كيف يمكن للعلم أن يسهم في إبطاء شيخوخة الدماغ ؟
تاريخ النشر: 18th, September 2024 GMT
قرأت مقالا بعنوان «Cleaning up the aging brain: Scientists restore brain›s trash disposal system» -الذي يمكن ترجمته إلى «تنظيف الدماغ المتقدم في العمر: العلماء يستعيدون نظام التخلص من النفايات في الدماغ» - نشره موقع «Sciencedaily» في 15/8/2024. تناول المقال دراسة رائدة نجح فيها العلماء في استعادة عملية التخلص من النفايات في أدمغة الفئران المسنة؛ ليفتح نافذة العلم وأبوابها أمام علاجات جديدة لأمراض تصيب الدماغ مثل الزهايمر وباركنسون «مرض الرعاش»، وتطرق المقال إلى إمكانية استعمال دواء معتمد لأغراض أخرى؛ فيتمكن العلم من إعادة إحياء وظيفة نظام التخلص ما أسمته الدراسة بـ«النفايات في الدماغ»، وهذا ما يمكن أن يساعد في منع -أو إبطاء- التدهور الإدراكي -المعرفي- المرتبط بتقدم العمر.
ألهمني المقال الذي أشرت إليه في مقدمة حديثي شغف البحث فيما يتعلق بالدماغ ومشكلاته الصحية وحلولها العلمية؛ إذ سبق أن تحدثت عن ترابطات بين نظام الدماغ الرقمي الخاص بالذكاء الاصطناعي والدماغ البشري، وهذا ما شجّع في خوض تجربة البحث في هذا الحقل العلمي الشيّق؛ إذ وجدت تسابق الدراسات العلمية في عرض حلول العلم في مواجهة مشكلة انحسار الدماغ وشيخوخته المرتبطة بتقدم الإنسان في العمر وضعف خلاياه بما فيها الخلايا العصبية التي يعتمد الدماغ عليها في عملياته التفكيرية والتحليلية. وفق منطق العلم وأبجدياته يمكن اعتبار الشيخوخة بأنها عملية طبيعية تؤثر على كل جزء من جسم الإنسان، بما في ذلك الدماغ، ومع تقدمنا في العمر، تتدهور الوظائف الإدراكية مثل الذاكرة والانتباه وسرعة المعالجة الموجودة في الدماغ؛ فيؤدي إلى حالات مثل مرض الزهايمر وأشكال أخرى من الخرف، ومع ذلك، تشير التطورات الحديثة في علم الأعصاب والمجالات ذات الصلة إلى أنه من الممكن إبطاء شيخوخة الدماغ والحفاظ على الحيوية الإدراكية بما فيها مرحلة الشيخوخة. نستكشف عبر هذا المقال الطرق المختلفة التي تسهم بها الأبحاث العلمية في تحقيق هذا الهدف، مدعومة بالدراسات والأدلة المنشورة من قبل بعض الباحثين.
فهم شيخوخة الدماغ
يخضع الدماغ المتقدم في العمر لعدة تغييرات هيكلية ووظيفية، بما في ذلك انكماش حجم الدماغ، وخاصة في القشرة الجبهية «Prefrontal Cortex» والحُصين «Hippocampus»، ويعتبر هذان الجزءان من الدماغ أساسين في الوظائف الإدراكية مثل اتخاذ القرارات والذاكرة والتعلّم. بالإضافة إلى ذلك، تقل قدرة الدماغ على إصلاح نفسه مع التقدم في العمر؛ فيؤدي إلى تلف الخلايا العصبية بصورة تراكمية بمرور الوقت، وتتفاقم هذه المشكلة بتراكم البروتينات العصبية السامة مثل الأميلويد بيتا «amyloid-beta» والتاو «tau» التي ترتبط بمرض الزهايمر حسب ما نشره عدد من الباحثين عام 2013م في «The Lancet Neurology» في ورقة علمية بعنوان «Tracking pathophysiological processes in Alzheimer’s diseases: an updated hypothetical model of dynamic biomarkers» الذي يمكن ترجمته بـ«تتبع العمليات الفيزيولوجية المرضية في مرض الزهايمر: نموذج افتراضي محدث للعلامات البيولوجية الديناميكية».
دور اللدونة العصبية “Neuroplasticity”
أبرز الاكتشافات الرئيسة في علم الأعصاب منذ العقود القليلة الماضية هو مصطلح «اللدونة العصبية» الذي يشير إلى قدرة الدماغ على إعادة تنظيم نفسه عبر تكوين اتصالات عصبية جديدة طوال فترة الحياة، وتسهم اللدونة العصبية في الحفاظ على الوظائف الإدراكية مع التقدم في العمر. أظهرت دراسة نشرها باحثان «Valenzuela & Sachdev» في عام 2006م في مجلة «Psychological Medicine» أن الانخراط في أنشطة محفزة فكريًا مثل تعلم مهارات أو لغات جديدة يمكن أن تعزز اللدونة العصبية ويؤخر مظاهر التدهور الدماغي؛ فعلى سبيل المثال، وجدت دراسة أن البالغين الأكبر سنًا الذين شاركوا بانتظام في ممارسات عقلية تتسم بالتحدي مثل الألغاز ومهام حل المشكلات كان لديهم وظيفة إدراكية وصحة دماغية أفضل مقارنةً بأولئك الذين لم ينخرطوا في مثل هذه الممارسات العقلية، ونُشرت هذه الدراسة عام 2021م في مجلة «National Library of Medicine».
علاقة النظام الغذائي بصحة الدماغ
يعتبر النظام الغذائي عاملا مهما في الحفاظ على صحة الدماغ وإبطاء الشيخوخة والوظائف الإدراكية، ويعتبر النظام الغذائي المكتمل مرتبط بسلامة الدماغ؛ حيث ينبغي أن يكون هذا النظام الغذائي غنيا بالفواكه والخضروات والحبوب الكاملة والدهون الصحية؛ فخرجت العديد من الدراسات على نطاق واسع تبحث في هذا الصنف الغذائي التي أكدت قدراته الواقية للخلايا العصبية في الدماغ. وجدت دراسة نُشرت في مجلة «Arch Neurol»عام 2006م أن الالتزام بمثل هذا النظام الغذائي مرتبط بانخفاض خطر الإصابة بمرض الزهايمر وبطء التدهور الإدراكي لدى البالغين الأكبر سنًا، ويمكن لهذا النظام الغذائي دعم الدماغ بمضادات الأكسدة مثل الفلافونويدات والأحماض الدهنية أوميغا-3؛ فيساعد في حماية الدماغ من الإجهاد التأكسدي والالتهاب اللذين يعتبران من المسببات الرئيسة لسرعة ظهور الشيخوخة والتنكس العصبي.
التمرين البدني وعلاقته بالوظائف الإدراكية
ثمّة علاقة إيجابية بين التمرين البدني المنتظم وصحة الدماغ؛ فمثلا يرتبط التمرين الهوائي -على وجه الخصوص- بتحسين الوظائف الإدراكية وزيادة حجم الدماغ لدى البالغين الأكبر سنًا؛ حيث أوضحت دراسة بارزة نشرها في عام 2011م مجموعة من الباحثين في مجلة Proceedings of the National Academy of Sciences of the United States of America»
إن التمرين الهوائي المنتظم مثل المشي يمكن أن يزيد من حجم الحُصين في الدماغ؛ فيساهم في تحسين قدرات الذاكرة والوظيفة الإدراكية في الدماغ، بالإضافة إلى ذلك يساعد هذا النوع من التمرين إطلاق عامل التغذية العصبية المشتق من الدماغ «BDNF» وهو بروتين يدعم نمو الخلايا العصبية ويطيل بقاءها، ويعزز اللدونة المشبكية وفقَ ما أشارت إليه دراسة نُشرت في «Trends in Neurosciences» عام 2011م، وتشير هذه النتائج إلى أن النشاط البدني المنتظم هو أداة قوية لإبطاء شيخوخة الدماغ والحفاظ على القدرات التفكيرية.
النوم وشيخوخة الدماغ
بشكل لا يقبل النقاش يعد النوم ضروريًا لصحة الدماغ إلا أن اضطرابات النوم شائعة مع تقدم الناس في العمر، ولهذا رُبطت بعض الحالات المرتبطة بجودة النوم واضطراباته مثل انقطاع النفس النومي «Sleep Apnea» بزيادة خطر تدهور وظائف الدماغ الإدراكية والذاكرة؛ فيسهم النوم في قدرة الدماغ على إزالة النفايات السامة العصبية، مثل الأميلويد بيتا «amyloid-beta» التي تتراكم أثناء فترة اليقظة. أبرزت دراسة نُشرت في «Science» عام 2013م أهمية نظام الغليمفاوي «glymphatic system» في دوره بإزالة النفايات السامة في الدماغ، ويرتفع نشاط هذا النظام ومفعوله فترة ساعات النوم، ويسهم أيضا في منع تراكم البروتينات الضارة داخل الدماغ، وهذا ما يؤكد على أهمية الحصول على نوم كافٍ للحفاظ على صحة الدماغ وإبطاء عملية الشيخوخة الدماغية.
تأثير التفاعل الاجتماعي
كذلك يعد التفاعل الاجتماعي والحفاظ على علاقات اجتماعية قوية أحد العوامل المهمة التي تسهم في صحة الدماغ وإبطاء شيخوخته. أظهرت الأبحاث أن العزلة الاجتماعية والشعور بالوحدة يمكن أن تؤثر سلبًا على الصحة الدماغية لكبار السن نظرًا للاستعداد المسبق من الدماغ المتحفّز لعوامل الشيخوخة مثل ما أظهرته دراسة بعنوان «العلاقات الاجتماعية ومخاطر الوفاة: مراجعة تحليلية شاملة» « Social Relationships and Mortality Risk: A Meta-analytic Review» أجراها مجموعة من الباحثين عام 2010م -نُشرت في « Public Library of Science Medicine»- أن الأفراد الذين لديهم شبكات اجتماعية قوية كانوا أكثر قدرة بنسبة تصل إلى 50% للعيش لفترة أطول من أولئك الذين كانت علاقاتهم الاجتماعية أضعف، وعلاوة على ذلك، يحفّز التفاعل الاجتماعي العمليات الإدراكية، ويساعد على تقليل التوتر، ويمكن أن يسهم في توليد الخلايا العصبية الجديدة في دماغ الإنسان البالغ، ولهذا يمكن اعتبار الانتظام على النشاط الاجتماعي بمثابة استراتيجية رئيسة للحفاظ على الوظائف المنوطة بالدماغ خصوصا مع التقدم في العمر.
دور التدريب الإدراكي
ينطوي التدريب الإدراكي الذي يشار إليه عادة بـ«تدريب الدماغ» على أنشطة مصممة لتحسين مهارات إدراكية محددة مثل الذاكرة والانتباه وحل المشكلات، وثمّة أدلة كثيرة تثبت أن التدريب الإدراكي المستهدف يمكن أن يساعد في إبطاء التدهور الإدراكي لدى كبار السن؛ إذ وجدت دراسة -تعتمد على تجارب عشوائية على التدريب الإدراكي- نشرتها مجلة « Journal of the American Geriatrics Society» عام 2014م أن المشاركين الذين خضعوا للتدريب الإدراكي أظهروا تحسينات في الوظائف الإدراكية الدماغية استمرت حتى عشر سنوات بعد التدريب، و تشير هذه النتائج إلى أن التدريب الإدراكي يمكن أن يكون وسيلةً فعّالة لتعزيز مرونة الدماغ وتأخير بداية الضمور الإدراكي المرتبط بتقدم العمر.
التقنيات الحديثة وتفاعلها في صحة الدماغ
تفتح التقدمات التقنية الحديثة إمكانيات جديدة للحفاظ على صحة الدماغ وإبطاء الشيخوخة الإدراكية؛ فعلى سبيل المثال، يمكن لما يُعرف بالتغذية الراجعة العصبية «neurofeedback» -وهي نوع من التغذية الراجعة البيولوجية «biofeedback» التي تُستعمل في مراقبة النشاط الدماغي في الوقت الحقيقي- أن تحسّن الوظائف الإدراكية لدى كبار السن؛ حيث أشارت دراسة نُشرت في « International Journal of Psychophysiology»عام 2013م أن كبار السن الذين خضعوا لتدريب التغذية الراجعة العصبية أظهروا تحسينات في الذاكرة والانتباه، وكذلك استكشفت تقنيات التحفيز الدماغي غير الغازية مثل التحفيز المغناطيسي عبر الجمجمة الذي يُعرف علميا بـ « transcranial magnetic stimulation »، والتحفيز الكهربائي المباشر عبر الجمجمة «transcranial direct current stimulation» لتعمل بمثابة تدخلات محتملة لتعزيز الوظيفة الإدراكية وإبطاء شيخوخة الدماغ وفقَ ما جاء في بحث نشره باحثون عام 2015م في المجلة المحكّمة «cortex» التابعة لمجموعة «ScienceDirect».
التفاعلات الدوائية وتداخلاتها
في حين -كما رأينا في الفقرات السابقة- وجود التفاعل الإيجابي الذي يرتبط بعدة عوامل مع ديناميكية الدماغ وصحته التي تتعلق بأنماط الحياة مثل النظام الغذائي والتمارين والتدريب الإدراكي ودورها البارز في إبطاء شيخوخة الدماغ؛ فكذلك ثمّة أبحاث جارية تشير إلى تفاعلات خارجية أخرى تتعلق بالتدخلات الدوائية وتفاعلاتها مع الدماغ التي يمكن أيضا أن تساهم في حماية الدماغ من التدهور الإدراكي المرتبط بتقدم العمر والشيخوخة؛ فركزت بعض الدراسات على قدرات ما يُعرف ب «المواد الذكية أو المنشطات الذهنيّة «nootropics»، وهي مواد تعمل على تعزيز الوظائف الإدراكية للدماغ مثل تحسين أداء الذاكرة، والتركيز، والإبداع، وكذلك يمكن استعمالها في نطاق تعزيز الأداء الذهني للأفراد الأصحاء أو في علاج بعض الاضطرابات النفسية والعصبية، وفي هذا النوع من الأدوية، تشير الأبحاث إلى دواء «دونيبيزيل» «Donepezil» الذي يُستعمل بشكل شائع لعلاج مرض الزهايمر، ومع ذلك يمكن أن تمتد استعمالاته لتشمل تحسين الوظائف الإدراكية لدى كبار السن، وبشكل نسبي محدود يمكن أن نحصل على هذه المنشطات الذهنية بشكل طبيعي في القهوة مثلا كما تُشير إلى ذلك الكاتبة « Barbara Brody» في موقع «webmd.com».
مستقبل أبحاث صحة الدماغ
مع استمرار تطور فهمنا للدماغ وما يصاحبه من تحديات ترافق تقدمه في العمر، كذلك تزداد الفرص لتطوير استراتيجيات جديدة لإبطاء التدهور الإدراكي والحفاظ على صحة الدماغ؛ فمثلا تساعد التقدمات العلمية في علم الجينومات «genomics» في تحديد العوامل الوراثية التي تساهم في شيخوخة الدماغ وتسريعها، والتي يمكن أن تؤدي إلى تفاعلات مخصصة تتناسب مع الثغرات الجينية وملفاتها للفرد. بالإضافة إلى ذلك -كما يُشير الباحثان « Mosher, K. I., Wyss-Coray, T.» في بحث نشراه بعنوان « خلل الخلايا الدبقية الصغيرة في شيخوخة الدماغ ومرض الزهايمر» «Microglial dysfunction in brain aging and Alzheimer›s disease» عام 2014م في « Biochemical Pharmacology»- يكشف حقل علم التخلق «epigenetics»- علم معني بدراسة التغيرات الوظيفية التي تحدث في الجينوم دون تغيير في تسلسل الحمض النووي نفسه، والتي يمكن أن تؤثر على نمط الجينات وتعبيراته، وتُنقل من جيل إلى جيل- عن كيفية تأثير العوامل البيئية مثل النظام الغذائي والتوتر على المستوى الجيني، وإمكانياته المحتملة في إبطاء آثار الشيخوخة على الدماغ.
في خضّم هذه المعتركات العلمية الباحثة عن حلول لمشكلاتنا في الحياة التي يأتي الدماغ أحدها، لا يمكن أن نغفل عن دور الذكاء الاصطناعي في قدرته على التنبؤ بالتدهور الإدراكي وتخفيف آثاره؛ فتشهد تطويرات خوارزميات الذكاء الاصطناعي زحفا إلى جميع قطاعات حياتنا منها قدرتها على تحليل مجموعات بيانات كبيرة من التصوير الدماغي والمعلومات الجينية التي تهدف بواسطتها إلى تحديد المؤشرات الحيوية المبكرة للتدهور الإدراكي وإنشاء خطط شخصية للأفراد بدءًا بالنظام الغذائي والرياضي والاجتماعي والتدريب الدماغي وانتهاءً بالنظام الدوائي الوقائي؛ حيث تؤكد المؤشرات العلمية الخاصة بمسار أبحاث الذكاء الاصطناعي وجود رؤية علمية مبشّرة لمستقبل صحة الدماغ.
د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الوظائف الإدراکیة الخلایا العصبیة النظام الغذائی على صحة الدماغ مرض الزهایمر والحفاظ على هذا النظام کبار السن فی الدماغ من الدماغ فی العمر فی إبطاء یمکن أن فی مجلة إلى ذلک بما فی الذی ی
إقرأ أيضاً:
إلى أي حد يمكن الاستمرار في تناول مضادات الاكتئاب؟
نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" تقريرا للصحفية كريستينا كارون قالت فيه إن مضادات الاكتئاب تُعدّ من أكثر الأدوية شيوعا وسهولة في الحصول عليها في الولايات المتحدة، ويتناولها الكثيرون لسنوات، ونظرا لغموض الإرشادات السريرية، قامت الصحيفة باستشارة أطباء نفسيين حول ما يجب مراعاته عند اتخاذ قرار بشأن الاستمرار في تناول هذه الأدوية.
وذكرت أنه عندما بدأت مارجوري إيزاكسون بتناول دواء الاكتئاب في أواخر العشرينيات من عمرها، اعتبرته منقذًا لحياتها، في ذلك الوقت، كانت تعاني من مشاكل في زواجها وصعوبة في تناول الطعام، ووجدت أن الدواء ساعدها على استعادة توازنها النفسي. وقالت: "كنت ممتنة للغاية لمجرد قدرتي على القيام بمهامي اليومية".
لكن مؤخرًا، بدأت إيزاكسون، البالغة من العمر 69 عاما، بالتفكير فيما إذا كانت ترغب في الاستمرار بتناول مضادات الاكتئاب مدى الحياة، وأشارت إلى أن إيزاكسون تتساءل تحديدًا عن الآثار طويلة المدى لدواءها، وهو مثبط استرداد السيروتونين والنورابينفرين المعروف برفع ضغط الدم، كما أنها تشعر بالقلق إزاء ردود الفعل السلبية المتزايدة ضد الأدوية النفسية التي أدانت آثارها الجانبية وأعراض الانسحاب الصعبة، وقالت إيزاكسون: "مع مرور السنين، تغير الوضع من 'تناوله وجرّبه، لا داعي للقلق الآن' إلى 'حسنا، يبدو أن الأمور قد تكون معقدة نوعا ما'. وهذا أمرٌ مُقلق".
الصحفية قالت، إنه على الرغم من أن مضادات الاكتئاب الحديثة موجودة منذ عقود - فقد وافقت إدارة الغذاء والدواء الأمريكية على دواء بروزاك لعلاج الاكتئاب عام 1987 - إلا أن المعلومات المتوفرة حول استخدامها على المدى الطويل قليلة جدا، وقد وافقت إدارة الغذاء والدواء على هذه الأدوية بناء على تجارب استمرت، في أقصى الأحوال، بضعة أشهر، وعادة ما امتدت التجارب العشوائية المضبوطة لمضادات الاكتئاب لمدة عامين أو أقل. ولا تُحدد الإرشادات السريرية الحالية المدة المثلى لتناولها.
وأشارت إلى أن نقص البيانات يجعل من الصعب على الناس معرفة متى - أو حتى ما إذا كان عليهم التوقف عن تناولها. لذلك لجأت الصحيفة لسؤال أطباء نفسيين: ما هي المدة المثلى لتناول مضادات الاكتئاب؟
ما هي العوامل التي يجب مراعاتها؟
وذكرت أن الأطباء النفسيون يقولون إن هذا القرار يُتخذ بالتشاور مع الطبيب. وتعتمد الإجابة على الأعراض، والتشخيص، والاستجابة للدواء، والآثار الجانبية، وعوامل أخرى - وكلها أمور يجب مناقشتها مع الطبيب المختص، لكن في كثير من الأحيان، لا تُجرى هذه المحادثات، كما يقول أويس أفتاب، طبيب نفسي في كليفلاند، والذي أكد أن الأطباء يستمرون في وصف مضادات الاكتئاب لأشخاص ذوي خطر منخفض للانتكاس إلى الاكتئاب "بدافع العادة.. هذه هي المشكلة، ويجب معالجتها".
وقالت إن من المعروف أن لمضادات الاكتئاب آثارًا جانبية تتلاشى غالبا مع تكيف الجسم. لكن بعض الآثار الجانبية، مثل زيادة الوزن والضعف الجنسي، قد تستمر، وأضافت، أن أليس، 34 عاما، تعيش في ماساتشوستس، وطلبت الإشارة إليها باسمها الأول فقط حفاظًا على خصوصيتها، استمرت في تناول دواء سيتالوبرام لمدة عامين قبل أن تقرر التوقف عنه.
وذكرت أن أليس، إن الدواء كان مفيد في علاج نوبات الهلع. لكن السيتالوبرام، وهو مثبط انتقائي لإعادة امتصاص السيروتونين، تسبب بالمقابل في زيادة وزنها ومنحها شعورًا بـ"استقرار مصطنع"، على حد قولها. أرادت معالجتها النفسية أن تستمر في تناوله، لكن أليس عارضت ذلك. لذا توقفت عن تناول الدواء فجأة - وهي عملية مؤلمة - وتستخدم الآن أساليب مثل التأمل وكتابة اليوميات للسيطرة على أعراضها.
ماذا يوصي الأطباء؟
أشار التقرير إلى أن الدكتور جوناثان ألبرت، رئيس قسم الطب النفسي في مستشفى مونتيفيوري أينشتاين بنيويورك، يقول إن الإرشادات السريرية لعلاج الاكتئاب الشديد تقترح الاستمرار في تناول الأدوية حتى يشعر المرضى بتحسن كبير، وأضاف أنه بعد ذلك، من المهم الاستمرار في العلاج لمدة تتراوح بين أربعة وتسعة أشهر على الأقل لترسيخ التعافي. وتشير الأبحاث إلى أن التوقف عن تناول الأدوية قبل ذلك قد يزيد من احتمالية الانتكاس.
يمكن للمرضى بعد ذلك الاستمرار في تناول الأدوية لمدة عام أو عامين إضافيين على الأقل، وهو ما يُعرف بالعلاج الوقائي، وتستند هذه التوصيات، جزئيًا، إلى دراسات وجدت ارتفاعًا في معدلات الانتكاس بين من توقفوا عن تناول الدواء مقارنة بمن استمروا. وهي تمثل إجماعًا بين الخبراء، تم تلخيصه في إرشادات من قِبل الجمعية الأمريكية للطب النفسي وجمعيات مهنية أخرى مثل الشبكة الكندية لعلاجات المزاج والقلق.
وبيّن أنه عند التفكير في الاستخدام طويل الأمد، يأخذ الدكتور ألبرت في الاعتبار عدة عوامل، وهي:
أولا، ما هي مدة معاناة المريض من المرض؟ هل عانى من نوبات اكتئاب متكررة؟ تشير الأبحاث إلى أن الأشخاص الذين يعانون من الاكتئاب لمدة عامين أو أكثر، أو نوبتين اكتئابيتين على الأقل، مثل إيزاكسون، هم أكثر عرضة للإصابة بنوبات أخرى.
ثانيا، يأخذ الطبيب في الاعتبار شدة المرض. هل تم إدخال المريض إلى المستشفى؟ هل واجه صعوبة في ممارسة حياته اليومية بشكل طبيعي، أو احتاج إلى تجربة أدوية متعددة قبل أن يجد الدواء المناسب؟، وأوضح أن المرض الشديد الذي يصعب علاجه يستدعي استخدام الدواء لفترة طويلة.
أخيرًا، ينظر الطبيب إلى فعالية الدواء: هل يُؤتي الدواء ثماره؟ قد يتحسن بعض المرضى، لكن تبقى لديهم أعراض متبقية. ويقول الدكتور ألبرت إن الاستمرار في تناول الدواء غالبا ما يكون منطقيًا لتجنب "خطر انتكاس الحالة".
وأوضح أن مضادات الاكتئاب تُستخدم أيضا لعلاج مجموعة واسعة من الحالات الأخرى، مثل القلق، والوسواس القهري، واضطراب ما بعد الصدمة، والألم المزمن. ويقول الخبراء إن العلاج طويل الأمد ضروري في كثير من الأحيان لهذه الحالات.
هل يصعب التوقف عن تناول مضادات الاكتئاب بعد الاستخدام المطول؟
وأكد التقرير أنه لا تزال هناك حاجة إلى مزيد من البيانات، لكن تشير بعض الدراسات إلى أن الاستخدام طويل الأمد قد يُسبب أعراض انسحاب قوية، وأنه بشكل عام، يُقدّر أن حوالي واحد من كل ستة أشخاص يتوقفون عن تناول مضادات الاكتئاب يُعانون من أعراض جانبية، قد تشمل هذه الأعراض الدوخة والتعب وصدمات كهربائية في الدماغ. بالنسبة لواحد من كل 35 مريضًا، قد تكون الأعراض شديدة للغاية. في بعض الحالات، تكون هذه الأعراض مزعجة لدرجة أن محاولة التوقف عن تناول الدواء تُصبح صعبة للغاية، ويقول الأطباء إن التخفيض التدريجي للجرعة قد يُساعد.
هل هناك أي خطر من تناول هذه الأدوية على المدى الطويل؟
قالت الصحفية إن من الصعب الجزم بذلك، حيث تشير بعض الدراسات القائمة على الملاحظة إلى أن مضادات الاكتئاب آمنة بشكل عام. لكن لم تُموّل شركات الأدوية أي دراسات عشوائية مضبوطة لدراسة استخدامها على مدى عقود.
وأضافت أنه بالنظر إلى أن أعدادا كبيرة من الناس يتناولون مضادات الاكتئاب (حوالي 11 بالمئة من البالغين في الولايات المتحدة)، فإنه لو كانت هناك مشاكل إضافية مرتبطة باستخدامها "لكان من الصعب جدا تجاهلها"، كما قال الدكتور بول نيستادت، المدير الطبي لمركز الوقاية من الانتحار في كلية جونز هوبكنز بلومبرغ للصحة العامة.
ولفتت إلى أنه لا تخلو هذه الأدوية من المخاطر، والتي تختلف باختلاف نوع الدواء. فقد ارتبطت بعض مضادات الاكتئاب بارتفاع ضغط الدم ومعدل ضربات القلب والكوليسترول. كما يمكن أن تخفض مستويات الصوديوم وتزيد من خطر الإصابة بجلطات الدم.
كما وجدت دراسة دنماركية نُشرت في أيار/ مايو أن الأشخاص الذين تناولوا مضادات الاكتئاب لمدة تتراوح بين سنة وخمس سنوات كانوا أكثر عرضة للوفاة المفاجئة بسبب أمراض القلب مقارنة بمن لم يتناولوا هذه الأدوية. ومع ذلك، فإنه من غير الواضح ما إذا كانت الوفيات ناجمة عن الدواء نفسه أم عن المرض النفسي.
وأضاف الدكتور نيستادت: "أتمنى إجراء المزيد من الدراسات لتحديد هذه المشاكل بشكل أدق"، ويؤكد الأطباء النفسيون على ضرورة موازنة أي سلبيات مع المخاطر الحقيقية لتجنب تناول الأدوية، قال الدكتور نيستادت: "ما زلت أعتقد أن الفوائد تفوق المخاطر بالنسبة للأشخاص الذين يعانون من اكتئاب حقيقي".