الزراعة والصناعة عشية ثورة 26 سبتمبر ضد الإمامة في اليمن
تاريخ النشر: 26th, September 2024 GMT
يمن مونيتور/ وحدة التقارير/ خاص:
لم تكن اليمن في ظل حكم الإمامة (1911-1962) معروفة بالعزلة وحدها، بل بغياب كل البيانات والاحصائيات الاقتصادية والاجتماعية والتقنية، وهو القطر الذي عرف في فترات تاريخه حالة الرخاء والازدهار والتقدم العالي في المضمار التقني، انتزع به إعجاب المؤرخين العرب.
حتى قيام 1962م تفاجأ العرب بوضع اليمن الذي كان يضرب به المثل بعدم دخول الاحتلال الأجنبي إليه، ليعرفوا أن وضع البلاد اقتصادياً واجتماعياً كان أسوأ من الاحتلال الأجنبي، فما يزال يعيش عمى العصور الوسطى في كل شيء في حياته.
فلم توجد في اليمن أي هيئة رسمية للإحصاء، أو مسؤولة عن تلقي الاحصائيات، ولا نظاماً معروفاً للضرائب وحقوق الجمارك. وكما يقول “العطار” إن اليمن هو البلد الوحيد في العالم، الذي لا تستحق فيه الأرقام أي اهتمام (باستثناء ما يتعلق منها بالضرائب)، وكأنها “تابوت الشرق الأوسط” عاشت موتها قرابة نصف قرن من حكم التخلف الإمامي. محمد سعيد العطار، التخلف الاقتصادي والاجتماعي في اليمن، دار الطليعة، بيروت 1965.
إن الاقتصاد الوطني لم يتطور قط في عهد الإمام يحيى ومن بعده نجله أحمد، لقد كان الجمود هو الطابع الأول لهذا الاقتصاد الذي ظل اقتصاد كفاف تقليدي وللاستهلاك الذاتي، ولم يكن من نصيب المبادلات مع العالم الخارجي، سوى النزر اليسير. أما المهاجرون خارج البلاد فقد استمر عددهم في الارتفاع المتواصل بسبب البطالة والاستغلال الفاحش الفظيع من طرف الطبقة الحاكمة، واتساع حركة الاضطهاد السياسي-كما يقول العطار ص37.
إن الإمامة لم تكن مجرد سلطة سياسية ودينية، بل تتعدّى ذلك إلى السلطة الاقتصادية أيضاً. فالإمام يراقب شخصياً مالية البلاد، وأملاك الدولة تدخل دوماً في إطار أملاكه الخاصة.
الضرائب
اعتمد الإمام أحمد على الجبايات من الأراضي الزراعية، أم منشآت الصناعة على ندرتها -كما سنوضح- فكانت ملك العائلة المالكة.
ويحول غياب الإحصاءات الرسمية في اليمن دون إمكانية تقدير مساحة الأراضي المزروعة حيث أنه لم توجد معلومات تذكر عن هذ المساحة في إي احصائيات. وحسب الإحصائيات التي أعلنتها حكومة الجمهورية العربية اليمنية فإن مساحة الأراضي المزروعة والصالحة للزراعة في حدود 3-4 مليون فدان أي ما يقارب 15% من جميع أراضي الجمهورية البالغة مساحتها 195 ألف كيلومتر2. كما تشير المؤرّخة والباحثة الروسية “إيلينا جولوبوفسكايا” في كتاب “ثورة 26 سبتمبر في اليمن” والذي ناقشت الصناعة والزراعة خلال حكم الأئمة- (صدر عن دار ابن خلدون 1971).
ووفقاً للباحثة، فقد ارتفع عدد الضرائب التقليدية على المزارعين غير الزكوات فقد كان الإمام يصدر جبايات غير الضرائب مثل 10%، و5% من ناتج المحاصيل الزراعية. وأيضاً 3% تؤخذ لصالح مسميات أخرى منها (حق الضيافة). ودفع (خوة) لعمال الإمام الذين يجمعون الجبايات. أما الرسوم الجمركية فتفرض 10% على التصدير، و25% ضريبة على صغار التجار. ويدفع التاجر الذي يستورد البضاعة 3% من المبلغ الذي اشترى به البضائع، عدا نفقات الجمارك الأخرى.
تدمير الزراعة لصالح القات
ومن المحاصيل الزراعية الثانوية النقدية: البن، القات، القطن، ويأتي البن في المقدمة من حيث التصدير ومزروعات المدرجات الصغيرة في المناطق الجبلية. ووفقاً للإحصائيات التقريبية فإن مساحة الأراضي المزروعة بالبن في حدود 14% من مساحة الأراضي المزروعة. ويصدر 80/90% من البن اليمني إلى أوروبا. ويتميز البن اليمني بالنوعية الجيدة والشهرة العالمية ولزيادة نسبة “كافينا” فيه والتي تبلغ 0.12% من إنتاج البن العالمي (وفق إحصائيات 1958-1960).
ومن أجل الحصول على دخل من زراعة البن يضطر الفلاح إلى الانتظار بين خمس وست سنوات حتى تبدأ الشجر تثمر. وتعطي الشجرة 1-3 كجم في المتوسط.
حسب رأي الاقتصاديين يمكن أن يصل المحصول السنوي للبن إلى 40 ألف طن. لكن قبل وصول بيت حميد الدين إلى السلطة قبل الحرب العالمية الأولى كان محصول البن ستة أضعاف عن محصوله في 1956م والذي كان 5.2 آلاف طن. فقد كان مقداره إلى 32.4 ألف طن وانخفض قبل الحرب العالمية الثانية إلى 12 ألف طن. وسبب الانخفاض الكبير ليس في إنتاج البن فقط، بل عوامل اجتماعية واقتصادية نتيجة حكم الإمامة في اليمن.
شروط التأجير والديون الثقيلة على الفلاحين سنة بعد أخرى. وإذ كان الفلاح الأجير يسلم 3/2 المحصول للمالك، إضافة إلى ذلك كان يشتري ما تبقى لدى الفلاح وكلاء المصدرين المشتركين مع العائلة المالكة المحتكرين للبن. وكان المحتكرون هم الذين يقدرون ثمن البن لهؤلاء الفلاحين. وقد وصل انخفاض إنتاج البن 26.5 % عام 1961 بالمقارنة بإنتاجه عام 1957م.
وشجعت الإمامة غرس القات، إذ كان يمثل وضع أفضل للفلاحين وضمن لهم أرضاً وأطعمة وقطعاً من الأرض لزراعة المحاصيل النقدية. وجلب لهم إنتاج القات أرباحاً كبيرة. وحمى الإمام الأشخاص الذين يزرعون هذا المحصول مقابل حصوله على 10% من قيمة بيع القات كمساعدة. ورافق انخفاض الأراضي المزرعة بالبن اتساع الأراضي المزروعة بالقات الذي زاحم زراعة الحبوب حتى أصبح مادة للدخل.
وعليه حتى قبل ثورة سبتمبر أحدثت الإمامة تغيراً في تركيب انتاج المحاصيل الزراعية، وبالذات المحاصيل مثل القات، فقد زاحمت المحاصيل التقليدية، مثل الحبوب والذرة وغيره من المحاصيل الغذائية، وأدى ذلك إلى سوء تغذية السكان وارتفاع الثقل النوعي للمحاصيل الأقل رواجاً: الفول والبطاطا.
وصل الأمر إلى أن اليمن كانت تستورد القمح والحبوب من خارج البلاد. ويشير موظف الإدارة الحكومية الأمريكية إلى أن اليمن كانت لفترة طويلة تصدر الحبوب إلى بلدان حوض البحر الأحمر، أما في 1960 فقد استوردت من عدن قمحاً فقط بقيمة 37380 جنية إسترليني، وإن الذي استدعى للاستيراد قلة المحصول في البلاد أولاً وقبل كل شيء. وكان السبب الرئيسي لأزمة الزراعة انخفاض المساحة المزروعة بشكل عام وقلة المحاصيل.
الصناعة في عهد الإمامة
طوال تاريخها كانت الصناعة اليمنية ذات شهرة عظيمة في آفاق البلاد العربية، بسبب ما لها من مهارة وإتقان. وتحتل صناعة السيوف والخناجر والأسلحة في ذلك الزمن تميزاً يمنياً، كما أن المنسوجات اليمنية فقط حافظت على شهرتها الواسعة مثل “البرد اليماني” الذي اشتهرت به مدن يمنية مثل “زبيد” و”بيت الفقية” و”الحديدة”- (العطار ص242).
وفي عهد الإمامة كانت الحرف تتبع طريقة القرون الوسطى، وكانت صنعاء أكبر مركز بالقياس إلى اليمن في الإنتاج الحرفي (كما تقول جولوبوفسكايا) . وقد كتب انجرميس” إن صنعاء تذكر بالصناعة البدائية: دقات الحدادين بالمطارق وأصوات مناشير النجارة، ويتخصص الحرفيون في محلات صغيرة خاصة، ولا يوجد وقت للراحة بالنسبة لهم، وفي الدكاكين الصغيرة يمكن مشاهدة صناع المجوهرات، والحرفيين الذين يصنعون الخناجر وأدوات أخرى كثيرة ولدى الجميع أعمال كثيرة”. رفض الإمام استخدام الأدوات الحديثة في تعزيز الصناعة بما في ذلك صناعة المنسوجات وهو ما منع اليمنيين ذو الأيدي المهرة وعيون الرسام من تطوير شكل خاص بهم في الفن-كما يقول أمين الريحاني. بسبب ما تمنحه عائدات الاستيراد لسلطات الإمام والمراكز المالية لعائلته وحاشيته.
لقد كانت أغلب المؤسسات الصناعية التي وجدت قبل الثورة ملكاً للإمام وأنشئت بمساعدة الأخصائيين الأجانب والمعدات الأجنبية. ومن هذه المؤسسات معمل صنع الذخيرة والغزل والنسيج في صنعاء. وقد بُني المصنع من قِبل الإيطاليين في العشرينات. وقد جهز مصنع العزل والنسيج في صنعاء بمعدات إنكليزية غير أن المصنع لم يعمل في سنوات ما قبل الثورة، حيث فضل “جلالته” الاستيراد الرخيص الوفرة في عائداته.
ومع توسع تقنية محاصيل القطن، بدأت صناعة الغزل والنسيج، وعلى هذا الأساس أنشأ الإمام أحمد عام 1957 في مدينة باجل معمل الغزل والنسيج بالاشتراك مع الرأسمال اللبناني والسوري. وقامت فرنسا بتجهيزه وبلغت قوة المعمل 9 بليارد وقوة كل منها 248 مغزلاً و90 منولاً، مع 2 مولدات ديزل بقوة 750 قوة حصان. رمم المهندس الفرنسي الآلات وعلم العمال اليمانيين تشغيل المكائن وافترضت كمية الإنتاج 10 آلاف متر من غزل القطن في اليوم. إلا أن المعمل لم يشتغل ولا يوم واحد وذلك لأن أعضاء الأسرة المالكة وكبار تجار التصدير احتكروا كل التجارة الخارجية، وفجأة عرفوا أن تجارة تصدير القطن تعطيهم نصيباً وافراً من الأرباح، أفضل من إنتاج قطع الأقمشة القطنية لشعبهم.
وبصرف النظر عن امتلاك اليمن للمواد الخام “القطن, الزيوت, التبغ, قصب السكر..الخ) وفيض الأيادي العاملة الرخيصة التي كان بإمكانها إيجاد قاعدة لقيام صناعة وطنية، فقد لاحظ معظم الخبراء الاقتصاديين العرب والأجانب في ذلك الوقت كساد في النشاط الإنتاجي في المؤسسات التي وجدت مثل الطواحين ومعامل المشروبات.
وقد أشار محمد حسن عضو البعثة العسكرية العراقية الذي زار اليمن عام 1939 إلى أن اليمنيين لا يشغلون الكهرباء بالمرة وكان في صنعاء محول كهربائي في قصر الإمام يحيى فقط (دار الشكر ودار السعادة، ولدى بعض الأمراء.
أما في الصناعات الاستخراجية فكان استخراج الملح الحجري الوحيد في الصليف الذي يعمل، وقد احتياطه ب4 ملايين طن، وقام بتمويل هذه المؤسسة تاجر كبير “الجبلي”. وفي 1950 أعلن سمح بانشاء شركة وطنية لاستخراج الملح، ووزعت الأسهم للإمام وباقي أعضاء في الشركة من الحاشية. واستخرج الملح في السنوات التي سبقت الثورة بشكل عرضي. وانتهى الاستخراج في 1958 بعد خراب المكائن وإفلاس الشركة، وأعيد العمل في الاستخراج باتفاقية مع شركة يابانية التزمت بشراء الملح المستخرج من الصليف خلال خمس سنوات.
الموانئ
كانت الإمامة تدير ميناءين رئيسيين الأول، ميناء الحديدة، وميناء المخا، وجرى تجاهل ميناء المخا، وركزت جهوده نحو ميناء الحديدة الذي قام بتجهيزه الاتحاد السوفيتي 1957، وعمقت الأهوار التي لصقت برصيف الميناء عند رسو الجسور وفي ربيع 1961 كان باستطاعته استقبال البواخر التي تحمل عشرة آلاف طن، وجهز الاتحاد السوفيتي الميناء بعدة آليات حديثة. ومع ذلك فلم يشتغل الميناء بكامل طاقته أثناء الحكم الملكي، وكان تشغيل الآلات ضعيفاً بشكل عام.
أما ميناء “المخا”، فقد عُرفت اليمن خارج الحدود بالبن الأصيل درجة أولى الذي يسمى باسم ميناء التصدير الرئيسي له “موكا” أو “مخا”، وكان مزدهراً خلال المائة عام التي سبقت ولاية الإمام يحيى، وجد الملاحون البرتغاليون والإنجليز الذين كانوا أول من تغلغل في البحر الأحمر أن ميناء (مخا) كانت تتركز فيه كل الحركة التجارية في الساحل العربي. تعرض الميناء الحيوي لهجوم من الإيطاليين خلال الحرب العظمى في 1915م، وعلى الرغم من أهمية الميناء الحيوي إلا أنه طوال فترة حكم الإمامة (الإمام يحيى ونجله) أصبح الميناء لا يدخله أكثر من أربعين (سنبوكاً) قارباً تأتي إليها في كل شهر لشحن البن والجلود والزبد الذي ينقل إلى ميناء عصب في “ارتيريا”-كما يقول الرحالة الإيطالي سلفادور أبونتي في كتابه رحلة في بلاد العربية السعيدة (ترجمة طه فوزي 2009 ص26).
وبسبب انتفاضات قبائل الزرانيق، وعدم تحكم الإمام بالمناطق التهامية القريبة من الجبال فقد جرّد الإمام بيت الفقية “المدينة الحربية” وعاصمة الزرانيق على سفح الجبل من ميزاتها باعتبارها محطة التجمع والتصدير والتي كانت تحمل إليها كل حاصلات اليمن من البن. لقد منع الإمام من “بيت الفقيه” البن حتى يكاد الزائر لها لا يجد كمية تكفيه لشرب القهوة فيه. (أبونتي ص34)
لم يكن توجد دولة بمعنى الحقيقي أيام الإمامة، كانت غابة يرأسها أطماع الأئمة على مدى التاريخ. تسببت المظالم في إشعال جذوة غضب الناس التي تراكمت مع تدمير حياتهم وتحويلهم إلى مصادر لثراء الإمام وحاشيته.
لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *
التعليق *
الاسم *
البريد الإلكتروني *
الموقع الإلكتروني
احفظ اسمي، بريدي الإلكتروني، والموقع الإلكتروني في هذا المتصفح لاستخدامها المرة المقبلة في تعليقي.
Δ
شاهد أيضاً إغلاق أخبار محليةنور سبتمبر يطل علينا رغم العتمة، أَلقاً وضياءً، متفوقاً على...
تم مشاهدة طائر اللقلق مغرب يوم الاحد 8 سبتمبر 2024 في محافظة...
يا هلا و سهلا ب رئيسنا الشرعي ان شاء الله تعود هذه الزيارة ب...
نرحو ايصال هذا الخبر...... أمين عام اللجنة الوطنية للطاقة ال...
عندما كانت الدول العربية تصارع الإستعمار كان هذا الأخير يمرر...
المصدر: يمن مونيتور
كلمات دلالية: الإمام یحیى کما یقول
إقرأ أيضاً:
دفاعا عن دستور ثورة يناير
لم تكن كتابة دستور 2012 مجرد عملية فنية لاقتراح مواد قانونية، ولا كانت مناقشاته مجرد خلافات سياسية بين قوى متنافسة؛ بل كانت لحظة فارقة في تاريخ مصر الحديث، لحظة حاول فيها الشعب -لأول مرة منذ دستور 1923-أن يستعيد زمام أمره، وأن يكتب عقده الاجتماعي بيده، لا بيد السلطة، ولا بيد الأجهزة، ولا على طاولة صفقات تُبرم في الظلام. كان هذا الدستور، رغم كل ما اعتراه من نواقص وثغرات، ثمرة واحدة من أكبر لحظات الوعي الجمعي التي شهدتها مصر بعد ثورة يناير.
ولذلك، فإن الدفاع عنه ليس دفاعا عن نصّ، بل دفاعا عن حق، وعن مسار، وعن مستقبل كان يمكن أن يكون مختلفا لو لم تُجهض الثورة، ولو لم يتم الانقلاب على هذا العقد الشعبي الفريد.
أهم ما في دستور 2012 أنه لم يُكتب في دهاليز السلطة، ولا في مكاتب مغلقة، ولا تحت عين جهاز مشرف، ولا بإملاء خارجي. كانت الجمعية التأسيسية -رغم ما قيل عنها- تضم لأول مرة في تاريخ مصر قضاة، وقانونيين، وأساتذة جامعات، وشباب الثورة، ونساء، وممثلين عن النقابات، وأطيافا سياسية متنوعة.
كانت النقاشات تُبث مباشرة على الهواء، وكان المصريون يشاهدون -لأول مرة-كيف يُكتب الدستور أمامهم، وكيف يتم تعديل المواد، وكيف تُصاغ المبادئ، وكيف يُجادل القضاة رجال السياسة، وكيف يتعلم الشيوخ من القانونيين، وكيف يتحدث الشباب بوعي لم يتوقعه أحد.
في تلك اللحظة، أدركنا أن مصر بدأت تمتلك "ذاكرة مؤسسية جديدة"، وأن الدستور سيكون وثيقة صراع مع الدولة العميقة، لا وثيقة للتوافق مع نفوذها.
لم يكن هذا الدستور مجرد نصوص، بل كان:
• الإنجاز الوحيد الحقيقي لثورة يناير الذي اكتمل بيد الشعب،
• السياج الأخير الذي كان يمكنه أن يحمي عملية الانتقال الديمقراطي،
• العقد الاجتماعي الأول الذي حاول أن يضع السلطة تحت رقابة الأمة.
ولأنه كذلك، كان هو الهدف الأول للانقلاب عليه. كان المطلوب أن يعود المصريون إلى وضعهم القديم: شعب متفرج، لا شعبا يكتب دستوره.
لم يكن دستور 2012 بلا عيوب، وقد قلتُ هذا مرارا، وكتبته علنا، وأعلنته في مؤتمرات عديدة. وكانت أهم الملاحظات تدور حول: ملف الجيش، فلم تصل الجمعية التأسيسية إلى المعادلة الصحيحة، فقد ظلت ميزانية الجيش مراوغة، والقضاء العسكري احتفظ بجزء من صلاحياته المدنية، ومجلس الدفاع الوطني كانت له صلاحيات واسعة.
لكن السؤال: هل كان ممكنا في لحظة ما بعد الثورة، وفي ظل نفوذ المؤسسة العسكرية الممتد، أن يُفرض عليها دستور يقيدها بالكامل؟ الجواب: قطعا لا.
أما السلطة القضائية، فقد كان القضاء -بحكم تاريخه وتكوينه- مؤسسة ترفض الخضوع لأي سلطة مدنية منتخبة. وكانت هناك ملاحظات تستحق المراجعة مثل: حدود صلاحيات المحكمة الدستورية، ووضع النيابة الإدارية، واستقلال الهيئات القضائية.
لكن هل كان يمكن إنجاز أكثر؟ ربما نعم، ربما لا.. لكن المؤكد أن الهجوم على الدستور لم يكن هدفه تحسين هذه المواد، بل إسقاط الثورة نفسها.
أما سرعة الصياغة، فقد كان الضغط السياسي والإعلامي هائلا، وكانت الجمعية تعمل تحت تهديد مباشر بالحل، ووسط أجواء من الاستقطاب الشديد. ولذلك ظهرت صياغات تحتاج للتحسين، ومواد كان يمكن أن تُكتب بشكل أدق. لكن رغم كل ذلك، بقي الدستور خطوة ثورية تاريخية على درجة عالية من الأهمية.
والسؤال الذي يطرحه البعض: كيف يتم الاحتفاء بدستور عليه هذه الملاحظات؟ وأقول بوضوح: لأن البديل لم يكن دستورا أفضل.. البديل كان هو الانقلاب، ثم عودة الدولة العسكرية، ثم نهاية أي إمكانية لدستور حقيقي أو لميلاد نظام ديمقراطي.
كما يجب أن نتذكر الآن أنه كان أول دستور شعبي حقيقي منذ 1923؛ دستور يكتب بإرادة الناس، لا بإرادة السلطة. ودستور كهذا يجب أن يُحمى كي يكتمل، ثم يُعدَّل في إطار الشرعية، لا أن يُهدم لصالح عودة الحكم المطلق.
ولأن الدستور كان "خط الدفاع الأخير عن الثورة"، فقد كانت تُستنزف يوميا، في الشارع، في الإعلام، في القضاء، في مؤسسات الدولة. وكان الدستور هو المكسب الوحيد الذي لم تستطع الثورة المضادة إسقاطه بسهولة، ولذلك كان لا بد من الدفاع عنه.. لا لتقديسه، بل لحماية المسار.
كما كنتُ على يقين أن البرلمان الجديد -الذي ينتخبه الشعب- كان سيعدّل مواد الجيش، ومواد القضاء، ومواد السلطة التنفيذية، ويصل بالدستور إلى مستوى أفضل. لكن ذلك كان مشروطا باستمرار المسار الديمقراطي.. وهو ما لم يحدث.
لقد كان إسقاط الدستور هو الخطوة الأولى لسلسلة من الإجراءات؛ عزل الرئيس المنتخب، وتعطيل الدستور، وحل المؤسسات المنتخبة، وكتابة دستور جديد في غرف مغلقة، وإغلاق المجال العام بالكامل. وقد حدث هذا حرفيا بعد 3 تموز/ يوليو 2013.
أكثر ما أدهشني في الهجوم على دستور 2012 هو "السطحية". فقد كان البعض يتعامل معه كأنه دستور أبدي لا يقبل التغيير، بينما الحقيقة أنه دستور انتقال ديمقراطي يمكن تطويره، لكن خصومه لم يريدوا التغيير.. كانوا يريدون الإلغاء. ولذلك، كان الدفاع عنه دفاعا عن فكرة العقد الاجتماعي، فكرة الشرعية، فكرة الدولة المدنية، فكرة الاحتكام للشعب.
أما لماذا خافوا من دستور 2012؟ فلأنه كان دستورا يحد من صلاحيات الرئيس، ويقلص نفوذ المخابرات والداخلية، ويوسع دور البرلمان المنتخب والحكومة، ويمنح النقابات والمجتمع المدني قوة حقيقية، ويضمن الحقوق والحريات بطرق غير مسبوقة. لقد خافوا لأنه دستور "يستعيد الدولة من قبضة المؤسسات الأمنية"، خافوا لأنه دستور "يعيد السلطة للشعب".
لا ندافع عن دستور 2012 لأنه كامل، بل لأنه أول دستور شعبي، وأول خطوة لبناء دولة مدنية، وأول محاولة لإنهاء حكم الفرد، وأول عقد اجتماعي حقيقي منذ 90 عاما. ولو سقطت الثورة ولم يبقَ منها سوى هذا الدستور.. لكان واجبا الدفاع عنه، فما بالك وقد سقط كل شيء بعد إسقاطه؟
إن الدفاع عن دستور 2012 هو دفاع عن مستقبل كان يمكن أن يكون أفضل، لا عن ماضٍ مثالي. ودرس ثورة يناير سيبقى واضحا: "الدستور هو قلعة الثورة. فإذا سقطت القلعة، دخل الطغيان من أبوابها جميعا". وهذا ما حدث بالفعل.