صراحة نيوز-محمود الدباس

قبل أن نخوض في هذا الحديث.. لا بد من توضيحٍ لا يحتمل التأجيل.. إن المقصود هنا.. ليس تلك الجماعات التي انحرفت عن جادة الفكرة.. ولا التي حملت السلاح باسم الدين.. لتُبرر الدم والدمار.. بل الحديث عن الحركات والتنظيمات الإسلامية.. التي وُلدت من رحم النقاء والإخلاص.. وسعت إلى إصلاح الواقع بمنطق الدعوة.

. لا الفوضى.. لكنها حين دخلت ميدان السياسة.. تعثّرت بين الطهر والدهاء..

فما بين المنبر والواقع.. ضاعت لغة التوازن.. صارت الكلمة تلهث خلف النية.. وصار النقاء بلا حيلةٍ.. هدفاً يُذبح على عتبات السياسة.. فكم من مخلصٍ خسر ميدانه.. لأنه ظن أن الصدق وحده يكفي.. وكم من واعظٍ ظن أن الحق يُنتصر له بالبلاغة.. لا بالحنكة.. حتى تحولت ميادين السياسة إلى مسارحٍ بلا حكماء.. والمنابر إلى قلاعٍ بلا بوصلة.. فلا الدين حفظ مكانته في الدنيا.. ولا الدنيا فهمت لُغته في الدين..

فمنذ أن قررت الحركات الإسلامية بمختلف أطيافها.. أن تُغادر منابر الدعوة إلى ميدان الدولة.. وُلد سؤالٌ كبير ما زال يتردد حتى اليوم.. لماذا تفشل التنظيمات الأيديولوجية في ميدانٍ.. تظن أنها تملك فيه الحق والمنهج؟!.. والجواب لا يكمن في العقيدة.. ولا في الإخلاص.. بل في الفجوة بين منطقة الوعظ.. التي تنتمي إلى عالم النقاء الروحي.. ومنطقة الفهم.. التي تنتمي إلى عالم البراغماتية السياسية.. حيث لا ينتصر صاحب النية الطيبة.. بل مَن يُحسن قراءة الخرائط.. قبل أن تُرسم له..

وحين دخلت القوى الأيديولوجية إلى الميدان السياسي.. حملت معها نقاء الدعوة.. وحماسة الإيمان.. لكنها رفضت أن تتلطخ بالطين.. الذي لا مفر منه في عالم المصالح.. أرادت أن تبقى ناصعة في معتركٍ.. لا يعرف البياض الكامل.. فكان أن خسرت النقاء والقدرة معاً.. لأنها ظنت أن الدفاع عن الطهر.. لا يكون إلا بالعزلة.. وأن المساومة خيانة.. بينما هي في بعض المواضع.. فن الحفاظ على الفكرة من الاحتراق..

إن مَن يدخل السياسة بثوبٍ أبيضٍ.. ثم يغضب إن تلطخ.. يشبه مَن يزرع في أرضٍ موحلةٍ.. ويرفض أن يمد يده بالطين.. فلا الزرع نجا.. ولا الثوب بَقِي.. تلك هي المعضلة التي لم تُدركها التنظيمات الإسلامية.. سواء كانت سلمية في كنف الأنظمة.. أم مقاومة في ميادين المواجهة.. كلاهما خسر حين تعامل مع السياسة كمنبرٍ للدعوة.. لا كمساحةٍ للصراع المعقد بين المصالح والمبادئ..

فالحركات الإسلامية السلمية التي نشأت داخل الدول.. حاولت أن تُقدم نفسها بديلاً.. لا مكملاً.. فتعاملت بعقلية الإحلال.. لا التعاون.. وظنت أنها حين تمتلك الصواب الشرعي.. تمتلك تلقائياً حق القيادة السياسية.. فاستفزت الأنظمة دون أن تُدرك طبائعها.. واصطدمت بالمؤسسات دون أن تفهم لغتها.. حتى صارت تُرى كتهديدٍ وجوديٍ.. لا شريكٍ إصلاحي.. فحوصرت.. ثم حُيدت.. لأنها لم تتقن لغة التماهي المرحلي.. ولا فن بناء الثقة بالتدرج..

لقد فاتها أن النظام السياسي ليس ميدان فتوى.. بل حقل توازناتٍ دقيقةٍ.. تحكمها المصالح لا النوايا.. وأن الدولة لا تتعامل مع المبدأ المجرد.. بل مع ما ينعكس منه على أمنها واستقرارها.. ومَن لم يُدرك ذلك.. دخل المواجهة بنيةٍ طاهرةٍ.. لكنه خرج منها بلا أدوات.. ولم تخسر التنظيمات الأيديولوجية لأنها كانت قليلة الإيمان.. بل لأنها كانت ضعيفة الفهم.. فجهل الخصم.. لا يغفره نقاء النية.. وعدم قراءة موازين القوى.. لا تُعوضه حرارة الدعاء..

لقد جلست هذه التنظيمات على موائد التفاوض بقلوبٍ مثقلةٍ بالإخلاص.. لكنها خاليةٌ من أدوات المناورة.. فكانت تتحدث بلغة الحق.. أمام مَن يتحدث بلغة المصالح.. وشتان بين مَن يرى النصر في العدل.. ومَن يراه في التوقيت.. فالسياسة لا تكرّم الأنقياء.. بل تحترم الأذكياء الذين يُخفون سيوفهم في أغماد الحكمة.. والذين يُجيدون الصمت في اللحظة التي يُنتظر منهم الانفعال.. فالكلمة في السياسة سلاحٌ قاتل.. ومَن لم يعرف متى يُشهرها.. قُتل بها..

والخروج من منطقة الوعظ إلى منطقة الفهم.. لا يعني بيع المبادئ.. بل إعادة صياغتها في لغةٍ يفهمها الواقع.. فليس الصدق أن تُعلن كل ما تؤمن به.. بل أن تُبقي نيتك صادقةً.. وإن أخفيت تفاصيلها عن خصمٍ يتربص بك.. والمكر حين يكون لحماية الحق ليس خديعة.. بل ذكاءً مشروعاً.. والغموض أحياناً هو حصن النقاء.. لا نقيضه..

ولكي يخرج السياسي الأيديولوجي من دائرة الوعظ.. إلى فضاء الفهم.. عليه أن يتسلح بالعقل البارد.. الذي يضبط حرارة الإيمان.. حتى لا تُحرق الخطط قبل أن تثمر.. وأن يعرف خصمه معرفةً دقيقة.. لأن مَن يجهل عدوه.. يصبح أداته دون أن يدري.. وأن يُتقن الغموض النظيف.. وهو برأيي القدرة على إخفاء الخطط.. دون تلوث النية على قول ما يخدم الموقف.. لا ما يُرضي الجمهور..

لقد أُنهكت التنظيمات الجهادية والمقاومة.. لأنها لم تُحسن الوقوف عند الحد المقبول في المواجهة.. ولم تتقن فن الانسحاب.. حين كان الانسحاب أشرف من المكابرة.. ثم جلست على موائد التفاوض.. دون أنيابٍ حادةٍ.. ولا قراءةٍ واعيةٍ لمآلات الاتفاقات التي وُقّعت باسم النصر.. بينما كانت إعلان هدنةٍ دائمةٍ مع العجز..

وليس المقصود من هذا النقد جلد الذات.. بل إنقاذ الفكرة من براءةٍ قاتلةٍ.. جعلتها تتعامل مع السياسة كأخلاقٍ مجردةٍ.. لا كفنٍ للمناورة.. فالفهم السياسي ليس خصماً للإيمان.. بل خادماً له.. والعقيدة التي لا تُدرك مكر الواقع.. تُصبح عاجزةً عن صيانتها من الداخل.. والسياسي الذي لا يعرف كيف يُخفي سيفه في غمدٍ من الحكمة.. سيجد نفسه يوماً يقاتل بلسانه فقط.. واللسان لا يوقف زحف المكر مهما علا صدقه..

إن ما نحتاجه اليوم ليس تنظيماً أكثر.. بل وعياً أعمق.. لا مزيداً من الحماسة.. بل إدراكاً بأن الله لا ينصر النية دون خطة.. ولا يحمي المبدأ إن لم يُدار بدهاءٍ يحفظه.. فالدهاء في ميدان السياسة ليس خيانةً للفكرة.. بل درعها الأخير حين تسقط الأقنعة.. ويبدأ زمن الصراع الحقيقي.. بين مَن يفهم ومَن يعظ..

فالطهارة لا تُحفظ في القوارير.. بل أحياناً في الوحل.. حين يعرف صاحبها كيف يخرج منه أبيض كما دخل.. عندها فقط.. يصبح الفهم عبادة.. والسياسة طريقاً إلى الحق.. لا بديلاً عنه..

فحين نفهم أن الطهر لا يناقض الدهاء.. ندرك أن الدعوة والسياسة.. وجهان لمعركةٍ واحدة.. غايتها أن يبقى الحق قائماً.. لا أن يبقى الواعظ واقفاً على المنبر وحده..

 

المصدر: صراحة نيوز

كلمات دلالية: اخبار الاردن الوفيات أقلام مال وأعمال عربي ودولي منوعات الشباب والرياضة تعليم و جامعات في الصميم ثقافة وفنون نواب واعيان علوم و تكنولوجيا اخبار الاردن الوفيات أقلام مال وأعمال عربي ودولي نواب واعيان تعليم و جامعات منوعات الشباب والرياضة توظيف وفرص عمل ثقافة وفنون علوم و تكنولوجيا زين الأردن أقلام أقلام أقلام أقلام أقلام أقلام أقلام أقلام أقلام أقلام دون أن

إقرأ أيضاً:

هل أصبحت الأمومة الآن أصعب من زمان؟.. سؤال مثير للنقاش بـ"ست ستات" (الجمعة)

يطرح برنامج "ست ستات"، في حلقة يوم الجمعة المقبلة سؤالًا مثيرًا للنقاش وهو: "هل أصبحت الأمومة الآن أصعب من زمان؟"، ومن المقرر إذاعة الحلقة في تمام الساعة السادسة مساءً على شاشة DMC.

إيمان كريم تُشارك في الاجتماع الوزاري الخامس للجنة العليا الدائمة لحقوق الإنسان أسامة كمال: السيسي تمكن من إقناع زعماء 30 دولة بالاستراتيجية المصرية لحل الأزمة "بلا نهاية" ومعرض "شوك وصبار" ضمن فعاليات الأسبوع الثالث من مهرجان دي كاف القومي للإعاقة يشارك بورشة عمل "القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية" لدمج ذوي الإعاقة في العملية التعليمية القومي للإعاقة يهنئ الدولة المصرية بفوزها بعضوية مجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة أحمد نافع يُطرب الجمهور في أمسية موسيقية تُحيي التراث العربي ببيت الغناء.. غدا مسلسل لينك الحلقة 4.. قضية السرقة تتعقد بعد فحص تليفونات سكان العمارة وفاة الفنان سمير ربيع بطل مسلسل شيخ العرب همام انضمام الكاتبة الصحفية آمال عثمان للجنة العليا لمهرجان صدى الأهرامات المسلسل الإذاعي "عائلة مرزوق" يعود في ثوبه الجديد ليُضيء بريق دراما الزمن الجمل هل أصبحت الأمومة الآن أصعب من زمان؟

وتتناول الحلقة تحديات الأمهات في العصر الحديث مقارنة بالماضي، من حيث ضغوط الحياة اليومية، والتوازن بين العمل والمنزل، وتأثير التكنولوجيا ومواقع التواصل الاجتماعي على التربية والعلاقات الأسرية.

ويشارك في الحلقة مجموعة من الضيوف والخبراء في التربية وعلم النفس، إلى جانب تجارب حية لأمهات من واقع الحياة، فى نقاش مفتوح يهدف إلى تسليط الضوء على دور الأم المعاصرة وصعوبات الأمومة الحديثة.

 

برنامج ست ستات

برنامج "ست ستات" يُعد من أبرز البرامج الاجتماعية على شاشة DMC، حيث يناقش قضايا المرأة والأسرة المصرية بأسلوب واقعي يجمع بين الجدية والمرح.

مقالات مشابهة

  • هل أصبحت الأمومة الآن أصعب من زمان؟.. سؤال مثير للنقاش بـ"ست ستات" (الجمعة)
  • ترامب: أمريكا أصبحت أغنى دولة بالعالم بفضل الرسوم الجمركية
  • محافظ أسوان: مكتبات مصر العامة أصبحت منصات للتنوير وبناء الوعي في الجمهورية الجديدة
  • انطلاق مبادرة «بداية جديدة لبناء الإنسان ومجتمعنا أمانة» بجامعة القناة
  • بوصلة للسلام وإنهاء الحرب.. ماذا قال القادة المشاركون في قمة شرم الشيخ للسلام عن مصر
  • زعماء قمة شرم الشيخ: القاهرة بوصلة السلام
  • ريهام العادلي تكتب: حكمة الرئيس السيسي واستعادة الدور التاريخي للدولة المصرية
  • بوصلة الأمة بعد الإبادة في غزة.. تحديد المصير أو مواجهة الحقيقة
  • اعرف طريقك.. تكدس حركة السيارات على أغلب شوارع وميادين القاهرة والجيزة