التنقل عبر الحواجز مأساة يومية في حياة فلسطينيي الضفة
تاريخ النشر: 14th, September 2024 GMT
نابلس- يتصفح محمد رضوان، يوميا وقبل مغادرة منزله متوجها إلى عمله، المواقع الإخبارية وصفحات التواصل، خاصة تلك المتعلقة بأحوال الطرق والحواجز العسكرية الإسرائيلية، كما يجري اتصالات عديدة ليعرف آخر أخبارها وأيّها "سالك" ويسمح بمرور المواطنين الفلسطينيين.
يقطن رضوان في قرية بيت دجن شرقي مدينة نابلس، وليصل مكان عمله في بلدة قصرة جنوبا، عليه أن يجتاز 3 حواجز عسكرية ثابتة على الأقل، هي حاجز "بيت فوريك-بيت دجن"، وحاجز "عورتا أو المربعة"، وحاجز "زعترة".
وإن ساء حظه يواجه بحواجز "طيَّارة" (أي مفاجئة، وتسمى متنقلة أيضا)، فضلا عن بوابتين عسكريتين يغلق بهما الاحتلال مداخل قرية قصرة، حيث يمر رضوان والمواطنون من هناك.
بحجة فرض الأمن، تنتهج إسرائيل عقابا جماعيا ضد الفلسطينيين بالضفة الغربية عبر نصب أكثر من 800 حاجز عسكري ثابت (لا تشمل الحواجز المفاجئة)، وهي متعددة الشكل والنوع بين السواتر الحجرية والترابية، إضافة لنحو 150 بوابة حديدية عسكرية تغلق تجمعات سكنية وتحبسهم خلفها وتشل حركتهم.
ويتداول الفلسطينيون -لا سيما المتنقلون عبر الطرق الخارجية- يوميا قائمة بأسماء عشرات الحواجز الإسرائيلية، والمغلقُ منها يشار إليه بالعلامة الحمراء، وتعني الخضراء أن الحاجز "سالك" أي مفتوح.
ولذا يهيئ رضوان (45 عاما) نفسه يوميا لساعات حافلة بالمعاناة والانتظار عند تلك الحواجز أو لزيادة مسافة الطريق الذي تضاعف مرتين بفعل إجراءات الاحتلال وتضييقاته العسكرية، ويتحين الفرصة بعد اتصالات مكثفة ليعرف أي حاجز يسمح بالدخول دون تأخير.
ينطلق رضوان باكرا وينسق مع زملائه للتجمع بمدينة نابلس ثم يستقلون سيارة واحدة، تفاديا لازدحام وأزمة الحواجز، وتجنبا لاحتجازه والتنكيل به كما يفعل الجنود عادة حين يكون وحده.
واصفا معاناته اليومية، يقول للجزيرة نت "أتنقل منذ 24 عاما عبر الحواجز، لكن في السنوات الثلاث الأخيرة وأكثر بعد حرب غزة تضاعفت المعاناة وتحولت الحواجز لسجون ولوسائل للتنكيل بالمواطنين وقهرهم والانتقام منهم".
احتُجز رضوان مرات عدة وتعرض للتنكيل عند حاجز بيت فوريك "سيئ السمعة تحديدا"، حسب وصفه، وأوقفه الجنود ذات مرة وقيدوه وعصبوا عينيه واحتجز هكذا لمدة 6 ساعات متواصلة، ومرة ثانية أطلقوا النار على إطارات سيارته، وحطموا هاتفه الخلوي في اعتداء ثالث.
وكما هي حال مئات الآلاف في الضفة، حدَّت إجراءات الاحتلال من تنقل رضوان خارج قريته بعد العودة من عمله، إلا للضرورة القصوى، وهو الذي كان -حتى وقت قريب- يجوب مدن شمال الضفة وقراها دائما.
وبإغلاق حاجز "بيت فوريك-بيت دجن" يحبس الاحتلال خلفه 23 ألف نسمة، ويحوّل البلدتين لسجن كبير، فلا منفذ ولا ممر منهما وإليهما غيره.
وتكمن خطورة الحواجز العسكرية اليوم بسيطرتها الكاملة على المناطق، حيث يغلق الاحتلال كل الطرق الالتفافية والفرعية بين المدن والقرى ليجبر الفلسطينيين على المرور عبر حواجزه فقط، ويحولها بذلك إلى كمائن يتصيد الجنود الإسرائيليون عندها المواطنين بالاعتقال أو القتل.
وحول نابلس كبرى مدن شمال الضفة، ينصب الاحتلال الإسرائيلي 10 حواجز عسكرية ثابتة وأخرى متحركة وما لا يقل عن 20 بوابة يعزل ويغلق بها عشرات القرى في المحافظة.
ومثل رضوان يتنقل جميل أبو سعود (48 عاما) -وبحكم عمله في منطقتي رام الله وجنين– عبر ما لا يقل عن 6 حواجز ثابتة وأخرى مفاجئة.
وينطلق من منزله في نابلس بعد الفجر بقليل ليصل مكان عمله بالوقت المحدد وليتفادى تلك الأزمة، فإن توجه جنوبا نحو رام الله يتوجب عليه قطع 4 حواجز عسكرية على الأقل، وإن سار شمالا نحو جنين عليه اجتياز حاجزين على الأقل.
ومن محافظة طوباس، ينحدر أبو سعود وانتقل للعيش في نابلس ليتلافى شيئا من المعاناة اليومية، لكنه وجد نفسه حبيس تلك الحواجز التي حدت أيضا من تواصله مع أقربائه وعائلته الذين يقطنون في قرى خارج المدينة.
ويزداد خوفه عبر تنقله اليومي ذهابا وإيابا كلما اقترب من مستوطنة أو موقع عسكري، فالمستوطنون ينصبون كمائن ويتصيدون الفلسطينيين المارين بإطلاق النار عليهم أو رشقهم بالحجارة أو احتجازهم في أحيان كثيرة، خاصة إذا تزامن ذلك مع استنفارهم نتيجة لحدث أمني.
ويقول أبو سعود إنه يعيش الرعب يوميا منذ خروجه من منزله وحتى عودته، ويظل على اتصال بمواقع الأخبار والسائقين ليعرف آخر أحوال الحواجز والطرق وخلوها من المستوطنين. ويضيف "اضطررت تحت ضغط كل الظروف للنوم في رام الله، بعيدا عن زوجتي وأطفالي الذين أستودعهم الله يوميا".
وخلال تنقله، يحرص على التوثيق بكاميرا الهاتف الشخصي وقائع ما يحدث معه في حال مهاجمته من مستوطنين أو جنود الاحتلال.
أما ساهر عبيد، الموظف في السلطة الفلسطينية، فكان حتى وقت قريب أوفر حظا من غيره، إذ يغادر منزله في مدينة طولكرم شمال الضفة متوجها إلى رام الله بمركبته الخاصة، سالكا "طريق جبارة" جنوب طولكرم، حيث لا حواجز عسكرية ثابتة في طريقه سوى تلك المحيطة برام الله.
لكن فرحته لم تدم طويلا، فمنذ أسبوعين أغلق الاحتلال تلك الطريق ببوابة عسكرية، وأصبح عبيد يتنقل عبر مركبتين، إحداهما تقله إلى البوابة، ومن هناك يسير ماشيا إلى الثانية لتوصله إلى رام الله.
ويسوء حظ عبيد أكثر إن أُغلقت تلك الطريق بالكامل، فيجب عليه حينها الذهاب نحو شمال طولكرم ليمر عبر عدة قرى وصولا لشارع نابلس- جنين الرئيسي، ومنه إلى رام الله جنوبا، قاطعا حواجز "شافي شمرون" و"ديرشرف" غرب نابلس و"عين سينيا" شمال رام الله، على الأقل.
يقول عبيد للجزيرة نت "لنا قصص معاناة مع كل تلك الحواجز، والطريق التي كانت تستغرق ساعة وبضع دقائق، تحتاج الآن 3 ساعات في أحسن أحوالها".
وحسب آخر إحصائيات هيئة مقاومة الجدار والاستيطان، تنصب إسرائيل 872 حاجزا وبوابة عسكرية بالضفة الغربية، 145 بوابة تم وضعها بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وكلها بغرض "تمزيق وعزل المناطق والرقابة العسكرية والسيطرة أكثر منها لحفظ أمن الاحتلال".
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حراك الجامعات حريات حواجز عسکریة شمال الضفة على الأقل رام الله
إقرأ أيضاً:
مخيمات شمال الضفة.. من محطة انتظار إلى حلم بالعودة
جنين- "والدتي نسيت طفلتها الرضيعة في مغارة على الطريق بين جنين وطولكرم بعد تهجيرها من قرية المنسي بقضاء حيفا عام 1948″، بهذه الحادثة الصعبة بدأت نهاية الجندي (53 عاما) حديثها عن ذكريات عائلتها مع النكبة.
هُجّرت عائلة الجندي من قريتها إلى منطقة جنزور في جنين، قطعت الطريق مشيا على الأقدام وهناك مكثت بضعة أشهر حتى جاء الشتاء وكان قاسيا، حمل معه الثلوج واضطر الناس إلى النزوح مرة أخرى، فخرجت الأسرة إلى طولكرم وقضت أياما في العراء، وفي الطريق لجأت إلى مغارة، وحين أكملت طريقها كانت الأم قد نسيت طفلتها الرضيعة.
ولم تتذكرها إلا عند وصولها مخيم نور شمس في طولكرم حيث كانت محطة اللاجئين القادمين من جنزور. مر يوم كامل قبل أن يجد الناس الرضيعة ويحملونها إلى أمها.
"كان النمل يغطي جسدها الصغير، تقول والدتي ولم تكن وحدها، فكثير من الناس تركوا خلفهم أموالا ومصاغا ذهبيا وأشياء أخرى ثمينة، فالطريق طويل جدا والناس قطعته مشيا" كما تقول الجندي للجزيرة نت.
يتذكر أهالي المخيمات في شمال الضفة الغربية أحداث النكبة، ويشعر من عايشها منهم أو سمع بتفاصيلها أن المشاهد تتكرر بعد 77 عاما. ويرون أن التكرار شمل المصطلح بشكل دقيق، لكنه اختلف عنها في 48 من حيث الوجع والقهر وقسوة الظرف.
تقول الجندي "نعم ما حدث الآن في المخيمات هو نكبة جديدة، لكنها أشد قسوة. فعلى الرغم من صعوبة ما حدث من تهجير وقتل سابقا، فإن ما نعيشه اليوم في المخيم هو نمط جديد للاحتلال لم يطبق لا في 48 ولا في كل مراحل الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، لأنه يقوم على تهجير الناس وهدم بنايات وعمارات كاملة ثم عدم السماح لهم بالبناء من جديد".
نزحت نهاية من منزلها في مخيم نور شمس في اليوم الثالث للعملية العسكرية الإسرائيلية فيه، بعد محاصرتها بداخله مع ابنتها البالغة 14عاما مدة 72 ساعة، بينما نزحت والدتها (100عام) من منزلها على الشارع الرئيسي للمخيم إلى منزل بناتها في منطقة جبلية. وبعد إبلاغ جيش الاحتلال بضرورة إخلاء المنزل، هجّرت بمساعدة سيارة إسعاف إلى ضاحية إكتابا في مدينة طولكرم، وتقول إن والدتها تردد دائما "أنا شخص كُتب له التهجير طوال حياته".
إعلانوهجّر الاحتلال 13 ألف شخص من مخيم نور شمس شرق طولكرم، هم لاجئون أصلا، كانت إسرائيل قد طردتهم من قراهم ومدنهم في حيفا ويافا وعكا وغيرها. ويرى الأهالي أن خطة الاحتلال هي إرجاع المخيمات إلى حالتها عام 1948 بتغيير معالمها وهدم المنازل لإحداث مساحات فارغة في عمقها.
وتضيف الجندي أن "نور شمس مبني بطريقة حالت دون دخول قوات الاحتلال إلى حاراته وأحيائه وهو ما لا تريده إسرائيل. واللافت أن الخرائط التي وُزعت من قبل جيش الاحتلال للمنازل التي ستهدم في المخيم تشبه تلك الموجودة لدى وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) في السنوات الأولى لبنائه، وذلك يعني أن إسرائيل تريد أن تعيده لحالته الأولى عام 1953″.
مستقبل مجهولفي "حرش السعادة" بالقرب من بلدة برقين الذي نزح إليه جميل سلامة من مخيم جنين، يتذكر حديث والده عن تهجيرهم من قرية أم الزيات بقضاء حيفا بعد هجوم "العصابات الصهيونية" وقتل عمه قاسم سلامة، ويقول إن ما رواه والده يشبه إلى حد كبير ما يحدث اليوم في جنين، لكن المشهد اليوم أكثر صعوبة لأن حياة الناس توقفت ومستقبلهم مجهول.
ويرى سلامة أن العودة إلى المخيم أصبحت حلما، وأن حياة المخيم صارت ذكرى بكل تفاصيلها. ويقول إن "العالم كله مستمر بحياته وأهل المخيمات انتهت حياتهم، حتى إن انسحب الجيش منه كيف ستتم إعادة إعماره؟ حياتنا تغيرت ونعيش ظروفا قاسية جدا، لا يوجد أمان ولا مسكن مع ظروف اقتصادية سيئة للغاية".
يعتبر أهالي المخيم أن بعض المفاهيم قد تكون تأثرت بعد هدم الاحتلال للمخيمات، فمفهوم العودة أصبح مرتبطا بخروج الاحتلال منها وعودة النازحين إليها، ومفهوم اللاجئ استُبدل بنازح، والأجيال الجديدة ستكبر على فكرة التهجير في داخل الضفة وليس من أراضي الـ48.
وبحسب عبد الرحمن الزبيدي، فإن ما يعيشونه اليوم هو النكبة ذاتها، وهو أكبر وأقسى النكبات التي مرت بالشعب الفلسطيني. ويتحدث للجزيرة نت عن إحساس أهالي المخيم بعد 4 أشهر من تهجيرهم ونزوحهم وتشتتهم في بلدات جنين وقراها.
وقال "عمري 51 سنة، سمعت كثيرا عما حدث في سنة 48 وبعدها، وقرأت كثيرا عن صراعنا الفلسطيني مع الاحتلال، كل ما أراه اليوم يحدث في مخيم جنين يعطيني وميضا في عقلي لما سمعت عنه، ومباشرة يتحول إلى صور سوداء تتجسد أمامي على أرض الواقع وأعيشه أنا والعائلة التي لجأت من قيساريا إلى جنين. ليس فقط عذاب الهجرة، لكن كل التفاصيل التي حدثت معهم سواء بالفرح أو الحزن".
إعلان نكبة جديدةويتابع الزبيدي "نعم عادت النكبة بكل تفاصيلها، نحن عايشنا كل ما حدثني عنه والدي، وهذا يؤكد أن كل تفصيل مر به أهلنا وأجدادنا كان صادقا وحقيقيا، الفكرة أننا عايشنا هذه المرحلة نحن وأطفالنا الذين سيذكرونها لـ50 سنة لاحقة".
ووفقا له، فإنه وكل أهالي المخيم يؤمنون بأن المنزل هو وطن صغير والكل متعلق به، و"لكن الاحتلال هدم هذا الوطن". ويقول "أصعب أنواع القهر والظلم هو ممارسة التهجير ضد أي انسان، لا أحد يمتلك الحق بطرد أي شخص من أرضه وبيته، نحن خلقنا في أراضينا في 48، وسنعود إليها حتى ولو بعد سنين طويلة".
نزح الزبيدي من منزله منذ بداية العملية العسكرية الإسرائيلية في المخيم، وسكن في بلدة الزبابدة بداية ثم انتقل إلى منطقة واد برقين، لكن لم يستطع الابتعاد عن بيته وكان ينتظر يوميا أن تشرق الشمس للذهاب لأقرب منطقة مطلة عليه ويقضي وقتا طويلا وهو يراقبه، كما يؤكد.
ويعتبر أهالي مخيم جنين أنه محطة انتظارهم لحين العودة إلى الناصرة وقيساريا ويافا والمنسي وزرعين، وهو النقطة الأقرب لهذه المناطق، ومنه كان باستطاعتهم النظر إليها. اليوم أصبح المخيم منطقة عسكرية إسرائيلية مغلقة يُمنع الدخول إليها أو الاقتراب منها، وصار حلما لكل اللاجئين للعودة إليه وإعادة بنائه مرة أخرى.
يوضح الزبيدي أن "لاجئي المخيم سكنوا جنزور قرب بلدة قباطية عام 1948، لكن جنزور لا يطل على قراهم التي هُجروا منها لذا بنوا خيامهم في مخيم جنين وصار محطة انتظارهم لحين العودة. اكتشفتُ بعد بلوغي 50 من العمر أن مجرد قدرتي على رؤية البلاد من المخيم هي جزء من احتياجاتي كصاحب لها، وهذا رأي كل الأهالي، فإن لم نستطع الوصول إلى البلاد، على الأقل يصل نظرنا إليها".
ويختم " كل حياتنا انتظار، ما دام الاحتلال مستمرا فنحن ننتظر العودة، ليس فقط للبيت والأرض، لكن للحياة الطبيعية التي حُرمنا منها كبقية شعوب العالم".
إعلان