ما أن نصل إلى الأسبوع الأخير من رمضان حتى ننتقل جميعا لبيت جدتي استعدادا لخبيز العيد وما يشمله من كعك وبسكويت ومخبوزات أخرى لذيذة، أنتهي من سحوري برفقة الصغار والكبار من أبناء الأعمام والعمات وأجري على المطبخ حيث تجلس جدتي لإعداد العجين المخصص لكعك العيد، رائحة السمن المغلي تعبق المكان وتكسبه الدفء والحميمية، تطلب مني نثر السمسم المحمص على الدقيق ومعه المحلب ورائحة الكعك فأطيعها وأنا أشعر بتمييزها لي عن كل الحفيدات فيملأني الزهو والفخر، تناولني بضعة ملاعق من السكر وملعقة من الملح فأتعجب منها وأسألها لماذا الملح يا جدة والسكر بعد النضج سيغطيه فتبادرني بحكمة الايام:
لنعرف قيمة الحلو في حياتنا لابد لنا من طعم الملح.
أسمعها ولا افهم فتصمت تاركة للأيام مهمة إفهامي، تضيف بنفسها إناء الخميرة الذهبية الفائرة بينما تتمتم شفتاها بالأدعية بأن يبارك الله في اللمة ويزيد الخير والفرحة، وأن يضع البركة فيما تخبزه فيربو ويزيد، أنكمش بجوارها وأنا أرقب اندماجها في عجنها للمكونات وقد استحالت كما الآلهة الإغريقية تمنح الحياة وتحيل الجماد إلى كائنات نابضة.
الخميرة يا بنيتي روح حية، تحيي موات القمح المطحون وتطرح البركة في العجين فيكبر وينمو، تماما مثل طفل وليد تمنحه الدقائق والايام قوة وصلابة فيغدو رجلا عظيما أو امرأة تخرج الأحياء من رحمها.
تمتد الطبالي الخشبية في صحن البيت المكشوف للسماء، تحضر عمتي الصغرى الصاجات التي ستنتظم قطع الكعك فيها بصفوف طويلة تمهيدا لخبزها في الفرن بينما انقسمت الأعمال بين العمات جميعهن، هذه تقطع العجين إلى قطع متساوية وهذه تلينها بين كفيها والأخيرة تزينها بنقشات مبتكرة بواسطة منقاش نحاسي ثم تضعها في مكانها على الصاج، أسألها مستفسرة:
لما النقوش يا عمتي؟
فتجيبني:
النقش يكسب الكعكة تعرجات تجعلها تحتفظ بأكبر كمية من السكر، تماما كما روح الانسان تحتفظ بين ثنياتها بالعديد من المشاعر والانطباعات التي نقشتها التجارب وطبعتها على جدارها المحن، أما الروح الملساء عديمة التجربة فتفشل في ترك انطباع عنها تماما مثل كعك بلا سكر.
تلكز عمتي صغيرتها التي بدأت في البكاء رغبة في تدوير ماكينة تشكيل البسكويت مثلي وتطمئنها بأنها سيحين دورها عندما تكل يدي وأرغب في بعض الراحة، أبادر فور سماعي لكلام العمة بأنني لم أتعب ولن استريح حتى أنتهي من كل البسكويت الموجود، تغتاظ الصغيرة ويستحيل بكاءها صراخا فيتوجه الجميع بنظراتهم المتهِمة إلي فأترك الماكينة وقد استبد بي الغبن والقهر وأصعد إلى سطح البيت حيث تقوم جدتي بخبز الكعك، أنظر للسماء وقد بدأت أول خيوط النور في التمدد بالسماء فأبتسم، تجذبني جدتي من جلبابي وتقبلني قبلة مبللة بعرقها واللعاب أبادر بعدها بمسح وجهي خلسة كي لا تراني، تعطيني كعكة من أول الصاجات الناضجة فأخبرها أني صائمة فتضحك وتبادرني:
كعك ستك لا يفطر الصائمين شريطة ألا تخبري أحدا بذلك
ابتلعها سريعا وأجلس بجوارها أرقبها وهي تلقم النار قشا وحطبا من فروع الذرة والقمح الجافة فيتألق بيت النار بألسنة أسمع طقطقتها فيزداد شغفي وتحفزي.
أتركها قليلا وأمضي باتجاه قلب السطح المطل على صحن الدار، أموء كما القطط فتراني بنت العمة التي انفردت بماكينة البسكويت بعد اجباري على تركها وتبدأ في البكاء من جديد طمعا ورغبة في الصعود للسطح مثلي، أضحك وأنا ألمح الغيظ بعينيها بعد رفض عمتي لصعودها فأكشف لها سر الكعكة التي أعطتنيها الجدة وكيف أنها لا تفطر كما باقي الكعكات فيستبد بالجميع الضحك، تناديني ابنتي التي استيقظت لتشرب بعض الماء قبل موعد الإمساك فأستفيق من ذكرياتي بينما استحال البسكويت الخارج من الماكينة ثعبانا ملتفا حول بعضه، أقوم متكاسلة وأتجه للمطبخ لأشعل الفرن الذي يعمل بالغاز لا القش والحطب كفرن جدتي، أجلس أمامه وحيدة بعد أن وضعت بعض الصواني بداخله وبقيت في انتظار نضج ما بهم من كعك قمت بنقشه بمفردي، لم اسع لتذوقه بعد نضجه فهو ليس ككعك جدتي، كان كعكا يفطر الصائمين وكان خاليا من قبلات جدتي المبللة باللعاب التي لو عادت الآن أقسم أنني لن اسعى لمسحها.
علا عبد المنعم
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: الاسبوع الآخير وبسكويت
إقرأ أيضاً:
العيد والامتحانات وجدول منفصل عن الواقع
سعيد بن سالم بن سعيد الكلباني **
تُعد المُناسبات الدينية في سلطنة عُمان، وعلى رأسها عيد الأضحى ليس فقط إجازات رسمية. فهي لحظات اجتماعية ذات عمق ثقافي وديني تعيد ترميم الروابط العائلية، وتمنح الناس فرصة لتجديد صلتهم بهويتهم الاجتماعية والروحية والثقافية. المُفاجأة هذا العام جاءت مع قرار وزارة التربية والتعليم تقسيم الامتحانات النهائية إلى مرحلتين: ما قبل وما بعد العيد؛ مما خلق حالة من الارتباك العائلي والتربوي والثقافي وأثار تساؤلات مشروعة حول مدى إدراك السياسات التعليمية للخصوصية الثقافية العُمانية المتجذرة في عُمق التاريخ المتراكم عبر العصور.
هذا القرار لم يكن تنظيميًا مرهقاً فقط، فقد مسّ جوهر تجربة العيد لدى الطالب وأسرته ومجتمعه؛ فعيد الأضحى ليس احتفالًا للمسلمين كطقوس عابرة، وإنما سلسلة من التقاليد المتجذّرة تشمل صلاة العيد، وصلة الرحم، والأضاحي، واللقاءات المجتمعية والعادات والتقاليد المتوارثة التي تمتد لأربعة أيام من الفرح والأهازيج والتجمعات العائلية في المجالس والحارات والتي لها دور عظيم في تعليم الأبناء روح المجتمع المتماسك والصلابة التي تجعل منه ذا مهارات سلوكية وقيادية في المستقبل.
لكن عندما يجد الطالب نفسه في وضع نفسي مزدوج (بين فرحة العيد وهمّ المذاكرة) تتفكك الحالة الذهنية وتضعف قدرة الطالب على الاستعداد والتركيز. وقد أظهرت دراسات حديثة، مثل تلك الصادرة عن Child Mind Institute (2023)، أن الضغط الدراسي خلال الأعياد يزيد من مستويات القلق، ويُؤثر على النوم، ويضعف العلاقات الأسرية وتختفي المهارات المكتسبة من المجتمع.
من الناحية الاجتماعية، فإنَّ المجتمع العُماني ما زال يحتفظ بوحدته العائلية الواسعة، خصوصًا في القرى والمناطق الداخلية. وغالبًا ما يُسافر الأبناء والأحفاد من المدن إلى القرى في هذه المناسبة. وعندما تُقسَّم الامتحانات حول العيد، تضطر العائلات إلى البقاء في المدن أو تقليص زياراتها وكم من العوائل عادت إلى المدن الرئيسية كمحافظة مسقط وتركت خلفها فرح العيد بين أهاليهم وعوائلهم، وهذا يُضعف تقاليد التلاقي العائلي ويؤثر على تماسك المجتمع في واحدة من أكثر لحظاته رمزية.
من الناحية المؤسسية، يُظهر هذا القرار أيضًا ضعف التنسيق بين الجهات الحكومية. فوزارة التربية لم تأخذ في الحسبان وزارات أخرى مثل الأوقاف والشؤون الدينية ووزارة التنمية الاجتماعية، التي تعلم أهمية العيد في النسق الثقافي والديني العُماني. كما لم تُراعِ تأثير ذلك على الأسر العاملة في القطاعات الحكومية والخاصة، والتي اضطرت إلى تعديل خططها العائلية والسفر ذهابا وإيابا بسبب هذا الجدول المجزأ.
اللافت أنَّ القرار لم يأتِ بناءً على دراسات أو مشاورات مجتمعية، رغم أن الدراسات الأكاديمية تؤكد أن السياسات العامة الناجحة هي تلك التي تُبنى بالتناغم مع القيم والعادات المجتمعية. وهو ما طرحه Hofstede في نظريته الثقافية (2010)؛ حيث أشار إلى أن المجتمعات ذات التماسك العالي (مثل مجتمعنا العُماني) تتفاعل بقوة مع أي سياسات تتعارض مع بنيتها الثقافية فقد رأينا حراكا انتقاديا في عدد من قنوات التواصل المجتمعي والتي تعد اليوم منصات تقيس مدى رضا المجتمع من عدمه على مثل هذه القرارات التي تمس تماسكه وعرفه الديني والثقافي.
لهذا نقول ولسان حالنا يُردد: إن النجاح في التعليم لا يُقاس بعدد أيام الدراسة أو انتظام الامتحانات، وإنما بمدى احترام النظام التعليمي لمناسك المجتمع الدينية، ولنفسية الطالب، وسياق مجتمعه، وثقافته المتجذّرة. وعندما يُفصل الطالب عن محيطه العائلي في لحظة اجتماعية ودينية شديدة الخصوصية، فإنَّ أثر ذلك ينعكس مباشرة على أدائه وتفاعله الدراسي والأكاديمي.
لذلك، فإنَّ لحظات مثل الأعياد لا ينبغي أن تُعامل كفجوات زمنية في التقويم الرسمي، بل كمساحات حيوية تُعيد تشكيل الروح الجمعية للمجتمع. فالأعياد في ثقافة كالثقافة العُمانية تؤدي وظيفة اجتماعية تتجاوز الاحتفال، فهي ترمم العلاقات، وتُعيد بناء الثقة العائلية، وتمنح الأفراد شعورًا بالانتماء والاستمرارية.
إنَّ تجاهل هذه الوظيفة وتحجيمها من خلال قرارات إدارية صارمة، يُفضي إلى تجزئة الزمن الاجتماعي، وتحويل ما يفترض أن يكون لحظة تواصل إلى مساحة توتر وتشتت. ومن هنا، تأتي الدعوة إلى إعادة التفكير في السياسات العامة، ليس من منظور تنظيمي فقط، وإنما من منطلق اجتماعي وإنساني يحترم إيقاع الحياة الدينية والثقافية، ويعيد للمناسبات المجتمعية دورها في بناء التماسك الوطني.
** باحث دكتوراه في الفلسفة الإدارية والقيادية