هل المشاكل تصقل أم تنهك الشخصية؟
تاريخ النشر: 6th, November 2024 GMT
د. أحمد أبوخلبه الحضري
في حياتنا اليومية، يواجه كل شخص تقريبًا تحديات متنوعة، بعضها بسيط، والآخر قد يكون عميقًا وصعبًا.
يختلف النَّاس في تفسيرهم لهذه التحديات؛ فالبعض يعتبرها فرصًا للتعلم والنمو، بينما يراها آخرون بمثابة عبء ثقيل ينال من طاقاتهم ويستهلك أعصابهم. لذلك يبرز التساؤل: هل هذه المشاكل تصقل شخصية الإنسان وتطوّرها، أم أنها فقط تُنهك قواه وتستنزف روحه؟
من ناحية الجانب الإيجابي، تُعتبر المشاكل كأداة لصقل الشخصية، فيرى أنصار هذا الرأي أنَّ مواجهة الصعوبات تساعد الإنسان على بناء شخصية أقوى وأكثر نضجًا.
تؤكد العديد من الدراسات النفسية أن التجارب الصعبة قد تساهم في تعزيز الثقة بالنفس لدى الأشخاص، حيث ينشأ لدى الفرد إحساس عميق بالقدرة على تجاوز العقبات وتحقيق النجاح، حتى في الأوقات العصيبة. علاوة على ذلك، قد تساهم المشاكل في تحفيز الإبداع، حيث تدفع الإنسان إلى التفكير خارج الصندوق، والبحث عن حلول مُبتكرة لمشاكله.
على الجانب الآخر، يتحدث كثيرون عن الأثر السلبي للمشاكل المتواصلة، حيث يشعر الإنسان في بعض الأحيان بأن هذه التحديات تنهك قواه النفسية والجسدية. فالتعرض المستمر للضغوط والمشكلات يمكن أن يؤدي إلى استنزاف طاقة الفرد، مما يؤثر على صحته النفسية وقدرته على التعامل مع الأعباء اليومية. الضغوط المزمنة تُعد من العوامل التي تزيد من مخاطر الإصابة بالاكتئاب والقلق، وقد تؤدي أيضًا إلى التأثير على الصحة البدنية، مثل زيادة ضغط الدم وتفاقم مشاكل القلب.
ويظهر هذا الأثر بشكل خاص عندما يفتقر الإنسان للدعم الاجتماعي أو لأدوات التكيف والتأقلم، حيث يجد نفسه غارقًا في بحر من المشكلات التي لا يعرف كيف يتعامل معها. بالنسبة لهؤلاء، يمكن للمشاكل أن تتحول إلى عائق حقيقي في حياتهم، وقد تعيق تقدمهم وتمنعهم من الاستمتاع بلحظاتهم الحياتية.
وهناك عنصر حاسم وهو المرونة النفسية، فيكمن الفرق في الطريقة التي يتعامل بها كل شخص مع المشاكل. فالأفراد الذين يتمتعون بالمرونة النفسية، وهي القدرة على التكيف مع الضغوط وتجاوز الأزمات، غالبًا ما ينظرون إلى التحديات كفرص للتعلم والنمو. المرونة النفسية ليست سمة يولد بها الإنسان بالضرورة، بل هي مهارة يمكن تعلمها وتطويرها من خلال الممارسة والدعم.
تتجلى أهمية المرونة النفسية في أنها تساعد الشخص على استيعاب الأزمات والمشكلات دون أن تترك آثارًا سلبية طويلة الأمد. قد يكون لدى البعض وسائل لتعزيز مرونتهم، مثل التأمل أو ممارسة التمارين الرياضية أو الدعم الاجتماعي من الأسرة والأصدقاء. هذه العوامل تساعد الفرد على مواجهة التحديات بروح أكثر إيجابية وتفاؤلًا.
كما إنه من المهم أن ندرك أن المجتمع والأسرة يلعبان دورًا أساسيًا في مساعدة الفرد على التعامل مع الصعوبات. قد تكون المشاكل مرهقة إذا واجهها الشخص بمفرده، ولكن الدعم الاجتماعي يمكن أن يكون قوة دافعة للتغلب على المحن. وجود الأصدقاء وأفراد الأسرة يمكن أن يوفر مساحة للتفريغ والتعبير عن المشاعر، ما يقلل من عبء الضغوط النفسية ويعزز الشعور بالراحة.
بالإضافة إلى ذلك، فإنَّ الثقافة العامة للمجتمع قد تؤثر في طريقة تعامل الأفراد مع التحديات. ففي بعض المجتمعات، يُنظر إلى مواجهة الصعاب بروح التحدي والصمود كقيمة أساسية تُشجع من خلالها الأجيال على التكيف والنمو، بينما في مجتمعات أخرى، قد يتلقى الأفراد رسائل سلبية تجعلهم يشعرون بالعجز أمام أي عقبة.
وعليه هل المشاكل تصقل أم تنهك الشخصية؟
الإجابة قد تكون مرهونة بمدى الدعم الذي يحظى به الفرد، وبالأدوات التي يمتلكها للتكيف مع الأزمات. ففي حال وجود عوامل داعمة وبيئة مشجعة، قد تكون المشاكل أدوات فعالة لصقل الشخصية وتعزيز قدراتها. أما إذا غابت وسائل الدعم، وتوالت المشكلات دون حلول، فقد تكون هذه التحديات سببًا في إنهاك الروح وتجريد الفرد من طاقته.
في نهاية المطاف، تظل المشاكل جزءًا لا يتجزأ من الحياة، ولا يمكن تجنبها كليًا. الأمر الذي يمكن للفرد فعله هو السعي لتطوير مهارات التكيف والبحث عن وسائل لتعزيز المرونة النفسية.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
نضج الشخصية الوظيفية.. هل فعلاً في الوقت المناسب؟
خالد بن حمد الرواحي
ليس كل من يحمل مُسمى وظيفيًا يملك مقومات القيادة؛ فالمناصب لا تُقاس بالألقاب؛ بل بقدرة أصحابها على النضج وتحمل المسؤولية، وفي بعض مؤسساتنا يتكرر مشهد المدير الجالس خلف مكتب مُثقل بالملفات، بينما ينتظر موظفوه قرارًا يضع حدًا لارتباكهم، لكنه يطيل الصمت أو يؤجل المسؤولية حتى تتراكم الأخطاء وتتلاشى الثقة. لم تكن مشكلته في المؤهل أو الدرجة، بل في شخصيته التي لم تبلغ بعد مستوى النضج المطلوب للقيادة.
في المُقابل، هناك من يبدأ مسيرته بخطوات متعثرة، لكنه يتعلم من أخطائه، ويحسن الإصغاء، ويتحلى بالصبر، حتى يتحول مع الوقت إلى مرجع يثق به زملاؤه ويلجؤون إليه في المواقف الصعبة. وهنا يبرز سؤال جوهري: هل تنضج الشخصية الوظيفية في الوقت المناسب، أم أن بعض الأشخاص لا يبلغون هذا النضج إلا بعد أن تكون المؤسسة قد دفعت الثمن؟
الشخصية الوظيفية ليست مجرد حضور يومي؛ بل مزيج من وعي وخبرة وقيم وانضباط يتجلى في تفاصيل السلوك. فالنضج الوظيفي يعني أن يعرف الموظف متى يتحدَّث ومتى يصمت، وكيف يواجه الضغوط من دون أن يفقد اتزانه، وكيف يوازن بين مصالحه الفردية ومصلحة المؤسسة. إنه انتقال من النظر إلى العمل بوصفه وظيفة إلى التعامل معه كرسالة ومسؤولية.
وقد عرّفت الأدبيات الإدارية النضج الوظيفي بأنَّه الوصول إلى مستوى عالٍ من الاحترافية، من خلال إتقان المهارات الفنية، والتواصل الفعّال، والقدرة على اتخاذ القرارات المدروسة، إلى جانب المرونة ووعي الذات وفهم سوق العمل. كما أشارت مقالات متخصصة نُشرت عام 2024 إلى أن النضج المهني يتجسد في الاتزان العاطفي، وتحمل تبعات القرارات، والقدرة على التكيف، والالتزام بالتعلم المستمر. غير أن هذه التعريفات تظل نظرية ما لم تتحول إلى ممارسات يومية يلمسها الموظف في سلوكه وأدائه.
ومن أبرز علامات النضج الوظيفي: القدرة على التغافل عن التفاصيل الصغيرة التي لا تستحق الجدل، والتحلي بالاتزان العاطفي أمام الضغوط، وحسن قراءة المواقف ببُعد نظر، إضافة إلى الاستماع الجيد الذي يفتح أبوابًا للحلول. كما يشمل امتلاك مهارات متكاملة تجمع بين الكفاءة الفنية، والتواصل، وحل المشكلات، والتفكير النقدي. والموظف الناضج لا يكتفي بما يعرفه، بل يواصل رحلة النمو الذاتي، مدركًا أنَّ العمل لم يعد مجرد وظيفة، بل مسارًا متجددًا من التعلم والتطور.
غياب النضج الوظيفي قد يظهر في التسرع والانفعال وتقديم المصلحة الشخصية على العامة، فتتحول بيئة العمل إلى ساحة صراعات. ويزداد الأمر سوءًا حين يقفز بعض المسؤولين بموظفين من مواقع متوسطة إلى مناصب عليا دون المرور بالتدرج الوظيفي الذي يمنح الخبرة الكافية. فالنضج الوظيفي لا يتشكل بالمسميات ولا بالدرجات، بل بالتجارب المتراكمة التي تصقل الشخصية وتبني القدرة على اتخاذ القرار. وحين يحدث ذلك، تتأثر فرق العمل وتضعف الثقة، ويصيب الإحباط الموظفين الآخرين الذين يرون العدالة غائبة.
والأخطر أن المؤسسات التي لا توفر فرصًا للتدريب والتطوير تسهم في تأخير نضج موظفيها، لتجد نفسها أمام كوادر غير مهيأة لتحمل المسؤولية. لذلك، يبقى تطوير النضج الوظيفي مسؤولية مشتركة؛ فالموظف يسعى لتحسين ذاته بطلب الملاحظات، والتعلم من الأخطاء، ووضع أهداف واضحة، بينما على المؤسسة أن تهيئ بيئة آمنة تشجع الحوار والتجربة وتصقل شخصيات موظفيها مبكرًا.
وجود شخصية وظيفية ناضجة يعني قرارات أكثر اتزانًا وأداءً مؤسسيًا أكثر استقرارًا. أما على مستوى المجتمع، فينعكس النضج في جودة الخدمات وسرعة إنجاز المعاملات وغياب التعقيدات غير المبررة، لتصبح المؤسسة مصدر راحة لا مصدر معاناة.
النضج الوظيفي إذن ليس رفاهية يُمكن تأجيلها؛ بل ضرورة تمليها مصلحة المؤسسات وحقوق المجتمع. فموظف لم ينضج في وقته قد يعرقل مسارًا كاملًا، بينما الموظف الناضج يحوّل العقبات إلى فرص. ولأن الأوطان تُبنى بوعي أبنائها، فإنَّ الاستثمار في تنمية الشخصية الوظيفية الناضجة هو استثمار في مستقبل الوطن كله. ويبقى السؤال: هل نمنح أنفسنا ومؤسساتنا فرصة النضج في الوقت المناسب، أم نكتشف أهميته بعد فوات الأوان؟
رابط مختصر