُّرطةِ وأمَارةٌ ( يرأسُها أميرُ قبيلةٍ ) وبها بَلديةٌ كذلك .
-------------------------------------
محمد عمر الشريف عبد الوهاب

m.omeralshrif114@gmail.com  

المصدر: سودانايل

إقرأ أيضاً:

رحلة النضال العربي من الفالوجا إلى غزة

 

 

 

علي بن مسعود المعشني

ali95312606@gmail.com

عَرف النضال العربي ضد الاستعمار في العصر الحديث مفاصلَ تاريخية مُهمة، وتراكمًا كبيرًا، فما نراه في غزة اليوم من ملاحم لا تنفصل عن ملاحم الماضي القريب؛ بل تُستمد من بطولات ورموز من سبقوهم في مواجهة المُستعمِر.

في ما مضى عَرف النضال العربي خصوصيات جغرافية عربية بعينها، ولكن النضال من أجل فلسطين جمع العرب ووحدهم وسالت دماؤهم وتوحدت قبورهم على أرض فلسطين، الى درجة أثقلت على الأجيال اللاحقة ضرورة حمل مشعل المقاومة والنضال وفاءً لتلك الدماء ونصرة لأعظم حق وأعظم قضية وآخر احتلال عرفه العالم؛ وهو فلسطين العربية التاريخية من النهر الى البحر. لم تكن أرض فلسطين بوتقة للنضال العربي ورمزًا لكرامته وعزته وشرفه فحسب؛ بل كانت مصدر إلهام لثورة 23 يوليو 1952 الخالدة في مصر وثورة 14 تموز (يوليو) 1958م في العراق، وقد أحدثت الثورتان وقائع هائلة في الوطن العربي. وفي غزة اليوم يتكرر النضال العربي في صور أخرى، ويستمد شرعيته وجذوته من الرصيد التاريخي للنضال العربي بمجمله ضد الاحتلالات الاستعمارية الغربية. ما يُميز نضال الفالوجا بالأمس ونضال غزة اليوم، أن الأول أتى في زمن احتلال غربي مباشر على الأقطار العربية وألهم الأحرار العرب النضال وتحرير الأرض، وما يميز النضال في غزة اليوم هو التحرر من التبعية والهيمنة الغربية وتحرير العقل العربي من سرديات المحتل.

لا يُمكن النظر الى ملاحم "طوفان الأقصى" اليوم من زاوية التفوق العسكري للعدو ورعاته؛ بل من زاوية الإرادة العربية في المواجهة على القاعدة الربانية "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة". كما لا يُمكن مواجهة العدو في الميدان بالسلاح فقط؛ بل مواجهته بالعقل والرشاد والإرادة والإيمان بالحق ونصرة الله، والقتال مع الأرض ومن أجل الأرض لمغتصب لا يقرأ.

لا يمكن أن يمر "طوفان الأقصى" مرور الكرام، وهو الذي استنهض الأمة وأعاد لها روح العزة والكرامة، وأجبر الضمير العالمي على الهبَّة غير المسبوقة لنصرة فلسطين والحق العربي كحق إنساني.

جيل المقاومة اليوم هو امتداد لأجيال مقاومة الأمس، وبالتراكم المنطقي والعقلي سيحمل الجيل القادم مشعل النضال بفخر وعزة، وسينطلق من حيث انتهى الطوفان وجيله؛ ليُكمل المسيرة نحو التحرير، وسيتجاوز جميع الصعاب الميدانية، والمخدرات العقلية الفاخرة التي نثرها العدو ورعاته وسكبوها في عقول الأجيال العربية لتتقبل الهزيمة وقوة العدو المزعومة كقضاء وقدر لا يُرد.

"طوفان الأقصى" لم يُوقظ جذوة النضال والمقاومة لدى شباب الأمة العربية في زماننا؛ بل أيقظ العالم إلى خطورة الصهيونية العالمية وما تحيكه للعالم من شرور ومؤامرات، لهذا كانت غزة ضمير العالم بجدارة واستحقاق، فكانت حسابات المقاومة للنصر والتضحية بلا سقف في سبيل الوطن، بينما كانت حسابات المحتل كحسابات التاجر الجشع الى سقف خسائر محدودة.

ستهدأ ساحات القتال ويخبو ضجيج المعارك، وفي المقابل ستشتعل معارك الضمير والمشاعر والحواس ليولد نضال قادم تكون ساحته المعمورة برمتها؛ فالبشرية اليوم في أمسِّ الحاجة للفطرة والسَوِيِّة والاحتكام لسُنن التاريخ ودول الأيام والخلاص من حلف الشيطان الذي أزهق وأرهق البشر والشجر والحجر.

قبل اللقاء.. "قمة شرم الشيخ" مجرد تكرار وإعادة إنتاج فاشل ويائس لحلف بغداد، وكامب ديفيد ووادي عربة وأوسلو ومُؤتمر مدريد، وإعادة إنتاج مخدرات سياسية جديدة وسرديات بالية طواها الزمن. "أمريكا تُريد، والله فعَّال لما يُريد".

وبالشكر تدوم النعم.

رابط مختصر

مقالات مشابهة

  • لأول مرة.. عُمان تستضيف غدًا "منتدى كيو إس العربي"
  • رحلة النضال العربي من الفالوجا إلى غزة
  • بعد غدٍ.. جامعة السلطان قابوس تستضيف منتدى QS العربي
  • عُمان تشارك في اجتماع وزراء العدل بدول الخليج
  • إسرائيل اليوم: دول الخليج المعتدلة منزعجة من الدور القطري.. ستعيد حماس
  • قضايا الأمن الغذائي في الخليج
  • أسواق الخليج تغلق على تراجع وسط مخاوف الحرب التجارية مع الصين
  • دولة قطر تشارك في اجتماع وزراء العدل بدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية في دولة الكويت
  • النصر في زمن الهزائم .. مأساة الوعي العربي في غزة
  • ترامب والجنائية الدولية.. هل يسقط وقف الحرب بغزة مذكرات التوقيف بحق نتنياهو وجالانت؟