يخطئ كثير من الناس عندما يعتقدون أنه يمكن تحقيق عدالة مطلقة فـي أمر ما، حتى لو تحقق لذلك الأمر الكثير من معززات العدالة، كالقوانين والنظم الإدارية، والقيم الضابطة الأخرى، التي تحكم العلاقة بين طرفي المعادلة، ولذلك تأتي مجموعة من القيم التي يؤمن الناس بأهميتها فـي تسيير حياتهم اليومية، لتوجد نوعا من التوافق بين الأطراف - التوفـيق والمصالحة - لليقين الضمني أن لا عدالة مطلقة بين البشر، ففـي تطبيق الأحكام أيا كان نوعها (شرعي/ قانوني) لا بد أن يختزن النفوس شيئا من عدم الرضا، فالهاجس يذهب إلى أن هناك مطلبا نفسيا، وهو أن لهذه النفس حقًا لم يكتمل استرداده، مهما بذلت العدالة الكثير من التمحيص، والتأكد، وتفنيد الاستدلالات القانونية والشرعية، فهذه فطرة متأصلة فـي النفس فـ«رضا الناس غاية لا تدرك» ومن جوانب هذه الفطرة، أنها لا تقر بخطأ مرتكب، حتى ولو كان من غير قصد، ولا تقر بتقصير ما، وأثر ذلك على عدم الحصول على الحق الكامل، فـي تقدير كل نفس، ولذلك كنا نعيش هذه الانفعالات النفسية عندنا وعند غيرنا لما كنا فـي الوظيفة، وخاصة فـي مناسبة التقييم السنوي للموظف، والمكافأة المترتبة على ذلك بعد الحصول على النتائج، فالكل يرى أنه الأحق من الآخر، والكل يرى أنه أدى ما عليه من دور، والكل يرى أن مستويات التقييم التي أجريت غير منصفة، ولذلك كان الكل يتذمر، حتى ولو أعطي الموظف حرية تقييم نفسه بنفسه، فسيصل فـي نهاية الأمر أنه لم ينصف نفسه، لأنه أوقع نفسه بين طرفـين، أحدهما: صعوبة تقييم نفسه، والثاني: أن مسؤوله الأعلى حمله مسؤولية نفسه، حتى ينفذ المسؤول من مسؤوليته تجاه هذا الموظف أو ذاك، وسيظل فـي كلا الأمرين عتب ضمني، وهو عدم الرضا، وإن لم يصرح به الموظف.
وفـي محيط الأسرة الواحدة تكون المعركة محتدمة بين مختلف الأطراف (الأب، الأم، مجموع الأخوة والأخوات) حيث يعيش الوالدان امتحانا قاسيا، طوال اليوم، فجدلية العلاقة بين الأخوة والأخوات لن تنتهي، وكل فرد يصدر اتهامه إلى أحد قطبي الأسرة (الأب/ الأم) بأنه فضل فلان على فلانة، أو العكس، أو ظلم فلان وأنصف فلان، أو حابى فلانة، وتجاوز فلان/ فلانة، وتظل المعركة حامية الوطيس إلى أن يصل فلان وفلانة سنا مقدرا من النضج، يدركان من خلاله، أن مجموعة الاتهامات التي يصدرانها بصورة يومية إلى الأم والأب، فـي زمن ولَّى، فـيها الكثير من التجني، والتسرع، وعدم إدراك الكثير من الاعتبارات التي يأخذ بهما هذان المغلوب على أمرهما، وأقول المغلوب على أمرهما لمواقفهما المرتجلة طوال اليوم، لكي يقنعان هذا/هذه، ويلاطفان هذا/ هذه، فـي صورة محتدمة لا تتوقف إلا عندما تغلق مصابيح الإنارة، ويأوي كل فـي فراشة، حالما بيوم قادم، ربما، يكون أقل ضراوة واحتدام مما سبقه. قد تكون هذه الصورة المحتدمة من التفاعلات النفسية بين مختلف الأطراف، أقل حدة فـي أحضان المجتمع، وأكثر هدوءا، ليس لقلة المتشاكسين فـيها، إطلاقا، ولكن، لاتساع دوائر العلاقات، بين مختلف الأطراف، ولعدم قدرة الحاضنة المركزية على تقصي مثالب مختلف الأطراف، لأن المجتمع عبارة عن دوائر محدودة بعدد أفرادها، وفوق ذلك أنها مغلقة، هي تتفاعل داخل محيطها وبقوة، ولكن خروج تفاعلها على اتساع رقعة ميدان المجتمع تكون فـي حالات نادرة، واستثنائية، وهنا تتصدى لها مؤسسات معنية: مراكز شرطة، ادعاء عام، محاكم، وقبل ذلك لجان التوفـيق والمصالحة، ومع وجود هذه المؤسسات التي قد تمتص من حالات التصادم بين أفراد المجتمع، إلا أن المحصلة النهائية، لا تزال الأنفس تشعر بأنها لم تستوف حقها الذي تأمله. |
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: مختلف الأطراف الکثیر من
إقرأ أيضاً:
مسرح يتحوّل إلى صرخة.. اسمي غزة يفرض نفسه على كرنفال إسبانيا
في أمسية استثنائية من أمسيات المسابقة الرسمية للفرق الكرنفالية "كواك" (COAC 2025)، التي تحتضنها مدينة قادس الإسبانية سنويًا، قدّمت فرقة "إل سيركو دي لوس سوميسوس" (El circo de los sumisos) عرضا مسرحيا غنائيا حمل عنوان "اسمي غزة" لاقى تفاعلا واسعا بين الجمهور والنقاد.
العرض، الذي جاء ضمن فقرة الـ"باسودوبلي"، لم يندرج ضمن الإطار الاحتفالي التقليدي المعتاد، بل حمل طابعا إنسانيا صادما، إذ سلط الضوء على معاناة المدنيين في قطاع غزة، من خلال أداء غنائي درامي، اتسم بالجرأة والوضوح. واعتُبر العرض رسالة احتجاج فني على الصمت الدولي، عبّرت عنها الفرقة بصوت جماعي قوي، اختار المسرح منصة للتعبير عن التضامن مع القضايا الإنسانية العادلة.
View this post on InstagramA post shared by ???????????????????????????????????? (@thefuddhist)
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2ظهور استثنائي لفيروز في وداع نجلها زياد الرحبانيlist 2 of 2موسيقى زياد الرحباني.. حين تتحول النغمات إلى منشور سياسي غاضبend of listالفرقة، بقيادة الثنائي المسرحي فيكتور مانويل كينتيرو لارّاتي ونيلي كوندي، مع نص شعري من تأليف خوسيه أنطونيو كوندي سانتوس، لم تكن تسعى لإبهار الجمهور فنيًا فقط، بل لبعث رسالة أخلاقية مؤلمة، تضع العالم أمام مرآة صمته الطويل حيال ما يجري في غزة. عرض الباسودوبلي جاء محمّلا بنبرة احتجاج، يدين فيها العرض الغنائي ما وصفه بـ"تواطؤ الصمت الدولي"، ويستدعي المأساة الفلسطينية من قلب مسرح شعبي إلى واجهة الوعي الأوروبي.
من الناحية الفنية، ارتكز العرض على أداء صوتي جماعي متماسك، غلبت عليه نبرة الأسى والكرامة. لم تكن النغمة مجرد تقليدٍ للون الفلكلوري المعروف في مسرح الكرنفال الإسباني، بل كانت أداة مقاومة تحاكي الجراح المفتوحة بلغة شعبية، قادرة على الوصول إلى جمهور عريض. النص لم يتوسل الشفقة، بل خاطب القيم، ولم يكتفِ بوصف الألم، بل أشار إلى صانعيه والمتواطئين معه.
أما الجمهور، من جهته، فلم يكن متفرجا صامتا؛ فور انتهاء الأداء، دوّى المسرح بتصفيق طويل، وقف فيه الحضور احترامًا لما سمعوه، وأُجهشت بعض الوجوه بالبكاء. المشهد، الذي وثقته صفحات مثل "سبانش ريفلوشن" عبر فيديو انتشر على مواقع التواصل، اعتُبر واحدًا من أبرز لحظات الكرنفال هذا العام. وأجمعت التعليقات على أن ما قُدّم كان "عرضا مليئا بالكرامة"، و"نداء شجاعا من خشبة المسرح، في وقت يصمت فيه كثيرون".
جاء هذا العمل الجريء من فرقة تُعد حديثة نسبيا، إذ تشارك "إل سيركو دي لوس سوميسوس" للمرة الخامسة فقط في مسابقة "كواك"، لكنها لم تحظ سابقا بهذا القدر من الحضور الإعلامي والتفاعل الإنساني. ومع ذلك، فإن اختيارها التطرق بوضوح إلى قضية سياسية حساسة كالهجوم على غزة يُظهر تحوّلًا لافتا في دور المسرح الغنائي الشعبي في إسبانيا، من الترفيه البحت إلى التعبير الأخلاقي والالتزام الإنساني.
إعلانصحيفتا "لابوس دي قادس" و"كوديغو كرنفال" أشارتا إلى أن عرض الفرقة، ضمن الجلسة الـ17 من التصفيات، تناول قضايا معقدة مثل القتل الرحيم، غير أن لوحة "مي نومبره إس غزة" كانت الأبرز والأكثر جرأة وتأثيرا. كما علّقت شبكة "كادينا سير" بأنه من النادر أن يشهد جمهور الكرنفال عملًا يجمع بهذا التوازن بين البعد الفني الراقي والرسالة السياسية الواضحة.
مع ذلك، لا يزال من غير المؤكد إذا ما كانت مثل هذه الأشكال من التعبير ستصل إلى المسارح الأوسع، أم ستبقى مجرّد لحظة كرنفالية استثنائية. لكن ما لا شك فيه هو أن ما قُدّم على خشبة مسرح قادس هذا العام سيظل حاضرًا في ذاكرة الكرنفال طويلا، بوصفه مثالًا حيًا على أن الفن، حين يتحوّل إلى صوت للمأساة، قد يكون أقوى من كل بيان وصورة.