أهمية تدوين الثقافة الشعبية وتسجيلها
تاريخ النشر: 7th, October 2024 GMT
تتميز الثقافة الشعبية عن الثقافة العالمة أو العليا كما يصفها أساتذة الدراسات الثقافية، بأنها ثقافة فاعلة في حياة المجتمع ومسؤولة عن بناء قوامه الإنساني، وتكمن أهميتها في القدرة على التأثير والتأثر في سلوكيات الأفراد المنتمين لها، ولذا فإن أي رغبة في التحديث أو التغيير الاجتماعي في أي مجتمع من المجتمعات يستوجب بالضرورة فهم ثقافته الشعبية فهما دقيقا، لضمان نجاح الخطط الإنمائية والتنموية الساعية لتحقيق الرفاه والتطور.
قبل الخوض في التفاصيل لابد من التطرق إلى تعريفات الثقافة الشعبية، التي جمعها أستاذ الدراسات الثقافية بجامعة سندرلاند جون ستوري في كتابه ( النظرية الثقافية والثقافة الشعبية أبوظبي:2014) إذ يقول " أن الثقافة الشعبية هي ببساطة الثقافة التي يرغب فيها، أو يحبها كثير من الناس، وهي الثقافة المتبقية بعد أن قررنا ما هو الثقافة الرفيعة، وأنها الثقافة الجماهيرية النابعة من الشعب". بهذا المعنى فإن الثقافة الشعبية هي الثقافة الشفوية غير المدونة، والتي تتضمن الفولكلور الذي يُعرّف بأنه " المادة التي تنتقل عن طريق الموروثات، وهو بعبارة أخرى حكمة الشعب وأدبه الذي لم يتعلمه من الكتب" كما يذكر ذلك أحمد علي مرسي في كتابه (مقدمة في الفولكلور: 2023)
إذ جرى التقسيم على وجود ثقافة رفيعة وأخرى شعبية، وهذا يتحتم علينا إعادة النظر في المفهوم لأن أي ثقافة هي ثقافة رفيعة سواء كانت شفوية أو مكتوبة، لأن الثقافة الشعبية جزءا لا يتجزأ من الهُوية الوطنية. بالإضافة إلى أنها الخزان الثقافي للثقافة الشفاهية، فعلى سبيل
حين نذكر المكونات المادية للثقافة نغفل عن المكونات اللامادية المرتبطة بها، فمثلا حين نتناول أشكال الطبخ يجري الحديث عن ذوق الطعام ونكهاته في إهمال واضح للغناء المرتبط ببعض المناسبات التي يُقدم فيها الأطعمة والمشروبات. ناهيك عن إغفال التفسيرات المتعلقة بأنواع من الطبخ فعلى سبيل المثال حين يُذكر (المضبي) أو (المعذيب) ، لا نجد شروحات عن أسباب الطبخ على الحجر أو التسخين بالحجر، باعتبارها مرحلة من مراحل الطبخ قبل تطور الأدوات. وكذلك تدل على سيادة النشاط الرعوي قبل الاستقرار أو التحضر.
هذا بالنسبة للجانب المادي من الثقافة، أما الجانب الأهم وهو التعبير الشفوي أو كما يسمى التراث اللامادي فإنه بحاجة إلى تسجيل أكثر وتدون نظرا لفقدان الكثير من المصطلحات والمفردات المتعلقة بفترة زمنية معينة ثم اختفت باختفاء النشاط أو العادة.
هل نحن بحاجة إلى تدوين الثقافة الشعبية وتسجيل مفرداتها. نقول نعم بكل التأكيد نظرا للقيمة الثقافية والمعارف والخبرات المكتسبة والمتراكمة عبر الأجيال، بالإضافة إلى أن الثقافة الشعبية ترصد مراحل تطور الوعي وتشكيله، لذا يمكننا وصف الثقافة الشعبية بأنها بنكا للمعلومات وبالتالي يمكن استثمار هذا الرصيد الثقافي المعنوي في تكوين محتوي للذكاء الاصطناعي يحاكي الواقع ويحفظ البصمة الثقافية للأسلاف.
إننا نعول على المؤسسات التعليمية سواء في مراحل التعليم العام أو العالي، في تبني تسجيل وتدوين الثقافة الشعبية العمانية بالتعاون مع هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية، لإطلاق مشروع " توظيف الثقافة الشعبية العمانية في برامج الذكاء الاصطناعي"، يستند المشروع على الأبحاث الطلابية من مختلف مناطق وبيئات السلطنة وبعد ذلك يتم فرزها وانتقاء المشاريع القابلة للتطوير. نطرح فكرة المشروع مستندين على الأطر والتشريعات الوطنية منها المرسوم السلطاني رقم ٢٠ / ٢٠٠٧ القاضي بانضمام سلطنة عمان إلى اتفاقية حماية وتعزيز تنوع أشكال التعبير الثقافي.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الثقافة الشعبیة
إقرأ أيضاً:
قبل أن يقع الخلل
خالد بن حمد الرواحي
في مؤسساتٍ كثيرة، لا تبدأ الحركة إلّا بعد أن يقع الخلل، ولا تُستدعى الحكمة إلا حين تتعقّد المشكلة. نعيش ثقافةً تُجيد إطفاء الحرائق أكثر مما تُحسن منع اشتعالها، فتتحوّل الإدارات إلى غرف طوارئ لا تهدأ إلا لتشتعل من جديد. وبين أزمةٍ وأخرى، يبرز سؤالٌ مُقلق: لماذا ننتظر حتى تتفاقم الأمور؟ ولماذا لا يتحول التخطيط الوقائي إلى ممارسةٍ مؤسسية ثابتة بدل أن يبقى ردّة فعل متأخرة؟ لقد أصبح انتظار المشكلة كي تُعلن عن نفسها جزءًا من الروتين اليومي، مع أن نصف الجهد كان يمكن توفيره… لو أننا بادرنا في اللحظة المناسبة.
تعود جذور هذا السلوك إلى منظومةٍ إدارية اعتادت التعامل مع الواقع خطوةً بخطوة، لا مع المستقبل وما يحمله من احتمالات. فحين يغيب التخطيط الاستباقي، يتحوّل الموظفون إلى منفذين جيدين، لكنهم يفتقرون إلى القدرة على التنبؤ أو اتخاذ المبادرة. وتغدو التقارير مرآةً لما حدث، لا لما يمكن أن يحدث، بينما ينشغل القادة بمعالجة النتائج بدل فهم الأسباب. ومع مرور الوقت، يتكرس داخل المؤسسة وعيٌ جمعي يقوم على الانتظار: ننتظر الشكوى لنُحسِّن، وننتظر التعثر لنُعدِّل، وننتظر الأزمة لنغيّر. وهكذا تعود المشكلات بالوجوه ذاتها والسيناريو نفسه، وكأن الزمن يعيد تشغيل الحلقة ذاتها دون توقف.
وغالبًا ما تتوارى خلف هذا النمط أسبابٌ أعمق من مجرد نقص الأدوات؛ فالمبادرة تحتاج إلى شجاعة، بينما الاستجابة لا تتطلب أكثر من الامتثال. فالموظف الذي يبادر يتحمّل مسؤولية قراره ويعرّض نفسه لاحتمال الخطأ، في بيئة قد لا تُميّز دائمًا بين الاجتهاد المخلص والخطأ المبرَّر. أما الاستجابة فهي الطريق الأكثر أمانًا؛ لا مخاطرة، ولا مساءلة، ولا حاجة لاستشراف المستقبل أو مواجهة المجهول. وهكذا تتسع دائرة الحذر، ويتراجع الحسّ الابتكاري، حتى تغدو المبادرة استثناءً فرديًا لا ثقافةً مؤسسية راسخة.
وليس أدلّ على أثر هذا السلوك من المشاهد اليومية في الميدان؛ فحين تُعالج المشكلة بعد وقوعها، تكون كلفتها أعلى ووقتها أطول وانعكاساتها أعمق. تتكدس المعاملات، وتتأخر الخدمات، ويُرهق الموظفون في محاولات اللحاق بما فات. والأصعب من ذلك أن ثقة المتعاملين تتآكل تدريجيًا، لأن المؤسسة لا تبدو مستعدة ولا مبادرة. ومع مرور الوقت، يتحول الضغط إلى جزءٍ من البيئة، ويغدو العمل تحت «مُنبّه الأزمات» هو النمط السائد، بينما تتبخر فرص التحسين الوقائي التي كان يمكن أن تصنع فرقًا كبيرًا بأقل جهد وأوضح أثر.
المؤسسات التي تتجاوز هذه الدائرة ليست بالضرورة تلك التي تمتلك موارد أكبر، بل تلك التي تبني عقلية مختلفة. فهي تدرك أن المبادرة ليست مشروعًا إضافيًا بل طريقة عمل، فتزرع في فرقها منهجية رصدٍ مبكرٍ للمخاطر، وتمنح موظفيها مساحة آمنة للتجريب، وتشجعهم على طرح الأسئلة قبل ظهور المشكلة لا بعدها. أما المؤسسات التي تكتفي بالاستجابة، فهي غالبًا ما تُغلق الأبواب أمام الأفكار الجديدة وتنتظر التعليمات قبل كل خطوة، فتتقدم خطوة حين يتقدم الآخرون عشر خطوات. وهنا يتجلى الفارق بين مؤسسة تصنع الحدث… وأخرى تكتفي بملاحقته.
وفي نهاية المطاف، لا تحتاج مؤسساتنا إلى جهدٍ خارق كي تنتقل من ثقافة الاستجابة إلى ثقافة المبادرة، بل إلى وعي إداري يدرك أن الوقاية ليست رفاهية، وأن الاستباق جزءٌ أصيل من الحوكمة الحديثة. فحين يتبنى القادة عقلية المبادرة، ويتعاملون مع المستقبل بروح الباحث لا بردّات الفعل، يتحوّل الخلل من مصدر إرباك إلى فرصة تحسين. وعندما يشعر الموظف بأن المؤسسة تثق في اجتهاده وتسمح له بأن يسبق المشكلة بخطوة، تتولد طاقة إيجابية تدفع الجميع نحو أداءٍ أذكى وأكثر استدامة. فالمبادرة ليست مهارة فردية فحسب، بل ثقافة تُبنى… ونقلة تصنع الفرق بين مؤسسة تُطفئ الحرائق، وأخرى تمنع اشتعالها.
رابط مختصر