أعدت السيدة فرانشيسكا ألبانيز، المقرّرة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967 تقريراً نشر على موقع الأمم المتحدة يوم 1 أكتوبر 2024 تحت عنوان: “الإبادة الجماعية باعتبارها محواً استعمارياً Genocide as colonial erasure «، وهو تقرير لم يكن صادماً في عنوانه فحسب وإنما في مضمونه أيضاً.


لهذا التقرير أبعاد ثلاثة؛ الأول: توثيقي، يتضمّن رصداً للممارسات الإسرائيلية داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، والتي تشكّل في مجملها انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي. ويستند هذا الرصد الموثّق إلى: شهود عيان، وإلى وثائق صادرة عن مؤسسات أممية، بما فيها محكمة العدل الدولية، وإلى تقارير وتصريحات رسمية، بما فيها تقارير وتصريحات صادرة عن الحكومة الإسرائيلية. والثاني: تحليلي، يستهدف وضع تلك الممارسات في السياق التاريخي لتطوّر الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، كي يمكن فهم أهدافها المضمرة ودلالاتها الحقيقية. والثالث: استنباطي، يسعى لاستخلاص دروس ومواقف ينبغي على جميع الأطراف المعنية أن تقوم بها، وذلك في ضوء الالتزامات الواقعة على عاتقها بموجب ميثاق الأمم المتحدة وقواعد القانون الدولي.
يتضمّن هذا التقرير، في بعده التوثيقي، أرقاماً مفزعة عن أعداد القتلى والجرحى من المدنيين الفلسطينيين الذين سقطوا نتيجة الحرب التي تشنّها “إسرائيل” حالياً على قطاع غزة، خاصة من النساء والأطفال، وتعرّض من بقي منهم على قيد الحياة للموت بسبب الجوع وانعدام الخدمات الصحية. وعن حجم التدمير الذي لحق بالمساكن والمدارس والجامعات والمستشفيات وأماكن العبادة والمؤسسات الإعلامية في قطاع غزة. صحيح أن هذا البعد لا يضيف جديداً، لأن معظم الأرقام التي يتضمّنها التقرير معروفة ومتداولة، لكنه يعبّر بطريقة دقيقة ومؤثّرة عن حجم المعانات التي يكابدها الشعب الفلسطيني بسبب الجرائم التي يرتكبها “الجيش” الإسرائيلي.
يقول التقرير: “أمرت إسرائيل الفلسطينيين بالفرار إلى (مناطق آمنة) محدّدة، وبمجرد وصولهم إلى هذه الأماكن تعرّضوا للهجوم وأُمروا بالانتقال إلى (مناطق آمنة) جديدة. هكذا جرت مطاردة النازحين بشكل منهجي وتمّ استهدافهم حتى في الملاجئ، بما في ذلك مدارس (الأونروا) التي هاجمت إسرائيل 70% منها بشكل متكرّر، وتسبّب الغزو الإسرائيلي لمدينة رفح في نزوح ما يقرب من مليون فلسطيني، اضطروا إلى التوجّه إلى جنوب غزة، بسبب أوامر الإخلاء الإسرائيلية، والتي لم يجدوا فيها سوى أراضٍ قاحلة غير صالحة للسكن، مليئة بالأنقاض ومياه الصرف الصحي والجثث المتحللة.. الأمر الذي يساهم في تدمير الروح وإرادة الحياة بل والحياة نفسها”.
أما في بعده التحليلي، فقد ربط التقرير بين ما يجري للفلسطينيين حالياً وما جرى لهم إبان نكبة 1948 وعقب هزيمة 1967، ووصف هذا الذي جرى وما زال يجري بأنه “عملية إبادة جماعية ممنهجة، بدأت في 48 ولا تزال مستمرة حتى الآن”، هدفها الأساسي “القضاء على وجود الشعب الفلسطيني في فلسطين”، وهي “لم تعد قاصرة على قطاع غزة وإنما بدأت تتسع وتمتد الآن إلى الضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية”.
وخلصت ألبانيز، في نهاية تقريرها إلى حقيقة مفادها أنه “ما كان لإسرائيل أن ترتكب كلّ ما أقدمت عليه من انتهاكات لولا تهاون المجتمع الدولي والسماح لها بالإفلات من العقاب”. واستناداً إلى هذه الحيثيات، وجّهت نداء لـ “إسرائيل” تطالبها فيه بوقف فوري ودائم لإطلاق النار وسحب “جيشها” من كلّ الأراضي الفلسطينية المحتلة في 67، بما فيها القدس الشرقية، كما وجّهت نداء آخر إلى المجتمع الدولي، تطالبه فيه بفرض حظر تام على مبيعات السلاح لـ “إسرائيل”، ودعت الأمم المتحدة إلى اعتبار النظام الإسرائيلي “نظام فصل عنصري يمارس الأبارتيد”، ما يستوجب ليس إعادة تنشيط اللجنة الخاصة بمناهضة الفصل العنصري وتكليفها بمعالجة الوضع وحماية الشعب الفلسطيني فحسب، وإنما أيضاً “تعليق عضوية إسرائيل في الأمم المتحدة”.
والواقع أن الجرائم التي ارتكبتها “إسرائيل” في حقّ الشعب الإسرائيلي تتطلّب ليس تعليق عضويتها فحسب وإنما طردها نهائياً من الأمم المتحدة. فالمادة السادسة من ميثاقها تنص على: “إذا أمعن عضو من أعضاء الأمم المتحدة، في انتهاك مبادئ الميثاق، جاز للجمعية العامة أن تفصله من الهيئة، بناء على توصية من مجلس الأمن”. ولأن إمعان “إسرائيل” في انتهاك ميثاق الأمم المتحدة بلغ حداً لم تبلغه أيّ دولة أخرى، فقد بات لزاماً على الأمم المتحدة، احتراماً لميثاقها وحفاظاً على ما بقي لها من مصداقية، أن تتخذ قراراً فورياً بحرمان هذا الكيان العنصري المارق من شرف عضويتها.
صحيح أن الجمعية العامة لا تملك من الناحية القانونية اتخاذ قرار بطرد أي دولة عضو في الأمم المتحدة إلا إذا صدرت توصية مسبقة بذلك من مجلس الأمن، وصحيح أيضا أنه يستحيل على مجلس الأمن، خصوصاً في ظل التوازنات الدولية الراهنة، أن ينجح في إصدار توصية بهذا المعنى، لأن الولايات المتحدة ودولاً أخرى دائمة العضوية في هذا المجلس ستسارع باستخدام الفيتو للحيلولة دون صدورها، غير أن هذه العقبة القانونية لا ينبغي أن تقف حائلاً دون محاولة استخدام الجمعية العامة لممارسة ضغوط متواصلة على مجلس الأمن لحمله على تغيير موقفه من حكومة “إسرائيل” العنصرية، وذلك بالطريقة نفسها التي سبق لهذه الجمعية أن مارستها في بداية سبعينيات القرن الماضي، لحمل مجلس الأمن على فرض عقوبات على حكومة جنوب أفريقيا العنصرية بسبب إصرارها العنيد على رفض تمكين شعب ناميبيا من ممارسة حقّه في تقرير مصيره.
تجدر الإشارة هنا إلى أن الجمعية العامة للأمم المتحدة كانت قد بذلت جهوداً مضنية لإقناع حكومة جنوب أفريقيا بوضع إقليم جنوب غرب أفريقيا (ناميبيا) تحت إشراف نظام الوصاية الذي استحدثته الأمم المتحدة، بدلاً من نظام الانتداب الذي كان معمولاً به في زمن “عصبة الأمم”. ولأن حكومة جنوب أفريقيا رفضت ذلك بإصرار عنيد، لم تتردّد الجمعية العامة في اتخاذ قرار بإنهاء انتداب جنوب أفريقيا من جانب واحد على إقليم جنوب غرب أفريقيا، كما قرّرت في الوقت نفسه وضع هذا الإقليم تحت إشرافها المباشر.
وأمام إصرار حكومة جنوب أفريقيا العنصرية آنذاك على عدم التعاون مع الجمعية العامة في هذا الشأن، فقد راحت الأخيرة تضغط باستمرار على مجلس الأمن وتطالبه بإلحاح بفرض عقوبات على حكومة جنوب أفريقيا. بل وصل الأمر إلى حد تمكّنها من إقناع الدول الأفريقية غير الدائمة في مجلس الأمن بتقديم مشروع قرار عام 1974، يوصي بطرد دولة جنوب أفريقيا من الأمم المتحدة. ولأن عشر دول وافقت بالفعل على هذا المشروع، فقد سارعت كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا لاستخدام الفيتو للحيلولة دون صدوره، ما أدى إلى إسقاطه.
ومع ذلك لم تيأس الجمعية العامة في محاولاتها الرامية لتجميد عضوية جنوب أفريقيا في الأمم المتحدة، وانتهزت فرصة تولّي عبدالعزيز بوتفليقة، وكان وقتها يشغل منصب وزير خارجية الجزائر، رئاسة الجمعية في دورتها الاعتيادية لهذا العام لمنع وفد جنوب أفريقيا من المشاركة في أعمالها، مستخدمة في ذلك حيلة قانونية تقضي رفض “لجنة الاعتماد” أوراق التفويض الصادرة من حكومة جنوب أفريقيا العنصرية، من منطلق أنها حكومة غير شرعية لا تمثّل شعب جنوب أفريقيا.
ولأن الجمعية العامة وافقت بالأغلبية على قرار هذه اللجنة، فقد نجحت المناورة الرامية لعزل حكومة جنوب أفريقيا ومنعها من المشاركة في أعمال الجمعية العامة إلى أن سقطت هذه الحكومة ومعها النظام العنصري كلّه وتمكّن شعب جنوب أفريقيا من اختيار حكومة ديمقراطية تمثّله.
أخلص مما تقدّم إلى أن حصار “إسرائيل” وعزلها سياسياً، باستخدام أساليب مشابهة لتلك التي اتبعت من قبل في حصار وعزل نظام الفصل العنصري في دولة جنوب أفريقيا، أصبح أمراً ممكناً ومتاحاً، خصوصاً في ظل تواتر صدور تقارير أممية تؤكد الطبيعة العنصرية للنظام السياسي الحاكم في “إسرائيل”.
وإذا كانت 146 دولة من أصل 193 دولة، أي ما يقرب من 75% من إجمالي الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، قد اعترفت بالفعل بالدولة الفلسطينية، فقد بات من السهل على الجمعية العامة، إن أرادت، مواصلة الضغط على مجلس الأمن لحمله على فرض عقوبات على “إسرائيل”، ليس باعتبارها دولة تنتهك القانون الدولي فحسب، ولكن باعتبارها أيضاً العقبة الوحيدة التي تحول دون قيام دولة فلسطينية مستقلة وتمنع الشعب الفلسطيني من ممارسة حقه الطبيعي في تقرير مصيره.
النضال السياسي لا يقل أهمية عن المقاومة المسلحة. ولأن ممارسته بشكل فعّال تتطلّب مهارات خاصة، تبدو الفصائل الفلسطينية في أمسّ الحاجة إلى أن تعيد ترتيب أوراقها كي تتمكّن من بناء حركة تحرّر وطني موحّدة الأهداف والرؤية، كما تبدو الدول العربية في أمسّ الحاجة إلى أن تدرك أن وجود “دولة” يديرها نظام عنصري في القلب من أوطانها يشكّل تهديداً وجودياً لشعوبها، خصوصاً وأن هذا النظام العنصري يملك سلاحاً نووياً ويصرّ على أن يبقى محتكراً لهذا السلاح الرهيب في المنطقة.
أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة

المصدر: الثورة نت

إقرأ أيضاً:

جنوب السودان يتهم طائرات متعاقدة مع الأمم المتحدة بالتهريب والتجسس

قال وزير الخارجية، موندي سيمايا كومبا، خلال إحاطة دبلوماسية في العاصمة جوبا، السبت، إن السلطات أوقفت أربع طائرات مرتبطة ببعثة يونميس عقب معلومات استخبارية توصلت إليها الأجهزة المختصة

التغيير: الخرطوم

اتهمت حكومة جنوب السودان طائرات تعمل بموجب عقود مع بعثة الأمم المتحدة في جنوب السودان (يونميس) بالضلوع في تهريب موارد طبيعية وتركيب معدات مراقبة غير مُعلن عنها.

وقال وزير الخارجية، موندي سيمايا كومبا، خلال إحاطة دبلوماسية في العاصمة جوبا، السبت، إن السلطات أوقفت أربع طائرات مرتبطة ببعثة يونميس عقب معلومات استخبارية توصلت إليها الأجهزة المختصة.

وأوضح سيمايا: «من خلال معلوماتنا الاستخبارية، تبيّن أن طائرتين تابعتين ليونميس كانتا مزودتين بمسجلات استطلاع استخباري وأنظمة حماية من الصواريخ دون إخطار الحكومة»، مضيفاً أن «طائرتين أخريين كانتا متورطتين في تهريب موارد طبيعية، أبرزها خشب الصندل، بين جنوب السودان والسودان».

وحدد الوزير أرقام الطائرات المعنية، مشيراً إلى أن الطائرتين UNO-570P وUNO-571P كانتا تحملان معدات غير مُعلن عنها، بينما استُخدمت الطائرتان UNO-535P وUNO-536P، بحسب الاتهامات، في عمليات تهريب عابرة للحدود.

وأكد أن هذه المعطيات أُبلغت لكبار مسؤولي بعثة يونميس، وأن لجنة حكومية مستقلة تولت التحقيق في القضية. وقال: «لجنة التحقيق أنهت عملها، وتم رفع التقرير النهائي إلى مكتبي والجهات المختصة لاتخاذ ما يلزم من قرارات».

وشدد الوزير على أن الاتهامات موجهة إلى مشغلي الطائرات، وليس إلى بعثة الأمم المتحدة كمؤسسة، قائلاً: «نحن لا نتهم يونميس، فهذه الطائرات تعمل بموجب ترتيبات تعاقدية بين المشغلين والأمم المتحدة».

ووصف القضية بأنها «مسألة أمن قومي خطيرة»، مؤكداً أنها منفصلة تماماً عن خطة خفض قوات يونميس وإغلاق بعض قواعدها، والتي أرجعها إلى تحديات التمويل العالمي لعمليات حفظ السلام.

وأفادت الحكومة بأن جميع الشركات المدنية الأخرى المتعاقدة مع الأمم المتحدة تواصل عملها دون قيود، باستثناء شركة طيران واحدة جرى إيقاف أربع طائرات تابعة لها. كما أشارت إلى أن بعثة يونميس أنهت عقدها مع شركة طيران عسكرية رواندية، وهو قرار قالت جوبا إنها لا تعترض عليه.

تساؤلات دبلوماسية

وأثارت الاتهامات تساؤلات داخل الأوساط الدبلوماسية، حيث تساءل سفير جنوب أفريقيا لدى جنوب السودان عن جدوى الإعلان العلني عن معلومات استخبارية حساسة، وعن التداعيات الأمنية لخفض وجود يونميس قبيل الانتخابات المقررة في ديسمبر 2026.

وردّ الوزير بأن الحكومة تعمل على تجهيز قواتها الأمنية والتنسيق مع شركاء إقليميين لضمان الاستقرار خلال فترة الانتخابات، مبرراً الإحاطة العلنية بالرغبة في الرد على استفسارات دبلوماسية متكررة والتصدي لما وصفه بـ«السرديات الخارجية».

ونفى سيمايا بشكل قاطع أي اتهام لبلاده بعرقلة عمل يونميس، مؤكداً أن التعاون مستمر بشأن تدوير القوات وإغلاق القواعد وفق ما هو متفق عليه.

وأضافت الحكومة أنها ستشارك نتائج التحقيق مع بعثة يونميس بعد اتخاذ القرارات النهائية، ودعت الشركاء الدوليين إلى احترام سيادة جنوب السودان.

من جهتها، قالت إذاعة «راديو تمازج» إنها لم تتمكن من الحصول على تعليق فوري من بعثة الأمم المتحدة في جنوب السودان.

المصدر: راديو تمازج الوسومحكومة جنوب السودان موندي سيمايا كومبا وزير الخارجية يونميس

مقالات مشابهة

  • الخارجية تحذّر الكيان الصهيوني من استمرار خرق وقف النار في غزة
  • وزارة الخارجية تحذّر الكيان الصهيوني من استمرار خرق اتفاق وقف إطلاق النار في غزة
  • جنوب السودان يتهم طائرات متعاقدة مع الأمم المتحدة بالتهريب والتجسس
  • مقتل 6 مدنيين على الأقل في قصف مبنى الأمم المتحدة بجنوب السودان
  • حكومة السودان تدين الهجوم على مقر الأمم المتحدة بكادقلي وتحمّل الدعم السريع المسؤولية
  • حروب الشيطنة إنقاذ لسمعة الكيان الصهيوني
  • الجمعية العامة للأمم المتحدة تعتمد قرارا يطالب إسرائيل بإنهاء قيودها على وصول المساعدات إلى غزة
  • عاجل | الجمعية العامة للأمم المتحدة: اعتمدنا قرارا يدعو إسرائيل إلى تطبيق قرار محكمة العدل بإدخال المساعدات إلى غزة
  • مقررة أممية تنتقد توقيع كوستاريكا اتفاقية التجارة الحرة مع الكيان الصهيوني
  • تحذير أممي: حرب السودان وانعدام الأمن في حوض بحيرة تشاد يهدد وسط أفريقيا